قصص عالمية / مختارات خاصة ........
قصص عالمية 3-3
الثلاثاء 31 أغسطس-آب 2010 القراءات: 5
سعادة
كاترين مانسفيلد
بالرغم من أن “بيرتايو نج” كانت في الثلاثين من عمرها فمازالت تعاودها لحظات مثل هذه اللحظة، لحظات تود فيها لو استطاعت أن تجري بدلاً من أن تمشي وأن تقفز من على الرصيف وإليه في خطوات راقصة وأن ترمي بشيء في الهواء وتلتقطه، وأن تقف وتضحك..على ماذا؟ على لا شيء، لا شيء على الإطلاق.
وماذا عساك أن تفعل إذا كنت في الثلاثين من عمرك وشعرت فجأة وأنت تقف تجاه بيتك بشعور من السعادة يتملكك، سعادة غامرة، كما لو كنت قد اختزنت في جسدك قطعة مشرقة من شمس ذلك الأصيل، قطعة تتأجج في صدرك وترسل بومضاتها إلى كل ذرة من جسمك؟
آه أليس هناك من وسيلة للتعبير عن مثل هذا الشعور دون أن يتهمك الناس بأنك مخمور أو مجنون؟يا لهذه المدينة الحمقاء! ولماذا يعطينا الله جسداً إذا كان لابد لنا أن نحتفظ به مقيداً؟
وقالت “بيرتا” عندما فتحت لها الباب:
ـ هل عادت المربية
ـ نعم ياسيدتي.
ـ وهل أتت الفاكهة؟
ـ نعم ياسيدتي، كل شيء معد.
ـ أحضري الفاكهة إلى غرفة المائدة.سأرتبها قبل أن أصعد إلى الدور الثاني.
وكانت حجرة المائدة معتمة وباردة. ولكن “بارتا” خلعت معطفها رغم ذلك، ضاقت بضغطه على جسمها.ومس الهواء الباردة ذراعيها.
ولكن في صدرها ما زالت تتأجج تلك الجمرة الملتهبة وترسل بومضاتها،إنها لا تكاد تتحملها، وتخشى أن تتنفس حتى لاتزداد اشتعالاً ومع ذلك تنفست تنفساً عميقاً، وتخشى أن تنظر في المرآة الباردة ومع ذلك نظرت، وعكست المرآة امرأة متألقة بشفتين مبتسمتين ،شفتين مرتجفتين وعينين سوداويتين كبيرتين. امرأة تنصت إلى شيء ما وتنتظر شيئاً رائعاً...تعرف أنه سيحدث...حتماً.
وأحضرت “ماري” الفاكهة على صينية ومعها إناء بلوري وصحن أزرق اختلطت زرقته بالبياض وكأنه قد غمس في اللبن.
ـ هل أضيء النور يا سيدتي؟
ـ لا، أشكرك، إني أستطيع أن أرى بوضوح.
وكان من بين الفاكهة يوسفي وتفاح تشرب لونه بلون الفراولة الوردي وكمثرى ذهبية ناعمة كالحرير، وعنب أبيض يتألق كالفضة، وعنقود من العنب الوردي اشترته خصيصاً ليتمشى مع لون السجاد في حجرة المائدة،وقد يبدو هذا مضحكاً ولكنها في الواقع اشترته لهذا الهدف.
وعندما فرغت من ترتيب الفاكهة في هرمين كبيرين، تراجعت بعيداً عن المائدة لترى المنظر العام، وأن المنظر غريباً للغاية،بدت المائدة الداكنة اللون وكأنها قد ذابت في العتمة،وبدا الإناء البلوري والصحن الأزرق، وكأنما يسبحان في الهواء، وكان من الطبيعي أن يبدو لها كل ذلك، في حالتها النفسية الراهنة، رائعاً روعة لا يكاد يصدقها الخيال. وابتدأت تضحك، وقالت وهي تمسك بحقيبتها ومعطفها(لا.لا ، لاشك أني سأصاب بالهستيريا) وجرت إلى الدور الثاني إلى حجرة ابنتها الصغيرة.
جلست المربية على كرسي واطئ وهي تطعم الطفلة عقب أن أخذت حمامها، وكانت الطفلة ترتدي فستاناً أبيض (وجاكت) من الصوف الأزرق، وعندما تطلعت إلى الباب ورأت أمها بدأت تقفز.
وقالت المربية:
والآن يا طفلتي العزيزة، اهدئي قليلاً وتناولي طعامك.
قالت المربية ذلك وضمت شفتيها بطريقة فهمت منها برتا أنها دخلت حجرة ابنتها في وقت غير سابق.
وقالت برتا:
ـ أرجو أن لا تكون الطفلة قد أتعبتك في نزهة العصر.
وهمست المربية:
ـ لقد كانت لطيفة للغاية، ذهبنا إلى الحديقة وجلست في كرسي وأخرجتها من العربة وجاء كلب كبير ووضع رأسه على حجري وبدأت هي تلعب في أذنه وتلويها.أوه كم كانت بودي أن تشاهديها إذ ذاك:
وأرادت برتا أن تسأل المربية ألم يكن من الخطورة السماح لطفلة بمعاكسة كلب غريب، ولكنها لم تجرؤ على توجيه هذا السؤال ووقفت ترقب المربية والطفلة معاً. وقفت ترقبهما ويداها إلى جانبها طفلة فقيرة ترقب طفلة غنية وهي تلعب بعروس.
وتطلعت إليها الطفلة مرة ثانية وحدقت فيها النظر وابتسمت بطريقة ساحرة جعلت برتا تصيح:
ـ أرجوك يا ناني، دعيني أكمل إطعامها، بينما تفرغين أنت من تنظيف الحمام.
وقالت المريبة وهي ماتزال تهمس:
ـ أنت تدركين يا سيدتي أن الشخص الذي يطعم الطفلة لاينبغي أن يتغير، وأن التغير قد يحدث لها شعوراً بعدم الاستقرار وربما يثيرها.
أليس هذا مضحكاً؟ وما فائدة إنجاب طفلة إذا كان ولابد أن تبقى الطفلة دائماً في ذراعي امرأة أخرى؟
وقالت برتا:
ـ أرجوك لابد لي من إطعامها.
وفي غضب تخلت المربية عن الطفلة وهي تقول
ـ والآن لاتثيريها بعد العشاء، فأنت تفعلين ذلك دائماً وأعاني أنا بعد ذلك وقتاً طويلاً.
الحمدلله، لقد خرجت المربية إلى الحمام.
وقالت برتا والطفلة تستند إليها.
ـ والآن يا حبيبتي الغالية أنت لي.
وبدأت الطفلة تأكل، وعندما فرغ الحساء استدارت برتا إلى المدفأة.
وقالت وهي تقبل الطفلة:
ـ أنت لطيفة جداً وأنا أحبك.
وفي الواقع كانت برتا تحب الطفلة حباً شديداً، تحب عنقها وهي منحنية إلى الأمام وكعبى قدميها اللذيذين ولمعتها الشفافة في ضوء المدفأة، تحبها إلى حد أعاد إليها شعورها بالسعادة، ومرة أخرى عجزت عن التعبير عن ذلك الشعور ولم تعرف ماذا تفعل به.
وقالت المربية وقد عادت بانتصار وأمسكت بطفلتها:
ـ مكالمة تليفونية لك ياسيدتي.
وجرت برتا إلى التليفون.. كان هاري..
ـ أهذا أنت يابرتا؟ سأتأخر، سأخذ تاكسي وأحضر سريعاً ولكن أخري العشاء عشر دقائق.. اتفقنا.
ـ اتفقنا.. أوه هاري.
ماذا تريد أن تقول؟ لم يكن لديها ماتقوله ولكنها أرادت أن تطيل الاتصال به دقيقة أخرى، لم تكن تستطيع أن تصيح كالحمقاء، ألم يكن يوماً رائعاً؟ وقال هاري.
ـ ماذا تريدين؟
وقالت “برتا”:
ـ لاشيء.. وضعت سماعة التليفون وهي تلعن قيود المدنية التي تحول بينها وبين التعبير عن مشاعرها.
كانت برتا في انتظار ضيوف على العشاء، نورمان نايت وزوجته وهو مهتم بالمسرح وهي بالديكور الداخلي، وأيدي وارنر وكان قد طبع أخيراً كتاباً من الشعر، وامرأة اكتشفتها بيرتا اسمها بيرل فولتون ولم تكن بيرتا تعرف مهنة بيرل، كانت قد قابلتها في النادي وشعرت بميل إليها، نفس الميل الذي تشعر به نحو كل سيدة جميلة يحيط جمالها جو من الغموض والشيء المثير حقاً هو أن برتا لم تستطيع أن تفهم بيرل رغم أنهما تقابلتا عدة مرات وتبادلتا الحديث، وكانت مس، فولتون صريحة إلى حد ما صراحة نادرة رائعة ولكن هذا الحد كان قائماً لا تتجاوزه مطلقاً.
ولكن هل هناك شيء مابعد هذا الحد؟ قال هاري يوماً “لا” ووصف مس فولتون بأنها مملة “وباردة ككل النساء الشقراوات وربما تكون مصابة بفقر في العقل” ولكن برتا لم توافقه إذ ذاك.
لا ياهاري، إن الطريقة التي تجلس بها وقد مالت برأسها قليلاً تنبئ أنها تخفي شيئاً ولابد أن أكتشف أنا هذا الشيء.
وأجاب هاري ساعتها:
ومن المحتمل أنها تخفي معدة منتفخة.
وكان قد أعتاد على معاكسة بيرتا بمثل هذه الإجابات وكانت برتا تحب منه ذلك وتعجب به من أجل ذلك السبب لا تعرفه، واتجهت برتا إلى حجرة المائدة وأشعلت النار في المدفأة، وبدأت تلتقط الوسائد التي رتبتها ماري بعناية وتلقي بها على الكراسي كيفما اتفق وأحدث ذلك تغييراً كبيراً، فدبت الحياة إلى الغرفة وبينما هي تلقى بالوسادة الأخيرة دهشت إذ وجدت نفسها تحتضنها في حرارة، ولكنها لم تطفأ النار في صدرها، أبداً بالعكس.
وكانت نافذة حجرة المائدة تؤدي إلى شرفة تطل على الحديقة، في نهاية الحديقة إلى جانب الحائط انبثقت شجرة طويلة، شجرة كمثرى رفيعة في أوج ازدهارها، وقفت ساكنة وكأنما زرقة السماء المشوبة بالاخضرار قد أضفت عليها السكون، وشعرت برتا حتى على هذا البعد أن ليس في الشجرة برعماً واحداً لم يتفتح ولا ورقة واحدة ذابلة، وفي أحواض الزهور بدأت أعناق التوليب المحملة بالأزهار الحمراء والزرقاء تميل على العتمة، وزحفت في الممر قطة رمادية اللون وهي تجر بطنه، المنتفحة، وخلفها قطة سوداءـ ظلها، وأثار الظل وهو يتبع القطة في سرعة وإصرار أثار في برتا رجفة غريبة.
وتراجعت من الشرفة وبدأت تذرع الغرفة، ما أشد رائحة زهر النسرين في الحجرة الدافئة، أشد مما ينبغي... لا.. ورمت بنفسها على مقعد كما لو كانت قد غلبت على أمرها وضغطت على عينيها بيديها وهي تهمس “أنا سعيدة.. سعيدة جداً”.
وكانت ترى بعينيها المغلقتين شجرة الكمثرى الجميلة ببراعمها المتفتحة تفتحاً كاملاً تقف كرمز لحياتها.
فعلاً أنها تملك كل شيء، فهي شابة وحبها لهارى لم يتغير عما كان عليه منذ البداية وهما متفقان في كل شيء، ولها طفلة جديرة بالعبادة، وشئونهما المالية مستقرة، ولها بيت وحديقة جميلة للغاية وأصدقاءـ أصدقاء كتاب وشعراء وفنانون وهناك الكتب والموسيقى ولديها حائكة ثياب رائعة وستسافر وزوجها إلى الخارج في الصيف ولديها طاهي ممتاز.
واعتدلت في جلستها وهي تقول “أنا حمقاء..” وشعرت بدوار كما لو كانت قد سكرت.. لابد وأنه الربيع.
نعم هو الربيع.. والآن كان التعب قد لمح عليها بحيث لم ترغب في الصعود إلى الدور الثاني لارتداء ملابسها.
ثوب أبيض وعقد وحذاء أخضر.
ولقد صممت على ارتداء هذا الطقم قبل أن تقف في شرفة حجرة الطعام بساعات.. وأحدث عقد بيرتا حفيفاً وهي تدخل الصالة في رقة وتقبل مسز نورمان نايت التي كانت تخلع معطفها، ودق الجرس ودخل أدى وارين في حالته المعتادة من الحزن العميق.. قال:
ـ أرجو أن لا أكون قد أخطأت في المنزل.
وأشرقت برتا.
ـ لا أظنك قد أخطأت أو أرجو ذلك.
ـ لقد مررت بتجربة فظيعة مع سواق التاكسي، لقد كان غريباً للغاية، ولم استطع إيقافه وكلما طلبت إليه الوقوف ازدادت سرعته وفي ضوء القمر بدأ الرجل الغريب وقد انحنى على العجلة برأسه المسطحة مخيفاً للغاية.
وتظاهر أدى بالارتجاف وهو يزيح عن عنقه وشاحاً كبيراً من الحرير الأبيض، ولاحظت برتا أن شرابه أبيض بدوره وقالت.
ـ ولكن هذا فظيع.
وقال أدي وهو يتبعها إلى حجرة الجلوس.
ـ نعم لقد كان حقاً أمراً فظيعاً، لقد رأيت نفسي في رحلة إلى الخلود في تاكسي لا يعترف بالوقت.
كان يعرف عائلة نايت بل كان قد وعد نايت بكتابة مسرحية للمسرح الذي يعتزم افتتاحه.
وقال نورمان نايت.
ـ حسناً يا أدي.. ماهي أخبار الرواية؟
وقالت مسز نورمان:
ـ ولقد وفقت في اختيار الشراب يامستر وارين.
وأجاب “أدي” وهو يحدق النظر في ساقيه:
ـ هل أعجب حقك؟ يخيل إلي أنه أزداد بياضاً بعد طلوع القمر.
وأدار وجهه الحزين إلى “برتا”.
ـ لقد طلع القمر أتعرفين؟
وأرادت “برتا” أن تصيح، أرادت أن تقول: نعم أنا متأكدة أنه طلع، أنا متأكدة تماماً.
إنه جذاب للغاية، وكذلك مسز “نايت” وهي متكورة في جلستها وكذلك “نايت” وهو يدخن سيجارته ويلقي بالرماد في المنفضة ويقول:
لماذا تأخر العريس.
ـ ها هو ذا.
وانفتح الباب الخارجي وانطرق وهو يقفل، وصاح هاري.
ـ هالو، سأكون معكم بعد خمس دقائق.
وجرى صاعداً السلم، ولم تستطيع “برتا” أن تخفي ابتسامتها، إنه يحب أن يفعل كل شيء في اللحظة الأخيرة.
وكان هاري يحب الحياة حباً جماً وكانت “برتا” تعجب بذلك الاتجاه فيه، وكانت أيضاً تفهم حبه للنزال، وما من شيء أو إنسان يواجهه حتى يتبدى له لكي يختبر مدى قوته وشجاعته، حتى أنه يندفع أحياناً إلى معركة، ويبدو مضحكاً لمن لا يعرفه جيداً، ولكنها هي تعرفه وتفهمه.
وتحدثت “برتا” وضحكت ونسيت تماماً أن “بيرل فولتون” لم تحضر، حتى دخل “هاري” وقال:
ـ طبعاً لم تحضر “مس فولتون” بعد، تماماً كما توقعت وقالت “برتا”.
ـ هل نسيت ياترى؟
وقال “هاري”:
ـ أظن ذلك، هل لديها تليفون؟
وقالت “برتا”.
ـ هاهو تاكسي يقف بالباب.
ابتسمت ابتسامة من يملك شيئاً ويفخر به، نفس الابتسامة التي تبتسمها كلما كان اكتشافها جديداً وغامضاً، وأضافت.
ـ أنها تعيش في التاكسي.
وقال “هاري” في برود وهو يقرع الجرس يطلب العشاء.
ـ سيؤدي بها ذلك حتماً إلى السمنة، والسمنة خطر داهم يهدد الشقراوات وتطلعت إليه “برتا” وهي تضحك محذرة.
هاري! أرجوك، ومرت دقيقة، دقيقة أخرى قصيرة وهم ينتظرون ويضحكون ويتكلمون في انطلاق واطمئنان أكثر قليلاً مما ينبغي، ثم دخلت، مس فولتون، وكأنها صبت من فضة، وعلى رأسها غطاء فضي يضم شعرها الذهبي الشاحب، دخلت مبتسمة وقد مالت رأسها قليلاً وهي تقول:
ـ هل تأخرت؟
وقالت برتا:
ـ أبداً تفضلي.
وأمسكت بذراعها ودخلت بها إلى حجرة المائدة.
لمسة هذا الذراع الرطيب.. لماذا أججت في قلب “برتا” نار السعادة فتوهجت؟
ولم تنظر “مس فلتون” إلى “برتا” ولكنها نادراً ما تنظر إلى الناس نظرة مباشرة فرموشها الطويلة ترقد على عينيها، والبسمة الغريبة الغير مكتملة تروح وتجيء على شفتيها كما لو كانت تعيش بالسمع لا بالنظر ولكن “برتا” أدركت أن “بيرل فلتون” تمر بنفس الحالة النفسية التي تمر هي بها، أدركت ذلك كما لو كانتا قد تبادلتا نظرة طويلة ودية مليئة بالمعاني، كما لو كانتا قد قالتا إحداهما للأخرى “وأنت أيضاً؟”.
والآخرون “مستر ومسز نايت” و“أيدي” “هاري” ملاعقهم تعلو وتهبط، يمسحون أطراف الشفاه بالفوط، ويقطعون العيش، ويبدلون الشوك والسكاكين ويتكلمون.
ـ لقد قابلتها في المسرح وهي لم تقص شعرها فحسب بل أجرت عملية تجميل، واقتطعت جزءاً كبيراً من فخذيها وذراعيها وعنقها وأنفها المسكين أيضاً.
ـ أليست على علاقة مع مايكل أدت؟
ـ الرجل الذي كتب مسرحية جب وأسنان صناعية؟
ـ لقد أراد أن يكتب مسرحية لمسرحي الجديد من فصل واحد رجل واحد ينوي الانتحار، ثم يزن الأسباب التي تدفعه إلى الانتحار بتلك التي تصده عنه وعندما يوشك أن يتخذ القرار النهائي وقبل أن يتخذه تسقط الستار.
وماذا عساه أن يسمي هذه المسرحية؟ مغص معوي؟
إنهم لايقاسمونها شعورها ولكنهم أعزاء.. أعزاء.. وهي تحب أن تراهم يأكلوان على مائدتها وتحب أن تقدم لهم أطيب الطعام والشراب وكان “هاري” يتمتع بعشائه وكان من عادته أن يتحدث عن الطعام وأن يجد لذة في الحديث عن حبه للحم المحار الأبيض ولجيلاتي الفسدق الأخضر البارد، كجفون الراقصات المصريات، وعندما نظر إليها وقال:
ـ “برتا” هذا النوع من الحلو جميل للغاية، كادت تبكي كالطفل من شدة سرورها، لماذا تشعر الليلة بكل ذلك الحنان تجاه العالم بأكمله؟ كل شيء جميل، كل شيء في موضعه، كل مايحدث يملأ من جديد كأس سعادتهما المترعة، وفي عقلها مازالت صورة شجرة الكمثري منطبعة لابد أنها فضية الآن، فضية في ضوء القمر.
فضية “كمس فولتون” التي جلست تدير حبة يؤسفى بين أصابعها الرقيقة الشاحبة وكأن نوراً ينبعث منها.
والشيء الخارق، الشيء العجيب الذي لاتستطيع أن تفسره هو كيف استطاعت هي أن تخمن حالة مس فلتون النفسية بهذه السرعة وبهذه الدقة؟ لأنها لم تشك لحظة في أنها على حق في تخمينها ومع ذلك على أي أساس بنت هذا التخمين؟ على لاشيء وقالت “برتا” لنفسها “أظن أن هذا الاتصال الروحي يحدث نادراً بين النساء ولكنه لايحدث أبداً بين الرجال، ولكنها قد تعطيني إشارة تؤكد صحة شعوري وأنا أعد القهوة في حجرة الاستقبال” ولم تعرف ماذا تقصد بذلك ولم تستطع أن تتصور ماذا سيحدث بعد ذلك، وبينما كانت برتا تفكر هكذا رأت نفسها تتكلم وتضحك، كان لابد أن تتكلم لكي تكتم رغبتها في الضحك.
وأخيراً انتهى العشاء، وقالت “برتا”.
ـ تعالوا أريكم آلة القهوة الجديدة”.
وقال هاري:
ـ إننا نشتري آلة القهوة جديدة مرة كل أسبوعين.
وأمسكت “مسز نايت” بذراع “برتا” وتبعتها “ مس فولتون” ورأسها منحنية، وكانت النار قد خبت في حجرة الاستقبال تاركة وميضاً أحمر.
وقالت مس “فولتون”.
ـ لاتضيء النور لحظة، إن الحجرة جميلة هكذا.
وانكمشت إلى جانب المدفأة،وقالت “برتا” لنفسها “إنها تشعر بالبرد دائماً، طبعاً دون جاكتها الصوف الحمراء” وفي تلك اللحظة أعطت “ مس فولتون” “ لبرتا” الإشارة المنتظرة،قالتا في صوت نائم دافئ.
ـ هل عندك حديقة؟
وجاء ذلك جميلاً منها، ولم تستطع “برتا” إلا أن تطيع وعبرت الحجرة إلى باب الشرفة وأزاحت الستار عن وفتحت الباب على مصراعيه وقالت وهي تتنفس في صعوبة” هاهي”.
ووقفت المرأتان جنباً إلى جنب ترقبان الشجرة الرقيقة المثمرة.
وبالرغم من أنها كانت ساكنة للغاية إلا أنها بدت كلهيب شمعة يمتد ويعلو ويرتجف في الهواء الصحو، ويستطيل كلما أطالتا النظر حتى يكاد يلمس حافة القمر الفضي المستدير.
كما طالت وقفتهما إذ ذاك؟
كلتاهما؟ كما لو كانت هذه الدائرة من النور السماوي قد أسرتهما في نطاقهما؟ كم طالت وقفتهما، تفهم إحداهما الأخرى وكأنهما مخلوقتان من عالم آخر تعجبان لم وجدتا في الأرض بهذا الكنز من السعادة التي تتأجج في صدريها وتتساقط في زهور فضية من شعريهما وأيديهما؟
كما وقفتا على هذه الحالة؟ دهراً أم لحظة؟ وهل همست “مس فولتون” قائلة “نعم ذلك تماماً” أن تخيلت “برتا” أنها همست بذلك.
وانبعث النور الكهربائي فجأة وأعدت “ مسز نايت” القهوة وقال لها “ هارى”:
ـ لا ياعزيزتي لا تسأليني عن طفلتي فأنا لا أراها مطلقاً،ولن أبدا بالاهتمام بها حتى تتخذ لنفسها عشيقاً.
وأزاح “ مستر نايت” المونو كل عن عينيه ثم وضعه من جديد، وشرب “إدى وارين” القهوة القدح والألم يرتسم على وجهه وكأنه وجد فيه عقرباً.
ـ إني أود أن أعطي مجالاً للكتاب، وأنا أعتقد أن “لندن” مليئة بالأفكار لمسرحيات لم تكتب، وكل ما أريد أن أقوله هو: هاكم المسرح فتقدموا.
ـ أتعرفين ياعزيزتي، سأقوم بعملية“ديكور” في منزل“جاكوب ناثان” وتغريني فكرة استخدام رسم السمك المقلي كأساس “للديكور”
فتكون ظهور الكراسي على شكل المقلاة بينما تزين الستائر رسوم للبطاطس المحمر بالبرودري.
ـ المشكلة بالنسبة لكتابنا أنهم مازالوا رومانتيكيين.
ـ قصيدة “ مس فولتون” في أعمق الكراسي ومر “ هاري” بالسجائر؛
وحين وقف أمام “ مس فولتون” قال بجفاف “مصري؟ تركي؟ فرجيني؟” أدركت “برتا” أنه يكرهها وأدركت أيضاً أن “ مس فولتون” قد شعرت بهذه الكراهية؛وغضبت حين قالت “ أشكرك لن أدخن”.
وقالت “برتا” في عقلها.
ـ أرجوك يا هاري لا تكرهها؛أنت مخطئ في حقها، إنها رائعة.
رائعة؛ وبالإضافة إلى ذلك كيف تشعر بالكراهية لشخص يعني الكثير بالنسبة إلي؟
سأحاول أن أشرح لك الليلة ونحن في السرير ما مر بيني وبينها والشعور الذي تقاسمناه أنا وهي.
وعند هذه الكلمات الأخيرة قفزت فكرة عجيبة بل ورهيبة إلى عقل “برتا” وابتسمت لها هذه الفكرة العمياء همست في أذنها: حالاً حالات سيخرج هؤلاء الناس؛ وسيصبح البيت ساكناً، وستخبو الأنوار وأنت وهو مع بعض، على انفراد في الغرفة المظلمة، وفي السرير الدافئ.
وقفزت برتا من مقعدها وجرت إلى البيانو وصاحت.
ـ من المؤسف أن أحداً لا يلعب البيانو.
لأول مرة في حياتها تشتهي “برتا يونج” زوجها.
كانت تحبه، كانت بالطبع تحبه من كل الوجه، ولكن لا من هذا الوجه، وقد أدركت في بداية زواجهما أنه يختلف عنها، وكثيراً ما ناقشا الموضوع وحين اكتشفت أنها باردة سبب الاكتشاف لها قلقاً مريعاً في بادىء الأمر ثم زال قلقها تدريجياً.
ولكن الآن .. في حرارة .. في حرارة واضطربت الدنيا في جسدها المشتاق وقالت “ مسز نايت”.
“لابد لنا من الانصراف ياعزيزتي”.
وقالت “برتا”
ـ سأصحبكم إلى الصالة، لقد أسعدني وجودكم معنا.
وقال هاري:
ـ كأساً من الويسكي قبل أن تنصرف يا “ نايت”.
ـ كلا، أشكرك ياعزيزي.
وضغطت برتا على يد “ نايت” شاكرة وهي تصافحه وصاحت من على السلم الخارجي.. “ليلة سعيدة.. مع السلامة” وكأن روحها تودعهما لآخر مرة.
ـ إذاً ستركب جزءاً من الطريق معي.
ـ سأكون شاكراً إن لم أواجه رحلة طويلة في التاكسي وحدي بعد تجربتي المخفية.
ـ إذا سأذهب لارتداء معطفي.
ومشت “مس فولتون” في اتجاه الصالة وتبعتها “برتا” وكاد “ هاري” يدفعها وهو يمر بها ويسبقها خلف مس فولتون ويقول:
ـ دعيني أساعدك في ارتداء معطفك.
وتركته “ برتا” يذهب وحده وأدركت أنه ندم على وقاحته مع مس فولتون، كم هو طفل في بعض تصرفاته، طفل منطلق وعلى سجيته وبقيت هي وأدى بجانب المدفاة.
وقال“أدى” في صوت ناعم:
ـ هل قرأت قصيدة “ بلك” الجديدة “ قائمة طعام”؟ إنها رائعة للغاية، هل لديك نسخة من مجموعته الأخيرة؟بودي أن أريك القصيدة.
وقالت “ برتا”:
ـ نعم لدي نسخة.
ومشت في خفة إلى مائدة تواجه حجرة الاستقبال وخلفها أدى يمشي دون أن يحدث ضجة وأمسكت بالكتاب الصغير وأعطته له دون أن تحدث صوتاً، وبينما انهمك هو في البحث عن القصيدة أدارت هي رأسها إلى الصالة ورأت.. “هاري” يمس بمعطف “ مس فولتون” و“مس فولتون” قد أعطته ظهرها وأحنت رأسها، ورمى بالمعطف جانباً وأحاط كتفيها بيديه وأدارها إليه في عنف وقالت شفتاه “ أنا أعبدك” ووضعت “مس فولتون” أصابعها الفضية على خديه وابتسمت ابتسامتها الساهية وارتجفت فتحتا أنف “هاري” وتكور فمه في تكشيرة كريهة وهو يهمس “ باكر” ويجفونها قالت “ مس فولتون” “نعم” وقال “أدى”.
ـ هاهي القصيدة، لماذا يكون الحساء دائماً حساء الطماطم؟ أليس في هذا السطر واقعية عميقة؟ ألا تشعرين بذلك؟
أن حساء الطماطم خالد بشكل مخيف.
وقال“هاري” بصوت مرتفع للغاية وهو في الصالة.
ـ هل أطلب لك تاكسي بالتليفون؟
وقالت “ مس فولتون”:
ـ لا ضرورة لذلك.
واقتربت من “برتا” وقدمت لها أصابعها الرقيقة.
ـ طابت ليلتك ، أشكرك كثيراً.
وقالت “برتا”
طابت ليلتك.
وبقيت “ مس فولتون” محتفظة بيد “برتا” وهي تهمس.
ـ ما أجمل شجرتك، شجرة الكمثرى.
ثم ذهبت و “أدى” يتبعها كالقط الأسود يتبع القط الرمادي.
وقال “هاري” وهو في غاية التماسك والهدوء.
ـ سأطفئ الأنوار.
“شجرتك الجميلة .. شجرة الكمثرى ـ شجرة الكمثرى”
وجرت “برتا” إلى الشرفة وفتحت مصراعيها وصاحت.
ـ يا إلهي .. ماذا سيحدث الآن؟
ولكن شجرة الكمثرى كانت جميلة كما كانت دائماً ومليئة بالثمار وساكنة كشأنها دائماً.
شكراً يامدام
لانجستون هيوز
كانت سيدة ضخمة وكانت تحمل حقيبة يد ضخمة تحتوي على كل شيء عدا المطرقة والمسامير! وكانت الحقيبة تتدلى من كتفها بحزام جلدي طويل، وبينما كانت تسير وحدها والساعة تقترب من الحادية عشرة مساء إذ جرى صبي خلفها وحاول اختطاف حقيبتها، وانقطع الحزام حين شده الصبى من الخلف ولكن ثقل الصبي وثقل الحقيبة معاً افقداه توازنه وهكذا فبدلاً من أن يولي الأدبار بأقصى سرعة “ كما كان يتمنى”،وقع على ظهره فوق الرصيف وارتفعت قدماه في الهواء.
والتفت السيدة الضخمة وركلته ركلة مباشرة في مؤخرته ـ وكان يرتدي سراويل جينز زرقاء ـ ثم انحنت وأمسكت بتلابيب الصبى قابضة على فتحة قميصه وظلت تهزه حتى اصطكت أسنانه.
وقالت السيدة:“وطى ! جيب الشنطة يا ولد! حطها هنا” ، كانت لاتزال تمسكه لكنها انحنت حتى تتيح له أن يأتي بحقيبة يدها ثم قالت: “هيه .. مانتش مكسوف من نفسك؟
كانت لاتزال تمسكه بتلابيبه ـ ورد الصبي “ فعلاً”.
وقالت السيدة : “ عملت كده ليه؟”.
وقال الصبي : “ ماكنش قصدي”.
وقالت : “ كداب !”.
كان بالطريق عدد من المارة فتطلع البعض إلى مايجري وظل البعض واقفاً.
وقال السيدة : “إذا سبتك حتجري؟”.
ورد الصبي : “طبعاً”.
وقالت السيدة : “ يبقى موش حاسيبك”. وظلت قابضة على قميصه.
وهمس الصبي “حقك علي يا مدام أنا آسف..”
- كده كده! ووشك وسخ! أنا عايزه أغسل لك وشك! مافيش في بيتكم حد قال لك تغسل وشك؟”.
ورد الصبي : “لا”.
- “يبقى لازم يتغسل الليلة” وانطلقت السيدة تسير في الشارع وهي تجر الصبي المذعور خلفها.
كان يبدو في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. ضعيف البنية، نحيفاً معروقاً، ويرتدي حذاء من الكاوتش وسراويل جينز زرقاء.
وقالت المرأة : “ لو كنت ابني كنت علمتك الصح من الغلط. خلني بس أغسل لك وشك الليلة. أنت جعان؟”.
وقال الصبي وهي تجره خلفها : “ لا.. بس لو سمحتي سيبيئي”.
وقالت السيدة : “ أنا كنت ضايقتك في حاجة وأنا باعدي ع الناصية؟”.
وقالت السيدة : “ ومع ذلك احتكيت أنت بي! إذا كنت فاكر أن الاشتباك ده حيتفك بسرعة تبقى غلطان. حتشوف! وساعة ما أخلص منك مش حتقدر تنسى مدام لويلا بيتس واشنطن جونز”.
وبدأ العرق يتصبب من جبهة الصبي وبدأ يحاول التملص من قبضتها.. وتوقفت السيدة جونز وجذبته بعنف حتى أصبح أمامها ثم أطبقت بيدها على رقبته واستمرت في جره في الطريق.. وعندما وصلت إلى منزلها دفعت الصبي إلى الداخل فعبرا الصالة ووصلا إلى غرفة ضخمة في مؤخرة المنزل بها مطبخ صغير. وأضاءت النور وتركت الباب مفتوحاً. وتناهت إلى أسماع الصبي أصوات ضحكات وأحاديث السكان في المنزل الضخم – كل في غرفته – وقد ترك بعضهم الباب مفتوحاً فأدرك الصبي أنهما ليسا وحدهما في المنزل. وكانت السيدة ما تزال تطبق على رقبته في وسط الغرفة.
قالت : “ اسمك ايه ؟”.
وأجاب الصبي : “روجر”
“طيب ياروجر. روح الحوض اللي هناك ده واغسل وشك”.
وأخيراً أخلت سبيله. ونظر روجر إلى الباب، ثم نظر إلى السيدة. ثم إلى الباب، ثم اتجه إلى الحوض.
- خلي الحنفية مفتوحة شوية لحد الميه ماتسخن. خد “آدي فوطة نضيفة”.
وقال الصبي وهو ينحني على الحوض “ انتي حتوديني السجن؟”.
وقالت : “مش بوشك الوسخ ده! ماقدرش أوديك أي حته ! حاجة عجيبة ! أنا راجعة البيت أحضر لقمة أكلها تقوم تخطف شنطتي ! يمكن أنت كمان لسه ما اتعشتش- والوقت متأخر قوي – مش كده؟”.
وقال الصبي : “ مافيش حد في بيتنا”.
وقالت : “ يبقى حنتعشى سوا. أنا واثقة أنك جعان – ولو أنت كنت مش جعان لما حاولت تخطف شنطتي”.
وقال الصبي : “ كنت عايز أشتري جزمة شاموا زرقا”.
وقالت السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز “ واللي يعوز جزمة شاموا زرقا يقوم يخطف شنطتي؟ كان حقك تطلبها مني!”.
وقال الصبي : “ أفندم؟”.
وتطلع إليها الصبي والماء مازال يتساقط من وجهه. وتوقف الحديث برهة طويلة – برهة طويلة جداً. وبعد أن جفف وجهه وقف حائراً لا يدري ما يصنع فجفف وجهه مرة أخرى ثم استدار كأنما يتساءل في نفسه عن الخطوة التالية. ورأى الباب مفتوحاً : أنه يستطيع أن ينطلق إليه عبر الردهة ويجري ويجري – أنه يستطيع أن يجري ويجري ويهرب! كانت السيدة تجلس على الأريكة التي تستخدم سريراً. وبعد قليل قالت : أنا كمان كنت صغيرة وياما اشتهيت حاجات ماقدرتش أشتريها!
وتلا ذلك صمت طويل. وفتح الصبي فمه ثم قطب جبينه دون أن يدري وغمغمت السيدة ثم قالت “ كنت فاكرني حاقول أن أنا ماحاولتش أخطف الشنط.. مش كده؟ غلط! مش ده اللي كنت حاقوله”.
وتوقف الحديث. وحل الصمت ثم عادت تقول “ أنا كمان عملت حاجات كثيرة ماقدرش أقول لك عليها يا... ابني – ولا حتى أقولها لربنا ولو أنه عارفها طبعاً. اسمع! كانت تستني شوية هنا لحد ما أحضر حاجة نأكلها – وخد المشط ده وسرح شعرك كده عشان يبقى شكلك معقول”.
وكان في ركن آخر من الغرفة موقد صغير وثلاجة صغيرة يحجبهما ستار. ونهضت السيدة جونز واختفت خلف الستار ولكنها أقلعت عن مراقبة الصبي (خشية الهرب) كما تركت حافظة نقودها على الأريكة ولم تعد تلتفت إليها. ولكن الصبي قد حرص على أن يجلس في ركن الغرفة البعيد قائلاً في نفسه: أنها يمكن إذا شاءت أن تراه في مكانه هذا بطرف عينها. لم يكن واثقاً أن السيدة يمكن ألا تثق فيه – ولم يكن يريد ألا يكون أهلاً للثقة الآن.
وسألها الصبي : “ مش عايزة حاجة أجيبها لك من الدكان؟ لبن وإلا حاجة؟ وأجابت “ ما أطنش! إلا إذا كنت أنت عايز لبن حلو! أصلي حاعمل كاكاو، باللبن في العلبة دي”.
وقال الصبي “مش بطال”.
ووضعت السيدة على النار بعض الفاصوليا المطبوخة باللحم لتسخينها إذ كانت باردة في الثلاجة ثم صنعت الكاكاو وأعدت المائدة.
ولم تسأل المرأة الصبي عن مكان إقامته أو أهله أو أي أسئلة أخرى قد تسبب له حرجاً. ولكنهما تقدما للطعام وجعلت تقص عليه طرفا من أخبارها- فقالت أنها تعمل في صالون تجميل بأحد الفنادق وأن العمل يستمر حتى ساعة متأخرة، ووصفت له عملها بالتفصيل قائلة: أن الصالون ترتاده السيدات من جميع الأشكال – ذوات الشعر الأشقر وذوات الشعر الأحمر والأسبانيات. ثم قطعت نصف فطيرتها التي دفعت فيها عشرة سنتات وقدمته له.
وقالت : “كل كمان يابني”.
وبعد انتهاء الوجبة نهضت وقالت : “ودلوقتي – اسمع ! خد العشرة دولار دول واشتري لك جزمة شاموا زرقا. والمرة الجاية ! إياك تغلط وتنشل شنطتي ولا شنطة حد تاني! أنا لازم أستريح دلوقت. اتفضل ياريت من هنا ورايح تعقل وتبطل الشقاوة يابني”.
وتقدمت أمامه عبر الردهة إلى الباب الأمامي وفتحته له. تصبح على خير ! وبلاش شقاوة ياولد ! – قالت له ذلك وهي تنظر إلى الطريق.
وأراد الصبي أن ينطق بكلمات أخرى – غير “شكراً يامدام”- إلى السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز ولكنه لم يستطع عندما استدار ونظر خلفه إلى السيدة الضخمة الواقفة بالباب. وبصعوبة خرجت من فمه كلمة “شكراً” قبل أن تغلق السيدة الباب. ولم يرها الصبي بعد ذلك أبداً.
الأرنب البرية
جراتسيا ديليدا
كانت في وسط النهر العريض جزيرة صغيرة، تتلألأ في منتصفها بحيرة صغيرة، أو بركة ذات لون فضي يضرب إلى الخضرة، تحيط بها أشجار الحور والصفصاف، وشجيرات من السنط البري، وأعشاب طويلة غضة مخملية، مرقشة بزهور أرجوانية غريبة من عباد الشمس، وكانت صورة الطبيعة كلها تنعكس في هذه البركة الصغيرة، فتبدو مثل لوحة أجمل من الواقع وأبعد ما تكون عنه.
كان جو الخيال يسود المكان كله، فكانت سماء فصل الخريف نهاراً تحفل بالألوان التي تتغير، وبالسحب ذات المزاج المتقلب، وكانت السماء ليلاً يسطع فيها القمر الذي يبدو ضخماً يضرب لونه إلى الحمرة، وتلمع فيها النجوم، وتتماوج في مرآة البحيرة العميقة أشباح شجر الحور.
وذات مساء وصل الصياد فألقى مرساة قاربه على الضفاف الهشة للجزيرة المهجورة، مخلفاً آثار أقدامه وهو يسترق الخطو فوق الرمال التي لم تطأها قدم من قبل، وشاهد القمر الضخم الأحمر وهو يشرق بين أشجار الحور، ثم شاهده في صورة أجمل منعكساً في مياه البركة الصغيرة. وتوقف لحظة وقد ثبت بصره على الصورة المنعكسة الوضاءة، وشعر بسحر ذلك العالم المجهول والسماء البعيدة ذات الأسرار، والتي كانت تبدو في قلب الأرض نفسها، إن صح هذا التعبير. وكانت هناك أرنب برية عجوز تعيش بين أشجار السنط على الشاطئ، فشاهدت الرجل المجهول، وهو عدوها اللدود، فلاذت بالفرار وجعلت تعدو بخفة مسافة طويلة دون أن تحدث صوتاً، وقد تصلبت أذناها وانتصبتا مثل نصل سكين جهزته للدفاع عن نفسها.
ولم يتخل الرجل عن أحلامه، وإن تخلت الأرنب عن أحلامها، بعد أن أفلتت من الموت. وعندما وصلت إلى أعماق الغابة، قبعت تحت شجيرة كثيفة، وانتظرت ردحاً طويلاً، تصيخ السمع وتشم الهواء بأنفها الصغير المرتعش، وكانت دقات قلبها تتوالى بسرعة لم تعهدها منذ شهور طويلة.
والواقع أن الفيضانات الأخيرة أدت إلى إختفاء جميع الأرانب البرية من الجزيرة، إذ قتل بعضها بالأسلحة النارية، وقنص صيادو الأسماك بعضها في شباكهم، وجرف النهر الغاضب البعض الآخر إلى حتفها، فتخيلت الأرنب العجوز أنها أصبحت سيدة المكان وحدها، وجعلت تحلم بأن تقضي، وحدها وفي هدوء، مابقي لها من العمر في هذا المكان، كانت عجوزاً ومرهقة وتشعر بالوحشة، بعد أن هجرها أولادها، ولم يعد الذكور يطلبونها، فلا بأس من الحياة في سكون في هذا الركن المنعزل من الجزيرة، دون التعرض للخوف أو للخطر.
أما حين يأتي الربيع بالسيول فكانت تقيم بين بعض جذوع الأشجار التي يجرفها السيل إلى الضفاف المرتفعة فوق البركة الصغيرة، إذ لم يكن أحد يهتم بأن يعبر منطقة الرمال التي تعترضها المستنقعات في الجزيرة، بل وبعد يبوس الرمال ونمو الكلأ على شواطئ البركة، لم يكن صائد الحيوان أو صياد السمك يزور الجزيرة.
السكون والعزلة.. ولم تكن تسمع إلا البلابل على أغصان الحور السامقة وهي تغني ألحانها لتصاحب خشخشة الأوراق التي تحيى المياه الجارية، وقالت الأوراق التي يغمرها ضوء القمر الساجي :
“ الوداع أيتها المياه ! الحركة أفضل من السكون !”.
وأجابت المياه وهي تهرع نحو البحر :
“ الوداع ! السكون أفضل من الجري إلى الأبد!”.
وكانت الأرنب العجوز تصغي لذلك الحوار، الذي أفعم قلبها بالغبطة، إذ شعرت أنها أقوى من الأشجار وأسرع عدواً من الماء، وأحست بالرضى لقدرتها على السكون وعلى الجري حسبما تشاء.
ومرت الشهور وصمتت البلابل، وبدأت أشجار الحور تسقط أوراقها، وشعرت الأرنب العجوز أنها لم تعهد مثل هذا الهدوء وهذا الأمن من قبل في حياتها، وهاهو ذا الشبح المجهول الفتاك يعود فجأة إليها. ترى لماذا عاد ؟
وقبعت في مكمنها تحت الشجيرات، وقد ثبتت حركة عينيها الكبيرتين تحت جفنيهما الحمراوين، وتطلعت فرأت على البعد منطقة رملية يسطع عليها ضوء القمر، يحدها دغل كثيف، ومساحة من الخلاء الذي تمتعت فيه هي أيضاً، في أيام صباها الهانئة، بالتواثب وتعقب ظلها على الأرض أو انتظار حبيبها في الليالي التي يسطع فيها ضوء القمر.
شاهدت ظلاً يتحرك على الرمال، يعقبه ظل آخر ، وظنت الأرنب العجوز أنها تحلم، ولكن الظلين عادا فتوقفا ثم استأنفا لعبتهما العجيبة. لم يعد لديها أي شك : كانا أرنبين بريين. وهنا فهمت العجوز سبب عودة عدوها المجهول، ذلك الصياد في تلك الليلة إلى الجزيرة.
وهنا فار غضب عارم، بقدر ما يمكن لغضب الأرنب ان يكون عارماً، في قلبها من جديد، ولكنها لم تقنع نفسها أنها أخطأت بالبقاء وحيدة في الجزيرة، بل تصورت أن الأرنبين قد وضعا أيديهما دون وجه حق على جزيرتها.
كان الهرم والعزلة قد جعلاها شرسة وأنانية, حتى إن غضبها من ظهور الأرانب كان أكبر من غضبها لرؤية عدوها المجهول, وعندما أقدمت على الخروج من مخبئها وخطت نحو الساحة الرملية, وأدركت أن الأرنبين كانا عاشقين, ازداد عنف غضبها وعمقه.
ولكن ذلك لم يمنع الأرنب من مواصلة اللعب والتواثب والعدو معاً, وكانت الأنثى سمينة, وتكاد أن تكون شفافة الأذنين, فلونهما وردي من الداخل وداكن من الخارج, وكانت تهوى اللهو واللعب, إذ جعلت تجري حول الذكر وتتظاهر بأنها لاتراه, ثم ترقد على الرمال, فإذا اقترب حبيبها منها هبت وجرت مبتعدة عنه. أما الذكر فكان نحيلاً أضناه العشق والسرور, فلم ينظر إلا إليها, ويتعقبها ويلقي بنفسه عليها دون هوادة. كانا سعيدين, مرحين, لايحملان هماً من هموم الدنيا, مثل جميع العشاق السعداء.
ولم تكل عين الأرنب العجوز من النظر إليهما, وحتى حين كان الزوجان الجميلان يختفيان من الساحة بسبب الإرهاق من فرط التواثب والملاعبة, كانت العجوز لاتبرح مكمنها, وتظل عينها على الساحة, وأذناها منتصبتان ترتعشان مثل ورقتين من أوراق الشجر الجافة في مهب الريح.
ومرت الليالي والأيام, وصار القمر في المحاق, وعاد الظلام الدامس في كل مساء, ولكن الأرنب العجوز لم تعد إلى ضفاف البركة خوفاً من الصياد, بل ظلت مختبئه في أحلك أعماق الغابة, ولم تكن تخرج من مكمنها إلا لماماً, فتقترب من الساحة أثناء الليل لمشاهدة العاشقين في لهوهما ومراحهما.
وذات يوم سمعت طلقة نارية, ثم طلقة أخرى, وبعدها طلقات بعيدة وغامضة كأنها الأصداء تتنادى من بعيد.
كانت الليلة دافئة, بليلة النسيم, والهلال قد مال للغروب خلف أشجار الحور العارية من أوراقها, كأنما جعلها الله ليلة للعشاق المخلصين, ولكن العاشقين لم يعودا للظهور.
لابد أن العدو المجهول قد ظفر بهما, واستبدت فرحة النصر العارمة الطاغية بالأرنب العجوز حتى بدأت تتواثب على الرمال, حيث كانت آثار أقدام العاشقين المسكينين ماتزال بادية.
ولكنها سمعت وقع أقدام بشرية فلاذت بالفرار, كانت تلهت ولاتستطيع رؤية شيء وهي تنطلق ساربة خلال الغابة حتى كادت أن تصل إلى الضفة الأخرى للنهر, وهناك قبعت في مخبئها حتى انبلج الفجر في تلك البقعة التي لم ترتدها من قبل.
وأفاقت عندما بزغ الفجر على الغابة التي كانت غلالات الضباب ماتزال تلفها, وتتساقط من الشجيرات قطرات ضخمة من ندى الصبح البارد, فخرجت الأرنب تستطلع الأحوال وهبطت إلى حفرة صغيرة, حيث وقعت عيناها على مشهد آثار مشاعرها ومس أوتار قلبها, على الرغم من قسوة طبعها, إذ وجدت جُحراً فيه أرنبان صغيران لم يتجاوزا العام الأول من العمر, صغيران مكتنزان, آذانهما شفافة, وأعينهما كبيرة ثابتة براقة, وحدست أنهما من أطفال الأرنبين اللذين قتلهما الصياد.
كان أحدهما يلعق رأس أخيه وأذنيه, وعندما لمح الأرنب العجوز بدأ يتطلع إليها, ومد أنفه يتشمم الهواء ثم عاد أدراجه, خائفاً مما تجاسر على فعله. ومضت الأرنب العجوز إلى حال سبيلها, ولكنها عادت فيما بعد وجعلت تشاهد الصغيرين اليتيمين وهما يلعبان ويلعقان بعضهما البعض.
كان النهار بارداً حزيناً, وبدأت الأمطار تهطل في المساء, فعادت الأرنب العجوز إلى مكمنها القديم فوق جذوع الأشجار, على الضفة المرتفعة للبركة. واستمر هطول الأمطار ولكن ذلك لم يزد من حزن الأرنب العجوز, إذ أن الأمطار تعني في الواقع نهاية الجو الصحو, ومن ثم ضمان أمنها وعزلتها, وسرعان ماتبتل الرمال وتفقد صلابتها فلا يجرؤ صياد على عبور الغابات الرطبة العارية.
وماعساه يكون من أمر الأرنبين المسكينين؟ ماعساه يحدث لهما في ذلك الحجر الصغير؟ هل تذكرت الأرنب العجوز عاشقة العزلة أطفالها الصغار, ودفء جحرها, ومسرات الأمومة؟ من الصعب أن نقطع في هذا برأي, ولكنها على أية حال تركت مخبأها في الفجر وذهبت لمشاهدة الصغيرين من جديد. كان المسكينان نائمين, أحدهما فوق الآخر, ولابد أنهما كانا يتوقعان عودة أمهما, حتى في نومهما, فحينما اقتربت الأرنب العجوز منهما, مد كل منهما أنفه وهز أذنيه الصغيرتين.
وتطلعت الأرنب العجوز إليهما بعينيها الكبيرتين المبللتين, ومدت أنفها هي الأخرى كأنما لتشم رائحة الجحر.
وعادت الأمطار إلى الهطول, وأحاطت بالجزيرة واكتنفتها غلالة رمادية من الضباب والمطر ثماني ليال وثمانية أيام, حتى بدا أن البركة قد ملئت بحبر أسود لامع, وظلت المياه ترتفع وتعلو حتى كادت أن تصل إلى معصم الأرنب العجوز. وحاولت أن تذهب لمشاهدة الصغيرين من جديد, ولكن الرمال كان قد ساخت بالقرب من معصمها في عدة أماكن, وتغلغلت المياه فيها جميعاً, فأصبح من المحال الوصول إلى الوادي الصغير. وعاد المطر يهطل ويهطل, وعلت ضجة من بعيد كأنها أصوات جيش الغزاة العادين الزاحفين على البر مدمرين كل مافي طريقهم.
كان ذلك الصوت مألوفاً للأرنب العجوز, فهو صوت حشرجة النهر الطاغي في طوفانه, ولم تجرؤ على مغادرة مكمنها, وإن كان الجوع يقرصها, إذ لم تتناول من الطعام سوى بعض وريقات جافة.
واضطرت في أحد الأيام إلى الصيام بعد أن ارتفعت المياه فوصلت إلى جذوع الأشجار, وكانت أي حركة تكتنفها الأخطار.
وظلت المياه تعلو وتعلو, وكانت رمادية اللون, غامضة صامتة, فبدا أن الأرض والهواء والسماء قد استحالت جميعاً إلى كتلة واحدة من المياه العكرة الباردة.
ولكن الأمطار توقفت في مساء اليوم الثامن, وانفرجت السحب فجأة عن صفحة السماء, فظهر أديمها الأخضر الشاحب هنا وهناك من خلال الضباب الرمادي, ومن فرجة بين السحب, وفي أعماق منجم قريب, سطع ضوء القمر المفضض المذهب.
وهبطت المياه, فبدا كأنها تتراجع مرهقة من جهود الغزو, حاملة معها غنائم من أوراق الشجر وأغصانه والرمال والكائنات الميتة.
وأشرقت الشمس في اليوم التالي على المكان الذي أصابه الدمار, فتمكنت الأرنب المسكينة التي تعاني من الجوع الشديد والبلل, من ترك مخبئها وجعلت تُدفئ نفسها وتتطلع إلى ماحولها, فوجدت أن البركة قد اختفت, وأن جدولاً يختلط الماء فيه بالطين يسير الهوينى تحت الضفة العالية, التي زاد ارتفاعها فغدت مثل السد, ولاتزال المياه تحمل غنائمها وضحاياها.
وفجأة شاهدت الأرنب على سطح الماء, بين الأغصان العارية والأوراق الجافة والآلاف المؤلفة من الفقاقيع الطافية كأنها حبات عقد انتثر, أرنبين صغيرين, ميتين, طويلين ونحيلين, أعينهما مفتوحة, وآذانهما مشرعة, يجريان بسرعة على صفحة الماء, بالقرب من بعضهما البعض, مثل أخوين أخلصا الحب فلم يفترقا حتى بعد الموت.
لقد أصبحت الأرنب العجوز وحيدة حقاً في الجزيرة.
وهنا أمال الضبع رأسه وصاح:”وهكذا فأنت مازلت تصدق هذه الأكاذيب عن جنسي؟”
قال اللقلق:“ إني لم أر مثانتك من الدخل. ولكن لماذا يقول كل امرىء أنك تستطيع أن تصنع بها سحراً؟”
قال الضبع:“إني لاتساءل لماذا منح الله رأساً؟ إنك لم تتعلم كيف تستخدمه” ولكنه كان يتحدث بصوت خفيض إلى الحد الذي لايستطيع اللقلق معه أن يسمعه.
قال اللقلق:“ إن كلماتك لاتنسلني” وترك نفسه يهبط في الهواء أدنى قليلاً.
ومرة أخرى رفع الضبع إليه بصره قائلاً:“لقد كنت أقول: لاتقترب مني أكثر مما ينبغي, فقد أرفع ساقي وأغطيك بسحري! وضحك.
كان اللقلق قريباً منه بما يكفي لأن يجعله يرى أن أسنانه سمراء.
وشرع اللقلق يقول:“لابد أن ثمة سبباً ما, رغم ذلك”. ثم بحث عن صخرة تعلو الضبع, وحط عليها. وجلس الضبع رافعاً بصره إليه وهو يحدق. ومضى اللقلق يقول:“لماذا يكرهك الجميع؟ لماذا يدعونك غولاً؟ ماذا فعلت؟”.
فأغمض الضبع عينيه نصف إغماضة وقال اللقلق:“إنك سعيد الحظ جداً. فالبشر لايحاولون قتلك, لأنهم يظنونك مقدساً. إنهم يدعونك قديساً وحكيماً. ومع ذلك فأنت لاتبدو قديساً ولاحكيماً”.
قال اللقلق مسرعاً:“ماذا تعني؟”.
لو أنك كنت تفهم حقاً, لعرفت أن السحر حبة تراب في مهب الريح, وأن لله سلطاناً على كل شيء, ولما ساورك خوف”.
وقف اللقلق زمناً طويلاً يفكر. رفع ساقاً وثناها أمامه. واصطبغ المسيل باللون الأحمر إذ هبطت الشمس من مستقرها. وجلس الضبع بهدوء رافعاً بصره إلى اللقلق, منتظراً منه أن يتكلم.
وأخيراً أنزل اللقلق ساقه وفتح منقاره وقال:“أتعني أنه إذا لم يكن هناك سحر, فإن الشخص الذي يرتكب الخطيئة هو الشخص الذي يعتقد أن ثمة سحراً؟”.
وهنا ضحك الضبع وقال:“لم أقل شيئاً عن الخطيئة. وإنما أنت الذي قلت, وأنت الحكيم. ليست مهمتي في العالم هي أن أخبر أحداً ماالصواب وماالخطأ. إن العيش من الليل إلى الليل يكفيني. إن كل انسان يتمنى أن يراني ميتاً.
ومرة أخرى رفع اللقلق ساقه ووقف يفكر. ارتفع آخر شعاع من ضوء النهار إلى السماء واختفى. وذابت الصخور عند جوانب المسيل في الظلمة. وأخيراً قال اللقلق :“لقد وهبتني شيئاً أفكر فيه, وهذا أمر طيب ولكن الليل قد جن الآن, لابد لي من أن أمضي في طريقي.
ورفع جناحيه وشرع يطير- دون أن يلوي على شيء من الجلمود الذي كان واقفاً عليه. وأخذ الضبع يصغي إليه بسمعه. سمع جناحي اللقلق يضربان الهواء ببطء, ثم سمع صوت بدن اللقلق وهو يضرب الصخرة على الجانب الآخر من المسيل, فتسلق الصخور ووجد اللقلق, وقال:“إن جناح قد انكسر, كان خيراً لك أن ترحل قبل أن يختفي ضوء النهار”.
فقال اللقلق:«أجل». وكان تعساً يشعر بالخوف.
وقال له الضبع:«تعال معي إلى بيتي. هل تستطيع السير؟».
قال اللقلق:«أجل» وشقا طريقهما معاً في الوادي. وسرعان ماانتهيا إلى كهف في جانب الجبل. فدخله الضبع أولاً ونادى عليه منه.
“الآن تستطيع أن تدخل رأسك. إن الكهف عال هنا”.
لم يكن ثمة سوى ظلمة بالداخل ووقف اللقلق في مكانه, ثم قال:“أين أنت؟”.
وأجابه الضبع:“إني هنا” وضحك.
وسأله اللقلق:“لماذا تضحك؟”.
فقال الضبع:“كنت أفكر أن العالم مكان غريب. لقد دخل القديس كهفي لأنه يؤمن بالسحر”.
قال اللقلق: (لست أفهمك)
(إنك مضطرب، ولكنك على الأقل تستطيع الآن أن تصدق أني لا أملك سحراً إني لا أختلف عن أحد في هذا العالم)
لم يجبه اللقلق فوراً وشم رائحة الضبع الكريهة شديدة القرب منه ثم قال متنهداً: (أنت مصيب بطبيعة الحال فليس ثمة قوة تجاوز قوة الله).
قال الضبع وهو يتنفس في وجهه: (إني سعيد.. أخيراً أصبحت تفهم وسرعان ما أمسك بعنق اللقلق ووجأه.. رفرف اللقلق وسقط على جنبه.
قال الضبع هامساً: (لقد منحني الله ماهو خير من السحر منحني مخاً).
رقد اللقلق ساكناً: حاول أن يقول مرة أخرى: (ليس ثمة قوة تجاوز قوة الله) ولكن منقاره لم يعد بعد أن انفتح بالغ الاتساع في الظلام.
تحول عنه الضبع مبتعداً، وقال من فوق كتفه: (ستموت في مدة دقيقة، وبعد عشرة أيام سأعود إليك وعند ذلك ستكون جاهزاً لوجبتي).
وبعد عشرة أيام ذهب الضبع إلى الكهف ووجد اللقلق حيث تركه لم يكن النمل قد زحف إليه فقال: (هذا أمر طيب) التهم منه مما أراد، ثم خرج إلى صخرة كبيرة مسطحه فوق مدخل الكهف وهناك في ضوء القمر وقف بعض الوقت يتقيأ.
أكل قليلاً من قيئه وتمرغ زمناً طويلاً في يقينه، وهو يحكه بفرائة عميقاً ثم شكر الله على أنه وهبه عينين تستطيعان أن تريا الوادي في ضوء القمر، وأنفاً يستطيع أن يتشمم الجيفة على متن الريح تدحرج في القيئ مرة أخرى ولعق الصخرة من تحته ولبعض الوقت رقد هناك يلهث وسرعان ما نهض ومضى يظلع في طريقه.
الأشياء
فالنتاين كاتاييف
ربط الحب المشبوب بين قلبي جورج وشوركا، فعقدا قرانهما في يوم من أيام شهر مايو، صفا فيه الجو واعتدل، وماكاد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا إليها بصبر نافد حتى اندفع العروسان الشابان خارجين إلى الطريق العام.
كان جورج طويلاً نحيلاً، ذا صدر مهزول وطبع هادىء، فنظر بطرف عينه إلى شوركا وقال (إلى أين نمضي الآن؟).
وكانت شوركا طويلة أيضاً، جميلة أنيقة، مشاعرها ملتهبة متقدة، فزادت من إلتصاقها به حتى دغدغ أنفه غصن الليلاك الذي يزين شعرها، وهمست بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها قائلة: (إلى السوق طبعاً لشراء الأشياء! وهل هناك سوى السوق؟).
وقال زوجها: (تقصدين لشراء الأثاث؟) وقد ارتسمت على شفتيه بسمة غباء، ويده تصلح من وضع الكاسكيته على رأسه أثناء السير.
كانت الريح تهب فتثير الغبار في السوق، ولازارات النحيلة الملونة المعلقة فوق الدكاكين المنصوبة في ظاهر السوق تتماوج مع هبات الهواء الجاف، والجراموفونات القديمة ينافس بعضها بعضاً من الصرير الذي يعلو وسط الموسيقى، والشمس تسطع وتنعكس أشعتها على المرايا المعلقة التي تلعب بها أيدي الريح، وشتى البضائع وألوان السلع الجذابة، بل وبعض المعروضات ذات الجمال الأخاذ، تحيط بالعروسين الشابين.
وأحمر خدا شوركا، وتصبب العرق من جبينها، وتهدل شعرها واختلط حتى وقع غصن الليلاك، واتسعت حدقتا عينيها واستدارتا، وهي تضع يدها الملتهبة على كوع جورج، وتدفعه دفعاً في السوق وهي تعضد على شفتيها الغليظتين المتشققتين.
وقالت بأنفاس محتبسة (اللحاف أولاً.. لحاف من ريش الأوز أولاً!)
كانت صرخات الباعة تصم الآذان، فأسرعا بشراء لحافين مربعين، وكان كل لحاف ثقيلاً غليظاً يتكون من قطع شتى من الأنسجة المتباينة، أعرض مما ينبغي وأقصر مما ينبغي، لون أحدهما أحمر طوبي، والآخر بنفسجي داكن.
وغمغمت شوركا قائلة: (والآن إلى الأحذية ذات الرقبة) وقد اقترب وجهها من وجه جورج حتى غمرته أنفاسها الحارة، (ولابد أن تكون البطانة حمراء، وعليها حروف مميزة حتى لايسرقها أحد).
واشتريا الأحذية، زوج من الأحذية الحريمي وزوج رجالي.. وكانت البطانة والحروف قرمزية، ولمعت عينا شوركا وبرقتا وهي تقول (الفوط! وعليها زخارف من صور الديوك..) وكانت أنفاسها تتلاحق كالأنين وهي تضع رأسها الملتهب على كتف زوجها، وبعد شراء المناشف ذات الديوك المصورة، اشتريا أربع بطانيات، وساعة بمنبه، وقطعة من القماش المخملي، ومرآة، وسجادة صغيرة مزخرفة بصورة النمر، وكرسيين جميلين بهما مسامير نحاسية، وعدة كرات من خيوط الصوف.
وكانا يريدان أيضاً شراء سرير كبير له مقابض من معدن النيكل وبعض الأشياء الأخرى، ولكن المال كان قد نفد، فعادا إلى المنزل يحملان ما اقتنيا من أشياء، فكان جورج يحمل الكرسيين، وعلى صدره اللحافان المطويان يمسكهما بذقنه، وكان العرق قد بلل شعره وألصقه بجبهته البيضاء، وقطراته تنساب على خديه الناحلين اللذين تدفقت الدماء فيهما، وارتسمت الظلال الزرقاء تحت عينيه، وفمه نصف مفتوح، تبدو فيه الأسنان غير السليمة، ويوشك أن يسيل منه الروال.
وعندما عادا إلى مسكنهما البارد، خلع الكاسكيته وألقاها معبراً عن ارتياحه منها ثم سعل، ووضعت شوركا الأشياء على سريره الصغير وألقت نظرة على الغرفة، وبنزوة من نزوات الحياء التي تنتاب الفتيات لكمته لكمة حب بقبضتها الضخمة الحمراء في صدره – بين الضلوع – قائلة:
( اسمع! لا أريدك أن تسعل!) وكانت تتظاهر بنبرة الصرامة والقسوة(وإلا أصبت بالسل وهلكت، وأنت الآن مسئول عني.. وأنا أعني هذا) ومن ثم وضعت خدها الأحمر على كتفه النحيل.
وجاء ضيوف حفل الزفاف في المساء، وبدأت الوليمة، فتأمل الضيوف الأشياء الجديدة بإعجاب وإكبار، وأثنوا عليها، وشربوا ما اقتضته مراسم الحفل من الفودكا، زجاجتين كاملتين، والتهموا الفطائر، ورقصوا على أنغام آلة الهارمونيوم، ثم مالبثوا أن رحلوا، بعد أن سار كل شيء وفقاً لما ينبغي له أن يسير، بل إن الجيران أنفسهم أبدوا دهشتهم لما اتسم به حفل الزفاف من هدوء واحتشام، دون إفراط أو مغالاة في شيء.
وبعد رحيل الضيوف عادت شوركا وجورج من جديد إلى تأمل المشتروات وابداء الاعجاب بها، فقامت شوركا بتغطية الكرسيين بأوراق الصحف، بعناية، ووضعت الأشياء الأخرى في صندوق كبير أغلقته بإحكام، بما في ذلك اللحافان، بعد أن وضعت الحذائين بالحروف المنقوشة فوق كل شيء.
وفي منتصف الليل استيقظت شوركا مهتاجة قلقة وأيقظت زوجها صائحة(هل تسمعني ياجورج؟ اسمع ياحبيبي جورج) ثم همست بحرارة قائلة: (أفق ياجورج! لقد أخطأنا عندما لم نشتر اللحاف الأصفر! اللحاف الأصفر الفاقع أظرف بكثير، وأنا واثقة أننا كان يجب أن نشتريه! وبطانة الأحذية غير مناسبة هي الأخرى لم نكن نتصور.. أقصد كان ينبغي أن نختار ذوات البطانة الرمادية.. إنها أجمل كثيراً من البطانة الحمراء.. والسرير ذو المقابض.. إننا لم نفكر فيه التفكير اللازم).
وفي الصباح، وبعد أن أسرعت شوركا بتجهيز جورج للذهاب إلى عمله أهرعت عائدة إلى المطبخ لمناقشة انطباعاتها عن الزفاف مع الجيران، فبدأت بالحديث – من باب مراعاة الأصول – عن ضعف صحة زوجها لمدة خمس دقائق، ثم دعت النسوة إلى دخول غرفتها حيث فتحت الصندوق وبدأت في عرض محتوياته وأخرجت اللحافين، وتنهدت تنهيدة سمعتها الحاضرات وهي تقول( لقد أخطأنا بعدم شراء اللحاف ذى اللون الأصفر الفاقع.. لم يجل بخاطرنا أن نشتريه.. آه! لم نلق بالاً إلى -) ودارت عيناها وغامتا.
وأثنى الجيران على الأشياء، وقالت زوجة الأستاذ وهي عجوز طيبة القلب، بعد قليل: (لا بأس بذلك كله، ولكن يبدو أن زوجك مصاب بسعال خطير إننا نسمع كل شيء من خلال هذا الحائط الرقيق لابد أن تولي هذا الموضوع اهتمامك وإلا، كما تعرفين..).
وقالت شوركا بغلظة مقصودة(لا أهمية لذلك، فلن يموت بسببه! وحتى لو مات فلن يضره ذلك وسوف أجد رجلاً آخر).
ولكن قلبها ارتعد فجأة، وقالت لنفسها(سأقوم بإعداد الهامبورجر له، إذ لابد له أن يأكل ويشبع!)
ولاقى الزوجان الأمرين في العيش حتى حان موعد قبض المرتب التالي، ولكنه ما إن جاء المال حتى اتجها فوراً إلى السوق، واشتريا اللحاف ذا اللون الأصفر الفاقع، وبعض اللوازم التي لاغنى عنها للمنزل، إلى جانب بعض الأشياء البالغة الجمال: ساعة دقاقة، وقطعة من فراء القندس، ومنضدة صغيرة معدة لوضع إناء الزهور بأحدث أساليب الموضة، وأحذية ذوات رقبة وبطانة رمادية، وست ياردات من الحرير الناعم، وتمثال رائع عجيب الشأن لكلب مزين ببقع مختلفة الخضرة، ويصدر أصواتاً موسيقية عند فتحه.
وعندما عادا إلى المنزل وضعت شوركا هذه الأشياء بنظام محكم في الصندوق الكبير، وجعلت القفل يعزف سلماً موسيقياً.
واستيقظت في منتصف الليل، وأسندت خدها الملتهب إلى جبهة زوجها الباردة التي يتصبب منها العرق وقالت له بهدوء(جورج! هل أنت نائم؟ لاتنم! اسمعني ياجورج ياحبيبي! كان هناك لحاف أزرق! أنا حزينة لعدم شرائه! إنه لحاف لطيف لطيف.. جداً.. يبرق لونه بعض الشيء.. لم نتصور...)
وذات يوم في منتصف الصيف دخلت شوركا إلى المطبخ في مرح وسرور وهي تقول (حصل زوجي على عطلة! حصل كل من زملائه على أسبوعين ولكنه حصل على شهر ونصف.. صدقوني! وهي عطلة بمرتب كامل! سوف نذهب فوراً لشراء السرير ذي القوائم الحديدية والمقابض.. هذا مؤكد!)
وقالت العجوز، زوجة الأستاذ، بنبرات حاسمة(نصيحتي هي أن تتخذي ترتيبات إدخاله إلى مصحة جيدة) وهي تضع المصفى المليئة بالبطاطس المسلوقة الساخنة تحت صنبور الماء، وأضافت قائلة: (وإلا – كما تعرفين – قد يفوت موعد العلاج)
وردت شوركا بلهجة غاضبة (لن يحدث له شيء!) وقد وضعت ذراعيها في وسطها بهيئة التحدي، وأردفت تقول(سأرعاه هنا خيراً من أي مصحة، سأقلي له شرائح الهامبورجر وأدعه يأكل مايشاء حتى يشبع!)
وعاد الزوجان في المساء من السوق بعربة يد صغيرة حافلة بالأشياء، وكانت شوركا تسير خلف العربة وتتطلع ببصرها إليها كأنما سحرها انعكاس وجهها الذي تصاعد الدم إليه في النيكل الذي يكسو حديد السرير.
أما جورج فكان يزفر زفرات ثقيلة ولايكاد يقوى على دفع العربة، وكان يحمل على صدره اللحاف المطوي ذا اللون الأزرق السماوي، ويمسكه بذقنه المدببة، وكان لايتوقف عن السعال وانحدرت قطرة داكنة من قطرات العرق على فوده الغائر.
واستيقظت شوركا أثناء الليل إذ أقض التفكير العميق مضجعها، ومانهش ذهنها من أفكار، فشرعت تهمس بسرعة(حبيبي جورج! مازال هناك لحاف رمادي! هل تسمعني؟ يحزنني أننا لم نحصل عليه.. خسارة! ما ألطفه وأجمله! رمادي رمادي، ولكن البطانة ليست رمادية بل وردية اللون.. ما أرقة وأظرفه من لحاف!)
أما آخر مرة شوهد فيها جورج فكانت في صباح يوم من أواخر أيام الخريف، وكان يسير بصعوبة في الشارع الجانبي الصغير، وقد غطى أنفه الطويل الشفاف الذي يكاد يشبه الشمع بياقة سترته الجلدية التي أكل عليها الدهر وشرب، وكانت ركبتاه الحادتان بارزتين، وسرواله الفضفاض يخفق حول رجليه الهزيلتين، وكانت الكاسكيته الصغيرة قد تدحرجت إلى مؤخرة رأسه، وتدلى شعره الطويل على جبهته، وبدا مبللاً وفاحماً.
كان يتعثر في سيره، ولكنه كان يحرص على تجنب الخوض في برك الماء حتى لايبتل حذاؤه النحيل، وعلى شفتيه الشاحبتين تتراقص بسمة واهنة، بسمة سعادة تكاد تكون بسمة قناعة.
وعندما وصل إلى المنزل أرغم على الرقاد في السرير، وجاء طبيب المنطقة وأسرعت شوركا إلى مكتب التأمينات الاجتماعية للحصول على بدل العلاج، واضطرت إلى الذهاب إلى السوق وحدها هذه المرة، وعادت تحمل اللحاف الرمادي، ثم وضعته في الصندوق.
وسرعان ماساءت حالة جورج، وبدأت بشائر الثلج ذلك الشتاء، وكان ينصهرعند الوصول إلى الأرض، واكتسى الجو بلون أزرق ضبابي، وتهامس الأستاذ مع زوجته، وسرعان ما ظهر طبيب آخر، قام بفحص المريض ثم دخل إلى المطبخ ليغسل يديه بصابون مطهر وكانت شوركا تقف وقد بللت الدموع وجهها وسط سحابة من الدخان، إذ كانت تقلي شرائح ضخمة من الهامبرجر مع الثوم على الموقد.
وصاحت زوجة الأستاذ في دهشة قائلة: (هل أنت مخبولة؟ ماذا تفعلين؟ سوف تقتلينه! هل تظنين أنه يستطيع أن يأكل شرائح الهامبورجر بالثوم؟)
وقال الطبيب بلهجة جافة(نعم!)، وأخذ ينقص الماء عن أصابعه في الحوض ثم أضاف قائلاً (له أن يأكل ما يشاء الآن).
وصرخت شوركا قائلاً: (وماذا يضيره إن أكل هذه الشرائح؟) وأخذت تمسح وجهها بكمها وهي تقول(لن يحدث له شيء).
وفي المساء جاء مفتش الصحة مرتدياً الأوفرول القطني الأبيض، وجعل يرش غرف المنزل المشتركة بالمواد الكيمياوية المطهرة، التي فاحت رائحتها في الممرات والدهاليز واستيقظت شوركا أثناء الليل وهي تشعر بحزن لاتفسير له يمزق نياط قلبها وهمست بصبر نافد(جورج! اسمعني ياجورج الحبيب.. استيقظ! آمرك ياجورج)
ولكن جورج لم يرد.. كان بارداً.. وعندها تركت السرير وسارت متثاقلة حافية القدمين في الممر، وكانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحاً ولكن أحداً من السكان لم يستطع النوم، فهرعت إلى باب شقة الأستاذ وإنهارت وهي تصرخ في فزع(لقد راح! راح! انتهى! ياربي! لقد مات جورج! آه ياحبيب جورج!؟
وشرعت تولول، فأطل الجيران من أبوابهم، وكانت انعكاسات نجوم الشتاء الزرقاء تتلألأ على الصقيع الذي يكسو الأرض بغلالة صلبة خلف النوافذ المظلمة.
وفي الصباح جاءت القطة الأليفة فوقفت عند الباب المفتوح لغرفة شوركا، ونظرت إلى داخل الغرفة، ثم انتصب شعر فرائها فجأة، وكانت شوركا تجلس في وسط الغرفة والدموع تغمر وجهها، وكانت تحادث الجيران برنة غضب كأنما لحقت بها إهانة ما:
(وكنت أقول له املأ معدتك بشرائح الهامبورجر! لكنه رفضها! انظروا كم بقا منها! ماذا سأفعل بها؟ ولمن تخليت عني ياجورج الشقي!؟ لقد تركني ولم يأخذني معه، ولم يرد أن يأكل شرائحي! آه ياجورج! ياحبيبي!)
وبعد ثلاثة أيام جاءت عربة الموتى التي يجرها حصان رمادي فوقفت خارج المنزل، وفتحت البوابة الرئيسية على مصراعيها، فدخل الهواء الزمهرير في شتى أرجاء المبنى، وشاعت رائحة زيت الصنوبر، وأخرج جورج إلى مثواه الأخير.
وفي مأدبة المأتم كانت شوركا مرحة إلى حد غير عادي، وقبل أن تقرب أي طعام شربت نصف كوب من براندى الذرة، فأحمر لون بشرتها، وبدأت عيناها تذرف الدموع، فضربت الأرض بقدمها وقالت في صوت متهدج:
(من هناك؟ أدخلوا جميعاً وأمرحوا.. أقصد من يريد أن يدخل.. سوف أسمح للجميع بالدخول ماعدا جورج.. لن أسمح له بالدخول! لقد رفض أن يأكل الشرائح التي أعددتها له، بل رفضها قطعاً!)
ثم سقطعت بقوة على الصندوق الجديد وبدأت تضرب القفل الموسيقي برأسها.. وعاد كل شيء، بعد ذلك، إلى مجراه الطبيعي في المسكن، فساده النظام والأدب، وعادت شوركا إلى العمل خادمة، وجاء رجال كثيرون أثنار الشتاء يطلبون يدها، ولكنها رفضت الزواج من أيهم، إذ كانت تنتظر رجلاً هادئاً طيب القلب، وكان هؤلاء جميعاً رجالاً جسورين اجتذبهم ماجمعته من أشياء.
وازداد نحولها كثيراً في أواخر الشتاء، واعتادت ارتداء فستان في الصوف الأسود زاد من حسن مظهرها وكان في الجراج الملحق بفناء المبنى سائق خصوصي اسمه ايفان، يتسم بالهدوء والطيبة والدماثة، وكانت شوركا قد شغفته حباً، ثم لم تلبث أن بادلته حبه عندما حل الربيع.
كان الجو صحواً، وماكاد مساعد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا إليها بصبر نافد، حتى انطلق العروسان الشابان من المكتب إلى الطريق العام.
وتساءل الشاب إيفان في خجل وهو يخالس شوركا النظر(ترى إلى أين نمضي الآن؟)
وزادت شوركا من إلتصاقها به، ودغدغت اذنه الحمراء بغصن الليلاك القاهر، وهمست بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها قائلة:
(إلى السوق! لشراء الأشياء! وهل هناك سوى السوق؟) وفجأة بدت عيناها كبيرتين ومستديرتين.
عن الجمهورية نت...
الثلاثاء 31 أغسطس-آب 2010 القراءات: 5
سعادة
كاترين مانسفيلد
بالرغم من أن “بيرتايو نج” كانت في الثلاثين من عمرها فمازالت تعاودها لحظات مثل هذه اللحظة، لحظات تود فيها لو استطاعت أن تجري بدلاً من أن تمشي وأن تقفز من على الرصيف وإليه في خطوات راقصة وأن ترمي بشيء في الهواء وتلتقطه، وأن تقف وتضحك..على ماذا؟ على لا شيء، لا شيء على الإطلاق.
وماذا عساك أن تفعل إذا كنت في الثلاثين من عمرك وشعرت فجأة وأنت تقف تجاه بيتك بشعور من السعادة يتملكك، سعادة غامرة، كما لو كنت قد اختزنت في جسدك قطعة مشرقة من شمس ذلك الأصيل، قطعة تتأجج في صدرك وترسل بومضاتها إلى كل ذرة من جسمك؟
آه أليس هناك من وسيلة للتعبير عن مثل هذا الشعور دون أن يتهمك الناس بأنك مخمور أو مجنون؟يا لهذه المدينة الحمقاء! ولماذا يعطينا الله جسداً إذا كان لابد لنا أن نحتفظ به مقيداً؟
وقالت “بيرتا” عندما فتحت لها الباب:
ـ هل عادت المربية
ـ نعم ياسيدتي.
ـ وهل أتت الفاكهة؟
ـ نعم ياسيدتي، كل شيء معد.
ـ أحضري الفاكهة إلى غرفة المائدة.سأرتبها قبل أن أصعد إلى الدور الثاني.
وكانت حجرة المائدة معتمة وباردة. ولكن “بارتا” خلعت معطفها رغم ذلك، ضاقت بضغطه على جسمها.ومس الهواء الباردة ذراعيها.
ولكن في صدرها ما زالت تتأجج تلك الجمرة الملتهبة وترسل بومضاتها،إنها لا تكاد تتحملها، وتخشى أن تتنفس حتى لاتزداد اشتعالاً ومع ذلك تنفست تنفساً عميقاً، وتخشى أن تنظر في المرآة الباردة ومع ذلك نظرت، وعكست المرآة امرأة متألقة بشفتين مبتسمتين ،شفتين مرتجفتين وعينين سوداويتين كبيرتين. امرأة تنصت إلى شيء ما وتنتظر شيئاً رائعاً...تعرف أنه سيحدث...حتماً.
وأحضرت “ماري” الفاكهة على صينية ومعها إناء بلوري وصحن أزرق اختلطت زرقته بالبياض وكأنه قد غمس في اللبن.
ـ هل أضيء النور يا سيدتي؟
ـ لا، أشكرك، إني أستطيع أن أرى بوضوح.
وكان من بين الفاكهة يوسفي وتفاح تشرب لونه بلون الفراولة الوردي وكمثرى ذهبية ناعمة كالحرير، وعنب أبيض يتألق كالفضة، وعنقود من العنب الوردي اشترته خصيصاً ليتمشى مع لون السجاد في حجرة المائدة،وقد يبدو هذا مضحكاً ولكنها في الواقع اشترته لهذا الهدف.
وعندما فرغت من ترتيب الفاكهة في هرمين كبيرين، تراجعت بعيداً عن المائدة لترى المنظر العام، وأن المنظر غريباً للغاية،بدت المائدة الداكنة اللون وكأنها قد ذابت في العتمة،وبدا الإناء البلوري والصحن الأزرق، وكأنما يسبحان في الهواء، وكان من الطبيعي أن يبدو لها كل ذلك، في حالتها النفسية الراهنة، رائعاً روعة لا يكاد يصدقها الخيال. وابتدأت تضحك، وقالت وهي تمسك بحقيبتها ومعطفها(لا.لا ، لاشك أني سأصاب بالهستيريا) وجرت إلى الدور الثاني إلى حجرة ابنتها الصغيرة.
جلست المربية على كرسي واطئ وهي تطعم الطفلة عقب أن أخذت حمامها، وكانت الطفلة ترتدي فستاناً أبيض (وجاكت) من الصوف الأزرق، وعندما تطلعت إلى الباب ورأت أمها بدأت تقفز.
وقالت المربية:
والآن يا طفلتي العزيزة، اهدئي قليلاً وتناولي طعامك.
قالت المربية ذلك وضمت شفتيها بطريقة فهمت منها برتا أنها دخلت حجرة ابنتها في وقت غير سابق.
وقالت برتا:
ـ أرجو أن لا تكون الطفلة قد أتعبتك في نزهة العصر.
وهمست المربية:
ـ لقد كانت لطيفة للغاية، ذهبنا إلى الحديقة وجلست في كرسي وأخرجتها من العربة وجاء كلب كبير ووضع رأسه على حجري وبدأت هي تلعب في أذنه وتلويها.أوه كم كانت بودي أن تشاهديها إذ ذاك:
وأرادت برتا أن تسأل المربية ألم يكن من الخطورة السماح لطفلة بمعاكسة كلب غريب، ولكنها لم تجرؤ على توجيه هذا السؤال ووقفت ترقب المربية والطفلة معاً. وقفت ترقبهما ويداها إلى جانبها طفلة فقيرة ترقب طفلة غنية وهي تلعب بعروس.
وتطلعت إليها الطفلة مرة ثانية وحدقت فيها النظر وابتسمت بطريقة ساحرة جعلت برتا تصيح:
ـ أرجوك يا ناني، دعيني أكمل إطعامها، بينما تفرغين أنت من تنظيف الحمام.
وقالت المريبة وهي ماتزال تهمس:
ـ أنت تدركين يا سيدتي أن الشخص الذي يطعم الطفلة لاينبغي أن يتغير، وأن التغير قد يحدث لها شعوراً بعدم الاستقرار وربما يثيرها.
أليس هذا مضحكاً؟ وما فائدة إنجاب طفلة إذا كان ولابد أن تبقى الطفلة دائماً في ذراعي امرأة أخرى؟
وقالت برتا:
ـ أرجوك لابد لي من إطعامها.
وفي غضب تخلت المربية عن الطفلة وهي تقول
ـ والآن لاتثيريها بعد العشاء، فأنت تفعلين ذلك دائماً وأعاني أنا بعد ذلك وقتاً طويلاً.
الحمدلله، لقد خرجت المربية إلى الحمام.
وقالت برتا والطفلة تستند إليها.
ـ والآن يا حبيبتي الغالية أنت لي.
وبدأت الطفلة تأكل، وعندما فرغ الحساء استدارت برتا إلى المدفأة.
وقالت وهي تقبل الطفلة:
ـ أنت لطيفة جداً وأنا أحبك.
وفي الواقع كانت برتا تحب الطفلة حباً شديداً، تحب عنقها وهي منحنية إلى الأمام وكعبى قدميها اللذيذين ولمعتها الشفافة في ضوء المدفأة، تحبها إلى حد أعاد إليها شعورها بالسعادة، ومرة أخرى عجزت عن التعبير عن ذلك الشعور ولم تعرف ماذا تفعل به.
وقالت المربية وقد عادت بانتصار وأمسكت بطفلتها:
ـ مكالمة تليفونية لك ياسيدتي.
وجرت برتا إلى التليفون.. كان هاري..
ـ أهذا أنت يابرتا؟ سأتأخر، سأخذ تاكسي وأحضر سريعاً ولكن أخري العشاء عشر دقائق.. اتفقنا.
ـ اتفقنا.. أوه هاري.
ماذا تريد أن تقول؟ لم يكن لديها ماتقوله ولكنها أرادت أن تطيل الاتصال به دقيقة أخرى، لم تكن تستطيع أن تصيح كالحمقاء، ألم يكن يوماً رائعاً؟ وقال هاري.
ـ ماذا تريدين؟
وقالت “برتا”:
ـ لاشيء.. وضعت سماعة التليفون وهي تلعن قيود المدنية التي تحول بينها وبين التعبير عن مشاعرها.
كانت برتا في انتظار ضيوف على العشاء، نورمان نايت وزوجته وهو مهتم بالمسرح وهي بالديكور الداخلي، وأيدي وارنر وكان قد طبع أخيراً كتاباً من الشعر، وامرأة اكتشفتها بيرتا اسمها بيرل فولتون ولم تكن بيرتا تعرف مهنة بيرل، كانت قد قابلتها في النادي وشعرت بميل إليها، نفس الميل الذي تشعر به نحو كل سيدة جميلة يحيط جمالها جو من الغموض والشيء المثير حقاً هو أن برتا لم تستطيع أن تفهم بيرل رغم أنهما تقابلتا عدة مرات وتبادلتا الحديث، وكانت مس، فولتون صريحة إلى حد ما صراحة نادرة رائعة ولكن هذا الحد كان قائماً لا تتجاوزه مطلقاً.
ولكن هل هناك شيء مابعد هذا الحد؟ قال هاري يوماً “لا” ووصف مس فولتون بأنها مملة “وباردة ككل النساء الشقراوات وربما تكون مصابة بفقر في العقل” ولكن برتا لم توافقه إذ ذاك.
لا ياهاري، إن الطريقة التي تجلس بها وقد مالت برأسها قليلاً تنبئ أنها تخفي شيئاً ولابد أن أكتشف أنا هذا الشيء.
وأجاب هاري ساعتها:
ومن المحتمل أنها تخفي معدة منتفخة.
وكان قد أعتاد على معاكسة بيرتا بمثل هذه الإجابات وكانت برتا تحب منه ذلك وتعجب به من أجل ذلك السبب لا تعرفه، واتجهت برتا إلى حجرة المائدة وأشعلت النار في المدفأة، وبدأت تلتقط الوسائد التي رتبتها ماري بعناية وتلقي بها على الكراسي كيفما اتفق وأحدث ذلك تغييراً كبيراً، فدبت الحياة إلى الغرفة وبينما هي تلقى بالوسادة الأخيرة دهشت إذ وجدت نفسها تحتضنها في حرارة، ولكنها لم تطفأ النار في صدرها، أبداً بالعكس.
وكانت نافذة حجرة المائدة تؤدي إلى شرفة تطل على الحديقة، في نهاية الحديقة إلى جانب الحائط انبثقت شجرة طويلة، شجرة كمثرى رفيعة في أوج ازدهارها، وقفت ساكنة وكأنما زرقة السماء المشوبة بالاخضرار قد أضفت عليها السكون، وشعرت برتا حتى على هذا البعد أن ليس في الشجرة برعماً واحداً لم يتفتح ولا ورقة واحدة ذابلة، وفي أحواض الزهور بدأت أعناق التوليب المحملة بالأزهار الحمراء والزرقاء تميل على العتمة، وزحفت في الممر قطة رمادية اللون وهي تجر بطنه، المنتفحة، وخلفها قطة سوداءـ ظلها، وأثار الظل وهو يتبع القطة في سرعة وإصرار أثار في برتا رجفة غريبة.
وتراجعت من الشرفة وبدأت تذرع الغرفة، ما أشد رائحة زهر النسرين في الحجرة الدافئة، أشد مما ينبغي... لا.. ورمت بنفسها على مقعد كما لو كانت قد غلبت على أمرها وضغطت على عينيها بيديها وهي تهمس “أنا سعيدة.. سعيدة جداً”.
وكانت ترى بعينيها المغلقتين شجرة الكمثرى الجميلة ببراعمها المتفتحة تفتحاً كاملاً تقف كرمز لحياتها.
فعلاً أنها تملك كل شيء، فهي شابة وحبها لهارى لم يتغير عما كان عليه منذ البداية وهما متفقان في كل شيء، ولها طفلة جديرة بالعبادة، وشئونهما المالية مستقرة، ولها بيت وحديقة جميلة للغاية وأصدقاءـ أصدقاء كتاب وشعراء وفنانون وهناك الكتب والموسيقى ولديها حائكة ثياب رائعة وستسافر وزوجها إلى الخارج في الصيف ولديها طاهي ممتاز.
واعتدلت في جلستها وهي تقول “أنا حمقاء..” وشعرت بدوار كما لو كانت قد سكرت.. لابد وأنه الربيع.
نعم هو الربيع.. والآن كان التعب قد لمح عليها بحيث لم ترغب في الصعود إلى الدور الثاني لارتداء ملابسها.
ثوب أبيض وعقد وحذاء أخضر.
ولقد صممت على ارتداء هذا الطقم قبل أن تقف في شرفة حجرة الطعام بساعات.. وأحدث عقد بيرتا حفيفاً وهي تدخل الصالة في رقة وتقبل مسز نورمان نايت التي كانت تخلع معطفها، ودق الجرس ودخل أدى وارين في حالته المعتادة من الحزن العميق.. قال:
ـ أرجو أن لا أكون قد أخطأت في المنزل.
وأشرقت برتا.
ـ لا أظنك قد أخطأت أو أرجو ذلك.
ـ لقد مررت بتجربة فظيعة مع سواق التاكسي، لقد كان غريباً للغاية، ولم استطع إيقافه وكلما طلبت إليه الوقوف ازدادت سرعته وفي ضوء القمر بدأ الرجل الغريب وقد انحنى على العجلة برأسه المسطحة مخيفاً للغاية.
وتظاهر أدى بالارتجاف وهو يزيح عن عنقه وشاحاً كبيراً من الحرير الأبيض، ولاحظت برتا أن شرابه أبيض بدوره وقالت.
ـ ولكن هذا فظيع.
وقال أدي وهو يتبعها إلى حجرة الجلوس.
ـ نعم لقد كان حقاً أمراً فظيعاً، لقد رأيت نفسي في رحلة إلى الخلود في تاكسي لا يعترف بالوقت.
كان يعرف عائلة نايت بل كان قد وعد نايت بكتابة مسرحية للمسرح الذي يعتزم افتتاحه.
وقال نورمان نايت.
ـ حسناً يا أدي.. ماهي أخبار الرواية؟
وقالت مسز نورمان:
ـ ولقد وفقت في اختيار الشراب يامستر وارين.
وأجاب “أدي” وهو يحدق النظر في ساقيه:
ـ هل أعجب حقك؟ يخيل إلي أنه أزداد بياضاً بعد طلوع القمر.
وأدار وجهه الحزين إلى “برتا”.
ـ لقد طلع القمر أتعرفين؟
وأرادت “برتا” أن تصيح، أرادت أن تقول: نعم أنا متأكدة أنه طلع، أنا متأكدة تماماً.
إنه جذاب للغاية، وكذلك مسز “نايت” وهي متكورة في جلستها وكذلك “نايت” وهو يدخن سيجارته ويلقي بالرماد في المنفضة ويقول:
لماذا تأخر العريس.
ـ ها هو ذا.
وانفتح الباب الخارجي وانطرق وهو يقفل، وصاح هاري.
ـ هالو، سأكون معكم بعد خمس دقائق.
وجرى صاعداً السلم، ولم تستطيع “برتا” أن تخفي ابتسامتها، إنه يحب أن يفعل كل شيء في اللحظة الأخيرة.
وكان هاري يحب الحياة حباً جماً وكانت “برتا” تعجب بذلك الاتجاه فيه، وكانت أيضاً تفهم حبه للنزال، وما من شيء أو إنسان يواجهه حتى يتبدى له لكي يختبر مدى قوته وشجاعته، حتى أنه يندفع أحياناً إلى معركة، ويبدو مضحكاً لمن لا يعرفه جيداً، ولكنها هي تعرفه وتفهمه.
وتحدثت “برتا” وضحكت ونسيت تماماً أن “بيرل فولتون” لم تحضر، حتى دخل “هاري” وقال:
ـ طبعاً لم تحضر “مس فولتون” بعد، تماماً كما توقعت وقالت “برتا”.
ـ هل نسيت ياترى؟
وقال “هاري”:
ـ أظن ذلك، هل لديها تليفون؟
وقالت “برتا”.
ـ هاهو تاكسي يقف بالباب.
ابتسمت ابتسامة من يملك شيئاً ويفخر به، نفس الابتسامة التي تبتسمها كلما كان اكتشافها جديداً وغامضاً، وأضافت.
ـ أنها تعيش في التاكسي.
وقال “هاري” في برود وهو يقرع الجرس يطلب العشاء.
ـ سيؤدي بها ذلك حتماً إلى السمنة، والسمنة خطر داهم يهدد الشقراوات وتطلعت إليه “برتا” وهي تضحك محذرة.
هاري! أرجوك، ومرت دقيقة، دقيقة أخرى قصيرة وهم ينتظرون ويضحكون ويتكلمون في انطلاق واطمئنان أكثر قليلاً مما ينبغي، ثم دخلت، مس فولتون، وكأنها صبت من فضة، وعلى رأسها غطاء فضي يضم شعرها الذهبي الشاحب، دخلت مبتسمة وقد مالت رأسها قليلاً وهي تقول:
ـ هل تأخرت؟
وقالت برتا:
ـ أبداً تفضلي.
وأمسكت بذراعها ودخلت بها إلى حجرة المائدة.
لمسة هذا الذراع الرطيب.. لماذا أججت في قلب “برتا” نار السعادة فتوهجت؟
ولم تنظر “مس فلتون” إلى “برتا” ولكنها نادراً ما تنظر إلى الناس نظرة مباشرة فرموشها الطويلة ترقد على عينيها، والبسمة الغريبة الغير مكتملة تروح وتجيء على شفتيها كما لو كانت تعيش بالسمع لا بالنظر ولكن “برتا” أدركت أن “بيرل فلتون” تمر بنفس الحالة النفسية التي تمر هي بها، أدركت ذلك كما لو كانتا قد تبادلتا نظرة طويلة ودية مليئة بالمعاني، كما لو كانتا قد قالتا إحداهما للأخرى “وأنت أيضاً؟”.
والآخرون “مستر ومسز نايت” و“أيدي” “هاري” ملاعقهم تعلو وتهبط، يمسحون أطراف الشفاه بالفوط، ويقطعون العيش، ويبدلون الشوك والسكاكين ويتكلمون.
ـ لقد قابلتها في المسرح وهي لم تقص شعرها فحسب بل أجرت عملية تجميل، واقتطعت جزءاً كبيراً من فخذيها وذراعيها وعنقها وأنفها المسكين أيضاً.
ـ أليست على علاقة مع مايكل أدت؟
ـ الرجل الذي كتب مسرحية جب وأسنان صناعية؟
ـ لقد أراد أن يكتب مسرحية لمسرحي الجديد من فصل واحد رجل واحد ينوي الانتحار، ثم يزن الأسباب التي تدفعه إلى الانتحار بتلك التي تصده عنه وعندما يوشك أن يتخذ القرار النهائي وقبل أن يتخذه تسقط الستار.
وماذا عساه أن يسمي هذه المسرحية؟ مغص معوي؟
إنهم لايقاسمونها شعورها ولكنهم أعزاء.. أعزاء.. وهي تحب أن تراهم يأكلوان على مائدتها وتحب أن تقدم لهم أطيب الطعام والشراب وكان “هاري” يتمتع بعشائه وكان من عادته أن يتحدث عن الطعام وأن يجد لذة في الحديث عن حبه للحم المحار الأبيض ولجيلاتي الفسدق الأخضر البارد، كجفون الراقصات المصريات، وعندما نظر إليها وقال:
ـ “برتا” هذا النوع من الحلو جميل للغاية، كادت تبكي كالطفل من شدة سرورها، لماذا تشعر الليلة بكل ذلك الحنان تجاه العالم بأكمله؟ كل شيء جميل، كل شيء في موضعه، كل مايحدث يملأ من جديد كأس سعادتهما المترعة، وفي عقلها مازالت صورة شجرة الكمثري منطبعة لابد أنها فضية الآن، فضية في ضوء القمر.
فضية “كمس فولتون” التي جلست تدير حبة يؤسفى بين أصابعها الرقيقة الشاحبة وكأن نوراً ينبعث منها.
والشيء الخارق، الشيء العجيب الذي لاتستطيع أن تفسره هو كيف استطاعت هي أن تخمن حالة مس فلتون النفسية بهذه السرعة وبهذه الدقة؟ لأنها لم تشك لحظة في أنها على حق في تخمينها ومع ذلك على أي أساس بنت هذا التخمين؟ على لاشيء وقالت “برتا” لنفسها “أظن أن هذا الاتصال الروحي يحدث نادراً بين النساء ولكنه لايحدث أبداً بين الرجال، ولكنها قد تعطيني إشارة تؤكد صحة شعوري وأنا أعد القهوة في حجرة الاستقبال” ولم تعرف ماذا تقصد بذلك ولم تستطع أن تتصور ماذا سيحدث بعد ذلك، وبينما كانت برتا تفكر هكذا رأت نفسها تتكلم وتضحك، كان لابد أن تتكلم لكي تكتم رغبتها في الضحك.
وأخيراً انتهى العشاء، وقالت “برتا”.
ـ تعالوا أريكم آلة القهوة الجديدة”.
وقال هاري:
ـ إننا نشتري آلة القهوة جديدة مرة كل أسبوعين.
وأمسكت “مسز نايت” بذراع “برتا” وتبعتها “ مس فولتون” ورأسها منحنية، وكانت النار قد خبت في حجرة الاستقبال تاركة وميضاً أحمر.
وقالت مس “فولتون”.
ـ لاتضيء النور لحظة، إن الحجرة جميلة هكذا.
وانكمشت إلى جانب المدفأة،وقالت “برتا” لنفسها “إنها تشعر بالبرد دائماً، طبعاً دون جاكتها الصوف الحمراء” وفي تلك اللحظة أعطت “ مس فولتون” “ لبرتا” الإشارة المنتظرة،قالتا في صوت نائم دافئ.
ـ هل عندك حديقة؟
وجاء ذلك جميلاً منها، ولم تستطع “برتا” إلا أن تطيع وعبرت الحجرة إلى باب الشرفة وأزاحت الستار عن وفتحت الباب على مصراعيه وقالت وهي تتنفس في صعوبة” هاهي”.
ووقفت المرأتان جنباً إلى جنب ترقبان الشجرة الرقيقة المثمرة.
وبالرغم من أنها كانت ساكنة للغاية إلا أنها بدت كلهيب شمعة يمتد ويعلو ويرتجف في الهواء الصحو، ويستطيل كلما أطالتا النظر حتى يكاد يلمس حافة القمر الفضي المستدير.
كما طالت وقفتهما إذ ذاك؟
كلتاهما؟ كما لو كانت هذه الدائرة من النور السماوي قد أسرتهما في نطاقهما؟ كم طالت وقفتهما، تفهم إحداهما الأخرى وكأنهما مخلوقتان من عالم آخر تعجبان لم وجدتا في الأرض بهذا الكنز من السعادة التي تتأجج في صدريها وتتساقط في زهور فضية من شعريهما وأيديهما؟
كما وقفتا على هذه الحالة؟ دهراً أم لحظة؟ وهل همست “مس فولتون” قائلة “نعم ذلك تماماً” أن تخيلت “برتا” أنها همست بذلك.
وانبعث النور الكهربائي فجأة وأعدت “ مسز نايت” القهوة وقال لها “ هارى”:
ـ لا ياعزيزتي لا تسأليني عن طفلتي فأنا لا أراها مطلقاً،ولن أبدا بالاهتمام بها حتى تتخذ لنفسها عشيقاً.
وأزاح “ مستر نايت” المونو كل عن عينيه ثم وضعه من جديد، وشرب “إدى وارين” القهوة القدح والألم يرتسم على وجهه وكأنه وجد فيه عقرباً.
ـ إني أود أن أعطي مجالاً للكتاب، وأنا أعتقد أن “لندن” مليئة بالأفكار لمسرحيات لم تكتب، وكل ما أريد أن أقوله هو: هاكم المسرح فتقدموا.
ـ أتعرفين ياعزيزتي، سأقوم بعملية“ديكور” في منزل“جاكوب ناثان” وتغريني فكرة استخدام رسم السمك المقلي كأساس “للديكور”
فتكون ظهور الكراسي على شكل المقلاة بينما تزين الستائر رسوم للبطاطس المحمر بالبرودري.
ـ المشكلة بالنسبة لكتابنا أنهم مازالوا رومانتيكيين.
ـ قصيدة “ مس فولتون” في أعمق الكراسي ومر “ هاري” بالسجائر؛
وحين وقف أمام “ مس فولتون” قال بجفاف “مصري؟ تركي؟ فرجيني؟” أدركت “برتا” أنه يكرهها وأدركت أيضاً أن “ مس فولتون” قد شعرت بهذه الكراهية؛وغضبت حين قالت “ أشكرك لن أدخن”.
وقالت “برتا” في عقلها.
ـ أرجوك يا هاري لا تكرهها؛أنت مخطئ في حقها، إنها رائعة.
رائعة؛ وبالإضافة إلى ذلك كيف تشعر بالكراهية لشخص يعني الكثير بالنسبة إلي؟
سأحاول أن أشرح لك الليلة ونحن في السرير ما مر بيني وبينها والشعور الذي تقاسمناه أنا وهي.
وعند هذه الكلمات الأخيرة قفزت فكرة عجيبة بل ورهيبة إلى عقل “برتا” وابتسمت لها هذه الفكرة العمياء همست في أذنها: حالاً حالات سيخرج هؤلاء الناس؛ وسيصبح البيت ساكناً، وستخبو الأنوار وأنت وهو مع بعض، على انفراد في الغرفة المظلمة، وفي السرير الدافئ.
وقفزت برتا من مقعدها وجرت إلى البيانو وصاحت.
ـ من المؤسف أن أحداً لا يلعب البيانو.
لأول مرة في حياتها تشتهي “برتا يونج” زوجها.
كانت تحبه، كانت بالطبع تحبه من كل الوجه، ولكن لا من هذا الوجه، وقد أدركت في بداية زواجهما أنه يختلف عنها، وكثيراً ما ناقشا الموضوع وحين اكتشفت أنها باردة سبب الاكتشاف لها قلقاً مريعاً في بادىء الأمر ثم زال قلقها تدريجياً.
ولكن الآن .. في حرارة .. في حرارة واضطربت الدنيا في جسدها المشتاق وقالت “ مسز نايت”.
“لابد لنا من الانصراف ياعزيزتي”.
وقالت “برتا”
ـ سأصحبكم إلى الصالة، لقد أسعدني وجودكم معنا.
وقال هاري:
ـ كأساً من الويسكي قبل أن تنصرف يا “ نايت”.
ـ كلا، أشكرك ياعزيزي.
وضغطت برتا على يد “ نايت” شاكرة وهي تصافحه وصاحت من على السلم الخارجي.. “ليلة سعيدة.. مع السلامة” وكأن روحها تودعهما لآخر مرة.
ـ إذاً ستركب جزءاً من الطريق معي.
ـ سأكون شاكراً إن لم أواجه رحلة طويلة في التاكسي وحدي بعد تجربتي المخفية.
ـ إذا سأذهب لارتداء معطفي.
ومشت “مس فولتون” في اتجاه الصالة وتبعتها “برتا” وكاد “ هاري” يدفعها وهو يمر بها ويسبقها خلف مس فولتون ويقول:
ـ دعيني أساعدك في ارتداء معطفك.
وتركته “ برتا” يذهب وحده وأدركت أنه ندم على وقاحته مع مس فولتون، كم هو طفل في بعض تصرفاته، طفل منطلق وعلى سجيته وبقيت هي وأدى بجانب المدفاة.
وقال“أدى” في صوت ناعم:
ـ هل قرأت قصيدة “ بلك” الجديدة “ قائمة طعام”؟ إنها رائعة للغاية، هل لديك نسخة من مجموعته الأخيرة؟بودي أن أريك القصيدة.
وقالت “ برتا”:
ـ نعم لدي نسخة.
ومشت في خفة إلى مائدة تواجه حجرة الاستقبال وخلفها أدى يمشي دون أن يحدث ضجة وأمسكت بالكتاب الصغير وأعطته له دون أن تحدث صوتاً، وبينما انهمك هو في البحث عن القصيدة أدارت هي رأسها إلى الصالة ورأت.. “هاري” يمس بمعطف “ مس فولتون” و“مس فولتون” قد أعطته ظهرها وأحنت رأسها، ورمى بالمعطف جانباً وأحاط كتفيها بيديه وأدارها إليه في عنف وقالت شفتاه “ أنا أعبدك” ووضعت “مس فولتون” أصابعها الفضية على خديه وابتسمت ابتسامتها الساهية وارتجفت فتحتا أنف “هاري” وتكور فمه في تكشيرة كريهة وهو يهمس “ باكر” ويجفونها قالت “ مس فولتون” “نعم” وقال “أدى”.
ـ هاهي القصيدة، لماذا يكون الحساء دائماً حساء الطماطم؟ أليس في هذا السطر واقعية عميقة؟ ألا تشعرين بذلك؟
أن حساء الطماطم خالد بشكل مخيف.
وقال“هاري” بصوت مرتفع للغاية وهو في الصالة.
ـ هل أطلب لك تاكسي بالتليفون؟
وقالت “ مس فولتون”:
ـ لا ضرورة لذلك.
واقتربت من “برتا” وقدمت لها أصابعها الرقيقة.
ـ طابت ليلتك ، أشكرك كثيراً.
وقالت “برتا”
طابت ليلتك.
وبقيت “ مس فولتون” محتفظة بيد “برتا” وهي تهمس.
ـ ما أجمل شجرتك، شجرة الكمثرى.
ثم ذهبت و “أدى” يتبعها كالقط الأسود يتبع القط الرمادي.
وقال “هاري” وهو في غاية التماسك والهدوء.
ـ سأطفئ الأنوار.
“شجرتك الجميلة .. شجرة الكمثرى ـ شجرة الكمثرى”
وجرت “برتا” إلى الشرفة وفتحت مصراعيها وصاحت.
ـ يا إلهي .. ماذا سيحدث الآن؟
ولكن شجرة الكمثرى كانت جميلة كما كانت دائماً ومليئة بالثمار وساكنة كشأنها دائماً.
شكراً يامدام
لانجستون هيوز
كانت سيدة ضخمة وكانت تحمل حقيبة يد ضخمة تحتوي على كل شيء عدا المطرقة والمسامير! وكانت الحقيبة تتدلى من كتفها بحزام جلدي طويل، وبينما كانت تسير وحدها والساعة تقترب من الحادية عشرة مساء إذ جرى صبي خلفها وحاول اختطاف حقيبتها، وانقطع الحزام حين شده الصبى من الخلف ولكن ثقل الصبي وثقل الحقيبة معاً افقداه توازنه وهكذا فبدلاً من أن يولي الأدبار بأقصى سرعة “ كما كان يتمنى”،وقع على ظهره فوق الرصيف وارتفعت قدماه في الهواء.
والتفت السيدة الضخمة وركلته ركلة مباشرة في مؤخرته ـ وكان يرتدي سراويل جينز زرقاء ـ ثم انحنت وأمسكت بتلابيب الصبى قابضة على فتحة قميصه وظلت تهزه حتى اصطكت أسنانه.
وقالت السيدة:“وطى ! جيب الشنطة يا ولد! حطها هنا” ، كانت لاتزال تمسكه لكنها انحنت حتى تتيح له أن يأتي بحقيبة يدها ثم قالت: “هيه .. مانتش مكسوف من نفسك؟
كانت لاتزال تمسكه بتلابيبه ـ ورد الصبي “ فعلاً”.
وقالت السيدة : “ عملت كده ليه؟”.
وقال الصبي : “ ماكنش قصدي”.
وقالت : “ كداب !”.
كان بالطريق عدد من المارة فتطلع البعض إلى مايجري وظل البعض واقفاً.
وقال السيدة : “إذا سبتك حتجري؟”.
ورد الصبي : “طبعاً”.
وقالت السيدة : “ يبقى موش حاسيبك”. وظلت قابضة على قميصه.
وهمس الصبي “حقك علي يا مدام أنا آسف..”
- كده كده! ووشك وسخ! أنا عايزه أغسل لك وشك! مافيش في بيتكم حد قال لك تغسل وشك؟”.
ورد الصبي : “لا”.
- “يبقى لازم يتغسل الليلة” وانطلقت السيدة تسير في الشارع وهي تجر الصبي المذعور خلفها.
كان يبدو في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة. ضعيف البنية، نحيفاً معروقاً، ويرتدي حذاء من الكاوتش وسراويل جينز زرقاء.
وقالت المرأة : “ لو كنت ابني كنت علمتك الصح من الغلط. خلني بس أغسل لك وشك الليلة. أنت جعان؟”.
وقال الصبي وهي تجره خلفها : “ لا.. بس لو سمحتي سيبيئي”.
وقالت السيدة : “ أنا كنت ضايقتك في حاجة وأنا باعدي ع الناصية؟”.
وقالت السيدة : “ ومع ذلك احتكيت أنت بي! إذا كنت فاكر أن الاشتباك ده حيتفك بسرعة تبقى غلطان. حتشوف! وساعة ما أخلص منك مش حتقدر تنسى مدام لويلا بيتس واشنطن جونز”.
وبدأ العرق يتصبب من جبهة الصبي وبدأ يحاول التملص من قبضتها.. وتوقفت السيدة جونز وجذبته بعنف حتى أصبح أمامها ثم أطبقت بيدها على رقبته واستمرت في جره في الطريق.. وعندما وصلت إلى منزلها دفعت الصبي إلى الداخل فعبرا الصالة ووصلا إلى غرفة ضخمة في مؤخرة المنزل بها مطبخ صغير. وأضاءت النور وتركت الباب مفتوحاً. وتناهت إلى أسماع الصبي أصوات ضحكات وأحاديث السكان في المنزل الضخم – كل في غرفته – وقد ترك بعضهم الباب مفتوحاً فأدرك الصبي أنهما ليسا وحدهما في المنزل. وكانت السيدة ما تزال تطبق على رقبته في وسط الغرفة.
قالت : “ اسمك ايه ؟”.
وأجاب الصبي : “روجر”
“طيب ياروجر. روح الحوض اللي هناك ده واغسل وشك”.
وأخيراً أخلت سبيله. ونظر روجر إلى الباب، ثم نظر إلى السيدة. ثم إلى الباب، ثم اتجه إلى الحوض.
- خلي الحنفية مفتوحة شوية لحد الميه ماتسخن. خد “آدي فوطة نضيفة”.
وقال الصبي وهو ينحني على الحوض “ انتي حتوديني السجن؟”.
وقالت : “مش بوشك الوسخ ده! ماقدرش أوديك أي حته ! حاجة عجيبة ! أنا راجعة البيت أحضر لقمة أكلها تقوم تخطف شنطتي ! يمكن أنت كمان لسه ما اتعشتش- والوقت متأخر قوي – مش كده؟”.
وقال الصبي : “ مافيش حد في بيتنا”.
وقالت : “ يبقى حنتعشى سوا. أنا واثقة أنك جعان – ولو أنت كنت مش جعان لما حاولت تخطف شنطتي”.
وقال الصبي : “ كنت عايز أشتري جزمة شاموا زرقا”.
وقالت السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز “ واللي يعوز جزمة شاموا زرقا يقوم يخطف شنطتي؟ كان حقك تطلبها مني!”.
وقال الصبي : “ أفندم؟”.
وتطلع إليها الصبي والماء مازال يتساقط من وجهه. وتوقف الحديث برهة طويلة – برهة طويلة جداً. وبعد أن جفف وجهه وقف حائراً لا يدري ما يصنع فجفف وجهه مرة أخرى ثم استدار كأنما يتساءل في نفسه عن الخطوة التالية. ورأى الباب مفتوحاً : أنه يستطيع أن ينطلق إليه عبر الردهة ويجري ويجري – أنه يستطيع أن يجري ويجري ويهرب! كانت السيدة تجلس على الأريكة التي تستخدم سريراً. وبعد قليل قالت : أنا كمان كنت صغيرة وياما اشتهيت حاجات ماقدرتش أشتريها!
وتلا ذلك صمت طويل. وفتح الصبي فمه ثم قطب جبينه دون أن يدري وغمغمت السيدة ثم قالت “ كنت فاكرني حاقول أن أنا ماحاولتش أخطف الشنط.. مش كده؟ غلط! مش ده اللي كنت حاقوله”.
وتوقف الحديث. وحل الصمت ثم عادت تقول “ أنا كمان عملت حاجات كثيرة ماقدرش أقول لك عليها يا... ابني – ولا حتى أقولها لربنا ولو أنه عارفها طبعاً. اسمع! كانت تستني شوية هنا لحد ما أحضر حاجة نأكلها – وخد المشط ده وسرح شعرك كده عشان يبقى شكلك معقول”.
وكان في ركن آخر من الغرفة موقد صغير وثلاجة صغيرة يحجبهما ستار. ونهضت السيدة جونز واختفت خلف الستار ولكنها أقلعت عن مراقبة الصبي (خشية الهرب) كما تركت حافظة نقودها على الأريكة ولم تعد تلتفت إليها. ولكن الصبي قد حرص على أن يجلس في ركن الغرفة البعيد قائلاً في نفسه: أنها يمكن إذا شاءت أن تراه في مكانه هذا بطرف عينها. لم يكن واثقاً أن السيدة يمكن ألا تثق فيه – ولم يكن يريد ألا يكون أهلاً للثقة الآن.
وسألها الصبي : “ مش عايزة حاجة أجيبها لك من الدكان؟ لبن وإلا حاجة؟ وأجابت “ ما أطنش! إلا إذا كنت أنت عايز لبن حلو! أصلي حاعمل كاكاو، باللبن في العلبة دي”.
وقال الصبي “مش بطال”.
ووضعت السيدة على النار بعض الفاصوليا المطبوخة باللحم لتسخينها إذ كانت باردة في الثلاجة ثم صنعت الكاكاو وأعدت المائدة.
ولم تسأل المرأة الصبي عن مكان إقامته أو أهله أو أي أسئلة أخرى قد تسبب له حرجاً. ولكنهما تقدما للطعام وجعلت تقص عليه طرفا من أخبارها- فقالت أنها تعمل في صالون تجميل بأحد الفنادق وأن العمل يستمر حتى ساعة متأخرة، ووصفت له عملها بالتفصيل قائلة: أن الصالون ترتاده السيدات من جميع الأشكال – ذوات الشعر الأشقر وذوات الشعر الأحمر والأسبانيات. ثم قطعت نصف فطيرتها التي دفعت فيها عشرة سنتات وقدمته له.
وقالت : “كل كمان يابني”.
وبعد انتهاء الوجبة نهضت وقالت : “ودلوقتي – اسمع ! خد العشرة دولار دول واشتري لك جزمة شاموا زرقا. والمرة الجاية ! إياك تغلط وتنشل شنطتي ولا شنطة حد تاني! أنا لازم أستريح دلوقت. اتفضل ياريت من هنا ورايح تعقل وتبطل الشقاوة يابني”.
وتقدمت أمامه عبر الردهة إلى الباب الأمامي وفتحته له. تصبح على خير ! وبلاش شقاوة ياولد ! – قالت له ذلك وهي تنظر إلى الطريق.
وأراد الصبي أن ينطق بكلمات أخرى – غير “شكراً يامدام”- إلى السيدة لويلا بيتس واشنطن جونز ولكنه لم يستطع عندما استدار ونظر خلفه إلى السيدة الضخمة الواقفة بالباب. وبصعوبة خرجت من فمه كلمة “شكراً” قبل أن تغلق السيدة الباب. ولم يرها الصبي بعد ذلك أبداً.
الأرنب البرية
جراتسيا ديليدا
كانت في وسط النهر العريض جزيرة صغيرة، تتلألأ في منتصفها بحيرة صغيرة، أو بركة ذات لون فضي يضرب إلى الخضرة، تحيط بها أشجار الحور والصفصاف، وشجيرات من السنط البري، وأعشاب طويلة غضة مخملية، مرقشة بزهور أرجوانية غريبة من عباد الشمس، وكانت صورة الطبيعة كلها تنعكس في هذه البركة الصغيرة، فتبدو مثل لوحة أجمل من الواقع وأبعد ما تكون عنه.
كان جو الخيال يسود المكان كله، فكانت سماء فصل الخريف نهاراً تحفل بالألوان التي تتغير، وبالسحب ذات المزاج المتقلب، وكانت السماء ليلاً يسطع فيها القمر الذي يبدو ضخماً يضرب لونه إلى الحمرة، وتلمع فيها النجوم، وتتماوج في مرآة البحيرة العميقة أشباح شجر الحور.
وذات مساء وصل الصياد فألقى مرساة قاربه على الضفاف الهشة للجزيرة المهجورة، مخلفاً آثار أقدامه وهو يسترق الخطو فوق الرمال التي لم تطأها قدم من قبل، وشاهد القمر الضخم الأحمر وهو يشرق بين أشجار الحور، ثم شاهده في صورة أجمل منعكساً في مياه البركة الصغيرة. وتوقف لحظة وقد ثبت بصره على الصورة المنعكسة الوضاءة، وشعر بسحر ذلك العالم المجهول والسماء البعيدة ذات الأسرار، والتي كانت تبدو في قلب الأرض نفسها، إن صح هذا التعبير. وكانت هناك أرنب برية عجوز تعيش بين أشجار السنط على الشاطئ، فشاهدت الرجل المجهول، وهو عدوها اللدود، فلاذت بالفرار وجعلت تعدو بخفة مسافة طويلة دون أن تحدث صوتاً، وقد تصلبت أذناها وانتصبتا مثل نصل سكين جهزته للدفاع عن نفسها.
ولم يتخل الرجل عن أحلامه، وإن تخلت الأرنب عن أحلامها، بعد أن أفلتت من الموت. وعندما وصلت إلى أعماق الغابة، قبعت تحت شجيرة كثيفة، وانتظرت ردحاً طويلاً، تصيخ السمع وتشم الهواء بأنفها الصغير المرتعش، وكانت دقات قلبها تتوالى بسرعة لم تعهدها منذ شهور طويلة.
والواقع أن الفيضانات الأخيرة أدت إلى إختفاء جميع الأرانب البرية من الجزيرة، إذ قتل بعضها بالأسلحة النارية، وقنص صيادو الأسماك بعضها في شباكهم، وجرف النهر الغاضب البعض الآخر إلى حتفها، فتخيلت الأرنب العجوز أنها أصبحت سيدة المكان وحدها، وجعلت تحلم بأن تقضي، وحدها وفي هدوء، مابقي لها من العمر في هذا المكان، كانت عجوزاً ومرهقة وتشعر بالوحشة، بعد أن هجرها أولادها، ولم يعد الذكور يطلبونها، فلا بأس من الحياة في سكون في هذا الركن المنعزل من الجزيرة، دون التعرض للخوف أو للخطر.
أما حين يأتي الربيع بالسيول فكانت تقيم بين بعض جذوع الأشجار التي يجرفها السيل إلى الضفاف المرتفعة فوق البركة الصغيرة، إذ لم يكن أحد يهتم بأن يعبر منطقة الرمال التي تعترضها المستنقعات في الجزيرة، بل وبعد يبوس الرمال ونمو الكلأ على شواطئ البركة، لم يكن صائد الحيوان أو صياد السمك يزور الجزيرة.
السكون والعزلة.. ولم تكن تسمع إلا البلابل على أغصان الحور السامقة وهي تغني ألحانها لتصاحب خشخشة الأوراق التي تحيى المياه الجارية، وقالت الأوراق التي يغمرها ضوء القمر الساجي :
“ الوداع أيتها المياه ! الحركة أفضل من السكون !”.
وأجابت المياه وهي تهرع نحو البحر :
“ الوداع ! السكون أفضل من الجري إلى الأبد!”.
وكانت الأرنب العجوز تصغي لذلك الحوار، الذي أفعم قلبها بالغبطة، إذ شعرت أنها أقوى من الأشجار وأسرع عدواً من الماء، وأحست بالرضى لقدرتها على السكون وعلى الجري حسبما تشاء.
ومرت الشهور وصمتت البلابل، وبدأت أشجار الحور تسقط أوراقها، وشعرت الأرنب العجوز أنها لم تعهد مثل هذا الهدوء وهذا الأمن من قبل في حياتها، وهاهو ذا الشبح المجهول الفتاك يعود فجأة إليها. ترى لماذا عاد ؟
وقبعت في مكمنها تحت الشجيرات، وقد ثبتت حركة عينيها الكبيرتين تحت جفنيهما الحمراوين، وتطلعت فرأت على البعد منطقة رملية يسطع عليها ضوء القمر، يحدها دغل كثيف، ومساحة من الخلاء الذي تمتعت فيه هي أيضاً، في أيام صباها الهانئة، بالتواثب وتعقب ظلها على الأرض أو انتظار حبيبها في الليالي التي يسطع فيها ضوء القمر.
شاهدت ظلاً يتحرك على الرمال، يعقبه ظل آخر ، وظنت الأرنب العجوز أنها تحلم، ولكن الظلين عادا فتوقفا ثم استأنفا لعبتهما العجيبة. لم يعد لديها أي شك : كانا أرنبين بريين. وهنا فهمت العجوز سبب عودة عدوها المجهول، ذلك الصياد في تلك الليلة إلى الجزيرة.
وهنا فار غضب عارم، بقدر ما يمكن لغضب الأرنب ان يكون عارماً، في قلبها من جديد، ولكنها لم تقنع نفسها أنها أخطأت بالبقاء وحيدة في الجزيرة، بل تصورت أن الأرنبين قد وضعا أيديهما دون وجه حق على جزيرتها.
كان الهرم والعزلة قد جعلاها شرسة وأنانية, حتى إن غضبها من ظهور الأرانب كان أكبر من غضبها لرؤية عدوها المجهول, وعندما أقدمت على الخروج من مخبئها وخطت نحو الساحة الرملية, وأدركت أن الأرنبين كانا عاشقين, ازداد عنف غضبها وعمقه.
ولكن ذلك لم يمنع الأرنب من مواصلة اللعب والتواثب والعدو معاً, وكانت الأنثى سمينة, وتكاد أن تكون شفافة الأذنين, فلونهما وردي من الداخل وداكن من الخارج, وكانت تهوى اللهو واللعب, إذ جعلت تجري حول الذكر وتتظاهر بأنها لاتراه, ثم ترقد على الرمال, فإذا اقترب حبيبها منها هبت وجرت مبتعدة عنه. أما الذكر فكان نحيلاً أضناه العشق والسرور, فلم ينظر إلا إليها, ويتعقبها ويلقي بنفسه عليها دون هوادة. كانا سعيدين, مرحين, لايحملان هماً من هموم الدنيا, مثل جميع العشاق السعداء.
ولم تكل عين الأرنب العجوز من النظر إليهما, وحتى حين كان الزوجان الجميلان يختفيان من الساحة بسبب الإرهاق من فرط التواثب والملاعبة, كانت العجوز لاتبرح مكمنها, وتظل عينها على الساحة, وأذناها منتصبتان ترتعشان مثل ورقتين من أوراق الشجر الجافة في مهب الريح.
ومرت الليالي والأيام, وصار القمر في المحاق, وعاد الظلام الدامس في كل مساء, ولكن الأرنب العجوز لم تعد إلى ضفاف البركة خوفاً من الصياد, بل ظلت مختبئه في أحلك أعماق الغابة, ولم تكن تخرج من مكمنها إلا لماماً, فتقترب من الساحة أثناء الليل لمشاهدة العاشقين في لهوهما ومراحهما.
وذات يوم سمعت طلقة نارية, ثم طلقة أخرى, وبعدها طلقات بعيدة وغامضة كأنها الأصداء تتنادى من بعيد.
كانت الليلة دافئة, بليلة النسيم, والهلال قد مال للغروب خلف أشجار الحور العارية من أوراقها, كأنما جعلها الله ليلة للعشاق المخلصين, ولكن العاشقين لم يعودا للظهور.
لابد أن العدو المجهول قد ظفر بهما, واستبدت فرحة النصر العارمة الطاغية بالأرنب العجوز حتى بدأت تتواثب على الرمال, حيث كانت آثار أقدام العاشقين المسكينين ماتزال بادية.
ولكنها سمعت وقع أقدام بشرية فلاذت بالفرار, كانت تلهت ولاتستطيع رؤية شيء وهي تنطلق ساربة خلال الغابة حتى كادت أن تصل إلى الضفة الأخرى للنهر, وهناك قبعت في مخبئها حتى انبلج الفجر في تلك البقعة التي لم ترتدها من قبل.
وأفاقت عندما بزغ الفجر على الغابة التي كانت غلالات الضباب ماتزال تلفها, وتتساقط من الشجيرات قطرات ضخمة من ندى الصبح البارد, فخرجت الأرنب تستطلع الأحوال وهبطت إلى حفرة صغيرة, حيث وقعت عيناها على مشهد آثار مشاعرها ومس أوتار قلبها, على الرغم من قسوة طبعها, إذ وجدت جُحراً فيه أرنبان صغيران لم يتجاوزا العام الأول من العمر, صغيران مكتنزان, آذانهما شفافة, وأعينهما كبيرة ثابتة براقة, وحدست أنهما من أطفال الأرنبين اللذين قتلهما الصياد.
كان أحدهما يلعق رأس أخيه وأذنيه, وعندما لمح الأرنب العجوز بدأ يتطلع إليها, ومد أنفه يتشمم الهواء ثم عاد أدراجه, خائفاً مما تجاسر على فعله. ومضت الأرنب العجوز إلى حال سبيلها, ولكنها عادت فيما بعد وجعلت تشاهد الصغيرين اليتيمين وهما يلعبان ويلعقان بعضهما البعض.
كان النهار بارداً حزيناً, وبدأت الأمطار تهطل في المساء, فعادت الأرنب العجوز إلى مكمنها القديم فوق جذوع الأشجار, على الضفة المرتفعة للبركة. واستمر هطول الأمطار ولكن ذلك لم يزد من حزن الأرنب العجوز, إذ أن الأمطار تعني في الواقع نهاية الجو الصحو, ومن ثم ضمان أمنها وعزلتها, وسرعان ماتبتل الرمال وتفقد صلابتها فلا يجرؤ صياد على عبور الغابات الرطبة العارية.
وماعساه يكون من أمر الأرنبين المسكينين؟ ماعساه يحدث لهما في ذلك الحجر الصغير؟ هل تذكرت الأرنب العجوز عاشقة العزلة أطفالها الصغار, ودفء جحرها, ومسرات الأمومة؟ من الصعب أن نقطع في هذا برأي, ولكنها على أية حال تركت مخبأها في الفجر وذهبت لمشاهدة الصغيرين من جديد. كان المسكينان نائمين, أحدهما فوق الآخر, ولابد أنهما كانا يتوقعان عودة أمهما, حتى في نومهما, فحينما اقتربت الأرنب العجوز منهما, مد كل منهما أنفه وهز أذنيه الصغيرتين.
وتطلعت الأرنب العجوز إليهما بعينيها الكبيرتين المبللتين, ومدت أنفها هي الأخرى كأنما لتشم رائحة الجحر.
وعادت الأمطار إلى الهطول, وأحاطت بالجزيرة واكتنفتها غلالة رمادية من الضباب والمطر ثماني ليال وثمانية أيام, حتى بدا أن البركة قد ملئت بحبر أسود لامع, وظلت المياه ترتفع وتعلو حتى كادت أن تصل إلى معصم الأرنب العجوز. وحاولت أن تذهب لمشاهدة الصغيرين من جديد, ولكن الرمال كان قد ساخت بالقرب من معصمها في عدة أماكن, وتغلغلت المياه فيها جميعاً, فأصبح من المحال الوصول إلى الوادي الصغير. وعاد المطر يهطل ويهطل, وعلت ضجة من بعيد كأنها أصوات جيش الغزاة العادين الزاحفين على البر مدمرين كل مافي طريقهم.
كان ذلك الصوت مألوفاً للأرنب العجوز, فهو صوت حشرجة النهر الطاغي في طوفانه, ولم تجرؤ على مغادرة مكمنها, وإن كان الجوع يقرصها, إذ لم تتناول من الطعام سوى بعض وريقات جافة.
واضطرت في أحد الأيام إلى الصيام بعد أن ارتفعت المياه فوصلت إلى جذوع الأشجار, وكانت أي حركة تكتنفها الأخطار.
وظلت المياه تعلو وتعلو, وكانت رمادية اللون, غامضة صامتة, فبدا أن الأرض والهواء والسماء قد استحالت جميعاً إلى كتلة واحدة من المياه العكرة الباردة.
ولكن الأمطار توقفت في مساء اليوم الثامن, وانفرجت السحب فجأة عن صفحة السماء, فظهر أديمها الأخضر الشاحب هنا وهناك من خلال الضباب الرمادي, ومن فرجة بين السحب, وفي أعماق منجم قريب, سطع ضوء القمر المفضض المذهب.
وهبطت المياه, فبدا كأنها تتراجع مرهقة من جهود الغزو, حاملة معها غنائم من أوراق الشجر وأغصانه والرمال والكائنات الميتة.
وأشرقت الشمس في اليوم التالي على المكان الذي أصابه الدمار, فتمكنت الأرنب المسكينة التي تعاني من الجوع الشديد والبلل, من ترك مخبئها وجعلت تُدفئ نفسها وتتطلع إلى ماحولها, فوجدت أن البركة قد اختفت, وأن جدولاً يختلط الماء فيه بالطين يسير الهوينى تحت الضفة العالية, التي زاد ارتفاعها فغدت مثل السد, ولاتزال المياه تحمل غنائمها وضحاياها.
وفجأة شاهدت الأرنب على سطح الماء, بين الأغصان العارية والأوراق الجافة والآلاف المؤلفة من الفقاقيع الطافية كأنها حبات عقد انتثر, أرنبين صغيرين, ميتين, طويلين ونحيلين, أعينهما مفتوحة, وآذانهما مشرعة, يجريان بسرعة على صفحة الماء, بالقرب من بعضهما البعض, مثل أخوين أخلصا الحب فلم يفترقا حتى بعد الموت.
لقد أصبحت الأرنب العجوز وحيدة حقاً في الجزيرة.
وهنا أمال الضبع رأسه وصاح:”وهكذا فأنت مازلت تصدق هذه الأكاذيب عن جنسي؟”
قال اللقلق:“ إني لم أر مثانتك من الدخل. ولكن لماذا يقول كل امرىء أنك تستطيع أن تصنع بها سحراً؟”
قال الضبع:“إني لاتساءل لماذا منح الله رأساً؟ إنك لم تتعلم كيف تستخدمه” ولكنه كان يتحدث بصوت خفيض إلى الحد الذي لايستطيع اللقلق معه أن يسمعه.
قال اللقلق:“ إن كلماتك لاتنسلني” وترك نفسه يهبط في الهواء أدنى قليلاً.
ومرة أخرى رفع الضبع إليه بصره قائلاً:“لقد كنت أقول: لاتقترب مني أكثر مما ينبغي, فقد أرفع ساقي وأغطيك بسحري! وضحك.
كان اللقلق قريباً منه بما يكفي لأن يجعله يرى أن أسنانه سمراء.
وشرع اللقلق يقول:“لابد أن ثمة سبباً ما, رغم ذلك”. ثم بحث عن صخرة تعلو الضبع, وحط عليها. وجلس الضبع رافعاً بصره إليه وهو يحدق. ومضى اللقلق يقول:“لماذا يكرهك الجميع؟ لماذا يدعونك غولاً؟ ماذا فعلت؟”.
فأغمض الضبع عينيه نصف إغماضة وقال اللقلق:“إنك سعيد الحظ جداً. فالبشر لايحاولون قتلك, لأنهم يظنونك مقدساً. إنهم يدعونك قديساً وحكيماً. ومع ذلك فأنت لاتبدو قديساً ولاحكيماً”.
قال اللقلق مسرعاً:“ماذا تعني؟”.
لو أنك كنت تفهم حقاً, لعرفت أن السحر حبة تراب في مهب الريح, وأن لله سلطاناً على كل شيء, ولما ساورك خوف”.
وقف اللقلق زمناً طويلاً يفكر. رفع ساقاً وثناها أمامه. واصطبغ المسيل باللون الأحمر إذ هبطت الشمس من مستقرها. وجلس الضبع بهدوء رافعاً بصره إلى اللقلق, منتظراً منه أن يتكلم.
وأخيراً أنزل اللقلق ساقه وفتح منقاره وقال:“أتعني أنه إذا لم يكن هناك سحر, فإن الشخص الذي يرتكب الخطيئة هو الشخص الذي يعتقد أن ثمة سحراً؟”.
وهنا ضحك الضبع وقال:“لم أقل شيئاً عن الخطيئة. وإنما أنت الذي قلت, وأنت الحكيم. ليست مهمتي في العالم هي أن أخبر أحداً ماالصواب وماالخطأ. إن العيش من الليل إلى الليل يكفيني. إن كل انسان يتمنى أن يراني ميتاً.
ومرة أخرى رفع اللقلق ساقه ووقف يفكر. ارتفع آخر شعاع من ضوء النهار إلى السماء واختفى. وذابت الصخور عند جوانب المسيل في الظلمة. وأخيراً قال اللقلق :“لقد وهبتني شيئاً أفكر فيه, وهذا أمر طيب ولكن الليل قد جن الآن, لابد لي من أن أمضي في طريقي.
ورفع جناحيه وشرع يطير- دون أن يلوي على شيء من الجلمود الذي كان واقفاً عليه. وأخذ الضبع يصغي إليه بسمعه. سمع جناحي اللقلق يضربان الهواء ببطء, ثم سمع صوت بدن اللقلق وهو يضرب الصخرة على الجانب الآخر من المسيل, فتسلق الصخور ووجد اللقلق, وقال:“إن جناح قد انكسر, كان خيراً لك أن ترحل قبل أن يختفي ضوء النهار”.
فقال اللقلق:«أجل». وكان تعساً يشعر بالخوف.
وقال له الضبع:«تعال معي إلى بيتي. هل تستطيع السير؟».
قال اللقلق:«أجل» وشقا طريقهما معاً في الوادي. وسرعان ماانتهيا إلى كهف في جانب الجبل. فدخله الضبع أولاً ونادى عليه منه.
“الآن تستطيع أن تدخل رأسك. إن الكهف عال هنا”.
لم يكن ثمة سوى ظلمة بالداخل ووقف اللقلق في مكانه, ثم قال:“أين أنت؟”.
وأجابه الضبع:“إني هنا” وضحك.
وسأله اللقلق:“لماذا تضحك؟”.
فقال الضبع:“كنت أفكر أن العالم مكان غريب. لقد دخل القديس كهفي لأنه يؤمن بالسحر”.
قال اللقلق: (لست أفهمك)
(إنك مضطرب، ولكنك على الأقل تستطيع الآن أن تصدق أني لا أملك سحراً إني لا أختلف عن أحد في هذا العالم)
لم يجبه اللقلق فوراً وشم رائحة الضبع الكريهة شديدة القرب منه ثم قال متنهداً: (أنت مصيب بطبيعة الحال فليس ثمة قوة تجاوز قوة الله).
قال الضبع وهو يتنفس في وجهه: (إني سعيد.. أخيراً أصبحت تفهم وسرعان ما أمسك بعنق اللقلق ووجأه.. رفرف اللقلق وسقط على جنبه.
قال الضبع هامساً: (لقد منحني الله ماهو خير من السحر منحني مخاً).
رقد اللقلق ساكناً: حاول أن يقول مرة أخرى: (ليس ثمة قوة تجاوز قوة الله) ولكن منقاره لم يعد بعد أن انفتح بالغ الاتساع في الظلام.
تحول عنه الضبع مبتعداً، وقال من فوق كتفه: (ستموت في مدة دقيقة، وبعد عشرة أيام سأعود إليك وعند ذلك ستكون جاهزاً لوجبتي).
وبعد عشرة أيام ذهب الضبع إلى الكهف ووجد اللقلق حيث تركه لم يكن النمل قد زحف إليه فقال: (هذا أمر طيب) التهم منه مما أراد، ثم خرج إلى صخرة كبيرة مسطحه فوق مدخل الكهف وهناك في ضوء القمر وقف بعض الوقت يتقيأ.
أكل قليلاً من قيئه وتمرغ زمناً طويلاً في يقينه، وهو يحكه بفرائة عميقاً ثم شكر الله على أنه وهبه عينين تستطيعان أن تريا الوادي في ضوء القمر، وأنفاً يستطيع أن يتشمم الجيفة على متن الريح تدحرج في القيئ مرة أخرى ولعق الصخرة من تحته ولبعض الوقت رقد هناك يلهث وسرعان ما نهض ومضى يظلع في طريقه.
الأشياء
فالنتاين كاتاييف
ربط الحب المشبوب بين قلبي جورج وشوركا، فعقدا قرانهما في يوم من أيام شهر مايو، صفا فيه الجو واعتدل، وماكاد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا إليها بصبر نافد حتى اندفع العروسان الشابان خارجين إلى الطريق العام.
كان جورج طويلاً نحيلاً، ذا صدر مهزول وطبع هادىء، فنظر بطرف عينه إلى شوركا وقال (إلى أين نمضي الآن؟).
وكانت شوركا طويلة أيضاً، جميلة أنيقة، مشاعرها ملتهبة متقدة، فزادت من إلتصاقها به حتى دغدغ أنفه غصن الليلاك الذي يزين شعرها، وهمست بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها قائلة: (إلى السوق طبعاً لشراء الأشياء! وهل هناك سوى السوق؟).
وقال زوجها: (تقصدين لشراء الأثاث؟) وقد ارتسمت على شفتيه بسمة غباء، ويده تصلح من وضع الكاسكيته على رأسه أثناء السير.
كانت الريح تهب فتثير الغبار في السوق، ولازارات النحيلة الملونة المعلقة فوق الدكاكين المنصوبة في ظاهر السوق تتماوج مع هبات الهواء الجاف، والجراموفونات القديمة ينافس بعضها بعضاً من الصرير الذي يعلو وسط الموسيقى، والشمس تسطع وتنعكس أشعتها على المرايا المعلقة التي تلعب بها أيدي الريح، وشتى البضائع وألوان السلع الجذابة، بل وبعض المعروضات ذات الجمال الأخاذ، تحيط بالعروسين الشابين.
وأحمر خدا شوركا، وتصبب العرق من جبينها، وتهدل شعرها واختلط حتى وقع غصن الليلاك، واتسعت حدقتا عينيها واستدارتا، وهي تضع يدها الملتهبة على كوع جورج، وتدفعه دفعاً في السوق وهي تعضد على شفتيها الغليظتين المتشققتين.
وقالت بأنفاس محتبسة (اللحاف أولاً.. لحاف من ريش الأوز أولاً!)
كانت صرخات الباعة تصم الآذان، فأسرعا بشراء لحافين مربعين، وكان كل لحاف ثقيلاً غليظاً يتكون من قطع شتى من الأنسجة المتباينة، أعرض مما ينبغي وأقصر مما ينبغي، لون أحدهما أحمر طوبي، والآخر بنفسجي داكن.
وغمغمت شوركا قائلة: (والآن إلى الأحذية ذات الرقبة) وقد اقترب وجهها من وجه جورج حتى غمرته أنفاسها الحارة، (ولابد أن تكون البطانة حمراء، وعليها حروف مميزة حتى لايسرقها أحد).
واشتريا الأحذية، زوج من الأحذية الحريمي وزوج رجالي.. وكانت البطانة والحروف قرمزية، ولمعت عينا شوركا وبرقتا وهي تقول (الفوط! وعليها زخارف من صور الديوك..) وكانت أنفاسها تتلاحق كالأنين وهي تضع رأسها الملتهب على كتف زوجها، وبعد شراء المناشف ذات الديوك المصورة، اشتريا أربع بطانيات، وساعة بمنبه، وقطعة من القماش المخملي، ومرآة، وسجادة صغيرة مزخرفة بصورة النمر، وكرسيين جميلين بهما مسامير نحاسية، وعدة كرات من خيوط الصوف.
وكانا يريدان أيضاً شراء سرير كبير له مقابض من معدن النيكل وبعض الأشياء الأخرى، ولكن المال كان قد نفد، فعادا إلى المنزل يحملان ما اقتنيا من أشياء، فكان جورج يحمل الكرسيين، وعلى صدره اللحافان المطويان يمسكهما بذقنه، وكان العرق قد بلل شعره وألصقه بجبهته البيضاء، وقطراته تنساب على خديه الناحلين اللذين تدفقت الدماء فيهما، وارتسمت الظلال الزرقاء تحت عينيه، وفمه نصف مفتوح، تبدو فيه الأسنان غير السليمة، ويوشك أن يسيل منه الروال.
وعندما عادا إلى مسكنهما البارد، خلع الكاسكيته وألقاها معبراً عن ارتياحه منها ثم سعل، ووضعت شوركا الأشياء على سريره الصغير وألقت نظرة على الغرفة، وبنزوة من نزوات الحياء التي تنتاب الفتيات لكمته لكمة حب بقبضتها الضخمة الحمراء في صدره – بين الضلوع – قائلة:
( اسمع! لا أريدك أن تسعل!) وكانت تتظاهر بنبرة الصرامة والقسوة(وإلا أصبت بالسل وهلكت، وأنت الآن مسئول عني.. وأنا أعني هذا) ومن ثم وضعت خدها الأحمر على كتفه النحيل.
وجاء ضيوف حفل الزفاف في المساء، وبدأت الوليمة، فتأمل الضيوف الأشياء الجديدة بإعجاب وإكبار، وأثنوا عليها، وشربوا ما اقتضته مراسم الحفل من الفودكا، زجاجتين كاملتين، والتهموا الفطائر، ورقصوا على أنغام آلة الهارمونيوم، ثم مالبثوا أن رحلوا، بعد أن سار كل شيء وفقاً لما ينبغي له أن يسير، بل إن الجيران أنفسهم أبدوا دهشتهم لما اتسم به حفل الزفاف من هدوء واحتشام، دون إفراط أو مغالاة في شيء.
وبعد رحيل الضيوف عادت شوركا وجورج من جديد إلى تأمل المشتروات وابداء الاعجاب بها، فقامت شوركا بتغطية الكرسيين بأوراق الصحف، بعناية، ووضعت الأشياء الأخرى في صندوق كبير أغلقته بإحكام، بما في ذلك اللحافان، بعد أن وضعت الحذائين بالحروف المنقوشة فوق كل شيء.
وفي منتصف الليل استيقظت شوركا مهتاجة قلقة وأيقظت زوجها صائحة(هل تسمعني ياجورج؟ اسمع ياحبيبي جورج) ثم همست بحرارة قائلة: (أفق ياجورج! لقد أخطأنا عندما لم نشتر اللحاف الأصفر! اللحاف الأصفر الفاقع أظرف بكثير، وأنا واثقة أننا كان يجب أن نشتريه! وبطانة الأحذية غير مناسبة هي الأخرى لم نكن نتصور.. أقصد كان ينبغي أن نختار ذوات البطانة الرمادية.. إنها أجمل كثيراً من البطانة الحمراء.. والسرير ذو المقابض.. إننا لم نفكر فيه التفكير اللازم).
وفي الصباح، وبعد أن أسرعت شوركا بتجهيز جورج للذهاب إلى عمله أهرعت عائدة إلى المطبخ لمناقشة انطباعاتها عن الزفاف مع الجيران، فبدأت بالحديث – من باب مراعاة الأصول – عن ضعف صحة زوجها لمدة خمس دقائق، ثم دعت النسوة إلى دخول غرفتها حيث فتحت الصندوق وبدأت في عرض محتوياته وأخرجت اللحافين، وتنهدت تنهيدة سمعتها الحاضرات وهي تقول( لقد أخطأنا بعدم شراء اللحاف ذى اللون الأصفر الفاقع.. لم يجل بخاطرنا أن نشتريه.. آه! لم نلق بالاً إلى -) ودارت عيناها وغامتا.
وأثنى الجيران على الأشياء، وقالت زوجة الأستاذ وهي عجوز طيبة القلب، بعد قليل: (لا بأس بذلك كله، ولكن يبدو أن زوجك مصاب بسعال خطير إننا نسمع كل شيء من خلال هذا الحائط الرقيق لابد أن تولي هذا الموضوع اهتمامك وإلا، كما تعرفين..).
وقالت شوركا بغلظة مقصودة(لا أهمية لذلك، فلن يموت بسببه! وحتى لو مات فلن يضره ذلك وسوف أجد رجلاً آخر).
ولكن قلبها ارتعد فجأة، وقالت لنفسها(سأقوم بإعداد الهامبورجر له، إذ لابد له أن يأكل ويشبع!)
ولاقى الزوجان الأمرين في العيش حتى حان موعد قبض المرتب التالي، ولكنه ما إن جاء المال حتى اتجها فوراً إلى السوق، واشتريا اللحاف ذا اللون الأصفر الفاقع، وبعض اللوازم التي لاغنى عنها للمنزل، إلى جانب بعض الأشياء البالغة الجمال: ساعة دقاقة، وقطعة من فراء القندس، ومنضدة صغيرة معدة لوضع إناء الزهور بأحدث أساليب الموضة، وأحذية ذوات رقبة وبطانة رمادية، وست ياردات من الحرير الناعم، وتمثال رائع عجيب الشأن لكلب مزين ببقع مختلفة الخضرة، ويصدر أصواتاً موسيقية عند فتحه.
وعندما عادا إلى المنزل وضعت شوركا هذه الأشياء بنظام محكم في الصندوق الكبير، وجعلت القفل يعزف سلماً موسيقياً.
واستيقظت في منتصف الليل، وأسندت خدها الملتهب إلى جبهة زوجها الباردة التي يتصبب منها العرق وقالت له بهدوء(جورج! هل أنت نائم؟ لاتنم! اسمعني ياجورج ياحبيبي! كان هناك لحاف أزرق! أنا حزينة لعدم شرائه! إنه لحاف لطيف لطيف.. جداً.. يبرق لونه بعض الشيء.. لم نتصور...)
وذات يوم في منتصف الصيف دخلت شوركا إلى المطبخ في مرح وسرور وهي تقول (حصل زوجي على عطلة! حصل كل من زملائه على أسبوعين ولكنه حصل على شهر ونصف.. صدقوني! وهي عطلة بمرتب كامل! سوف نذهب فوراً لشراء السرير ذي القوائم الحديدية والمقابض.. هذا مؤكد!)
وقالت العجوز، زوجة الأستاذ، بنبرات حاسمة(نصيحتي هي أن تتخذي ترتيبات إدخاله إلى مصحة جيدة) وهي تضع المصفى المليئة بالبطاطس المسلوقة الساخنة تحت صنبور الماء، وأضافت قائلة: (وإلا – كما تعرفين – قد يفوت موعد العلاج)
وردت شوركا بلهجة غاضبة (لن يحدث له شيء!) وقد وضعت ذراعيها في وسطها بهيئة التحدي، وأردفت تقول(سأرعاه هنا خيراً من أي مصحة، سأقلي له شرائح الهامبورجر وأدعه يأكل مايشاء حتى يشبع!)
وعاد الزوجان في المساء من السوق بعربة يد صغيرة حافلة بالأشياء، وكانت شوركا تسير خلف العربة وتتطلع ببصرها إليها كأنما سحرها انعكاس وجهها الذي تصاعد الدم إليه في النيكل الذي يكسو حديد السرير.
أما جورج فكان يزفر زفرات ثقيلة ولايكاد يقوى على دفع العربة، وكان يحمل على صدره اللحاف المطوي ذا اللون الأزرق السماوي، ويمسكه بذقنه المدببة، وكان لايتوقف عن السعال وانحدرت قطرة داكنة من قطرات العرق على فوده الغائر.
واستيقظت شوركا أثناء الليل إذ أقض التفكير العميق مضجعها، ومانهش ذهنها من أفكار، فشرعت تهمس بسرعة(حبيبي جورج! مازال هناك لحاف رمادي! هل تسمعني؟ يحزنني أننا لم نحصل عليه.. خسارة! ما ألطفه وأجمله! رمادي رمادي، ولكن البطانة ليست رمادية بل وردية اللون.. ما أرقة وأظرفه من لحاف!)
أما آخر مرة شوهد فيها جورج فكانت في صباح يوم من أواخر أيام الخريف، وكان يسير بصعوبة في الشارع الجانبي الصغير، وقد غطى أنفه الطويل الشفاف الذي يكاد يشبه الشمع بياقة سترته الجلدية التي أكل عليها الدهر وشرب، وكانت ركبتاه الحادتان بارزتين، وسرواله الفضفاض يخفق حول رجليه الهزيلتين، وكانت الكاسكيته الصغيرة قد تدحرجت إلى مؤخرة رأسه، وتدلى شعره الطويل على جبهته، وبدا مبللاً وفاحماً.
كان يتعثر في سيره، ولكنه كان يحرص على تجنب الخوض في برك الماء حتى لايبتل حذاؤه النحيل، وعلى شفتيه الشاحبتين تتراقص بسمة واهنة، بسمة سعادة تكاد تكون بسمة قناعة.
وعندما وصل إلى المنزل أرغم على الرقاد في السرير، وجاء طبيب المنطقة وأسرعت شوركا إلى مكتب التأمينات الاجتماعية للحصول على بدل العلاج، واضطرت إلى الذهاب إلى السوق وحدها هذه المرة، وعادت تحمل اللحاف الرمادي، ثم وضعته في الصندوق.
وسرعان ماساءت حالة جورج، وبدأت بشائر الثلج ذلك الشتاء، وكان ينصهرعند الوصول إلى الأرض، واكتسى الجو بلون أزرق ضبابي، وتهامس الأستاذ مع زوجته، وسرعان ما ظهر طبيب آخر، قام بفحص المريض ثم دخل إلى المطبخ ليغسل يديه بصابون مطهر وكانت شوركا تقف وقد بللت الدموع وجهها وسط سحابة من الدخان، إذ كانت تقلي شرائح ضخمة من الهامبرجر مع الثوم على الموقد.
وصاحت زوجة الأستاذ في دهشة قائلة: (هل أنت مخبولة؟ ماذا تفعلين؟ سوف تقتلينه! هل تظنين أنه يستطيع أن يأكل شرائح الهامبورجر بالثوم؟)
وقال الطبيب بلهجة جافة(نعم!)، وأخذ ينقص الماء عن أصابعه في الحوض ثم أضاف قائلاً (له أن يأكل ما يشاء الآن).
وصرخت شوركا قائلاً: (وماذا يضيره إن أكل هذه الشرائح؟) وأخذت تمسح وجهها بكمها وهي تقول(لن يحدث له شيء).
وفي المساء جاء مفتش الصحة مرتدياً الأوفرول القطني الأبيض، وجعل يرش غرف المنزل المشتركة بالمواد الكيمياوية المطهرة، التي فاحت رائحتها في الممرات والدهاليز واستيقظت شوركا أثناء الليل وهي تشعر بحزن لاتفسير له يمزق نياط قلبها وهمست بصبر نافد(جورج! اسمعني ياجورج الحبيب.. استيقظ! آمرك ياجورج)
ولكن جورج لم يرد.. كان بارداً.. وعندها تركت السرير وسارت متثاقلة حافية القدمين في الممر، وكانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحاً ولكن أحداً من السكان لم يستطع النوم، فهرعت إلى باب شقة الأستاذ وإنهارت وهي تصرخ في فزع(لقد راح! راح! انتهى! ياربي! لقد مات جورج! آه ياحبيب جورج!؟
وشرعت تولول، فأطل الجيران من أبوابهم، وكانت انعكاسات نجوم الشتاء الزرقاء تتلألأ على الصقيع الذي يكسو الأرض بغلالة صلبة خلف النوافذ المظلمة.
وفي الصباح جاءت القطة الأليفة فوقفت عند الباب المفتوح لغرفة شوركا، ونظرت إلى داخل الغرفة، ثم انتصب شعر فرائها فجأة، وكانت شوركا تجلس في وسط الغرفة والدموع تغمر وجهها، وكانت تحادث الجيران برنة غضب كأنما لحقت بها إهانة ما:
(وكنت أقول له املأ معدتك بشرائح الهامبورجر! لكنه رفضها! انظروا كم بقا منها! ماذا سأفعل بها؟ ولمن تخليت عني ياجورج الشقي!؟ لقد تركني ولم يأخذني معه، ولم يرد أن يأكل شرائحي! آه ياجورج! ياحبيبي!)
وبعد ثلاثة أيام جاءت عربة الموتى التي يجرها حصان رمادي فوقفت خارج المنزل، وفتحت البوابة الرئيسية على مصراعيها، فدخل الهواء الزمهرير في شتى أرجاء المبنى، وشاعت رائحة زيت الصنوبر، وأخرج جورج إلى مثواه الأخير.
وفي مأدبة المأتم كانت شوركا مرحة إلى حد غير عادي، وقبل أن تقرب أي طعام شربت نصف كوب من براندى الذرة، فأحمر لون بشرتها، وبدأت عيناها تذرف الدموع، فضربت الأرض بقدمها وقالت في صوت متهدج:
(من هناك؟ أدخلوا جميعاً وأمرحوا.. أقصد من يريد أن يدخل.. سوف أسمح للجميع بالدخول ماعدا جورج.. لن أسمح له بالدخول! لقد رفض أن يأكل الشرائح التي أعددتها له، بل رفضها قطعاً!)
ثم سقطعت بقوة على الصندوق الجديد وبدأت تضرب القفل الموسيقي برأسها.. وعاد كل شيء، بعد ذلك، إلى مجراه الطبيعي في المسكن، فساده النظام والأدب، وعادت شوركا إلى العمل خادمة، وجاء رجال كثيرون أثنار الشتاء يطلبون يدها، ولكنها رفضت الزواج من أيهم، إذ كانت تنتظر رجلاً هادئاً طيب القلب، وكان هؤلاء جميعاً رجالاً جسورين اجتذبهم ماجمعته من أشياء.
وازداد نحولها كثيراً في أواخر الشتاء، واعتادت ارتداء فستان في الصوف الأسود زاد من حسن مظهرها وكان في الجراج الملحق بفناء المبنى سائق خصوصي اسمه ايفان، يتسم بالهدوء والطيبة والدماثة، وكانت شوركا قد شغفته حباً، ثم لم تلبث أن بادلته حبه عندما حل الربيع.
كان الجو صحواً، وماكاد مساعد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغيا إليها بصبر نافد، حتى انطلق العروسان الشابان من المكتب إلى الطريق العام.
وتساءل الشاب إيفان في خجل وهو يخالس شوركا النظر(ترى إلى أين نمضي الآن؟)
وزادت شوركا من إلتصاقها به، ودغدغت اذنه الحمراء بغصن الليلاك القاهر، وهمست بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها قائلة:
(إلى السوق! لشراء الأشياء! وهل هناك سوى السوق؟) وفجأة بدت عيناها كبيرتين ومستديرتين.
عن الجمهورية نت...
تعليقات