قصص عالمية / مختارات خاصة ........

قصص عالمية 2-3


الثلاثاء 31 أغسطس-آب 2010




في ضوء القمر

جي دي موباسان

اكتسب الأب (مارينيان) بحق اسم (جندي الله) كان قساً طويلاً نحيلاً متعصباً إلى حد ما ، ولكنه كان عادلاً وذا نفس متسامية وكانت معتقداته ثابتة ولا تتبدل فهو يعتقد أنه يفهم بالله فهماً واعياً كاملاً وانه محيط بخططه ورغباته ونواياه.

كان أحياناً يتساءل وهو يتمشى في ممر حديقته في البلدة الصغيرة التي يعمل فيها (لماذا فعل الله ذلك ؟) ويفكر جاهداً ويرضى عن نفسه في أغلب الأحيان إذ يجد الجواب ولم يكن الأب (مارينيان) من ذلك النوع من الرجال الذي يهمس في خشوع (إن سبلك ياربي أعظم من أن تدركها مدارك الرجال) بل كان يقول ( أنا خادم الله وعليّ أن أعرف السبب في أفعاله أو أن أتبين السبب إن لم أعرفه).

وخيل إليه أن كل شيء في الطبيعة قد خلق بمنطق مطلق جدير بالإعجاب أن هناك دائماً توازناً بين الأشياء ومسبباتها، فالشروق وجد ليبعث البهجة في نفس الإنسان وهو يستيقظ والنهار وجد لينضج المحاصيل والأمطار لترويها والأمسيات ليستعد الإنسان للنوم والليل الحالك للنوم والفصول الأربعة تتفق تماماً وحاجيات الزراعة وكان من المستحيل أن يداخل الشك الأب (مارينيان) في أن الطبيعة لا هدف لها وان كل كائن حي هو الذي يكيف نفسه وفقاً للظروف القاسية، للفصول والأجواء والمادة ذاتها.

ولكنه كان يكره النساء كان يكرهن من أعماقه ويحتقرهن بالغريزة وكان دائماً يردد قول المسيح (مالي ولك يا امرأة) وكان يضيف قائلاً: إن الإنسان يستطيع القول إن الله ذاته غير راض عن المرأة التي خلقها وكانت المرأة بالنسبة إليه هي الغاوية التي أغوت الإنسان الاول ومازالت تزاول نشاطها الملعون، وهي المخلوق الضعيف الخطير الذي يسبب قلقاً خفياً، وكان يكره روحها المتعطشة إلى الحب أكثر مما يكره جمالها المسموم، وكثيراً ما شعر بحنان النساء يداهمه فيضيق بذلك الحب الذي ينتفض دائماً ابداً في صدورهن رغم أنه يعرف أنه منه في حصن حصين.

وكان يعتقد ان الله خلق المرأة لتغوي الرجل وتختبره وان على الرجل إلا يقربها إلا وهو متسلح بالحرص الذي يتسلح به وهو مقبل على كمين، فالمرأة في الواقع ليست إلا مصيدة بذراعيها الممدودتين وبشفتيها المفتوحتين في انتظار الرجل.

وكان الأب (مارينيان) لا يحترم إلا الراهبات اللاتي جردهن القسم من الهوى ومع ذلك كان يعاملهن معاملة قاسية، إذ يلمح هذا الحنان الخالد الذي يخفق حتى في أعماق هذه القلوب الطاهرة يخفق دائماً ويخفق حتى له وهو القس.

وكانت له ابنة اخت تعيش مع أمها في منزل صغير قريب من منزله، وكان قد صمم على أن يجعل منها راهبة، وكانت رقيقة خفيفة وتتعمد إغاظته باستمرار، وعندما يعظ تضحك وعندما يغضب تقبله في حرارة وتضمه إلى قلبها بينما يسعى هو بلا وعي إلى تخليص نفسه من بين ذراعيها ومع ذلك كانت تلك الضمة تثير في نفسه إحساساً حلواً كانت توقظ في قلبه الشعور الراقد في أعماق كل رجل.

وكثيراً ما حدثها عن الله، عن ربه ، وهو يمشي إلى جوارها في الحقول ونادراً ما انصتت إليه، كانت تنظر إلى السماء وإلى العشب وإلى الزهور، وعيناها تلتمعان بفرحة الحياة وكانت تجري أحياناً لتمسك بفراشة ثم تعود بها وهي تصيح (انظر أنظر يا خالي كم هي جميلة، بودي أن أقبلها) وكانت هذه الرغبة من جانب الفتاة في تقبيل الفراش والزهور تزعج الأب وتضايقه وتثيره فقد رأى فيها دليلاً على ذلك الحنان الدائم الذي ينبض في قلب كل امرأة.

وفي يوم من الأيام أخبرت مديرة البيت الأب (مارينيان) أن ابنة اخته قد اتخذت لنفسها عشيقاً.

وعانى الأب إحساساً مؤلماً، وقف مختنقاً والصابون يغطي وجهه وهو يحلق وعندما استعاد القدرة على الكلام صاح :

- كذب كذب ... أنت تكذبين يا (مالينا).

ولكن المرأة القروية وضعت يدها على قلبها وقالت:

- ليعاقبني الله إن كنت أكذب يا سيدي القس أنها تذهب إليه كل ليلة بعد ان تنام أختك ... وهما يتقابلان بجانب النهر، وما عليك إلا أن تذهب إلى هناك ما بين الساعة العاشرة ومنتصف الليل وستراها بعينيك.

وتوقف الأب عن حك ذقنه وبدأ يذرع الحجرة بسرعة كما يفعل عندما يستغرق في تفكير عميق، وعندما حاول أن يكمل حلاقة ذقنه جرح نفسه ثلاثة جروح امتدت من الأنف إلى الأذن.

وظل طول اليوم ساكناً وقد امتلأ غضباً وثورة فإلى جانب كرهه الطبيعي للحب شعر أن كرامته قد أهينت كأب ومعلم وكراع للنفوس، شعر أن طفلة قد خدعته وسخرت منه وسلبته شيئاً يملكه، شعر بهذا الحزن الأناني الذي يشعر به الوالدان حين تخبرهما ابنتهما أنها قد اختارت لنفسها زوجاً دون مشورتهما وضد هذه المشورة.

وبعد العشاء حاول أن يقرأ قليلاً ولكنه لم يستطع ان يكيف نفسه للقراءة وازداد غضباً على غضب عندما أعلنت الساعة العاشرة أخذ عصاه وهي عصا غليظة من خشب البلوط يحملها عادة حين يخرج ليلاً لزيارة المرضى، وابتسم وهو يرقب العصا الغليظة وقد استقرت في قبضة يده القوية، وأدار العصا في الهواء مهدداً ثم رفعها فجأة وهو يجز بأسنانه وانهال على كرسي فحطم ظهره.

وفتح باب بيته ليخرج ولكنه توقف عند بابه مبهوتاً كان بهاء القمر رائعاً روعة نادرة، واستجابت روحه السامية لما حوله وشعر فجأة أن جمال الليل الشاحب وجلاله وبهاءه قد حرك قلبه، وفي حديقته الصغيرة التي سبحت في ضياء باهت عكست أشجار الفواكه ظلالها على ممر الحديقة أغصان رقيقة من الخشب تكسوها الخضرة من الزهور المتسلقة على الحائظ انبعثت رائحة لذيذة حلوة علقت كروح عطرة بالليل الدافئ الصحو.

وبدأ يتنفس تنفساً عميقاً يحتسي الهواء كما يحتسي السكير الخمر، وسار ببطء مسحوراً مبهوراً حتى كاد ينسى ابنة أخته وعندما وصل إلى بقعة عالية وقف يرقب الوادي بأجمعه وقد امتد تحت بصره وبهاء القمر يحتضنه وسحر الليل الهادىء الحنون يغرقه ونقيق الضفادع يتردد في نغمات قصيرة والبلابل عن بعد أشجاها القمر فتغنت واختلط غناؤها في موسيقى لا تثير الفكر وإنما تثير الاحلام.

واستمر الأب يمشي وهو لا يعرف لم تخلت عنه شجاعته فقد شعر كما لو كان التعب والإرهاق قد تسربا إليه، وود لو يجلس أو يتوقف حيث هو ليحمد الله على ما صنعت يداه.

وتحت بصره، حول منحنى النهر امتد صفان طويلان من الأشجار وفوق شطي النهر سبحت سحابة خفيفة بيضاء تخللتها أشعة القمر فأضفت عليها لون الفضة وبريقها.

وتوقف الأب من جديد وقد نفذ إلى أعماقه شعور قوي متزايد واستولي عليه شك وقلق وشعر أن سؤالاً من الأسئلة التي تلح عليه أحياناً تدور إذ ذاك في عقله.

لماذا فعل ذلك الله ! إذا كان الليل للنوم للاغفاء للراحة للعدم فلماذا كان أكثر سحراً من النهار، وأحلى من الغروب والشروق ؟

وهذا الكوكب البطيء الخلاب الذي يغلب جماله على جمال الشمس، والذي يضيء للكائنات بنور رقيق يستعصي على الشمس، هذا الكوكب لم يشرق لينير الظلال ؟ ولم لا يأوي البلبل الصداح إلى النوم كغيره من الطيور ولم هذا الحس الذي يتسلل إلى الروح وهذا الخمول الذي يغزو الجسد ؟ ولم هذا الوشاح الذي ينسدل على الأرض، وهذا السحر الذي لا ينعم به الإنسان إذ يأوي إلى فراشه في الليل ؟ لمن خلق الله هذا الجلال ، هذا الفيض من الشعر الذي يتدفق من السماء إلى الأرض ؟ولم يجد الأب لهذه الأسئلة التي ثارت في نفسه جواباً.

ولكن إذ ذاك في طرف المرعى ظهر ظلان يمشيان جنباً إلى جنب تحت الأشجار المتعانقة الغارقة في الضباب الفضي.

وكان الرجل هو الأطول، وقد التفت ذراعه حول عنق حبيبته ومن وقت لآخر كان يقبلها في جبينها وفجأة دبت الحياة في الطبيعة المهجورة التي احاطت بهما وكأنها إطار إلهي صنع خصيصاً من اجلهما.

وبدأ الشخصان وكأنهما كائن واحد، الكائن الذي خلق من أجله الليل الهادىء الساكن، واقتربا من القس كإجابة حية على سؤاله، إجابة بعث بها إليه ربه الأعلى.

وقف الأب مصعوقاً وقلبه ينبض بشدة ، وتمثل قصص الإنجيل كقصة حب روث Ruth وبوز Boaz وإرادة الله تتحقق في القصص الجليلة التي وردت في الكتاب المقدس، وفي رأس القس ترددت آيات نشيد الإنشاد الصرخات الوالهة ونداء الجسد والشعر الجميل في هذه القصيدة التي تتأجج حناناً وحباً، وقال لنفسه (ربما خلق الله مثل هذه الليلة إطاراً لمثله الأعلى .... لحب الإنسان).

وتراجع بعيداً عن الحبيبين اللذين تقدما يدا في يد .... كانت فعلاً ابنة أخته .... وكان الأب (مارينيان) يتساءل الآن .... ألم يكن على وشك الخروج على طاعة الله ؟ فلو لم يكن الله يرضى عن الحب لما احاطه بمثل ذلك الإطار من الجمال.

وهرب الأب مبهوتاً وهو يكاد يشعر بالخجل كما لو كان قد اجتاز هيكلاً مقدساً لا حق له في اجتيازه.







المدرسة

أنطوان تشيخوف

تركت العربة المدينة في الساعة الثامنة والنصف.

وكان الطريق العام جافاً, وشمس أبريل الجميلة تبعث بأشعتها الدافئة, ولكن الثلوج كانت مازالت متراكمة في الحفر وفي الغابات.

وكان الربيع قد حل بصورة مفاجئة ولم يكد شتاء ذلك العام المظلم الطويل القارس ينتهي ولم تر ماريا فاسيلفنا التي جلست في العربة فيما حولها شيئاً جديداً أو مثيراً, فلا الدفء أثارها, ولا الغابات الساكنة الشفافة التي غزتها أنفاس الربيع, ولا أسراب الطيور السوداء تحلق فوق بقع من الماء أشبه بالبحيرات, ولا السماء الرائعة العميقة عمقاً لانهائياً التي تجعل الإنسان يتمنى أن يذوب فيها , فقد اشتغلت كمدرسة لمدة ثلاث عشرة سنة, وذهبت إلى المدينة خلال هذه السنوات الطويلة مرات لاحصر لها لتقبض أجرها, وفي كل مرة لم تكن تتمنى سوى شيء واحد, أن تنتهي الرحلة بأسرع مايمكن.

وكانت تشعر كما لو كانت قد عاشت في ذلك الجزء من الريف أجيالاً وأجيال, مئات من السنوات, وخيل إليها أنها تعرف كل حجر وكل صخرة في الطريق من المدينة إلى مدرستها فماضيها هنا وحاضرها وهي لاتستطيع أن تتصور لنفسها مستقبلاً آخر منفصلاً عن المدرسة عن الطريق إلى المدينة والعودة منها, العودة إلى المدرسة ومن المدرسة إلى الطريق من جديد.

وكانت قد تخلصت من عادة التفكير في الماضي, ماضيها قبل أن تصبح مدرسة, وكادت تنسى هذا الماضي تقريباً, كان لها في يوم من الأيام أب وأم, وكانوا يعيشون في موسكو في شقة كبيرة بالقرب من البوابة الحمراء, مات أبوها وهي طفلة في العاشرة, وماتت أمها بعده بقليل . وكان لها أخ ضابط في الجيش, وفي البداية كانا يتراسلان ثم لم يعد أخوها يجيب على رسائلها, انقطع عن الكتابة. ولم يبق لديها من ممتلكاتها القديمة سوى صورة لأمها, ولكن هذه الصورة أصبحت باهتة من رطوبة المدرسة, والآن لايمكن أن يتبين الإنسان منها شيئاً سوى الشعر والحاجبين.

بعد أن قطعت العربة عدة أميال استدار السائق سيمون العجوز وقال: (لقد قبضوا على أحد الكتبة الحكوميين في المدينة, ويقال إنه اشترك وبعض الألمان في قتل اليكسيف العمدة في موسكو).

-(من قال لك ذلك؟).

_( لقد سمعتهم يقرأون الخبر في الجريدة, في حانة إيفان إيونوف.

ومن جديد ساد السكون مدة طويلة, وفكرت ماريا فاسيلينا في مدرستها, في الامتحانات المقبلة, وفي البنت والأربعة أولاد الذين تعدهم لدخول هذه الامتحانات وبينما كانت تفكر في الامتحانات لحق بها هانوف أحد ملاك الأرض المجاورة في عربة تجرها أربعة خيول, وهو نفس الرجل الذي كان في السنة الماضية ممتحناً خارجياً في مدرستها, وعندما وصل بحذائها تعرف عليها وأحنى رأسه وقال:

- (صباح الخير, أظنك عائدة إلى البيت).

وهانوف رجل في الأربعين من عمره في وجهه قلق وإرهاق ومعالم الشيخوخة تدب فيه, ولكنه مع ذلك مازال جميلاً ومازالت النساء تعجب به, وكان يعيش في قصره وحيداً, بعد أن ترك الخدمة. وكان الناس يقولون إنه لايقوم بعمل ما في بيته, وإنما يكتفي بأن يذرع الحجرات جيئة وذهاباً وهو يصفر أو يلعب الشطرنج مع خادمه العجوز, كما قيل أيضاً أنه يشرب كميات هائلة من الخمر, والواقع أن أوراق الامتحانات التي أعادها السنة الماضية كانت فعلاً تفوح برائحة الخمر. وأثناء الامتحانات كان يرتدي ملابس جديدة أنيقة, واعتبرته ماريا فاسيليفنا جذابا للغاية, وجلست طيلة الوقت إلى جانبه مرتبكة كانت قد اعتادت أن ترى في المدرسة ممتحنين يتميزون بالتزمت والتعقل بينما كان هانوف لايجد أسئلة يوجهها إلى الطلبة, وكان مؤدباً ورقيقاً للغاية ولايعطي سوى أعلى الدرجات.

وقال هانوف مخاطباً ماريا فاسيليفنا.

- (كنت ذاهباً إلى زيارة باركفيتش, ولكن قيل له أنه ليس في البيت, وخرجوا من الطريق العام إلى طريق جانبي مؤدي إلى القرية. هانوف بعربته يتبعه سيمون, وكانت الخيول الأربعة تمشى متئدة تحرك بصعوبة العربة الثقيلة خلال الوحل, وأخذ سيمون يتنقل من جانب إلى جانب ليلتزم حافة الطريق, يعبر أحياناً أكواماً من الثلج وأحياناً أخرى مستنقعات من الماء, وينزل بين الحين والحين من على مقعده ليجر الخيل بيده, وكانت ماريا فاسيليفنا مازالت تفكر في المدرسة, وفي امتحان الحساب وهي يجيء صعبا أم سهلاً. وشعرت بضيق من مجلس القرية , لم تجد أحداً منهم في المكتب أمس, هل هذا هزل أم عمل إن لها سنتين تطلب إليهم أن يقيلوا الحارس الذي لايقوم بعمل ما ويعاملها بوقاحة ويضرب الطلبة, وما من أحد يعيرها اهتماما ونادر ما استطاعت أن تجد رئيس مجلس القرية في مكتبه فإن وجدته قال لها والدموع تملأ عينيه إنه غارق في العمل, وليس لديه دقيقة واحدة من الفراغ, والمفتش لايزور المدرسة إلا مرة كل ثلاث سنوات ولايفهم واجباته لأنه كان مفتشاً في الجمارك وحصل على وظيفة مفتش مدارس نتيجة لاتصالاته بأصحاب النفوذ.

ومجلس المدرسة لايجتمع إلا نادراً, وان اجتمع لاتعرف هي أين اجتمع, والمسئول عن المدرسة يعمل في دبغ الجلود, ويكاد يكون في جهل الفلاحين, ثم أنه غبي ووقح, وصديق حميم للحارس وهي لا تعرف أين تتجه بشكواها وبتحرياتها.

وقالت لنفسها وهي تنظر إلى هانوف (إنه جذاب حقاُ).

وازداد الطريق سوءاً على سوء, ومروا خلال الغابة, و لم يكن هناك مجال يتيح للعربة ان تستدير, وغرقت العجلات, وأصابتهم المياه برشاشها, وضربتهم أغصان الأشجار في وجوههم وقال: هانوف وهو يضحك (ياله من طريق).

ونظرت إليه المدرسة في عجب لم يعيش هذا الرجل الغريب هنا؟ وما فائدة نقوده ومظهر الجذاب, وسلوكه المهذب في هذا الوحل, في هذه الأرض الموحشة التي هجرها الله؟ وهو لايجني من الحياة مكسباً, وهاهو ذا شأنه شأن سيمون يسوق العربة في طريق موحل ويعاني نفس المتاعب التي يعانيها سيمون, ولماذا يعيش الإنسان هنا إن كان يستطيع أن يعيش في بترسبورج أو في الخارج؟ إن المسألة بسيطة بالنسبة لرجل غني مثله, إنه يستطيع أن يختار لنفسه طريقاً ممهداً بدلاً من ذلك الطريق الوعر, وإن يتجنب هذا البؤس, بتجنب نظرة اليأس التي ترتسم على وجه سيمون, ولكنه يكتفي بالضحك, ولايبدو أنه يهتم بكل هذا أو يريد لنفسه حياة أفضل أنه طيب, ناعم , ساذج, ولايفهم هذه الحياة الخشنة تماماً كما كان في الامتحانات. وهو لايهدي المدرسة سوى كرات أرضية صغيرة, ثم يعتبر نفسه مفيداً وعضواً عاملاً في قضية التعليم العام, وما فائدة كراته الأرضية هنا؟ وصاح يمون.

- (اثبتي في مكانك يافاسيليفنا).

وارتجت العربة في عنف وكادت تنقلب. وسقط شيء ثقيل على قدمي ماريا- كانت حزمة مشترواتها. وكان لابد وأن تصعد العربة طريقاً مرتفعاً خلال التل الصخري, والماء يموج في الحفر المنحنية.

وكيف يستطيع الإنسان أن يمضي في مثل هذا الطريق! وتنفست الخيل في صعوبة, ونزل هانوف من عربته ومشى إلى جانب الطريق في معطفه الطويل. وكان يشعر بحرارة الجو وقال:

- ( ياله من طريق), وضحك من جديد, (لابد وأنه سيحطم العربة عن قريب).

وقال سيمون بمرارة:

-( ليس هناك مايجبرك على الخروج في مثل هذا الجور. خير لك أن تبقى في منزلك).

-( إني أشعر بالملل في منزلي ياجدي العزيز) ولاأريد أن الزم بيتي).

وبدأ هانوف إلى جانب سيمون رشيقاً ومليئاً بالحيوية, ولكن في مشيته بدا شيء ما يشير إلى أن الوهن بدأ يتسرب إلى جسده وأنه في طريقه إلى الانهيار, وفجأة فاحت رائحة الخمر في الغابة. وامتلأ قلب ماريا سيليفنا بالخوف وبالإشفاق, الإشفاق على ذلك الرجل الذي يتجه إلى الانهيار دون سبب معقول, وخطر ببالها أنها لو كانت زوجته أو شقيقته لكرست حياتها لإنقاذه من الإنهيار. زوجته! هذا هو قانون الحياة أن يحيا هو وحيداً في منزله الكبير وأن تحيا هي وحيدة في القرية التي هجرها الله, وأن يبدو لسبب ما مجرد التفكير في إمكانية تآلفهما كندين مستحيلاً ومضحكاً والواقع أن الحياة قد نظمت والعلاقات الإنسانية قد تعقدت, بطريقة تستعصي على الفهم بحيث يتوه الإنسان عندما يفكر فيها ويشعر بالألم.

وقالت ماريا لنفسها (وهذا بدوره أمر يستعصي على الفهم, لماذا يمنح الله الجمال والجلال والعيون الحزينة الحلوة للضعفاء وللمنحوسين والتافهين – لماذا ينعمون بهذه الجاذبية؟!).

وقال هانوف وهو يركب عربته

-(لابد لنا الآن أن نغير وجهتنا ونستدير إلى اليمين, مع السلامة أتمنى لك حظاً سعيداً).

ومن جديد فكرت ماريا الطلبة, وفي الامتحانات وفي الحارس وفي مجلس المدرسة وعندما ردد الريح صوت العربة التي ذهبت بعيداً, اختلطت هذه الأفكار بغيرها, وشعرت ماريا بحنين إلى العيون الجميلة وإلى الحب, وإلى السعادة التي لن تأتي أبداً!.

زوجته! البرد يشتد في الصباح, والمدفأة عاطلة والحارس قد اختفى, والأطفال يأتون إلى المدرسة بمجرد أن ينبلج الصبح, ومعهم الثلج والوحل والضجة, وكل شيء متعب وغير مريح, مسكنها يتكون من حجرة واحدة ومطبخ إلى جانبها, ورأسها تؤلهما كل يوم بعد انتهاء العمل, وبعد العشاء تعاني من معدتها وعليها أن تجمع النقود من أطفال المدرسة لشراء الوقود ولأجر الحارس, وأن تعطيها للمسئول عن المدرسة, ثم ترجوه وتلحف الرجاء, ترجو ذلك الجلف المتخم بالطعام بأن يرسل إليها وقوداً وبالليل تحلم بالامتحانات وبالفلاحين وبالثلوج المتراكمة, وهذه الحياة تجعلها تهزم قبل أوانها وتبدو خشنة قبيحة ثقيلة الحركة كما لو كانت مصنوعة من الرصاص وهي دائماً خائفة, وهي تقفز من مقعدها ولا تجسر على الجلوس في حضرة أحد أعضاء مجلس القرية أو المسئول عن المدرسة, وهي تستخدم عبارات رسمية مليئة بالاحترام عندما تتحدث عن واحد منهم وليس هناك من يعتقد أنها جذابة والحياة تمضي جافة بلا عاطفة بلا حنان من أصدقاء, ولامعارف ذوي قيمة.

وأى موقف مؤلم يكون موقفها وهذه حالها لو كانت قد وقعت في الحب.

-(الزمي مكانك يافاسيليفنا).

ومن جديد طريق مرتفع خلال التل.

لقد أصبحت مدرسة بحكم الضرورة, دون أن تشعر برغبة حقيقية في التدريس ولم تفكر يوماً أنها تخدم قضية العلم وبدا لها دائماً أن أهم شيء في عملها الامتحانات لا الأطفال ولا العالم وهل لديها وقت لتفكر في المهنة, في خدمة قضية العلم؟

واستمر سيمون يتخير أقصر الطرق وأجفها, خلال المراعي والطرقات الخلفية للقرية, ولكن الفلاحين منعوه من المرور مرة ومرة أخرى لم يستطع أن يعبر أرض راعي الكنيسة وفي المرة التالية وجد أن إيفان أيونوف اشترى قطعة من المالك وحفر فيها خندقاً وكان عليهم أن يستديروا إلى الخلف من جديد.

ووصلوا إلى نيزني جورودتش وإلى جانب الحانة حيث مازال الثلج متراكماً وقفت عربات كبيرة تحمل زجاجات ضخمة من حامض الكبريت وفي الحانة عدد كبير من الناس أغلبهم من سائقى العربات, ورائحة فودكا ودخان السجائر, وجلود الماشية, وأصوات عالية لمناقشات , والباب الخارجي يفتح ويغلق ومن خلال الحائط تسرب صوت لايتوقف لآلة موسيقية تعزف في المحل الملحق بالحانة.

وجلست ماريا فاسليفنا تشرب الشاي بينما جلس بعض الفلاحين إلى مائدة مجاورة يشربون البيرة والفودكا ونضج العرق على وجوههم من الدخان الذي عبقت به الحانة.

واختطلت الأصوات المتصايحة.

(اسمع ياكوزما), (ماذا), (ليحرسنا الله).

(أنا أؤكد ذلك يا إيفان ديمنيش) (احترس أيها الرجل العجوز) وبدأ رجل صغير الحجم بوجه مليء بالبقع وبذقن سوداء يسب, كان واضحاً أنه فقد وعيه نتيجة للسكر.

وقال سيمون في غضب وهو يجلس في جانب من الحانة يخاطب الرجل المخمور.

- أنت ! لماذا تسب؟ ألاترى السيدة الشابة؟

وفي جانب آخر قلد أحد الناس سيمون وقال في سخرية (السيدة الشابة !).

- قطيع من الخنازير.

وقال الرجل المخمور في ارتباك

- إننا لم نقصد شيئاً , أرجو أن تقبل اعتذاري, إننا ندفع ثمن ما نشرب بنقودنا وكذلك تفعل السيدة. صباح الخير!

وأجابت المدرسة.

- صباح الخير.

ونحن نشكرك بكل قلوبنا.

وشربت (ماريا فاسيليفنا) الشاي في رضاء, وبدأ وجهها يحمر هي الأخرى, كالفلاحين, وانصرفت إلى التفكير في خشب الوقود وفي الحارس.

ووصل إلى مسمعها الكلام التالي من المائدة المجاورة.

- إنها مدرسة في فيازوفنا, ونحن نعرفها, انها سيدة طيبة.

- لابأس بها.

- وكان الباب المتحرك يطرق باستمرار, عندما يخرج أحد أو يدخل وماريا فاسيليفنا تجلس حيث هي, تفكر دائماً في نفس الأشياء والآلة الموسيقية تعزف وبقع الشمس كانت على الأرض, ثم انتقلت من الأرض إلى الحائط, ثم اختفت نهائياً ووفقاً للشمس كان الوقت بعد الظهر, وكان الفلاحون على المائدة المجاورة يستعدون للقيام وتقدم الرجل المخمور بخطى ثابتة إلى ماريا وقدم إليها يده يصافحها وحذا حذوه الرجال الآخرون وخرجوا الواحد إثر الآخر وطرق الباب الخارجي ثمان طرقات.

- وناداها سيمون.

- استعدي يافاسيليفنا

ومن جديد وصلوا رحلتهم في خطوات متئدة.

وقال سيمون وهو يستدير في اتجاهها.

- منذ زمن كانوا يبنون هنا مدرسة, ثم حدث أمر مؤسف.

- ماذا حدث؟

- يقال إن رئيس المجلس وضع ألف جنيه في جيبه وأن المسؤول عن المدرسة أخذ الألف الأخرى بينما أخذ المدرس خمسمائة جنيه.

- إن المدرسة بأجمعها لاتتكلف سوى الف جنيه, ومن الخطأ أن نلطخ سيرة الناس: وهذا الكلام كله كلام فارغ.

- لا أعرف وإنما أردت أن أخبرك بما يقوله الناس.

ولكن من الواضح أن (سيمون) لايصدق ماتقوله المدرسة, وأن الفلاحين لايصدقونها, وأنهم كانوا دائماً يعتقدون أن مرتبها أكبر مما ينبغي وأنها تحتفظ بالجزء الأكبر من المال الذي تجمعه من الأطفال كثمن للوقود وأجر للحارس والمسئول عن المدرسة يعتقد نفس الشيء, بينما هو نفسه يربح من ثمن الوقود ويتلقى أجراً من الفلاحين لقاء اشرافه على المدرسة دون علم السلطات.

والآن أصبحت الغابة والحمدلله خلفهم, وبقية الطريق إلى فيازوفيا مسطحة وقد قاربت الرحلة على الانتهاء, وكان عليهم أن يعبروا النهر ثم شريط القطار ثم تظهر فيازفيا في الأفق.

وقالت (ماريا فاسيليفنا) (لسيمون)

- إلى اين تذهب؟ أسلك الطريق المجاور للجسر اليمين.

- ولم؟ إننا تستطيع أن نسلك هذا الطريق ايضاً, فالماء ليس عميقاً في النهر كما تتصورين.

- احترس وإلا أغرقت الحصان.

- ماذا؟

- ورأت ماريا فاسيليفنا العربة ذات الأربعة خيول وقالت:

- أنظر إنه هانوف يسوق في اتجاه الجسر, إنه هو على ما أظن.

- نعم هو هانوف, وهكذا لم يجد (باكفيست) في المنزل, كان عقل هذا الرجل أشبه بعقل الخنزير ليرحمنا الله! ولماذا يأخذ ذلك الطريق, لماذا! إن طريقنا أقصر من الطريق الذي يسلكه بحوالي ميلين.

ووصلت عربة (سيمون) إلى النهر, وفي الصيف يكون النهر اشبه بمجرى صغير يمكن عبوره على الأقدام, وهو يجف عادة في أغسطس, ولكنه بدأ الآن بعد فيضان الربيع عريضاً, سريعاً, موحلاً وبارداً, وعلى الشاطئين وعلى مقربة من الماء بدت آثار عجلات لعربات عبرت النهر حديثاً.

وصاح سيمون مخاطباً حصانه (هيا) في غضب وقلق, وشد اللجام في عنف وحرك كتفيه كما يحرك الطير جناحيه وصاح من جديد (هيا)!

وغاص الحصان في الماء حتى ارتفع إلى بطنه ثم توقف ولكنه ما لبث أن تقدم من جديد في صعوبة, وشعرت (ماريا فاسيليفنا) ببرودة في قدميها.

وقامت واقفة وصرخت في الحصان بدورها (هيا).

وطلعوا إلى الشاطئ.

وقال سيمون وهو يرخي اللجام.

ليرحمنا الله.

وكان حذاؤها وساقاها قد غرقا في الماء وكذلك الجزء الأسفل من ثوبها ومن معطفها, كما ابتل السكر والدقيق وكان هذا هو اسوأ مافي الأمر ولم تستطع ماريا أن تفعل شيئاً, ضمت يديها في يأس وقالت:

- أوه سيمون سيمون! كم أنت متعب متعب حقاً..

وكان الحاجز مقفلاً أمام الشريط, والقطار يخرج من المحطة ووقفت ماريا عند المعبر تنتظر حتى يمر القطار وهي ترتجف من البرد, وبدت فيازوفيا في الأفق والمدرسة بسقفها الأخضر, والكنيسة بصلبانها التي تلتمع في أشعة الشمس الغاربة. وتألقت نوافذ المحطة بدورها, وصعد دخان وردي من القاطرة.. وبدا لها كما لو كان كل شيء يرتجف من البرد.

وهذا هو القطار, النوافذ تعكس الضوء اللامع كالصلبان على الكنيسة, والضوء يؤلم عينيها كلما نظرت إلى النوافذ, وفي عربة من عربات الدرجة الأولى وقفت سيدة, وتطلعت إليها ماريا وهي تمر بها.

أمها! أي شبه كان لأمها هذا الشعر السخي الجميل, وهذا جبين ولفتة الرأس هذه وبوضوح عجيب ولأول مرة انبعثت في خيالها صورة حية لأمها, لأبيها, لأخيها, لشقتهم في موسكو, للسمك الملون في أحواضه, لكل شيء بأدق تفاصيله وسمعت صوت البيانو وصوت أبيها وشعرت كما لو كانت هناك, صغيرة جميلة, حسنة الملبس في حجرة مضيئة دافئة بين أهلها, وفجأة تملكها شعور من السعادة الدافقة وضغطت بكفيها على صدغيها في نشوة, ونادت بصوت ناعم, صوت متوسل..

- أمي.

وبدأت تبكي ولم تكن تعرف لم تبكي, وفي هذه اللحظة بالذات وصل هانوف بمركبته ذاب الخيول الأربعة, وعندما رأته تصورت سعادة دفاقة لم تكن تحلم بوجودها ابتسمت له وأحنت رأسها له كند, كصديق وبدا لها أن سعادتها تتوهج في السماء وعلى جوانب الأرض في النوافذ والاشجار, لم يمت أبوها ولم تمت ولم تكن في يوم من الأيام مدرسة , كان حلماً قريباً, حلماً طويلاً ثقيلاً, وهي الآن قد استيقظت

- (فاسيليفنا اركبي العربة).

وفي الحال تلاشى كل شيء, وارتفع الحاجز ببطء, ودخلت ماريا فاسيليفنا العربة وهي ترتجف من البرد, وعبرت العربة ذات الاربعة خيول خط القطار, وتبعها سيمون ورفع عامل الإشارة قيمته.

هاهي فيازوفيا ها نحن قد وصلنا.







كائن ضئيل

انطون تشيخوف

(أيها السيد المبجل, الأب والمحسن), كان موظف صغير يدعى تفيرازيموف يكتب مسودة خطاب للتهنئة في عيد الفصح, (آمل أن تقضي هذا اليوم المقدس, وأياماً كثيرة آتية, في صحة طيبة, ورخاء, ولأسرتك أيضاً..)

كان المصباح, الذي كان الكيروسين آخذاً في التناقض فيه, يبعث الدخان وتصدر عنه رائحة, وكان ثمة صرصور شارد يجري على المائدة, في فزعت اليد التي يكتب نفيرازيموف بها, وبعيداً عن المكتب بغرفتين, كان البواب بارامون ينظف للمرة الثالثة خير حذاء لديه, وبنشاط كان معه صوت فرشاة التلميع وصوت بصاقه مسموعين في كل الحجرات.

تساءل نفيرازيموف:

(ماعساني أكتب له ايضاً, ذلك الو غد؟ وهو يرفع عينيه إلى السقف المغطى بالسناج.

على السقف رأى دائرة مظلمة – هي خيال ظل المصباح – وتحتها كان الأفريز المترب, ومن تحته الحائط, الذي كان مصبوغاً- ذات يوم – بلون طيني ضارب إلى الزرقة ولاح له المكتب مكاناً موحشاً إلى الحد الذي شعر معه بالأسف لامن أجل نفسه فحسب, وإنما حتى من أجل الصرصور.

وفكر قائلاً وهو يتمطى: (عندما اترك العمل, سأمضي بعيداً ولكنه سيظل يعمل هنا, طوال حياته الصرصورية إني أشعر بالسأم! هل أنظف حذائي؟.

وإذ تمطى نفيرازيموف مرة أخرى, توجه متثاقلاً, بكسل, إلى غرفة البواب, كان بارامون قد انتهى من تنظيف حذائه وإذ كان يمد إحدى يديه, ويمسك بالفرشاة في اليد الأخرى, وقف عند زجاج النافذة المفتوحة يستمع.

وهمس لنفيرازيموف, ناظراً إليه بعينين منتبهتين ومفتوحتين على سعتهما: (لقد بدءوا يدقون الأجراس فعلاً).

فأدنى نفيرازيموف أذنه من زجاج النافذة المفتوحة, واستمع, سبحت دقات أجراس عيد الفصح في الغرفة, مع هبة من هواء الربيع المتجدد وامتزج رنين الأجراس بضوضاء العربات, وفوق عماء الاصوات ارتفعت النبرات السريعة, من طبقة التينور, صادرة عن اقرب كنيسة, وكذلك ضحكة عالية ثاقبة.

( أي عدد من الناس! تنهد نفيرازيموف, وهو ينظر إلى الشارع, حيث كانت ظلال الرجال تمر, والواحدة في إثر الأخرى, تحت مصابيح الإضاءة (إنهم جميعاً يسرعون إلى صلاة منتصف الليل.. لابد أن يكون زملاؤنا قد شربوا الآن تستطيع أن تكون على يقين من ذلك, وأنهم يتمشون في المدينة أي قدر من الضحك, وأي قدر من الحديث! إنني الوحيد السيء الحظ, إذ يتعين علي أن أجلس هنا, في مثل هذا اليوم, وأنه ليتعين علي أن أفعل ذلك كل سنة!).

حسنا, لا أحد يجبرك على القيام بهذه الوظيفة.. فلم يكن دورك يقضي بأن تعمل اليوم, بيد أن زاستوبوف قد استأجرك لتحل محله. وفي الوقت الذي يستمتع فيه الآخرون بوقتهم, تؤجر نفسك, إنما هو الجشع!).

(ياللشيطان! ليس هناك الكثير , حتى يشعر المرء بالجشع عليه, إنما هو إنهاء للصيام, وأن تشرب وتتناول بعض العشاء, ثم تذهب إلى النوم, إن المرء ليجلس إلى المائدة, وثمة كعكة لعيد الفصح, وبراد الشاي يفح, وثمة شيء صغير جذاب إلى جوارك.. إنك تشرب قدحاً, وتربت عليها تحت الذقن, والأمر كله من أعلى طراز.. تشعر بأنك شيء ما.. اتش! لقد خلطت بين الأشياء! انظر إلى تلك الفتاة اللعوب, وهي تسير في عربتها, بينما يتعين عليّ أن أجلس هنا,وأتفكر).

- لكل منا نصيبه في الحياة يا إيفان دانيليتش. بحق الله, سترقى, وتركب. عربة, في يوم من الأيام.

- أنا؟ كلا يا أخي ليس هذا محتملاً لن أصل إلى أكثر من لقب, حتى ولو حاولت, حتى انفجر. فلست بالرجل المتعلم.

إن رئيسنا ليس بالمتعلم أيضاً, ولكنه..

حسناً ولكن الرئيس سرق مائة الف, قبل أن يحصل على منصبه وإن له من الاخلاق والسلوك مايختلف عن أخلاقي وسلوكي تمام الاختلاف, أيها الأخ فحين تكون للمرء أخلاقي وسلوكي, لايستطيع أن يحقق الكثير! ثم ياله من لقب وغد أحمله: نفيرازيموف! إنه وضع ميئوس منه في الحقيقة. على المرء أن يستمر على هذا الوضع, أو يشنق نفسه.. تحرك مبتعداً عن النافذة وسار متعباً في أرجاء الحجرات وأخذ رنين الأجراس يتعالى على نحو مطرد ولم يكن هناك ما يدعو إلى الوقوف قرب النافذة كي تسمعه وكلما ازداد تمكنا من سماع الأجراس, وازداد ضجيج العربات, لاحت له الجدرات الطينية والإفريز الملطخ بالسناج, أشد قتامة, وازدادت كيمة الدخان المنبعث من المصباح.

(إن كل ما يعطيه لي لايجاوز روبلين, ورباط عنق, كمنحة إضافة.. إنما هو الفقر, لا الجشع, وإنه ليكون من اللطيف الآن كما تعلم, أن تمضى مع شلة إلى الصلاة.. هل أترك هذا الأمر, وأغادر المكتب؟ (كذلك فكر نفيرازيموف).

غير أن مثل هذا الفرار لم يكن وعدا بشيء جدير بأن يحصل عليه فإن نفيرازيموف, بعد أن يخرج من مكتبه ويجول في أنحاء المدينة, كان خليقاً بأن يعود إلى مسكنه, وفي مسكنه كان الجو أشد قتامة, وابعث على الحزن, مما هو الشأن في المكتب. وحتى لو فرضنا أنه تمكن من أن يقضي ذلك اليوم على نحو مبهج, وبراحة, فما الذي ينتظره بعد ذلك؟ لا شيء سوى الحيطان الرمادية نفسها, ونفس العمل الذي هو مضطر إليه اضطراراً, وخطابات التحية.

وقف نفيرازيموف ساكناً في منتصف المكتب, وغاص في التفكير كان التوق إلى حياة جديدة أفضل يقرض قلبه, بوجع لايحتمل. وكان يشعر بشوق حار إلى أن يجد نفسه فجأة في الشارع, ويمتزج بالجميع الحي, ويشترك في الاحتفال الجاد, الذي كانت هذه الأجراس كلها تقرع من أجله, وهذه العربات تصدر أصواتها, تاق إلى ما عرفه في طفولته – دائرة الأسرة, ووجوه أهله المحتفلة, والقماش الأبيض, والنور, والدفء.. وفكر في العربة التي كانت السيدة, لتوها, تركبها, والمعطف الذي كان كبير الكتبة بالغ الأناقة فيه, والسلسلة الذهبية التي تزين صدر السكرتير.. واتجه تفكيره إلى فراش دافئ, من طراز ستانيسلاف, وفي حذاء جديد, وزي بلا ثقوب عند المرفقين.. فكر في هذه الاشياء كلها لأنه لم يكن يملك شيئاً منها.

وفكر قائلاً : ( هل أسرق؟ إنه حتى لو كانت السرقة أمراً سهلاً, فان الاختفاء هو الشيء الصعب, إن البشر يفرون إلى امريكا – فيما يقولون – ربما سرقوه, غير أن الشيطان يعلم أين عسى تلك الأمريكا المباركة أن تكون, لابد للمؤمن أن يكون متعلماً, حتى ليسرق , فيما يبدو).

وخفت صوت الأجراس ولم يسمع سوى ضوضاء العربات البعيدة مثله بارامون بينما ازداد حبوطه وغضبه حدة, واضحيا لايحتملان. ودفت ساعة المكتب الثانية عشرة والنصف.. هل اكتب تقريراً سرياً عنها؟ لقد فعل بروشكين ذلك , وارتقى بسرعة.

جلس نفيرازيموف إلى مكتبه وتفكر كان المصباح الذي نضب فيه الكيروسين يدخن بعنف, ويهدد بالانطفاء وكان الصرصور الشارد مازال يجرى على المائدة, دون أن يجد مكاناً يستريح فيه.. (يستطيع المرء دائماً أن يرسل تقريراً سرياً, ولكن كيف يكتبه؟ أريد أن أضمنه كل أنواع التلميحات والإيعازات, كما فعل بروشكين, ولكني لا أستطيع أن أفعل ذلك.. ولو أني فعلت أي شيء, لكنت أول من يقع في مشكلة بسببه.. إنه حمار اللعنة علي!).

وإذا راح نفيرازيموف يقدح زناد باحثاً عن سبيل للهرب من وضعه الميئوس منه, حدث إلى المسودة التي كتبها, كان الخطاب مكتوباً إلى رجل يخافه ويكرهه بجماع قلبه, وكان يحاول – طوال السنوات العشر الماضية – أن يعتصر منه وظيفة مرتبها ثمانية عشر روبلا في الشهر, بدلاً من وظيفته التي يتقاضى عنها ستة عشر روبلاً.

(سأعلمك كيف تجري هنا, أيها الشيطان) وضرب الصرصور بحركة شريرة بباطن كفه, إذا شاء سوء حظه أن تقع عليه عيناه (أيها القذر!).. فسقط الصرصور على ظهره ولوى قدميه في قنوط فأخذه نفيرازيموف من إحدى رجليه, ورمى به في المصباح, فتوهج المصباح وأحدث صوتاً.

وشعر نفيرازيموف بأنه أحسن حالاً.







العملاق الأناني

أوسكار وايلد

في كل أصيل وإذ كان الأطفال يعودون من مدرستهم ,اعتادوا أن يذهبوا ويلعبوا في حديقة العملاق , كانت حديقة كبيرة جميلة ذات عشب أخضر رقيق , وهاهنا وهناك فوق العشب كانت توجد أزهار جميلة كالنجوم وكانت توجد اثنتا عشرة شجرة خوخ تتفتح في الربيع عن أزهار رقيقة وردية اللون ولؤلؤية , وفي الخريف كانت تنتهج فاكهة غنية ,كانت الطيور تجلس على الأشجار وتصدح بصوت بالغ العذوبة , إلى الحد الذي أعتاد الأطفال معه أن يتوقفوا عن ألعابهم لكي يستمعوا إليها , وكانوا يتصايحون ويقول بعضهم لبعض (ما أسعدنا هنا!).

وذات يوم عاد العملاق كان يزور صديقه الغول الكورني وكان قد بقي في زيارته سبع سنوات , وبعد أن انتهت هذه السنوات السبع كان قد قال كل ما كان يريد أن يقوله لأن حديثه كان محدوداً ,وقرر أن يعود إلى قلعته وحين وصل إليها رأى الأطفال يلعبون في الحديقة.

فصاح بصوت بالغ الخشونة،: ماذا تصنعون هنا ؟ فتراك الأطفال بعيداً قال العملاق إن حديقتي ملك لي يستطيع أي أمرىء أن يفهم ذلك، فلن أسمح لأحد بأن يلعب فيها عداي، وهكذا بنى حائطاً عالياً حولها وعلق عليها لافته.

المعتدون سيقعون تحت طائلة العقاب.

لقد كان عملاقاً بالغ الانانية، والآن لم يعد للأطفال المساكين مكان يلعبون فيه لقد حاولوا أن يلعبوا على الطريق ولكن الطريق كان مترباً جداً ومليئاً بالاحجار الصلبة فلم يعجبهم واعتادوا أن يهيموا على وجوههم حول الحائط المرتفع عندما تنتهي دروسهم وان يتحدثوا عن الحديقة الجميلة التي في الداخل وان بعضهم يقول للبعض الآخر: كم كنا سعداء هناك !.

ثم أقبل الربيع، في كل أرجاء الإقليم كان ثمة أزهار صغيرة، وأطيار صغيرة، ولكن الشتاء ظل باقياً في حديقة العملاق الأناني وحدها، ولم تأبه الطيور بأن تصدح فيها بالغناء حيث إنه لم يكن هناك أطفال.

ونسيت الاشجار أن تزدهر وذات مرة اطلت زهرة جميلة برأسها من بين العشب غير انها عندما أبصرت اشتد حزنها على الأطفال إلى الحد الذي انزلقت معه عائدة إلى الأرض مرة أخرى وأخلدت إلى النوم.

أما الأشخاص الوحيدون الذين سروا فقد كانوا الثلج والصقيع كانا يتصايحان: لقد نسي الربيع هذه الحديقة وعلى ذلك سنعيش هنا على مدار السنة.

كسي الجليد العشب بمعطفه الأبيض الكبير ولو ن الصقيع جميع الأشجار باللون الفضي، ثم دعياً ريح الشمال إلى أن تبقى معهما فجاءت كانت ريح الشمال متسربلة بالفراء، وكانت تزمجر طوال اليوم حول الحديقة وتحطم أوعية المداخن وكانت تقول هذه بقعة تبعث على البهجة ولابد من أن تطلب إلى البرد أن يزورنا) وهكذا جاء البرد وفي كل يوم وطوال الثلاث ساعات كان يقعقع على سقف القلعة إلى ان حطم أغلب ألواحها الأردوازية ثم ركض حول الحديقة بأسرع ما يمكن كان يلبس ثوباً رمادياً وكانت أنفاسه كالثلج.

كان العملاق الاناني يقول : لست أستطيع أن أفهم السبب في أن الربيع يأتي متأخراً على هذا النحو وهو يجلس إلى النافذة وينظر إلى حديقته البيضاء الباردة آمل أن يحدث في الطقس.

بيد ان الربيع لم يأت قط ولا الصيف، وسرعان ما منح الخريف فاكهة ذهبية لكل حديقة، ولكنه لم يمنح شيئاً لحديقة، العملاق، وكان الخريف يقول إنه بالغ الانانية، وعلى ذلك فقد ظل الشتاء مخيماً هناك على الدوام، وما لبثت رياح الشمال والبرد والصقيع والثلج أن رقصت عبر الاشجار.

وذات صباح كان العملاق يرقد مستقيظاً في فراشه حينما سمع موسيقى جميلة ولاحت لأذنيه بالغة العذوبة إلى الحد الذي ظن معه أنها لابد أن تكون صادرة عن موسيقى الملك وهم يمرون والواقع أنه لم يكن سوى عصفور صغير يصدح بالغناء خارج نافذته، غير أنه كان قد مضى زمن بالغ الطول منذ سمع طائراً يصدح بالغناء في حديقته إلى الحد الذي لاح له صوته معه أجمل موسيقى في العالم، وعند ذلك توقف البرد عن الرقص فوق رأسه وتوقفت ريح الشمال عن الزئير وسرى إليه عطر جميل من خلال النافذة المفتوحة، قال العملاق: اعتقد أن الربيع قد اقبل في نهاية المطاف وقفز خارجاً عن فراشه إلى الخارج فما الذي رآه ؟

رأى منظراً مدهشاً غاية الادهاش فمن خلال ثقب صغير في الجدار، كان الأطفال قد تسللوا وكانوا يجلسون بين أغصان الأشجار، وفي كل شجرة يمكنه أن يراها كان ثمة طفل صغير كانت الأشجار بالغة البهجة بأن تجد الأطفال مرة أخرى إلى الحد الذي غطت معه نفسها بالأزهار وكانت تلوح بأذرعها في رفق من فوق رؤوس الأطفال.

وكانت الطيور تطير حول المكان وتزقزق في بهجة والأزهار تطل من خلال العشب الأخضر وتضحك لقد كان منظراً جميلاً غاية الأمر أن الشتاء كان مازال مخيماً في أحد الأركان، لقد كان ذلك هو أبعد ركن من الحديقة وفيه كان يقف صبي صغير كان من الضآلة إلى الحد الذي يمكنه معه أن يصل إلى اغصان الشجرة وان يتجول حولها وهو يبكي في مرارة، وكانت الشجرة المسكينة ما تزال مغطاة بالصقيع والجليد، ورياح الشمال تهب وتزمجر من فوقها، قالت الشجرة، تسلق أيها الولد الصغير وحنت أغصانها إلى أدنى ما تستطيعه ولكن الولد كان أضأل من أن يبلغها.

وذاب قلب العملاق إذ نظر حوله وقال كم كنت أنانياً، الآن أعرف لماذا لم يكن الربيع يأتي إلى هنا سأضع ذلك الولد المسكين على قمة الشجرة ثم أحطم الجدار، وستكون حديقتي ملعباً للأطفال إلى الابد) لقد كان شديد الأسف حقيقة على ما فعله.

وهكذا زحف هابطاً وفتح الباب الأمامي برقة بالغة وخرج إلى الحديقة بيد أنه عندما أبصره الأطفال اشتد بهم الخوف إلى الحد الذي تراكضوا معه بعيداً وعاد الشتاء إلى الحديقة مرة أخرى، أما الولد الصغير فهو وحده الذي لم يرتعد لأن عينيه كانتا زاخرتين بالدموع إلى الحد الذي لم ير معه العملاق آتياً.

فتسلل العملاق من ورائه وأخذه برفق في يده ووضعه فوق الشجرة، وفي الحال تفتحت الشجرة عن الأزهار واقبلت الطيور تصدح بالغناء من فوقها ومد الولد الصغير ذراعيه وألقى بهما حول عنق العملاق وقبله.

وعندئذ ما أبصر بقية الأطفال أن العملاق لم يعد شريراً عادوا يتراكضون ومعهم جاء الربيع قال العملاق لقد أصبحت الحديقة لكم الآن أيها الأطفال الصغار , وتناول بلطة كبيرة وكسر الحائط , وعندما كان الناس ذاهبين إلى السوق في الساعة الثانية عشرة وجدوا العملاق يلعب مع الأطفال في أجمل حديقة رأوها طوال حياتهم.

وطوال اليوم ظلوا يلعبون حتى إذا جاء المساء اقبلوا على العملاق مزجين إليه تحية الوداع.

فقال : ولكن أين رفيقكم الصغير , إنه الصبي الذي وضعته فوق الشجرة , لقد كان العملاق يحبه أكثر من غيره لأنه قبله فأجابه الأطفال : لسنا نعلم ,فقد مضى بعيداً.

فقال العملاق: لابد لكم من أن تقولوا له أن يكون على يقين من أمر هو أن يأتى غداً , ولكن الأطفال قالوا إنهم لم يكونوا يعرفون أين يعيش وإنهم لم يروه من قبل , فشعر العملاق بأنه حزين غاية الحزن , وفي كل أصيل صيف كانت المدرسة تغلق أبوابها , وكان الأطفال يأتون ويلعبون مع العملاق ولكن الولد الصغير الذي كان العملاق يحبه لم ير قد بعد ذلك.

كان العملاق بالغ الرفق بجميع الأطفال ومع ذلك كان يتوق إلى صديقه الصغير الأول وكثيراً ما كان يتحدث عنه وكان من عادته أن يقول :(كم أود أن أراه!).

مضت السنين وتقدم العملاق في السن وضعف ,لم يعد بمقدوره أن يلعب أكثر من ذلك وهكذا جلس في مقعد كبير ذي مساند وكان يرقب الأطفال وهم يمارسون ألعابهم ويعجب بحديقته , كان يقول: إن لدي كثيراً من الأزهار الجميلة ,بيد أن الأطفال هم أجمل الزهور جميعاً.

وذات صباح في الشتاء أطل من نافذته إذ كان يرتدي ملابسه , لم يكن يكره الشتاء الآن , لأنه كان يعلم كأنه لايعدو أن يكون الربيع نائماً , وأن الأزهار تستريح.

وعلى حين غرة حك عينيه في دهشة ونظر ثم نظر : من المحقق أن ما رآه كان منظراً مدهشاً , ففي أبعد ركن من الحديقة كان ثمة شجرة مكسوة تماماً بأزهار بيضاء جميلة وكانت أغصانها ذهبية , والفاكهة الفضية تتدلى منها , ومن تحتها وقف الولد الصغير الذي أحبه.

ركض العملاق هابطاً في فرحة كبرى ومتجهاً إلى الحديقة وأسرع عبر العشب ثم اقترب من الطفل , وحين اقترب منه أحمر وجهه غضباً وقال: ترى من عساه يكون ذاك الذي جرؤ على أن يجرحك؟! ذلك أنه فوق راحتي يدى الطفل كان ثمة آثار لمسمارين ,وكانت آثار مسمارين على القدم الصغيرة.

فصاح العملاق: (ترى من عساه يكون ذاك الذي جرؤ على أن يجرحك؟ خبرني حتى استل سيفي الكبير وأذبحه) فأجابه الطفل: (كلا. إنما هذه جراح الحب).

فقال العملاق: (من عساك تكون؟) وحل به رعب غريب فانحني أمام الطفل الصغير.

وهنا ابتسم الطفل للعملاق وقال له:( لقد تركتني ألعب ذات مرة في حديقتك. واليوم ستأتي معي إلى حديقتي وهي الفردوس).

وعندما ركض الأطفال في ذلك الأصيل عثروا على العملاق يرقد ميتاً تحت الشجرة وقد غطته الأزهار البيضاء من قمة رأسه إلى أخمص قدميه..







النافذة المفتوحة

هـ.هـ مونرو (ساكي)

(ستعود عمتي فوراً, يامستر نتل) قالتها شابة بالغة التمالك لنفسها في الخامسة عشرة, (وفي عين الوقت, ينبغي عليك أن تحاول وتتحملني).

وحال فرامتون نتل أن يقول الشيء الصحيح الذي يطيب, في الوقت المناسب, من كبرياء ابنة الأخ, لحظتها, دون أن يخرج من حسبانه – بلا موجب – العمة التي كانت مقبلة. وفي قرارة نفسه كان يشك, أكثر منه في أي وقت مضى, فيما إذا كانت هذه الزيارات الرسمية لمجموعة متتالية من الاغراب تماما, خليقة بأن تقوم بالكثير لمساعدة العلاج العصبي, الذي كان يفترض فيه أن يمر به.

(أعلم كيف سيكون الأمر) قالتها أخته, عندما كان يستعد للهجة إلى هذا الملجأ الريفي, (ستدفن نفسك هناك, ولاتتحدث إلى حي, وستسوء أعصابك عما كانت عليه في أي من الأيام. سأعطيك رسائل تقديم إلى كل من أعرفهم هناك. وقد كان بعضهم, على قدر ما يمكنني أن أتذكر , لطفاء تماماً).

وتساءلت ابنة الأخ, عندما حكمت بأنه قد حدث بينهم مافيه الكفاية من الاتصال الصامت:(أتعرف كثيراً من الناس هنا؟) فقال فرامتون: (لا أكاد أعرف أحداً لقد كانت أختى مقيمة هنا, في الابرشية, كما تعلمين, منذ حوالي أربع سنوات خلت, وقد أعطتني خطابات تقديم لبعض الناس هنا).

قال هذه الجملة الأخيرة بنبرة أسف واضح. فاستأنفت الشابة الرابطة الجأش كلامها قائلة:: (وعلى هذا فأنت, من الناحية الفعلية, لا تعرف شيئاً عن عمتي).

فاعترف الزائر بقوله: (لست أعرف إلا اسمها وعنوانها) – وكان يتساءل عما إذا كانت مسز سايلتون متزوجة أو أرملة. كان ثمة شيء, لا سبيل لتعريفه, في الغرفة, يوحى بمسكن رجل.

قالت الطفلة: (لقد حدثت مأساتها الكبرى منذ ثلاث سنوات أي منذ وقت أختك).

فتساءل فرامتون: (مأساتها؟) ذلك أن المآسي كانت تلوح في غير موضعها في هذه البقعة الريفية التي تعمها الراحة.

قالت ابنة الأخ وهي تشير إلى نافذة فرنسية واسعة كانت تتفتح على مرح (قد تتساءل عن السبب في أننا نترك تلك النافذة مفتوحة, على مصراعيها, في أصيل أكتوبر).

فقال فرامتون: “إن الجو دافئ في هذا الوقت من السنة ولكن هل لتلك النافذة أي صلة بالمأساة؟”.

“خارج تلك النافذة، ومنذ ثلاث سنوات إلا يوماً، خرج زوجها وأخواها الشابان لممارسة صيدهم اليومي، ولكنهم لم يعودوا قط، فعند عبورهم البطاح، إلى أرض صيدهم وقنصهم الأثيرة، حوصروا هم الثلاثة في قطعة خداعة من المستنقعات.. حدث هذا في ذلك الصيف المبلول المخيف، كما تعلم وما لبثت الأماكن التي كانت آمنة، في غير ذلك من السنوات، أن انهارت فجأة، ودون تحذير، لم تستعد أجسادهم قط، وإن ذلك هو الجزء المروع من الموضوع”، وهنا فقد صوت الطفلة نغمته المتمالكة نفسها، وغدا إنسانياً مهتزاً.

“إن العمة المسكينة تظن دائماً أنهم سيعودون يوماً ما، هم والكلب البني الصغير، الذي ضاع معهم، ويسيرون إلى تلك النافذة، كما اعتادوا أن يفعلوا، وهذا هو السبب في أن النافذة تترك مفتوحة، كل مساء، إلى أن يخيم الغروب تماماً، يا للعمة العزيزة المسكينة، إنها كثيراً ما وصفت لي كيف خرجوا، زوجها بمعطفه الأبيض، ضد الماء، على ذرعه، وروني أخوها الصغير يغني “برقي، لماذا تقفزين؟”، على نحو ما كان يقول دائماً ليغيظها، لأنها كانت تقول إن هذا الأمر يضغط على أعصابها، أتعرف أنني أحياناً، في الأماسي الساكنة الهادئة كهذه الأمسية، أكاد أشعر شعوراً مروعاً بأنهم سيدخلون جميعاً من تلك النافذة؟”.

وانفلتت منصرفة، برجفة صغيرة وكان مما بعث الراحة في نفس فرامتون أن دخلت العمة إلى الحجرة بدوامة من الاعتذارات عن تأخرها في الظهور.

وقالت: “أرجو أن تكون فيرا قد سلتك”.

فقال فرامتون: “لقد كانت شائقة جداً.

فقالت مسز سابلتون بخفة: “آمل ألا تكون النافذة المفتوحة تضايقك.

سيعود زوجي وأخواي مباشرة، من الصيد، وهم يأتون دائماً على هذا النحو، لقد خرجوا للقنص في المستنقعات اليوم، ولهذا فسيعيثون في أبسطتي فساداً، هذا طبعكم أيها الرجال، أليس كذلك؟”.

وتحدثت بابتهاج عن الصيد، والبط المنتظر في الشتاء، ولم يكن هذا كله، في نظر فرامتون، إلا أمراً مروعاً، وقام بمجهود مستميت، وإن لم ينجح فيه إلا جزئياً، ليحول دفة الحديث إلى موضوع أقل ترويعاً، كان يدرك أن مضيفته لم تكن تعطيه إلا جزءاً من انتباهها، وأن عينيها كانتا تمران به، على نحو مستمر، متجهين إلى النافذة المفتوحة، والمرح الواقع خلفها، وكان من سوء الحظ، يقيناً أن يتفق ميعاد زيارته مع هذه الذكرى السنوية المأسوية.

“إن الأطباء متفقون في حثي على الراحة التامة، وعدم التعرض للانفعال الذهني، وتجنب أي شيء له طبيعة التدريب البدني العنيف.

قالها فرامتون، الذي كان يناضل تحت ظل الوهم الواسع الانتشار، على نحو محتمل، والذاهب إلى أن الأغراب تماماً ومعارف المصادفة متعطشون إلى أبسط التفصيلات عن أوجاع المرء، ونواحي ضعفه، وسببها وعلاجها، واستمر قائلاً: “أما في مسألة الأكل، فإنهم ليسوا على مثل هذه الدرجة من الاتفاق”.

“لا” قالتها مسز سابلتون بصوت لم يعد أن حل محل تثاؤبه في اللحظة الأخيرة، وفجأة، عاد إليها الانتباه اليقظ، ولكن دون أن تكون منتبهة لما كان فرامتون يقوله.

وصاحت: “ها هم أولاء، قد وصلوا أخيراً وصلوا في ميعاد الشاي بالضبط، أولاً يلوحون كما لو كان الطين يغطيهم حتى العينين!”.

ارتعش فرامتون ارتعاشاً يسيرا، وتحول إلى ابنة الأخ بنظرة يراد بها أن تنقل الفهم المتعاطف، وكانت الطفلة تحدق بناظريها من النافذة المفتوحة، وثمة رعب دائخ في عينيها، وفي صدمة باردة من الخوف الذي لا يسمى، دار فرامتون في مقعده، ونظر في نفس الاتجاه، في الشفق الآخذ في الإظلام، كانت ثلاثة أشباح تسير عبر المرج، نحو النافذة، وكانوا جميعاً يحملون بنادق تحت أذرعهم، بينما كان أحدهم ـ بالإضافة إلى ذلك ـ مثقلاً بمعطف أبيض، يتدلى على كتفه، ولبث كلب أسمر متعب قرب كعوبهم ودون ضجة اقتربوا من البيت وعند ذلك تغنى صوت شاب خشن، في قلب الغروب، “قلت لك يا برقي لماذا تثبين؟”.

فخطف فرامتون عصاه وقبعته، كان باب الصالة، والممشى المغطى بالحصاء، والبوابة الأمامية أشياء لمحها، دون وضوح، في تراجعه المندفع، واضطر راكب عجلة، سائر في الطريق، إلى أن يدخل في السور، ليتجنب الاصطدام الوشيك.

“ها نحن أولاء ياعزيزتي”. قالها حامل المعطف الماكينتوش الأبيض، مقبلاً من عبر النافذة، “إن الطين يغطينا، ولكن أغلبه جاف، من ذا الذي اندفع خارجاً حين أتينا؟”، فقالت مسز سابلتون:

إنه رجل بلغ الغاية في غرابة الأطوار، لم يكن يتحدث إلا عن أمراضه، وقد اندفع خارجاً، دون كلمة وداع أو اعتذار، حيث وصلتم، لقد كان المرء خليقاً بأن يظن أنه رأى شبحاً.

فقالت ابنة الأخ بهدوء: “أظن أن السبب هو الكلب، فقد أخبرني بأن الكلاب توقع الرعب في نفسه، لقد طورد مرة في مقبرة، في مكان ما على ضفاف نهر الكنج، بواسطة مجموعة من الكلاب المنبوذين، وكان عليه أن يقضي الليلة في قبر محفور حديثاً، بينما تلك المخلوقات تنبح وتزمجر وتتصاعد من أفواهها الرغوة من فوقه، إن هذا كاف لأن يجعل أي إنسان يفقد أعصابه.

كانت متخصصة في راوية القصص الخيالية من وحي اللحظة.







الحرب

لويجى بيراندللو

كان على المسافرين من روما بقطار الليل السريع أن يتوقفوا حتى الفجر في محطة نابيانو الصغيرة ليستأنفوا رحلتهم في قطار محلي يربط الخط الرئيسي “بسلمونا”.

وبدت إحدى عربات الدرجة الثانية مزدحمة ومليئة بالدخان بعد أن قضى فيها خمسة أشخاص ليلتهم، وفي الفجر اندفعت إلى هذه العربة امرأة ضخمة في ثياب سوداء ـ كحزمة لا شكل لها ـ وخلفها زوجها يزفر ويئن، رجل ضئيل الجسم نحيل معتل، وجهه شاحب شحوب الموت، وعيناه صغيرتان لامعتان، وفي حركاته خجل وارتباك.

وبعد أن جلس في مقعده شكر المسافرين في أدب على مساعدتهم لزوجته، وإفساحهم مكاناً لها، ثم استدار إلى المرأة وحاول أن يصلح من ياقة معطفها وهو يسألها في رقة.

ـ كيف أنت الآن يا عزيزتي؟

وبدلاً من أن تجيب الزوجة جذبت ياقة معطفها ثانية حتى حمرت عينيها لكي تخفي وجهها.

وتمتم الزوج في ابتسامه حزينة “عالم قذر”.

وشعر أن من واجبه أن يشرح لمرافقيه في السفر أن زوجته تستحق الشفقة لأن الحرب ستأخذ منها ابنها الوحيد وهو صبي في العشرين من عمره، كرس له كل منهما حياته بأكملها، حتى أنهما تركا بيتهما في سلمونا وتبعاه إلى روما حيث يذهب يطلب العلم، ثم سمحا له بالتطوع في الحرب ظناً منهما أن السلطات لن ترسل به إلى الجبهة قبل ست شهور على الأقل، والآن تلقيا منه فجأة برقية ينبئهما فيها أنه سيرحل في خلال أيام، ويطلب منهما الحضور لتوديعه.

وجلست المرأة تنتفض وتلتوي وتهمهم ما بين الحين والحين كالحيوان الجريح، كانت على ثقة من أن هذا التفسير من جانب زوجها لن يثير عطفاً في نفوس هؤلاء الناس الذين لا بد وأنهم يمرون بنفس المحنة التي تمر بها، وقال واحد منهم كان يصغي باهتمام واضح.

ـ اشكرى الله لأن ابنك سيرحل اليوم، إن ابني سافر إلى الجبهة في أول يوم من أيام الحرب وقد عاد مرتين مجروحاً ثم أعيد من جديد إلى الجبهة.

وقال مسافر آخر.

ـ وماذا عني أنا؟! إن لي ولدين في الجبهة، وأبناء أخي الثلاثة.

وتجرأ الزوج وقال:

ـ قد يكون هذا صحيحاً ولكن في حالتنا إنه ابننا الوحيد.

ـ وما الفرق! إنك تستطيع أن تفسد ابنك الوحيد، بإغرائه بالاهتمام، ولكنك لا تستطيع أن تحبه أكثر من أبنائك الآخرين.

إذا كان لك أبناء آخرون، إن الحب الأبوي ليس رغيفاً يقسم إلى قطع توزع بالتساوي بين الأبناء، إن الأب يعطي كل حبه لكل واحد من أبنائه من غير تمييز، سواء أكانوا واحداً أم عشرة، وإن كنت لليوم أقاسي من أجل اثنين من أبنائي، فلا يعني هذا أني أقاسي النصف من أجل واحد منهم بل أنا في الواقع أقاسي الضعف.

وتنهد الزوج في ارتباك.

ـ هذا صحيح.. ولكن أفرض ـ لا أراك الله مكروهاًـ أن لوالد ابنين في الجبهة، وفق واحداً منهما، ولكن بقي الثاني ليعزيه.. بينما...

وأجاب المسافر في غضب

ـ نعم ابن يعزيه، ابن يجب أن يعيش من أجله، بينما يستطيع الأب الذي يموت ابن الوحيد أن يموت وراءه ويخلص من عذابه، أي الموقفين أسوأ؟ ألا ترى أن حالتي أسوأ من حالتك؟

وقطع الحديث مسافر آخر، رجل بدين أحمر الوجه، بعينين رماديتين محمرتين قائلاً.

ـ كلام فارغ!

كان يلهث وفي عينيه البارزتين تبدو قوة كامنة لحيوية لا يمكن السيطرة عليها قوة يكاد جسمه الضعيف يقصر عن احتوائها.

ـ كلام فارغ!

كرر الرجل هذه الكلمات وهو يغطي فمه بيده ليخفي سنتين مفقودتين في مقدمة فمه.

ـ كلام فارغ! وهل نعطي أولادنا الحياة لمصلحتنا الخاصة!

وفي حزن تطلع إليه بقية المسافرين، وتنهد الرجل الذي ذهب ابنه إلى الجبهة في أول يوم من أيام الحرب وقال.

ـ أنت على حق، أولادنا ليسوا ملكاً لنا، أولادنا ملك الوطن..

فأجاب الرجل البدين في سخرية.

ـ ها! وهل نفكر في الوطن عندما نهب أولادنا الحياة! إن أولادنا يولدون لأنهم.. لأنهم يجب أن يولدوا.. وعندما يخرجون إلى الحياة يأخذون معهم حياتنا نحن وهذه هي الحقيقة، نحن ملك لهم وهو ليسوا ملكاً لنا، عندما يبلغ الواحد منهم العشرين من عمره يصبح مثل ما كنا عليه في سنه، كان لكل منا أب وكانت له أم، ولكن إلى جانب الأب والأم كانت هناك أشياء كثيرة تملأ حياتنا، البنات والسجائر والأفكار الخيالية ربطات العنق الجديدة..

والوطن طبعاً.. الوطن الذي كنا سنجيب نداءه في سن العشرين حتى لو اعترض الأب واعترضت الأم، والآن، ونحن في هذه السن الكبيرة، حبنا لوطننا كبير، ولكن أكبر منه حبنا لأولادنا من منا لا يتمنى أن يأخذ مكان ابنه في الجبهة لو استطاع؟

وساد السكون وأحنى كل المجودين رأسه دلالة على الموافقة، واستمر الرجل البدين في كلامه؟

ـ فلم لا نقدر عواطف أبنائنا وهم في سن العشرين؟ أليس من الطبيعي أن يكون حبهم للوطن في هذه السن أعظم من حبهم لنا؟

وأنا بالطبع أتكلم عن الأولاد المهذبين، أليس من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك، وهم ينظرون إلينا نظرتهم إلى شيوخ ليس بوسعهم أن يتحركوا من مكانهم، ولا يملكون إلا أن يلزموا بيوتهم وإذا كان الوطن موجوداً، إذا كان ضرورة طبيعية، كالعيش لا بد لنا أن نأكل منه لكي لا نموت من الجوع، فلا بد إذاً من أن يذهب الناس للدفاع عنه، وأولادنا يذهبون وهم في العشرين إنهم إن ماتوا يموتون في انفعال وسعادة ـ أنا أتكلم طبعاً عن الأولاد المهذبين.

ودعنا الآن نزن الأمر، إذا مات الإنسان شاباً سعيداً، دون أن يعاني النواحي القبيحة في الحياة، ملل الحياة وتفاهتها، والمرارة الناتجة عن خيبة الأمل، فما الذي تريده خيراً من ذلك؟ يجب على كل منا أن يجفف دموعه، يجب على كل منا أن يضحك كما أفعل أنا، أو على الأقل أن يشكر الله ـ كما أفعل أنا ـ لأن ابني قبل أن يموت أرسل إلي يقول إنه راض سعيد لأن حياته ستنتهي خير نهاية كان يتمناها لنفسه، ولهذا لا ألبس ملابس الحداد كما ترون.

وهز معطفه الفا تح وكأنه يريهم لونه، وكانت شفته العليا ترتعش فوق أسنانه المفقودة، وعلى عينيه الجامدتين غشاء من دموع، ثم أنهى كلامه بضحكات رفيعة أشبه بالعويل.

ووافق الجميع على كلامه.

وكانت المرأة التي تكومت في ركن من الديوان، مختفية في طيات معطفها تجلس وتنصت، كانت هذه المرأة قد حاولت خلال الشهور الثلاثة السابقة أن تجد في كلام زوجها وأصدقائها شيئاً يسري عنها حزنها العميق، شيئاً يريها كيف يستطيع أم أن تسلم بإرسال ابنها، لا إلى الموت بل حتى إلى خطر محتمل، لكنها لم تجد بين الكلمات الكثيرة التي قيلت كلمة واحدة تعزيها، وتضاعف حزنها حيث حسبت إن إنساناً ما لا يشاركها مشاعرها.

ولكن الآن...الآن نفذت كلمات المسافر إلى قلبها وأدهشتها وأدركت فجأة أن الآخرين لم يكونوا مخطئين ولم يعجزوا عن فهمها بل هي التي كانت مخطئة.هي التي لم تستطع أن تسموا إلى مستوى الآباء والأمهات الذين استطاعوا أن يسلموا دون أن يبكوا، يسلموا لا برحيل أبنائهم فحسب بل بموتهم.ورفعت رأسها، ومالت إلى الأمام، تحاول أن تنصت باهتمام كبير إلى التفاصيل التي يرويها الرجل البدين عن ابنه، كيف مات، وكيف سقط كبطل من أجل ملكه ووطنه، سعيداً وبلا ندم.وخيل إليها أنها قد دخلت فجأة عالماً لا عهد لها به. واشتد سرورها حين بدأ المسافرون يهنئون الأب الشجاع الذي استطاع أن يتحدث عن موت ابه برباطة جأش هكذا.

ثم فجأة وكأنها لم تسمع شيئاً مما قيل، وكأنها تستيقظ من حلم، فجأة التفتت إلى الرج البدين وسألته.

ـ إذا...فقد مات ابنك حقاً؟

وتطلع إليها الجميع واستدار الرجل البدين أيضاً، ونظر إليها، وثبت في وجهها عينيه الكبيرتين المنبعجتين الرماديتين وقد كستهما طبقة رقيق من الدموع. وحاول أن يجيب، ولكن الكلمات خانته ونظر إليها واستمر ينظر إليها، كما لو كان قد أدرك إذ ذاك فقط، بعد هذا السؤال الأحمق الخال من الكياسة، وأدرك فجأة وأخيراً أن ابنه قد مات حقاً، ذهب إلى الأبدـ دون رجعة، وتقلص وجهه وانقلبت ملامحه بشكل مخيف ثم انتزع منديلاً من جيبه في سرعة. وأثار دهشة الجميع حين انخرط في عويل مؤلم يهز القلب ـ عويل جارف لا يمكن للإنسان أن يسيطر عليه
uعن الجمهورية نت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3