..........نظرية التأويل ...الخطاب وفائض المعنى......

نظرية التأويل..الخطاب وفائض المعنى1-3


الخميس 19 أغسطس-آب 2010 القراءات: 6







بول ريكور

ترجمة: سعيد الغانمي

مقدمة المؤلف

المقالات الأربع التي يتكون منها هذا الكتاب تقوم على المحاضرات التي ألقيتها في جامعة تكساس المسيحية، 23 -30نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 كمحاضرات مئوية وهي يمكن أن تُقرأ منفصلة، ولكنها يمكن أن تقرأ أيضاً كمقتربات تسلك خطوة فخطوة لحل مشكلة واحدة، هي مشكلة لغة الفهم على صعيد نتاجات مثل القصائد والحكايات والمقالات، سواء أكانت أدبية أو فلسفية بعبارة أخرى، تراهن هذه المقالات الأربع على مشكلة مركزية هي مشكلة الأعمال، ولاسيما اللغة عملاً.

ولن يتحقق الإمساك الكامل بهذه المشكلة حتى المقالة الرابعة، التي تهتم بموقفين يندلع الصراع بينهما واضحاً حين نتبناهما عند العناية باللغة عملاً، أعني الصراع الواضح بين التفسير والفهم برغم ذلك، فأنا أعتقد أن هذا الصراع هو الوحيد الواضح، وأنه يمكن التغلب عليه، إذا ما تمكنا من بيان أن هذين الموقفين يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطاً جدلياً ومن هنا يشكل هذا الجدل أفق محاضراتي هذه.

إذا كان الجدل بين التفسير والفهم يوفر مرجعاً أخيراً لملاحظاتي، فإن الخطوة الأولى للسير فيه ينبغي أن تكون خطوة حاسمة، إذ يجب أن نعبر العتبة التي تقف وراءها اللغة بوصفها خطاباً ووفقاً لذلك فإن موضوعة المقالة الأولى هي اللغة خطاباً.

ولكن مادامت اللغة المكتوبة وحدها تعرض عرضاً كاملاً معايير الخطاب، فإن بحثاً ثانياً لابد أن يهتم بوفرة التغيرات التي تؤثر في الخطاب حين يكف عن أن يكون منطوقاً، بل مكتوباً ومن هنا يأتي عنوان مقالتي الثانية(الكلام والكتابة).

تتقدم نظرية النص، التي تنبثق من هذه المناقشة، خطوة أخرى نحو سؤال التعدد اللفظي، الذي لا ينتمي إلى الكلمات وحدها (الترادف)، أو حتى إلى الجمل(الغموض) بل إلى أعمال الخطاب الكاملة كالقصائد والحكايات والمقالات وتمثل مشكلة التعدد اللفظي هذه، التي نوقشت في المقال الثالث، نقلة حاسمة لمشكلة التأويل الذي يحكمه جدل التفسير والفهم، الذي أشرت إلى أنه يشكل أفق هذه المجموعة من المقالات بأسرها.

أود أن أعبر عن خالص امتناني وشكري لأهل جامعة تكساس المسيحية لإتاحتهم لي فرصة إلقاء هذه المحاضرات التي تشكل أساس هذا العمل، ولكرم ضيافتهم الغامر خلال فترة مكثي هناك وإنني لأشعر بالسعادة لتمكني من المساهمة في احتفالهم المئوي.



اللغة خطاباً

سنناقش مشكلة اللغة بوصفها خطاباً في هذا المقال بمصطلحات حديثة، بمعنى أنها لا يمكن أن تصاغ صياغة مناسبة دون اللجوء إلى التقدم الهائل الذي أحرزه علم اللغة الحديث ولكن إذا كانت المصطلحات حديثة، فإن المشكلة نفسها ليست بالجديدة.

فقد كانت معروفة دائماً وقد سبق لأفلاطون في محاورة (قراطيلوس) أن أوضح أن مشكلة الصدق في الكلمات أو الأسماء المعزولة يجب أن تبقى غير محسومة لأن التسمية لاتستنفد قوة الكلام أو وظيفته ويتطلب (لوغوس) الكلام أو قانونه اسماً وفعلاً في الأقل، وتواشج هاتين الكلمتين هو الذي يشكل الوحدة الأولى للغة والفكر وهذه الوحدة وإن تظاهرت بادعاء الصدق، فإن السؤال ينبغي أن يبقى مطروحاً للحسم في كل حالة.

وتعاود هذه المشكلة الظهور في أعمال أفلاطون الأكثر نضجاً مثل(الثياتيتوس) و(السفسطائي) يعني السؤال في هذين العملين بالكيفية التي يفهم فيها كيف يكون الخطأ ممكناً، أي أنه إذا كان الكلام يعني دائماً أن نقول شيئاً، فكيف يمكننا أن نقول ما ليس بالشيء ومرة أخرى يضطر أفلاطون إلى أن يخلص إلى أن الكلمة في ذاتها ليست بصادقة أو كاذبة، برغم أن تشكيلة الكلمات قد تعني شيئاً ولاتدل على شيء ومرة أخرى فإن حامل هذه المفارقة هو الجملة، وليست الكلمة المفردة.

كان ذلك هو السياق الأول الذي اكتشف فيه مفهوم الخطاب: أي أن الخطأ والصواب هما (آثار) الخطاب، ويتطلب الخطاب اشارتين أساسيتين هما الاسم والفعل، يرتبطان في تركيب يتخطى حدود الكلمات كلاً على حدة ويقول أرسطو الشيء نفسه في مقاله عن التأويل ففي رأيه أن للاسم معنى وللفعل فضلاً عن انطوائه على معنى اشارة إلى الزمن وارتباطهما وحده هو الذي يحقق الرابطة الاسنادية، التي يمكن أن تسمى لوغوساً أو خطاباً وهذه الوحدة التركيبية هي التي تفيد معنى الفعل المزدوج في الاثبات والنفي إذ يمكن أن يكون الاثبات مناقضاً لإثبات آخر، ويمكن أن يكون صحيحاً أو زائفاً.

والهدف من هذه الخلاصة السريعة في العودة إلى الطور البائد لمشكلتنا هذه هو تذكيرنا بقدم مشكلة اللغة بوصفها خطاباً واستمراريتها أيضاً لكن المصطلحات التي سنناقشها بها جديدة تماماً لأنها تضع في اعتبارها منهجية علم اللغة الحديث ومكتشفاته.

لقد أصبحت مشكلة الخطاب من خلال علم اللغة هذا مشكلة حقيقية لأن الخطاب الآن يوضع في مقابل مصطلح معاكس له، لم يتعرف عليه الفلاسفة القدماء، أو سلموا به تسليماً وهذا المصطلح المعاكس هو اليوم الموضوع المستقل للبحث العلمي فالشفرة اللغوية هي التي تضفي البنية المحددة على الأنظمة اللغوية، التي نعرفها بوصفها لغات متعددة تتكلمها جماعات لغوية مختلفة إذاً لاتعني اللغة هنا القدرة على التحدث، ولا الكفاءة المشتركة على التكلم بل هي تشير إلى البنية الخاصة للنسق اللغوي الخاص.

مع كلمتي (بنية) و(نسق) تظهر اشكالية جديدة تميل في الأقل على نحو أولي، إلى تأجيل مشكلة الخطاب، إن لم تمل إلى إلغائها، لأنها مشكلة تدان بالتراجع عن واجهة الاهتمام، وبالتحول إلى مشكلة فضالة فإذا بقي الخطاب اشكالية عندنا اليوم، فذلك لأن انجازات علم اللغة الأساسية تهتم باللغة من حيث هي بنية ونسق، لا من حيث هي مستعملة لذلك فإن مهمتنا ستكون انقاذ الخطاب من منفاه الهامشي والمتقلقل.

اللغة والكلام: النموذج البنيوي

انسحاب مشكلة الخطاب في الدراسة اللغوية المعاصرة هو الثمن الذي يجب دفعه إلى الانجازات الجسيمة التي حققها كتاب عالم اللغة السويسري الشهير فردينان دي سوسير: (محاضرات في علم اللغة العام) ويكمن عمله في تمييز عميق بين اللغة بوصفها لساناً واللغة بوصفها كلاماً ، وهو تمييز شكل علم اللغة الحديث بقوة(لاحظ أن سويسر لم يتحدث عن الخطاب، بل عن الكلام، وسنفهم لماذا فيما بعد) اللغة هي الشفرة أو مجموع الشفرات التي ينتج المتحدث استناداً إليها رسالة معينة.

يضاف إلى هذه الثنائية الرئيسة عدد من الثنائيات الأخرى المتعلقة بها فالرسالة فردية لكن شفرتها جمعية(لقد تأثر سويسر بدركهايم تأثراً كبيراً، حتى أنه عد علم اللغة فرعاً من علم الاجتماع ولاتنتمي الرسالة والشفرة إلى الزمان بالطريقة نفسها.

فالرسالة حدث فعلي في تتابع الأحداث التي تشكل البعد التعاقبي للزمن، في حين توجد الشفرة في الزمن بوصفها سلسلة من العناصر المتزامنة، أي بوصفها نسقاً تزامنياً والرسالة قصدية، يوجهها شخص ما ويعني بها شيئاً معيناً، بينما الشفرة بلا موجه أو مرسل، ولاتهدف إلى قصد وبهذا المعنى فهي لاشعورية، لا بمعنى أن الدوافع والبواعث لا شعورية حسب علم ما وراء النفس الفرويدي، بل بمعنى أنها لا شعور لا ليبيدوي بنيوي وثقافي.

أضف إلى ذلك أن الرسالة اعتباطية وعارضة، بينما الشفرة نسقية وملزمة للجماعة الناطقة بها وينعكس هذا التضاد الأخير في قرب الشفرة من البحث العلمي، ولاسيما بمعنى كلمة العلم الذي يؤكد المستوى شبه الجبري للقدرات التأليفية التي تتضمنها مجموعات محدودة من الوحدات المنفصلة مثل الانساق الصوتية والمعجمية والتركيبية وحتى لو أمكن وصف الكلام وصفاً علمياً فإنه يظل واقعاً تحت طائلة علوم متعددة بما فيها السمعيات والتشريح وعلم الاجتماع وتاريخ التغيرات الدلالية، بينما تظل اللغة موضوعاً لعلم واحد، ألا وهو وصف الأنساق التزامنية للغة.

ويكفي هذا المسح الوجيز للثنائيات الأساسية التي أقامها سوسير لكي يبين لماذا كان تطور علم اللغة مشروطاً بوضع الرسالة بين قوسين لصالح الشفرة، ووضع الحادثة بين قوسين لصالح نسق، ووضع القصد بين قوسين لصالح البنية، ووضع نسقية التراكيب في

الأنساق التزامنية بين قوسين لصالح اعتباطية الفعل.

لقد شجع التوسيع المقصود للنموذج البنيوي خارج موطن ولادته الأول ,أعني خارج علم اللغة ,على أفول الخطاب ,كما شجع على ذلك الإدراك النسقي للمطالب النظرية التي ينطوي عليها النموذج اللغوي بوصفه نموذجاً بنيوياً.

ويهمنا توسيع النموذج البنيوي أهمية مباشرة ,مادامت مقولات النص نفسها التي هي موضوع نظريتنا في التأويل تنطبق على النموذج البنيوي ,وكان هذا النموذج معنياً في الأصل بوحدات أصغر من الجملة ,وهي علامات الانساق المعجمية والوحدات المنفصلة للأنساق الصوتية التي تتكون منها الوحدات الدالة في الأنساق المعجمية ,لكن توسيعاً حاسماً حصل مع تطبيق النموذج البنيوي على الكيانات اللغوية هي أكبر من الجملة ,وعلى كيانات لا لغوية مشابهة لنصوص التوصيل اللغوي.

فيما يتعلق بالنوع الأول من التطبيق تمثل معالجة الشكليين الروس من طراز بروب للحكايات الشعبية ,انعطافة حاسمة في نظرية الأدب ,ولاسيما ما يتعلق منها بالبنية السردية للأعمال الأدبية.. ويشكل تطبيق النموذج البنيوي على الأساطير عند ليفي ـ شتراوس مثالاً ثانياً على المقاربة المتشعبة الخيوط للخطاب : وهي مقاربة مشابهة للمعالجة الشكلية للحكاية الشعبية ,التي اقترحها الشكليون الروس ,وإن كانت مستقلة عنها.

وفيما يتعلق بتوسيع النموذج البنيوي إلى كيانات لا لغوية ,فإن التطبيق قد يكون أقل إثارة ,طالما أنه معني بأشياء مثل إشارات المرور ,والشفرات الثقافية ,من قبيل آداب إعداد المائدة ,والأزياء والمباني وشفرات السكنى ونماذج التزيين... الخ ,لكنه مهم نظرياً في أنه يضفي محتوى تجريبياً على مفهوم السيمياء (السيميولوجيا) أو علم الدلالات العام ,الذي طوره على انفراد كل من سوسير وتشارلز بيرس ,هنا يصير علم اللغة عالماً واحداً من عوالم النظرية العامة للعلامات ,برغم أنه يظل عالماً يحظى بالإيثار لكونه في الوقت نفسه نوعاً واحداً ,ومثالاً نموذجياً لنسق العلامات.

ويتضمن هذا التوسع الأخير للنموذج البنيوي استيعاباً نظرياً للمسلمات التي تغطي السيميولوجيا (أو السيمياء) عموماً , وعلم اللغة البنيوي خصوصاً , وهذه المسلمات إذا أخذناها جملة تحدد النموذج البنيوي بما هو نموذج وتصفه.

أولاً: أن المقاربة التزامنية يجب أن تسبق أية مقاربة تعاقبية لأن الأنظمة والأنساق يمكن فهمها وتعقلها أكثر من التغيرات والتغير في أحسن أحواله هو تغير جزئي أو كلي في حالة من حالات النظام أو النسق ,ولذلك فإن تاريخ التغيرات لاحق على النظرية التي تصف الحالات التزامنية للنظام وتعبر هذه المسلمة الأولى عن انبثاق نمط جديد من المعقولية مناقض مباشرة للنزعة التاريخية في القرن التاسع عشر.

ثانياً: تمثل الحالة التبادلية Paradigmatic بالنسبة للمقاربة البنيوية مجموعة محدودة من الكيانات المنفصلة ,وقد يبدو في الوهلة الأولى أن الأنظمة الصوتية توضح هؤه المسلمة الثانية توضيحاً أكثر مباشرة من الأنظمة المعجمية أو الدلالية ,حيث يصعب اثبات عنصر النهاية والمحدودية إثباتاً ملموساً لكن فكرة وجود معجم لانهائي تبقى أمراً غامضاً في الأساس والجوهر فاعتماد علم الصوت نظرياً على وحدات تمييزية صغرى هي ما يسميه علماء الصوت بالفونيمات ,ووضع هذه الفونيمات في جداول اختبار تبادلي للتمييز بين الوحدات الصوتية , صوتياً ومعنوياً , هو الذي جعل علم الصوت يقفز إلى صدارة البحث اللغوي عند اتباع الدراسات البنيوية , وإن كان دي سوسير نفسه قد رأى في علم الصوت مجرد علم مساعد لصلب الدراسة اللغوية الذي يمثله علم الدلالة , والموقع التبادلي للأنظمة كان يتشكل من مجموعات محدودة من الكيانات المنفصلة التي تكمن في القدوة على التبادل والممكنات شبه ـ الجبرية المناسبة لهذه المجموعات ,وتضاف هذه القدرات والممكنات إلى نمط المعقولية والفهم في المسلمة الأولى أعني مسلمة التزامنية.

ثالثاً: ليس لأية وحدة منخرطة في بنية نظام معين معنى مستقل بذاتها , بل هي تستمد معناها من النظام ككل الكلمة المفردة ليس لها معنى في ذاتها ,بل تستمد معناها من الوحدات أو الكلمات الأخرى المجاورة لها في السياق الذي ترد فيه وكما قال سوسير فليس للكلمات قيم إيجابية أو وجود مادي في نظام العلامات ,بل هناك فروق فقط هذه المسلمة تجعل من علم اللغة علماً يهتم بالخواص الشكلية للغة , في مقابل الخواص الجوهرية أي الخواص التي تضفي وجود قيم إيجابية مستقلة على المفردات اللغوية التي تراهن عليها اللغة , أو السيمياء بشكل عام.

رابعاً: في هذه الأنظمة المحدودة تكون جميع العلاقات ضمنية في داخل النظام وبهذا المعنى فالأنظمة السيميائية هي أنظمة (مغلقة) أي أن العلاقة بين اللغة والواقع الخارجي غير السيميائي منفصمة , ويتضمن التعريف الذي قدمه دي سوسير للعلامة هذه المسلمة اصلاً: فبدلاً من أن تحددها العلاقة الخارجية بين العلامة والشيء ,وهو ما يعني أن يعتمد علم اللغة على نظرية في الكيانات اللغوية والخارجية , تتحدد العلامة بالتناقض بين جهتين ,تقع كلتاهما في محيط العلم الفريد: علم العلامات , وهاتان الجهتان هما الدال كالصوت ,أو الشكل المكتوب ,أو الايماءة أو أي وسيط مادي ,والمدلول أي القيمة الاختلافية في النظام المعجمي وكون الدال والمدلول يسمحان بنوعين من التحليل ـ ولكنهما معاً يشكلان العلامة , ولا تقتصر أهميتها على توفير معيار للعلامات اللغوية ,بل هما معيار أية وحدة في أي نظام سيميائي قابل للتحديد من خلال (تنبيه) هذا المعيار من صحوته.هذه المسلمة الأخيرة تكفي لوسم البنيوية بأنها نمط كلي من التفكير ,يتخطى جميع الاشتراطات المنهجية , إذ لم تعد اللغة تظهر بوصفها توسطاً أو وساطة بين العقول والأشياء ,بل تشكل عالمها الخاص بها , الذي تشير فيها كل وحدة منه إلى وحدة أخرى من داخل هذا العالم نفسه بفضل تفاعل التناقضات والاختلافات والفروق القائمة في النظام اللغوي ,وبعبارة وجيزة لم تعد اللغة تعامل بوصفها (صورة حياتية) كما يعبر فتغنشتاين ـ بل صارت نظاماً مكتفياً بذاته ذا علاقات داخلية فقط ,وعند هذه النقطة بالضبط تختفي وظيفة اللغة بوصفها خطاباً.



علم الدلالة مقابل السمياء : الجملة

أود أن أضع في مقابل هذه المقاربة ذات البعد الواحد للغة ,التي يقتصر فيها دور العلامات على كونها وحدات أساسية فقط ,مقاربة ذات بعدين تعتمد فيها اللغة على وحدتين لا انفصام بينهما هما العلامات والجمل.

لا تتطابق هذه الثنائية مع ثنائية اللغة والكلام كما حددها سوسير في كتابه (محاضرات في علم اللغة العام) ولا حتى مع الثنائية التي أعيدت صياغتها فيما بعد بوصفها تضاداً بين الشفرة والرسالة , وفي الجهاز الاصطلاحي للغة والكلام لا يحظى إلا مصطلح اللغة بمرتبة الموضوع والمتجانس لكونه علماً قائماً بذاته , بسبب ما فيه من خواص بنيوية ذات أنظمة تزامنية ,أما الكلام ـ كما قلنا فمتغاير فضلاً عن كونه فردياً وتعاقبياً وعارضاً , لكن الكلام يقدم لنا أيضاً بنية لا يمكن اختزالها في معنى معين إلى مجموع الممكنات التأليفية التي تتيحها التضادات بين الوحدات المنفصلة.. وهذه البنية هي التشكل التركيبي للجملة نفسها بوصفها متميزة عن أي تأليف تحليلي للوحدات المنفصلة واستبدالي لمصطلح (الكلام) الذي يعبر فقط عن الجانب المتبقي من علم اللغة) بمصطلح (الخطاب) لا يقتصر القصد منه على تأكيد خصوصية هذه الوحدة الجديدة التي يعتمد عليها كل خطاب ,بل أيضاً لإضفاء الشرعية على التمييز بين السيمياء وعلم الدلالة بوصفهما علمين متطابقين مع نوعين من الوحدات المميزة للغة , وهما العلامة والجملة.

فضلاً عن ذلك فليس العلمان بالمتميزين فقط ,بل يعكسان أيضاً نظاماً متراتباً فالعلامة موضوع السيمياء شيء افتراضي والشيء الفعلي الحقيقي الوحيد هو الجملة لأنها الحدث الفعلي في لحظة التكلم ,وهذا هو السبب في أننا لا نستطيع أن نعبر من الكلمة بوصفها العلامة المعجمية إلى الجملة بتوسيع منهجية واحدة لتشمل وحدات أكثر تعقيداً فالجملة ,وهي وحدة الخطاب الأساسية ,ليست مجرد كلمة أوسع أو أعقد من الكلمة المفردة ,بل هي وحدة من نوع آخر قد يمكن تحليل الجملة إلى عناصرها المكونة الي تتألف من عدة كلمات , لكن الكلمات ليست جملاً قصيرة , الجملة كل غير قابل للتجزئة إلى مجموع أجزائه صحيح أنها تتكون من كلمات ,لكنها من حيث التعريف ليست الوظيفة الاشتقاقية لكلماتها المفردة , الجملة تتكون من علامات ولكنها ليست علامة.

لذلك لايوجد تقدم خطي من الفونيم (أي أصغر وحدة صوتية) إلى اللكسيم (أي أصغر وحدة معجمية) فصاعداً حتى الجملة فكليات لغوية أكبر من الجملة , بل تتطلب كل مرحلة بني جديدة ووصفاً جديداً وقد يمكن التعبير عن العلاقة بين هذين النوعين من الوحدات على النحو التالي ,إذا تابعنا عالم السنسكريتية الفرنسي إميل بنفينست: تعتمد اللغة على إمكان نوعين من العمليات وهما الاندماج في كليات أكبر ,والانقسام إلى أجزاء مكونة ويتولد المعنى من العملية الأولى ,والشكل من العملية الثانية.

ويعكس التمييز بين هذين النوعين من علم اللغة ـ أعني السيمياء وعلم الدلالة ـ هذه الشبكة من العلاقات فالسيمياء العلم الذي يدرس العلامات ,علم شكلي صوري بحيث أنه يعتمد على تجزئة اللغة إلى أجزائها المكونة , أما علم الدلالة علم الجملة ,فمعنى مباشرة بمفهوم المعني (أي بما هو فحوى sense أو مغزى , وهو في هذه المرحلة رديف لمفهوم المعنى meaning, مادام التمييز بين المغزى والإحالة sense and reference لم يأت بعد), لأن علم الدلالة ينصرف انصرافاً كليا إلى العمليات التكاملية للغة في تداخلها العضوي.

في تقديري أن التمييز بين علم الدلالة والسيمياء يشكل مفتاح مشكلة اللغة بأسره, وتقوم مقالاتي الأربع على اساس هذا التفريق المنهجي الأولى, وكما أشرت في ملاحظاتي الاستهلالية, فإن هذا التمييز هو إعادة تقييم لم طرحه أفلاطون في (قراطيلوس) وفي (ثياتيتوس) حيث يعتمد اللوغوس على التداخل والتواشج بين نوعين من الوحدات المختلفة في الأقل, وهما الاسم والفعل, لكن هذا التمييز, من ناحية أخرى, جدير بمزيد من التفحص والتمعن, بسبب وجود السيمياء, بوصفها النظير الحديث لعلم الدلالة.

جدل الواقعة والمعنى

سينصرف الجزء التالي من هذا المقال إلى بحث المعايير المناسبة للتمييز بين علم الدلالة والسيمياء وسأقيم براهيني في نقطة تلتقي عندها مقتربات متعددة, تعني لأسباب مختلفة بخصوصية اللغة بوصفها خطاباً وهذه المقتربات هي لسانيات الجملة التي وضعت تحت العنوان الكبير علم الدلالة, وظاهراتية المعنى النابعة من (البحث المنطقي) الأول لهوسرل, وذلك النوع من (التحليل اللغوي) الذي يميز الوصف الفلسفي الأنجلو – أمريكي لـ(اللغة الاعتيادية) وستجتمع هذه الإنجازات الجزئية كافة تحت عنوان مشترك, هو جدل الواقعة والمعنى في الخطاب, الذي سأصف فيه أولاً قطب الواقعة, ثم قطب المعنى بوصفهما المكونين المجردين لهذه القطبية العينية.

الخطاب بوصفه واقعه

نستطيع القول, إذا انطلقنا من تمييز سوسير بين اللغة والكلام, في الأقل على نحو تمهيدي, إن الخطاب هو الواقعة اللغوية وبالنسبة للسانيات مطبقة على بنية الأنظمة, يعبر البعد الزمني لهذه الواقعة عن الضعف المعرفي (الإبستمولوجي) للسانيات الكلام parole فالوقائع تختفي بينما تبقى الأنظمة لذلك فالحركة الأولى لعلم دلالة الخطاب لابد أن تكون معالجة هذا الضعف المعرفي للكلام النابع من الطبيعة المنفلتة للواقعة قياساص بثبات النظام بربطه بالأسبقية الأنطولوجية (الوجودية) للخطاب الناتجة عن فعلية الواقعة في مقابل افتراضية النظام.

صحيح أن للرسالة وحدها وجوداً زمنياً, وجوداً في الدوام والتتابع, حيث يضع الجانب التزامني للشفرة النظام خارج الزمن التتابعي, ثم يصادق الوجود الزمني للرسالة على فعليتها والحقيقة أن النظام لا يوجد.. بل إن له وجوداً افتراضياً فقط والرسالة وحدها هي التي تضفي الفعلية على اللغة ثم يأتي الخطاب ليوطد وجود اللغة نفسه, مادام كل فعل متفرد منفصل في كل لحظة زمنية من الخطاب هو الذي يضفي الفعلية على الشفرة.

غير أن هذا المعيار وحده قد يفضي إلى تضليلنا, بدلاً من تنويرنا, إذا كانت (لحظة الخطاب) كما يسميها بنفنيست هي هذه الواقعة المختفية فقط وللعلم مبرره في تجاهلها, إذا ان الأسبقية الانطولوجية للخطاب ستكون غير ذات دلالة وبلا ثمرة ففعل الخطاب ليس مجرد لحظة منفلتة أو زائلة بل إن في وسعنا إعادة صياغته بكلمات أخرى في اللغة نفسها أو ترجمته إلى لغة اخرى والرسالة برغم هذا التنقل بين العبارات واللغات قادرة على الاحتفاظ بهويتها الدلالية التي يمكن وصفها بأنها (القول الفلاني).

لذلك لابد لنا من إعادة صياغة المعيار الأول – الخطاب بوصفه واقعة – صياغة على نحو أكثر جدلية لنأخد بالحسبان العلاقة التي تشكل الخطاب بذاته,وهي العلاقة بين الواقعة والمعنى, ولكن قبل الشروع بتناول هذا الجدل ككل, لنتأمل في الجانب (الموضوع) من الواقعة الكلامية.

الخطاب بوصفه إسناداً

إذا نظرنا من وجهة نظر المحتوى الخبري, فيمكن وصف الجملة بسمة واحدة متميزة, ألا وهي أن لها محمولاً predicate أو مسنداً وكما لاحظ بنفنست فان اللغة ق تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول وغير ذلك من المقولات اللغوية ولكنها لن تستغني أبداً عن المسند ، أضف على ذلك أن هذه الوحدة اللغوية الجديدة لا تتحدد من حيث تناقضها مع وحدات أخرى, كتناقض فونيم معيين مع فونيم آخر, أو لكسيم مع لكسيم آخر في داخل النظام نفسه إذا لاتوجد أنواع متعددة من المسندات, على المستوى المقولات (أعني categorema في اليونانية, وpraedicatum في اللاتينية) بل هناك نوع واحد فقط من القول اللغوي, وهو القضية, أو الجملة الخبرية التي تشكل فئة واحدة من الموحدات المتميزة وبالتالي, لا وجود لوحدة من مسوى أعلى يمكن أن تقدم فئة جنسية يمكن ربط القضايا ببعضها استناداً إلى نظام تسلسلي, ولكن لايمكن دمجها.

ولعل بالإمكان ربط هذا المعيار اللغوي بالوصف الذي يقدمه منظرو اللغة اليومية فالمسند الذي يصفه بنفنست بأنه العامل الذي لا يستغني عنه في الجملة, يكون ذا معنى في تلك الحالات التبادلية التي تكون فيها (وظائفة) قابلة لأن تربط وتوضع في مقابلة مع (وظيفة) الفاعل أو المسند على اساس التناقض ين المسند والمسند إليه, ومادام المسند إليه المنطقي الأصيل هو حامل الهوية المفردة, فإن مايقوله عنه المسند يمكن معالجته دائماً بوصفه الملمح (الكلي) للمسند إليه. ولايؤدي المسند والمسند إليه الوظيفة نفسها في القضية (أو الخبر) يلتقط المسند شيئاً فريداً ويخبر عنه – بطرس, لندن, هذه المائدة, سقوط روما, أول رجل تسلق جبل إفرست, الخ – باستخدام وسائل نحوية تؤدي هذه الوظيفة المنطقة: أسماء الاعلام, الضمائر أسماء الإشارة والظروف (هذا وذاك, الان وبعدئذ, هنا وهناك أزمنة الفعل من حيث ارتباطها بالحاضر) و(الأوصاف المحددة) (كذا وكذا) ما تشترك به هذه جميعاً هو أنها كلها تحدد هوية شيء واحد فقط, فالمسند يشير إلى كيفية الشيء, أو فئته, أو نوع العلاقة, أو نوع الفعل.

هذا الاستقطاب الأساسي بين التحديد الجزئي والإسناد الكلي يضفي محتوى خاصاً على فكرة القضية(أو الخبر) بوصفها موضوع الواقعة الكلامية فهو يبين أن الخطاب ليس مجرد واقعة تختفي ووحدة لا - عقلية, كما قد يوحي التضاد بين اللغة والكلام فالخطاب ذو بنية خاصة به, ليست هي بنية التحليل البنيوي, أي بنية الوحدات المنفصلة المعزولة عن بعضها, بل بنية التحليل التأليفي, أي التواشج والتفاعل بين وظيفتي التحديد والإسناد في الجملة الواحدة.

جدل الواقعة والمعنى

الخطاب, إذا من حيث هو واقعة أو قضية أو خبر, أي من حيث هو وظيفة إسناد متداخلة ومتفاعلة بوظيفة هوية هو شيء مجرد, يعتمد على كل عيني ملموس هو الوحدة الجدلية بين الواقعة والمعنى في الجملة.

قد تتمعن مقاربة نفسية أو وجودية تركز على تداخل الوظائف, واستقطاب التحديد المفرد والإسناد الكلي, في هذا التشكيل الجدلي للخطاب, وإن من وظيفية أية نظرية عينية في الخطاب أن تتخذ من هذا الجدل دليل هدى لها فالتركيز على المفهوم المجرد للواقعة الكلامية لايبرر إلا اتخاذها وسيلة احتجاج على اختزال اكثر تجريداً للغة, من حيث هي لسان , لأن فكرة الواقعة الكلامية تعطينا مفتاح الانتقال من لسانيات الشفرة إلى لسانيات الرسالة فالواقعة الكلامية تذكرنا أن الخطاب يدرك زمنياً وفي لحظة آنية, في حين أن النظام أو النسق اللغوي افتراضي وخارج الزمن, لكن ذلك لايحدث إلا في لحظة التحرك الفعلي والانتقال من اللغة على الخطاب ولذلك فإن أي دفاع عن الكلام من حيث هو واقعة لايكون دالاً, إلا إذا أظهر علاقة التحقق وجعلها شيئاً مرئياً, وهي ماتتحق بفضلها قدرتنا اللغوية على الأداء.

لكن هذا الدفاع يصبح تعسفياً حالما يتم دفع طبيعة الواقعة من إشكالية التحقق, حيث تكون سارية المفعول, إلى إشكالية أخرى وهي إشكالية الفهم, فإذا تحقق الخطابكله بوصفه واقعة, فهم الخطاب كله بوصفه معنى, وأعني بالمعنى أو الفحوى هنا المحتوى الخبري, الذي هو كما وصفته سابقاً, حاصل التأليف بين وظيفتين: هما تحقيق الهوية والإسناد فليست الواقعة من حيث هي زائلة ما نريد أن نفهمه, بل معناها, الذي هو نتاج تفاعل اسم وفعل, إذا تحدثنا على طريقة أفلاطون, وهو ما يبقى.

لا أعني بقولي هذا العودة إلى الوراء من لسانيات الكلام (أو الخطاب) على لسانيات اللغة (أو اللسان) ففي لسانيات الخطاب تلفظ الواقعة والمعنى وكبح الواقعة وتجاوزها في المعنى جزء من طبيعة الخطاب نفسه لأنه الشاهد على قصدية اللغة, والعلاقة بين التعقل الصوري noesis والتعقل المضموني الخالص noema فيه. وإذا كانت اللغة قصداً meinen , فذلك بالضبط لأنها مناسبة حقاً لهذا الكبح aufhebung الذي تلغى فيه الواقعة بوصفها شيئاً زائلاً محضاً وتُستبقى بوصفها المعنى نفسه.

وقبل تقرير النتيجة الرئيسية التأويل الجدلي لفكرة الواقعة الكلامية فيما نقترحه من جهاز تأويلي, فلنوسع توسيعاً أكثر اكتمالاً وأكثر عينية الجدل نفسه على اساس بعض اللوازم المهمة لبديهيتنا القائلة: إذا تحقق الخطاب كله بوصفه واقعة, فهم بوصفه معنى.

معنى الناطق ومعنى النطق

إحالة الخطاب إلى ذاته

يتيح لنا مفهوم المعنى تأويلين يعكسان الجدل الرئيس بين الواقعة والمعنى إذا يعني المعنى مايعنيه المتكلم, أي مايقصد أن يقوله, وماتعنيه الجملة, أي ماينتج عن الاقتران بين وظيفة تحديد الهوية ووظيفة الإسناد, المعنى بعبارة أخرى, تعقل صوري وتعقل مضموني خالص معاً ونستطيع أن نربط إحالة الخطاب على المتكلم به مع جانب الواقعة من الجدل فالواقعة هي شخص مايتكلم وبهذا المعنى, فإن النظام أو الشفرة أمر مجهول بقدر مايشكل أمراً افتراضياً فاللغات لاتتكلم, بل يتكلم الناس ولكن لايجب المبالغة في قضية إحالة الخطاب إلى ذاته, إذا كان المعنى عند الناطق – على حد تعبير بول غرايس – لايقصد له أن يختزل إلى مجرد قصد نفسي إذ لا يمكن العثور على المعنى العقلي إلا في الخطاب نفسه ويترك معنى الناطق بصماته على معنى النطق كيف؟

تقدم لنا الجواب لسانيات الخطاب التي نسميها على الدلالة تمييزاً لها عن السيمياء تشير البنية الداخلية للجملة إلى المتكلم بها من خلال إجراءات نحوية هي مايطلق عليها اللغويون اسم (أدوات التحويل) shifters فليس لضمائر المتكلم - مثلاً – معنى موضوعي في ذاتها فـ(أنا) ليست مفهوماً ويستحيل استبدالها بتعبير كلي من نوع «الشخص الذي يتكلم الآن » بل تقتصر وظيفتها الوحيدة على إحالة الجملة بكاملها إلى فاعل الواقعة الكلامية ولها معنى جديد في كل وقت تستخدم فيه وتشير في كل حين إلى فاعل بذاته (أنا) هو من تنطبق عليه كلمة (أنا) في أثناء حديثه, ويبدو في الجملة بوصفه فاعلاً منطقياً وهناك أيضاً أدوات تحيل أخرى وحوامل نحوية اخرى لاحالة الخطاب على المتكلم به, وهي تشمل أزمنة الفعل, حيث تتركز أحياناً على الحاضر, فتشير إلى (آن) الواقعة الكلامية والمتكلم ويصح الشيء نفسه على ظروف الزمان والمكان وأسماء الإشارة التي يمكن اعتبارها جزئيات متركزة حول الذات وهكذا يتوفر الخطاب على بدائل كثيرة للإحالة على المتكلم به.

نحصل من خلال صرف الانتباه إلى الوسائل النحوية لإحالة الخطاب إلى ذاته على فائدتين فمن ناحية , يكون لدينا معيار جديد للتفريق بين الخطاب والشفرات اللغوية ومن ناحية أخرى, نتمكن من تقديم تعريف, ليس بنفسي, لأنه دلالي محض, للمعنى عند الناطق فلا حاجة لافتراض وحدة عقلية أو تجريدها إذا يشير معنى النطق إلى معنى الناطق, بفضل إحالة الخطاب إلى ذاته بوصفه واقعة.

تعزز هذه المقاربة الدلالية مساهمتان أخريان لجدل الواقعة والقضية (أو الخبر) نفسه.

الأفعال التعبيرية والافعال التمريرية

الفعل الأول هو التحليل اللغوي المعروف للفعل الكلامي (بالمعنى الأنجلو - أمريكي للكلمة) ولقد كان ج.ل أوستن أول من لاحظ أن الأقول «الآدائية» performatives مثل المواعيد تتضمن التزاماً معيناً من جانب المتكلم الذي يفعل ما يقوله عند قوله فلقوله (أعد بذلك) هو في الواقع (يعد) أي يجعل نفسه ملزماً بفعل ما يقول إنه يفعله, وقد يدمج هذا (الفعل) doing بقطب الواقعة في جدل الواقعة والمعنى لكن هذا (الفعل) أيضاً يتبع قواعد دلالية تعرضها بنية الجملة: إذ يجب أن يعبر عن الفعل بصعية ضمير المتكلم هنا أيضا تسند (قواعد) معينة (القوة) الأدائية للخطاب فالأقوال الأدائية ليست سوى حالات خاصة من سمة عامة تعرضها أية فئة من الأفعال الكلامية, سواء كانت أوامر أو رغبات أو أسئلة أو تحذيرات أو اثباتات وكل هذه الأفعال فضلاً عن قولها شيئاً ما ( وهذا هو الفعل التعبير locutionary ) تفعل شيئاً بقوله (وهذا هو الفعل التمريري illocutionary) وتترتب عليها آثار من خلال القول (وهذا هو الفعل التأثيري perlocutionary).

الفعل التمريري هو ما يميز الوعد عن الأمر, أو الرغبة أو الإثبات و(قوة) الفعل التمريري تمثل جدل الواقعة والمعنى وفي كل حالة , تتطابق (قواعد) معينة مع قصد معين يعبر من أجله الفعل التمريري عن (قوته) المميزة مايمكن قوله بمصطلحات نفسية كالاعتقاد والطلب والرغبة, يكسى بوجود دلالي بفضل التطابق بين هذه الوسائل النحوية والفعل التمريري.

الفعل التحاوري

تقدم لنا المساهمة الأخرى عن جدل الواقعة والمحتوى الخبريPROPOSITIONAL contentعن طريق ما يمكن تسميته بالفعل التحاوري, أو الفعل التقرير, إذا أردنا الحفاظ على التناظر مع الجانب التمريري في الفعل الكلامي.

من أوجه الخطاب المهمة أن يتوجه على شخص ما فهناك متكلم آخر هو متلقي الخطاب وحضور هذين الاثنين المتكلم والمستمع, هو الذي يشكل اللغة بما هي اتصال مع ذلك, لاتبدأ دراسة اللغة من وجهة نظر الاتصال بعلم اجتماع الاتصال, وكما يقول افلاطون يشكل الحور بنية جوهرية في الخطاب ويحتفظ السؤال والجواب بحركة الكلام وفاعليته, وبمعنى ما فهما يشكلان نوعاً من الخطاب من بين أنواع اخرى, كل فعل تمريري هو ضرب من السؤال واثبات شيء ما يعني توقع اتفاق و تماماً كما يعني إصدار أمر ما توقع طاعته وحتى المناجاة الفردية – أي خطاب الشخص المتوحد – هي حوار مع الذات, أو إذا استشهدنا بأفلاطون مرة أخرى فالمناجاة Dianoia هي حوار الروح مع نفسها.

ولقد حاول بعض اللغويين إعادة صياغة كل وظائف اللغة المتنوعة في اطار نموذج جامع يشكل الاتصال مفتاحاً له, يبدأ رومان جاكوبسن, على سبيل المثال, من علاقة ثلاثية بين المتكلم والمستمع والرسالة, ثم يضيف ثلاثة عناصر تكميلية تثري نموذجه.

وهذه العناصر هي الشفرة وقناة الاتصال والسياق وعلى أساس نظام من هذه العناصر الستة, يعطينا جاكوبسن مخططاً ذا وظائف ست يتطابق المتكلم مع الوظيفة الانفعالية , والمستمع مع الوظيفية الاقناعية, والرسالة مع الوظيفية الانفعالية, والمستمع مع الوظيفة الإقناعية, والرسالة مع الوظيفة الشعرية, بينما تشير الشفرة إلى الوظيفة اللغوية الشارحة, وقناة الاتصال والسياق هما حاملا الوظيفتين التعاطفية والمرجعية.

هذا النموذج مثير للاهتمام في أنه يصف الخطاب وصفاً مباشراً وليس كبقية من بقايا اللغة في أنه يصف بنية الخطاب, لا الواقعة اللا –عقلية وحدها, في أنه يلحق وظيفة الشفرة بعملية الربط الاتصالي.

ولكن في المقابل يستدعي هذا النموذج بحثاً فلسفياً, ربما يوفره جدل الواقعة والمعنى فالاتصال عند عالم اللغة واقعة صريحة, بل من أكثر الوقائع صراحة ووضوحاً فالناس تتكلم حقاً مع بعضها لكن الاتصال في البحث الوجودي هو لغز من الألغاز, بل أعجوبة من الأعاجيب لماذا؟ لأن الوجود معاً, الذي هو شرط وجودي لإمكان أية بنية حوارية للخطاب, يبدو وكأنه طريقة في التعدي على العزلة العميقة المضروبة على أي وجود إنساني والتغلب عليها ولا أعني بالعزلة كوننا نشعر في الغالب بالاعتزال عن زحام ما, أو كوننا نعيش ونموت فرادى, بل أعني , بمعنى أكثر جذرية, أن ما يجربه شخص ما لا يمكن نقله من حيث هو تجربة كاملة بعينها إلى شخص آخر سواه, تجربتي لايمكن أبداً أن تصير مباشرة تجربتك والواقعة التي تدور في خلد إنسان لا يمكن أن تنتقل كما هي إلى خلد آخر, لكن هناك مع ذلك شيئاً يعبر مني إليك شيء ينتقل من نطاق حياة إلى أخرى وليس هذا (الشيء ما) هو التجربة, كما تم تجريبها , بل معناها, وهنا تكمن المعجزة حيث تظل التجربة بما هي تجربة وكما عيشت, أمراً شخصياً خالصاً, لكن مغزاها ومعناها يصبحان عامين, وعلى هذا النحو يصبح الاتصال انتصاراً على عدم امكان نقل التجربة المعيشة كما عيشت.

يستحق هذا الوجه الجديد لجدل الواقعة والمعنى شيئاً من الاهتمام وليست الواقعة هي التجربة كما عبر عنا ونقلت فقط, بل هي التبادل فيما بين الذوات نفسه, هي حدث الحوار, لحظة الخطاب هي لحظة الحوار, فالحوار واقعة تربط بين واقعتين, هما التكلم, والسماع ومن خلال هذه الواقعة الحوارية يصير الفهم بوصفه معنى أمراً متجانساً وهنا يأتي السؤال: ما جوانب الخطاب التي تم نقلها محملة بالمعنى في واقعة الحوار؟

ثمة جواب أولي واضح، ما يمكن نقله هو في الدرجة الأولى محتوى خبر الخطاب وهكذا ننساق عائدين إلى معيارنا الرئيسي الا وهو الخطاب بصفته واقعة زائداً المغزى فلأن مغزى الجملة أمر (خارجي) عن الجملة يمكن نقله, وخارجية الخطاب عن نفسه –التي هي رديف تعالى الواقعة على ذاتها في معناها – تفتح الخطاب على الآخر وللرسالة سند في قابلية نقلها في بنية معناها ويتضمن هذا أننا ننقل تركيب كل من وظيفة التحديد (وموضوعها المنطقي هو حاملها) والوظيفة الإسنادية (التي هي شاملة من حيث الإمكانية).

ونحن حين نتحدث مع شخص مانشير باتجاه الشيء الخاص الذي نتحدث عنه, بفضل استخدام الوسائل العامة مثل أسماء الاعلام والضمائر وأوصاف التحديد وأنا اساعد الآخر على تحديد ما أشير إليه بفضل الوسائل النحوية التي تضفي على التجربة الفردية بعداً اجتماعياً ويصح الشيء نفسه على البعد الكلي للمسند إليه الذي ينقله البعد التوليدي للكيانات المعجمية.

وبالطبع, لايقوم هذا المستوى الأول من الفهم المتبادل من دون شيء من سوء الفهم فكثير من كلماتنا متعددة المعاني: فيها أكثر من معنى واحد غير أن الوظيفة السياقية للخطاب تتمثل في حجب تعدد المعاني في الكلمات , وتقليص الاستقطاب في أقل عدد ممكن من التأويلات, أي غموض الخطاب الناشئ عن التعدد المنكشف في معاني الكلمات ووظيفة الحوار هي أن يبتدىء في هذه الوظيفة الحاجبة للسياق للحوار ميدان سوء الفهم حول المحتوى الخبري, ويفلح جزئياً في التغلب على مصاعب عدم امكان نقل التجربة.

لكن المحتوى الخبري هو وحده مايعادل الفعل التعبيري وماذا بشأن امكان نقل الجوانب الاخرى من الفعل الكلامي, ولاسيما الفعل التمريري هنا يكون جدل الفعل والبنية, والواقعة والمعنى أكثر تعقيداً كيف يمكن لخاصية الخطاب , سواء أكان أدائياً أو يقينياً وسواء أكان فعل بيان شيء ما, أو أمراً وطلباً أو رغبة أو وعداً أو تحذيراً, أن ينقل أويفهم؟ أو بعبارة أكثر تطرفاً هل يمكن لنا أن ننقل الفعل الكلامي وكأنه فعل تمريرىء.

ليس من شك في ان احتمال خلط فعل تمريري بآخر أكثر احتمال سوء فهم فعل خبري السبب الرئيس أن الوقائع اللا – لغوية متداخلة بالعلامات اللغوية, وهذه العوامل التي تضم خلجات الوجه والإيماء ونبرة الصوت – أصعب على التأويل, لأنها لا تعتمد على وحدات منفصلة, وبالتالي فشفراتها أكثر مرونة ويسهل إخفاؤها وتلفيقها مع ذلك فالفعل التمريري ليس بالخالي من العلامات اللغوية وتشمل هذه العلامات استعمال الصيغ القواعدية كأسماء الإشارة والشرط والأمر والتمني وذلك أزمنة الفعل والظروف وما يناظرها من وسائل تدور في فلك هذا المعنى ولايقتصر دور الكتابة على حفظ العلامات اللغوية للكلام الشفوي, بل هي تضيف علامات تمييزية مكملة مثل علامات الاقتباس وعلامات التعجب وعلامات السؤال, لكي تدل على تعبيرات الخلجات والإيماءات, التي تختفي حين يصير المتكلم كاتباً, ولذلك يمكن نقل الأفعال التمريرية بطرق كثيرة مادام (نحوها) يضفي على الواقعة بنية عامة.

وأما أميل إلى القول إن الفعل التأثيري – وهو الفعل الذي نؤديه من خلال الكلام – هو أكثر جوانب الفعل الكلامي تعذراً على النقل, بقدر ما تكون الأولوية للا – لغوي على اللغوي في مثل هذه الأفعال فوظيفية الفعل التأثيري هي أيضاً أكثر تعذراً على النقل, لأنه فعل أقل قصدية, ويستدعي قصدية إدراك من لدن السامع, أكثر مما في نوع من (المثير) الذي يولد (استجابته) بالمعنى السلوكي, وتساعدنا وظيفة القول التأثيري على المطابقة بين حدود سمة الفعل وسمة المنعكس اللغوي.

فالأفعال التعبيرية والتمريرية هي أفعال مشخصةـ وبالتالي وقائع ـ بحيث إن القصد فيها ينطوي على قصد التعرف على ما وجدت من أجله، أي التحديد الفردي والإسناد الكلي والحكم والأمر والرغبة والوعد...الخ. ويتيح لنا دور التعرف هذا أن نقول إن قصد القول هو نفسه ممكن النقل إلى حد معين.وللقصد جانب نفسي لا يجربه بذاته إلا المتكلم.في الوعد ـ مثلاًـ التزام، وفي الإثبات اعتقاد، وفي الرغبة مطلب،...الخ، مما يشكل الشرط النفسي للفعل الكلامي، إذا تابعنا تحليل جون سيرل. لكن هذه الأفعال العقلية(كما يسميها بيتر غيتش) ليست بممتنعة على النقل جذرياً، إذ ينطوي القصر فيها على قصد التعرف عليها, وبالتالي ينطوي على قصد التعرف على قصد الآخر. فقصد نيل التعرف والتحديد والاعتراف من لدن الآخر بذاته هو جزء من القصد نفسه. وإذا استخدمنا مصطلحات هوسرل فيمكننا القول إن التعقل الصوري noeitcيوجد في النفسي.

إن معيار التعقل الصوري noeitc هو قصد قابلية النقل، أو هو توقع التعرف في الفعل القصدي ذاته. فالتعقل الصوري noeitcهو روح الخطاب بصفته حواراً.وهكذا لا يعود الفرق بين الفعل التعبيري والفعل التأثيري سوى حضور القصد في الأول أو غيابه عن الثاني، بغية إيجاد نوع من الفعل العقلي لدى السامع يتعرف بوساطته على قصدي.

تبادل المقاصد، إذاً، هو واقعة الحوار. وحامل هذه الواقعة هو “قواعد” التعرف المتضمنة في المعنى المقصود. وقد يمكننا القول، إنهاءً لنقاش جدل الواقعة والمعنى هذا، إن اللغة بذاتها هي العملية التي تصبح فيها التجربة الخاصة عامة. فاللغة تخارج exeriorizationيتعالى به انطباع ما ويصير تعبيراً (خارجياً)expression، أو بعبارة أخرى هي تحويل النفسي إلى تعقلي صوري noeitc.و التخارج وقابلية النقل هما شيء واحد بعينه، لأنهما ليسا سوى السمو بجزء من حياتنا إلى مستوى لوغوس الخطاب. وهناك يضيء نور الخطاب الشامل عزلة حياتنا المؤقتة.

المعنى بوصفه “مغزى” و”إحالة”

لقد تطور جدل الواقعة والمعنى في المقطعين السابقين بوصفه جدلاً داخلياً لمعنى الخطاب. المعنى هو ما يقوم به المتكلم.ولكنه أيضاً ما تقوم به الجملة.فمعنى النطق ـ بمعنى المحتوى الخبري ـ هو الجانب “الموضوعي” من هذا المعنى. ففي المغزى ثلاثي الأبعاد لإحالة الجملة إلى ذاتها، وهي البعد التمريري illocutionaryللفعل الكلامي، وقصد التعرف من لدن السامع، يمثل معنى الناطق الجانب “الذاتي” للمعنى.

ولا يستنفد هذا الجدل الذاتي ـ الموضوعي معنى المعنى، ولذلك فهو لا يستنفد أيضاً بنية الخطاب. ويمكن تناول الجانب “الذاتي” للخطاب بطريقتين مختلفتين أيضاً. فقد نعني به “ما” الخطاب، أو قد نعني به”عمّا” الخطاب. و”ما” الخطاب هو مغزاه sense، أما “عما” الخطاب فهو مرجعه وإحالته reference.وقد قدم هذا التمييز بين المغزى والإحالة (المنطقي الألماني) غوتلوب فريجة إلى الفلسفة الحديثة في مقالته الشهيرة:”Bedeutung Ueber Sinn und”التي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان “في المغزى والإحالة”. وهو تمييز يمكن ربطه مباشرة بتمييزنا الأولي بين السيمياء وعلم الدلالة.ولا يسمح لنا إلا مستوى الجملة أن نميز “ما يقال” عن “يقال عن ماذا”.ففي النظام اللغوي،كالمعجم مثلاً،لا وجود لمشكلة الإحالة، لأن العلامات تشير إلى علامات أخرى في داخل النظام. مع الجملة تتوجه اللغة إلى ما وراء ذاتها. وفي حين يكون المغزى محايثاً في الخطاب، وموضوعياً بالمعنى المثالي للكلمة، تعبر الإحالة عن الحركة التي تتعالى بها اللغة على ذاتها.بعبارة أخرى، يقرن المغزى وظيفة التحديد والوظيفة الإسنادية بالجملة، بينما تربط الإحالة اللغة بالعالم.فهي تسمية أخرى لدعوى الخطاب بالصدق.

والواقعة الحاسمة هنا أن اللغة لا تكتسب الإحالة إلا حين تُستعمل.كما أوضح ستراسون في مقالته الشهيرة عن مقالة راسل ، “عن التعيين”، فإن جملة بعينها،أي مغزى بعينه، قد يشير إلى الخارج، وقد لا يشير اعتماداً على الأحوال أو سياق فعل الخطاب.فلا وجود لعلامة داخلية، مستقلة عن استعمال الجملة، تشكل معياراً يمكن الاطمئنان إليه عن دلالة المطابقة مع الخارج.وبالتالي فليس جدل المغزى والإحالة بمنفصم الصلة عن الجدل السابق بين الواقعة والمعنى. فالإحالة إلى الخارج هي ما تقوم به الجملة في مقام معين واستناداً إلى استعمال معين.

وهي أيضاً ما يقوم به المتكلم، حين يصل كلماته بالواقع. وكون المرء يشير إلى شيء ما في وقت ما هو واقعة، أو حدث كلامي.

لكن هذه الواقعة تكتسب بنيتها من المعنى بوصفه مغزى. فالمتكلم يشير إلى شيء ما، من خلال البنية الفكرية للمغزى أو استناداً إليها.

هكذا يتخلل قصد الإشارة عند المتكلم المغزى، ويخترقه. وبهذه الطريقة يكتسب جدل الواقعة والمعنى تطوراً جديداً من جدل المغزى والإحالة.

لكن جدل المغزى والإحالة من الأصالة بحيث يمكن اعتباره دليلاً مستقلاً. فليس سوى هذا الجدل ما يقول لنا شيئاً عن الصلة بين اللغة والشرط الأنطولوجي للوجود في العالم. فاللغة ليست عالماً مستقلاً بذاته.بل هي ليست عالماً. ولكن لكوننا نعيش في العالم، ولكوننا نتأثر بالمواقف فيه، ولكوننا نتجه بأنفسنا كلية إلى هذه المواقف، فإن لدينا ما نقوله، ولدينا تجارب وخبرات ننقلها للغة.

وفكرة نقل التجربة للغة هي الشرط الأنطولوجي للإحالة، وهو شرط أنطولوجي ينعكس في اللغة بوصفها مسلمة ليس لها مسوغ محايث، مسلمة نفترض استناداً إليها الوجود الموضوعي للأشياء الجزئية التي ندل عليها. فنحن نفترض سلفاً أن شيئاً ما موجود،لكي نستدل على شيء آخر ونشير إليه. وهذا التسليم بالوجود الموضوعي existence من حيث هو أساس لتحديد الهوية هو ما قصده فريجة حين قال إننا لن نرضى بالمغزى وحده، بل نفترض قبلاً وجود الإحالة. وإن لتسليم ضروري بحيث إننا نحتاج إضافة صفات معينة إذا أردنا أن نشير إلى كيانات خيالية من طراز الشخصيات الروائية أو المسرحية. ويؤكد هذا الدور الإضافي للتعليق suspensionأن وظيفة تحديد معينة تثير بطريقة أصيلة جداً سؤالاً مشروعاً عن الوجود الموضوعي.

لكن هذه الإشارة القصدية إلى العالم خارج اللغة تعتمد على مسلمة خالصة، وستبقى قفزة موضع شك إلى ما وراء اللغة، إذا لم يكن هذا التخارج نظيراً للنقلة السابقة الأكثر أصالة، التي تبدأ من تجربة الوجود الموضوعي.

لكن هذه الإشارة القصدية إلى العالم خارج اللغة تعتمد على مسلمة خالصة، وستبقى قفزة موضع شك إلى ما وراء اللغة، إذا لم يكن هذا التخارج نظيراً للنقلة السابقة الأكثر أصالة، التي تبدأ من تجربة الوجود في العالم وتنطلق من هذا الشرط الأنطولوجي نحو التعبير عنه في اللغة. فلأن هناك أولاً شيئاً ما نقوله، ولأن لدينا تجربة نريد نقلها للغة، فإن اللغة لا تتجه نحو معنى مثالي، بل تحيل كذلك إلى ما يوجد في الخارج.

وكما قلتُ، فهذا الجدل من العمق والأصالة بحيث إنه يمكن أن يحكم كامل نظرية اللغة بصفتها خطاباً، بل يمكن أن يقدم إعادة صياغة للجدل النووي عن الواقعة والمعنى. فلو لم تكن اللغة تحيل بعمق إلى الخارج، فهل كانت ستكون ذات معنى؟كيف يمكننا أن نعرف أنّ العلامة تمثل شيئاً ما، إذا لم تكتسب توجهها نحو الشيء الذي تمثله من استعمالها في الخطاب؟وأخيراً تبدو السيمياء وكأنها محض تجريد من علم الدلالة.والتحديد السيميائي للعلامة بصفتها اختلافاً داخلياً بين الدال والمدلول يفترض قبلاً تعريفاً دلالياً لها بصفتها إحالة إلى شيء ما تمثله. إذاً، فالتعريف الأكثر عينية للسيمياء هي أنها النظرية التي تربط التكوين الداخلي أو المحايث للمغزى بالقصد المتعالي للإحالة.

وهذا الاستدلال الكلي على مشكلة الإحالة من السعة بحيث يجب حتى على معنى المتكلم أن يتم التعبير عنه بلغة الإحالة من حيث هي خطاب يحيل إلى ذاته، أي من حيث هي استدلال المتكلم ببنية الخطاب. والخطاب يشير إلى من يتكلم به في الوقت نفسه الذي يشير فيه إلى العالم. ولي هذا التعالق بالأمر الاتفاقي، ما دام المتكلم يشير إلى العالم حين يتكلم.فالخطاب في الفعل وفي الاستعمال يشير إلى الأمام وإلى الوراء معاً, إلى المتكلم وإلى العالم.

هذا هو المعيار النهائي للغة بصفتها خطاباً.

بعض المضامين التأويلية

من الممكن لنا حتى في هذه المرحلة المبكرة من بحثنا أن نستبق بعض مضامين التحليل السابق بالنسبة إلى نظريتنا في التأويل.فهي تعني في الأساس باستعمال وسوء استعمال مفهوم الواقعة الكلامية في التراث الرومانسي للتأويل. وكانت النظريات الرومانسية في التأويل ، ولا سيما عند دلتاي وشليرماخر، قد حاولت إحداث مطابقة وتماه بين التأويل ومقولة «الفهم»،وعرفت الفهم بأنه التعرف على قصد الكاتب من وجهة نظر المستقبلين البدائيين في موقف الخطاب الأصيل. وقد فرضت الأولوية التي منحت لمقاصد المؤلف والمستقبلين أن يكون الحوار نموذجاً لكل موقف فهم، وبالتالي أن تظل التأويلية محصورة في إطار نزعة نفسانية، حتى وإن لبست لبوس حوار بين الذاتيات المتفاعلة(inrer-subjectivity).ففهم نص ما، إذاً، هو حالة خاصة من الموقف الحواري الذي لا يستجيب فيه شخص ما لشخص آخر سواه.

ولقد كان لهذا المفهوم ذي الطابع النفسي عن التأويل أثره الكبير في اللاهوت المسيحي. وقد غذى لاهوتيات«واقعة الكلمة»التي تحظى لديها الواقعة بشرف الواقعة الكلامية بامتياز، وهذه الواقعة الكلامية هي الرسالة المبلغة kerygma، التي هي بشارة الرسل. ويتحقق معنى الواقعة الأصيلة أمام ذاته في الواقعة الحاضرة التي نمارسها على أنفسنا في فعل الإيمان.

إن محاولتي هنا أن استدعي إلى دائرة السؤال فرضيات هذه التأويلية من وجهة نظر فلسفة الخطاب، بغية تحرير التأويلية مما اعتراها من انحيازات ذات طابع نفسي أو وجودي. لكني لا أصبو إلى وضع هذه التأويلية القائمة على مقولة الواقعة الكلامية في تناقض مع تأويلية لن تكون سوى نقيض لها، ما دامت تقوم على تحليل بنيوي للمحتوى الخبري للنصوص.فمثل هذه البنيوية ستعاني أيضاً من داء الواحدية اللاـحوارية نفسه. وتنبع فرضيات التأويلية ذات الطابع النفسي ـ كشأن فرضيات التأويلية المعاكسة لها ـ من سوء فهم مزدوج لجدل الواقعة والمعنى في الخطاب، وجدل المغزى والإحالة في المعنى نفسه، ويفضي سوء الفهم ذو شقين هذا بدوره إلى إسناد مهمة مغلوطة للتأويل، مهمة تجد أفضل تعبير عنها في الشعار الشهير:«نفهم المؤلف بأفضل مما فهم نفسه» ولذلك فإن مانراهن عليه في هذا النقاش هو التعريف الصحيح للوظيفة التأويلية.

ولا أزعم أن المقالة الحالية تكفي وحدها لإضاءة كل أوجه سوء الفهم، لأن نظرية الخطاب،دون تمحيص دقيق للكتابة، تظل قاصرة عن كونها نظرية في النص، ولكن لو أننا أفلحنا في بيان أن النص المكتوب هو شكل من أشكال الخطاب، أوهو خطاب خاضع لنسبته لآخر، إذاً فستكون شروط إمكان الخطاب هي نفسها شروط إمكان النص، وكما بين نقاشنا لهذه الشروط، فإن فكرة الواقعة الكلامية ليست بملغية،بل هي تتعرض بالأحرى لسلسلة من الاستقطابات الجدلية التي يوجزها العنوان المزدوج لجدل الواقعة والمعنى، وجدل المغزى والإحالة، وتتيح لنا هذه الاستقطابات أن نتوقع أن مفهومي القصد والحوار ليسا بمستبعدين عن التأويلية،بل يجب، بدلاً من ذلك، إطلاقهما من واحدية المفهوم اللاجدلي للخطاب، بهذه الطريقة تكون المقالة الحالية المقالة الافتتاحية بحق في مغزى الكلمة القوي، إن لم تكن منطلق سلسلة كاملة من المقالات.

الكلام والكتابة

بقدر ما تكون التأويلية تأويلاً موجهاً نحو النص، وبقدر ما تكون النصوص، من بين أشياء أخرى، حالات من اللغة المكتوبة،فما من نظرية تأويل ممكنة لا تشتبك مع مشكلة الكتابة، ولذلك فالهدف من هذا المقال ذو شقين، أريد أولاً أن أبين أن للانتقال من التكلم إلى الكتابة شروط إمكان خاصة به في نظرية الخطاب التي وصفناها في المقال الأول، ولاسيما في جدل الواقعة والمعنى،الذي تأملنا فيه هناك، وهدفي الثاني أن أربط ذلك النوع من التخارج القصدي الذي تعرضه الكتابة بالمشكلة المركزية في التأويلية،أعني مشكلة التنائي distanciation،ومفهوم الخارجية نفسه، الذي سيحظى في الجزء الأول من هذه المقالة بالاستعمال أكثر من النقد، سيصير مفهوماً إشكالياً في الجزء الثاني منها، وسيوفر لنا نقد أفلاطون للكتابة بوصفها اغتراباً alienation نقطة عودة من المعالجة الوصفية إلى المعالجة النقدية لتخارج الخطاب المناسب للكتابة.

من التكلم إلى الكتابة

مايحدث في الكتابة هو التجلي الكامل لشيء ما،هو في حالته الافتراضية شيء وليد وناشئ في الكلام الحي، ألا وهو فصل المعنى عن الواقعة، لكن هذا الفصل لا يرمي إلى إلغاء البنية الأساسية للخطاب، كما ناقشتها في مقالي الأول، حيث يظل الاستقلال الدلالي للنص الذي يظهر الآن،محكوماً بجدل الواقعة والمعنى.

أضف إلى ذلك أن بالإمكان القول إن هذا الجدل يتضح وينجلي في الكتابة، والكتابة هي التجلي الكامل للخطاب،والإصرار ـ كما يفعل جاك ديريداـ على أن للكتابة جذراً متميزاً عن الكلام، وأن هذا الأساس قد أسيء فهمه لكوننا أولينا اهتماماً مفرطاً للكلام والصوت واللوغوس، هو مبالغة في تقدير كلا النمطين اللذين يتحقق بهما الخطاب في التكوين الجدلي له.

أقترح، بدلاً من ذلك، البدء من المخطط الاتصالي الذي وصفه رومان جاكوبسن في مقالته الشهيرة “ علم اللغة والشعرية” يقرن جاكوبسن بالعناصر الستة في الخطاب الاتصالي ـ وهي المتكلم والسامع والوسط أو قناة الاتصال والشفرة والسياق والرسالة ـ ست وظائف هي : الوظائف الانفعالية والاقناعية والتعاطفية واللغوية الشارحة والمرجعية والشعرية،إذا اتخذنا من هذا المخطط نقطة انطلاق لنا، فقد نتساءل عن أي التغيرات أو التحويلات أو التشويهات تؤثر في تفاعل الوقائع والوظائف حين ينسطر الخطاب في الكتابة.

الرسالة والوسط: التثبيت

يهتم أوضح التغيرات التي تطرأ على التحول من المتكلم إلى الكتابة بالعلاقة بين الرسالة ووسطها أو القناة التي تنتقل عبرها، وقد يبدو أن التغير الأول، لدى الوهلة الأولى،معني بهذه العلاقة وحدها،لكن الفحص المتأني يكشف أنه ينير في كل اتجاه، مؤثراً على نحو حاسم في جميع العوامل والوظائف، لذلك فإن مهمتنا ستسير من هذا التغير المركزي نحو تأثيراته المتعددة على المحيط.

وكتغير بسيط في طبيعة الوسط الاتصالي، تتطابق مشكلة الكتابة مع مشكلة تثبيت الخطاب في حامل خارجي، سواء أكان الحجر، أو البردي، أو الورق، أو كل ما يختلف عن الصوت البشري،وهذا السطر أو التسطير inscription، الذي يحل محل التعبير الصوتي أو التعبير بالأسارير أو الإيماءات، هو نفسه إنجاز ثقافي هائل، إذ يختفي فيه الواقع البشري، وتنوب عنه الآن علامات مادية في نقل الرسالة، وهو إنجاز ثقافي يُعني بطبيعة الخطاب الوقائعية أولاً، ثم بالمعنى تالياً، فلأن الخطاب وحده يوجد في لحظة زمنية وحاضرة من الخطاب، فقد يفلت كلاماً ويثبت كتابة، ولأن الواقعة تظهر وتختفي، فهناك مشكلة تثبيت أو تسطير ،وما نريد تثبيته هو الخطاب، لا اللغة بصفتها لساناًLangue ،وليس إلا من خلال التوسيع،نثبت بالتسطير الأبجدية والمعجم والقواعد، وكل ما يساعد في تثبيت ما يمكن تثبيته وحده، ألا وهو الخطاب،فنظام اللغة اللازمني لا يظهر ولا يختفي، لأنه ببساطة لايحصل،فالخطاب وحده هو مايجب تثبيته،لأن الخطاب من حيث هو واقعة يختفي.

لكن هذا الوصف اللاجدلي لظاهرة التثبيت لا يبلغ جوهر عملية التسطير، قد تنقذ الكتابة لحظة الخطاب، لأن ما تثبته الكتابة فعلاً ليس واقعة التكلم، بل “قول” التكلم، أي مكون التخارج القصدي لمزدوج “الواقعة ـ المعنى” ما نكتبه وما نسطره هو تعقل مضموني خالص “نوئيما noema” لفعل التكلم، هو معنى الواقعة الكلامية، وليس الواقعة بما هي واقعة،وهذا التسطير،برغم المخاطر التي سنشير إليها لاحقاً متابعين أفلاطون في الجزء الثاني من هذا المقال، هو غاية مسير الخطاب، ولايكتمل الخطاب بوصفه خطاباً بكامل معنى جدله النووي، إلا حين يتحول القول sagen إلى إفصاح وإجهار Aus- sagen .

ليس من الضروري هنا أن نستفيض في تأمل فكرة الواقعة الكلامية من خلال الوصف الكامل للفعل الكلامي، أي بوصفه تعبيرياً وتقريرياً،وتمريرياً،وقولاً تأثيرياً، وكما أوضحت في مقالي الأول، يفسح كل من هذه الأفعال المجال لجدل الواقعة والمعنى.

ولكون العلامات النحوية تعبر بطريقة خارجية وعلنية، فإن تخارج الخطاب القصدي يعني بكامل تراتب الأفعال الكلامية الجزئية: يتخارج بالفعل التعبيري في الجملة، التي يمكن تحديد بنيتها الداخلية.

وإعادة تحديدها، وتظل مع ذلك جملة واحدة، ولذلك يمكن تسطيرها وحفظها،وبقدر ما يمكن تخارج الفعل التمريري بفضل النماذج القواعدية،والإجراءات التي تمليها “ قوتها” فيمكن تسطيره أيضاً، ولكن بقدر ما تعتمد القوة التمريرية في الخطاب المنطوق على المحاكاة والإيماء، وعلى أوجه الخطاب التي لا يمكن تأديتها شفوياً، والتي نسميها بالإيقاعات والنبرات، فينبغي الاعتراف بأن القوة التمريرية أقل قابلية على التسطير من قضايا المعنى، وأخيراً، فإن القول التأثيري هو الجانب الأقل قابلية على التسطير في الخطاب،للأسباب التي ذكرناها في المقال السابق، فهو سمة من سمات اللغة المنطوقة،لا من سمات اللغة المكتوبة.

وفي جميع الأحوال فإن توسيع إشكالية التثبيت،في التحليل الأخير،يساوي توسيع الخارج القصدي للفعل الكلامي بكل مافيه من بنى متعددة الأبعاد.

والآن هل تستنفد إشكالية التثبيت والتسطير مشكلة الكتابة؟ أو بعبارة أخرى هل تمثل الكتابة قضية تغيير للوسط فقط،حيث تحل علامات مادية خارج جسم المتكلم محلَّ صوته ووجهه وإيمائه؟

حين نتأمل في نطاق التغيرات السياسية والاجتماعية التي يمكن ربطها بالكتابة، فقد نتصور أن الكتابة أكثر بكثير من مجرد تثبيت مادي، ولا نحتاج سوى إلى تذكير أنفسنا ببعض الإنجازات الهائلة.

وحينئذ قد نربط بين إمكانية نقل الأوامر لمسافات طويلة، دون تعريضها لتشويهات خطيرة، وبين مولد الحكم السياسي الذي كانت تمارسه دولة مترامية الأطراف، وهذا المضمون السياسي للكتابة هو إحدى النتائج المترتبة على ذلك، وقد نربط بين تثبيت الأحكام والمعايير بغية حسابها، بمولد علاقات السوق،وبالتالي بمولد الاقتصاديات، ونربط تكوين الدواوين، والأراشيف بالتاريخ، وبتثبيت القانون، كمعيار لإصدار القرارات، بصرف النظر عن رأي قاضٍ معين، يمكننا أن نربط مولد العدالة بالسنن القانونية .. إلخ ويوحي المدى الكبير لهذه النتائج أن الخطاب البشري لا يثبت في الكتابة صوناً له من الدمار وحسب، بل هو ينزع إليها بعمق في وظيفته الاتصالية.

وقد يشجعنا تأمل ثانٍ على متابعة هذه الفكرة الجديدة، فما أن يتم النظر إلى الكتابة لا من حيث هي مجرد تثبيت لخطاب شفوي سابق، بل من حيث ينتقل إليها الفكر البشري انتقالاً مباشراً دون المرور بالمرحلة الوسطى للغة المنطوقة، حتى تثير الكتابة مشكلة من نوع ما، إذاً تحل الكتابة محل الكلام، وهكذا يحصل نوع من الطفرة بين معنى الخطاب والوسط المادي، يجب أن نتعامل إذاً مع الأدب بالمعنى الأصيل للكلمة، إذ يودع مصير الخطاب في أيدي الحروف المكتوبة litter، لا الأصوات vox.

وأفضل السبل في قياس مدى هذا الاستبدال هو النظر في نطاق التغيرات التي تحصل في إطار المكونات الأخرى الداخلة في العملية الاتصالية.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3