العجــــــــــــــــــــــــــــــــــوز والبحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر....1ـ 3
أرنست همنجواي
ترجمة: د.زياد زكريا
هذه القصة
تقع هذه القصة في منتصف الطريق.. بين الأقصوصة والرواية ومع ذلك فإنها قد نهضت دليلاً من أدلة القياس الفكري العالمي على أن الكيف انما هو أعمق اثراً من الكم, ومصداق هذا أن قضاة جائزة نوبل, حينما منحوا صاحب هذه القصة, أرنست هيمنجواي جائزة الأدب, وذلك في نوفمبر من عام 1954, لم يشيروا إلى قصص اخرى اكثر منها طولاً , كما أشاروا إلى هذه القصة بالذات, فقالوا: أن الجائزة قد منحت له (لتفوقة في فن الرواية الحديثة, كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الاخيرة: (العجوز والبحر).
ولقد نشرت هذه القصة لأول مرة عام 1952 وصادفت هوى في نفوس الناس في كل صقع من اصقاع العالم , مما حمل المترجمين على ترجمتها إلى كل لغة, كما حمل الطابعين والناشرين على اصدار عدة طبعات متتالية منها, مجردة أو مقترنة بالصور التي أفتن في مجالها كثير من الرسامين العالميين.
والصور التي تقترن بهذه الترجمة التي نقدمها لقراء العربية, من صنع ريشتي الفنانين العالميين (ك.ف. تانيكليف) و(ريموند شبرد) وكل منهما صاحب مدرسة في الفن غير مدرسة الآخر ومع هذا فقد اشتركا في تصور قسمات العجوز والغلام, وسمات الخليج والمحيط والزورق والسمك, وتصورا قد يختلف في أسلوبه, ولكنه يلتقي في تأثيره.
وهذه القصة ليست كسائر القصص.. ذلك أن من يبن سمات القصص أن يكون لها ابطال كثيرون, اما هذه القصة فإنها إذا استثنينا بضع صفحات معدودة منها تقع في أولها وآخرها, تقوم كلها على بطولة بطل واحد, هو العجوز.
وليست هناك امرأة..
واذا جاز أن نعدد في هذه القصة أبطالاً غير هذا العجوز, فإن هؤلاء الابطال ليسوا من البشر.
فالبطل الثاني – الذي يقابل دور المرأة في كل قصة عادية – هي السمكة الكبيرة.
وأصحاب الأدوار التالية في البطولة هم: المحيط والرياح والدلافين, وألوان غير ذات عدد من الاسماك والاعشاب والطيور البحرية.
ولانحسب أن أحداً من كتاب القصة العالميين قد استطاع أن يجمع أبطالاً كأبطال هذه القصة, وأن يحركهم على هذه الصورة مثلما جمع ارنست هيمنجواي أبطال قصته وأتاح لهم أن يتحركوا.
نحن نعرف أن الرجل كان مفتوناً بكوبا, وكان كثير التردد على شواطئها ولهذا فإنه على الرغم من اخلاصه لأمريكيته, لم يستطع من ضعفه نحو كوبا – أن يخفي مايحس به من عطف نحو الزعيم الكوبي الثائر (فيدل كاسترو) خصيم بلاده الأول في نصف الكرة الغربي ومن حبه لكوبا, ومن خبرته بشواطئها وأمواجها, جعلها مجالاً لأحداث قصته هذه التي تدلنا على مدى المام مؤلفها بالبحر وأحواله ورياحه وتياراته وسكانه الفوقيين والتحتيين, في تفصيل لا يعرفه إلا أمهر الصيادين.
ومرة أخرى, نقول: اننا اذا استثنينا بعض صفحات معدودة في أول الرواية واخرها, لانجد بطلاً من البشر طوال قراءتنا لهذه القصة , إلا العجوز وحده.
ومن هنا تنبثق الصعوبة الكبرى أمام كاتب القصة, حينما يريد أن يصور موقفاً ما بأسلوب من أساليب الحوار, فلا يجد أمامه إلا العجوز, يحدث نفسه طوراً ويفكر بصوت عال تارة, ويخاطب السمكة تارة أخرى وقد كلم الله عرضاً, أو يلعن الاقدار في ساعة ضيق.
وقد يتساءل قارئي: ماهدف هذه القصة التي قد تبدو للقارىء العادي غير ذات هدف؟ أقول لهذا القارىء ماقاله الناقد الكبير (أريك لاينليتر) بعد أن انتهى من قراءة هذه القصة:
(ان هيمنجواي لم يكتب في حياته أجمل من هذه القصة التي صور فيها الجراح البطولية للانسانية انه كتاب صغير في كمه, ولكني أنصحك بأن تقرأه ثلاث مرات.
وانك - إن قرأته ثلاث مرات – قد تصل إلى أعماق (هيمنجواي) وهو يصور لذة الكفاح حتى آخر العمر, وكذلك فائدة التجربة التي كثيراً ماتغني عن القوة, واثر الحاجة التي هي أم الاختراع, وطاقة الرجولة في الصبر على المكاره.. إلى أن يصل بك المؤلف – في آخر الرواية – إلى السمكة التي لم يبق منها إلا عظمها وذيلها ليصبحا حديث الناس من مقيمن أو وافدين.
فإذا كنت من أهل الحكمة أدركت الهدف الاخير, وهو أن لكل مجاهد أجره, وان لم يستطع المجاهد أن يلمس جوهر هذا الاجر, فإنك أنت - ايها القارىء – تلمسه في كلمة طيبة تقال عن هذا المجاهد, فتصبح عطراً في سيرة حياته بعد أن تحترق ذبالة النور الأخيرة من هذه الحياة.
كان الرجل قد بلغ من الكبر عتياً
ولكنه لا يزال رابضاً في زورقه وحيداً يطلب الصيد في خليج جولد ستريم وقد عبرت به حتى الساعة أربعة وثمانون يوماً لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق.
في الأيام الأربعين الأولى منها كان له غلام يعينه على أمره،
ولكن أربعين يوماً انطوت على غير طائل فلم يسع والدا الغلام إلا أن يقطعا لولدهما بأن هذا العجوز مشؤوم لا يطلع نجمه إلا على نحس.
وهكذا نزل الغلام عند رغبة أبويه وترك صحبة العجوز وذهب يعمل في زورق آخر جاد البحر على ذويه بثلاث سمكات طيبات منذ أول أسبوع.
وكان يحز في قلب الغلام أن يرى العجوز قافلاً إلى الشاطئ في نهاية كل يوم، وزورقه خاوي الوفاض فلا يملك إلا أن يهرع إليه ليعاونه في لملمة حباله وحمل حربة صيد القرش وطي الشراع حول الصاري.
وكان هذا الشراع المرقع بالخيش إذا ما انطوى حول صاريه بدا كأنما هو علم للهزيمة المتصلة.
كان العجوز جسداً ناحل العود، توغلت في قفاه غضون عميقة، وقد عدت حرقة الشمس في انعكاساتها على مياه البحر على بشرته عدواناً قاسياً، فملأت خديه بالبثور واستدارت فنثرت الكثير منها على جانبي وجهه.
أما كفاه فقد حفرت فيهما الحبال التي طالما جرر بها الأسماك الثقيلة جراحا عميقة الغور ليس بينها جرح جديد، فهي جميعاً قديمة قدم الحفريات في صحراء عديمة السمك.
كان كل ما فيه عجوز مثله إلا عينيه.
عيناه كانتا في صفاء مياه البحر يطل منهما المرح وعدم الاعتراف بالهزيمة.
آذن النهار بنهايته.
واستقر الزورق وألقى مراسيه على الشاطئ.
وقال الغلام للعجوز وهما يسيران صعدا صوب الشاطئ :
الآن ... استطيع أن أعود فأعمل معك يا سانتياجو فقد أدخرت بعض النقود.
كانت كلمات الغلام آية عرفان الجميل فقد كان يحب العجوز، لأنه هو الذي لقنه أصول مهنة الصيد.
ولكن العجوز لم يطق هذه المهنة فقال الغلام :
لا يا ولدي أنك تعمل في مركب حسن الطالع فابق مع أصحابه.
ولكن .... اتذكر كيف عبرت بك ذات مرة سبعة وثمانون يوماً دون أن نظفر خلالها بسمكة واحدة، ثم ما لبثت الآية أن انقلبت وجعلنا نظفر بعدة سمكات كبيرات كل يوم طوال ثلاثة أسابيع ؟
فأجاب العجوز بقوله :
نعم أذكر وأعرف أنك لم تتخل عني لأنك أصبحت في شك من أمري.
ان أبي هو الذي حملني على تركك واني لغلام ولا اعصي له أمراً.
نعم يا ولدي هذا طبيعي.
إنه قليل الثقة.
أما نحن فكلنا ثقة السنا كذلك ؟
أجل
واستطرد الغلام يقول :
أتـأذن أن أقدم لك قدحاً من البيرت في محل (الشرفة) قبل أن نحمل المعدات إلى بيتك ؟
ولم لا؟ إنها حفاوة الصياد بالصياد.
وانتهيا إلى (الشرفة).
ووقعت على العجوز أنظار جماعة من شباب الصيادين، فاتخذت منه مادة للتندر والضحك على أنه لم يغضب مما يصنعون.
أما شيوخ الصيادين فقد راحوا يتطلعون إليه في أسى ورثاء وإشفاق ولكنهم لم يظهروا له ما يستشعرون نحوه، بل جعلوا يتحدثون في تأدب عن التيار، وعن الأعماق التي القوا بشباكهم إليها، وعن نعمة الطقس الطيب المنتظم، وعن كل ما يلم بهم في حياة البحار.
وكان الصيادون الذين طاب رزقهم في ذلك اليوم من سمك (البوري) قد جمعوا حصيلة صيدهم وحملها أربعة رجال على وفاض ضخم مشدود إلى لوحين من الخشب وساروا بها إلى بيت السمك في انتظار السيارة المثلجة لتحملها إلى السوق في هافانا.
أما من كان نصيبهم من صيد اليوم اسماك القرش فقد حملوها إلى مصنع القرش عند الشاطئ الآخر من القرية حيث شدت إلى الالواح واخرجت اكبادها وسلخت جلودها وفصلت زعانفها وقطعت لحومها شرائح للتمليح.
كانت الريح إذا هبت من الشرق حملت معها رائحة منبعثة من مصنع القرش.
أما اليوم فالريح تهب صوب الجنوب ثم لا تلبث أن تخبو فتخبو معها الرائحة.
وكان الجو مشمساً لطيفاً في (الشرفة).
وصاح الغلام بصاحبه العجوز :
سانتياجو ...
فأفاق العجوز من سبحة بعيدة عبر ذكريات السنين وقال وقدح البيرة في يده:
نعم ...
أتحب أن أذهب فأجيئك ببعض السردين، لعلك تحتاج إليه في الصيد غداً؟
لا يا ولدي أذهب والعب البيسبول أنني لا أزال قادراً على العمل وسيتولى روجيليو حمل الحبال.
بل لابد أن أذهب لأجيئك بها فما دمت لا أملك أن أعاونك في الصيد فما سبيلي إلى عونك بأية وسيلة ؟
لقد أصبحت رجلاً بالفعل وقدمت لي قدحاً من البيرة.
وتساءل الغلام :
كم كان عمري عندما اخذتني في زورقك لأول مرة ؟
خمس سنوات وقد كدت تهلك عندما أخرجت حبالي سمكة هائلة، أوشكت وهي تقاوم أن تمزق الزورق أرباً، اتراك تذكر هذه الواقعة ؟
أذكر أن ذيلها راح يضرب الزورق ويلطم قيدومه بعنف صارخ وأذكر انك يومئذ القيت بي في حنية الزورق فوق الحبال المبتلة في حين جعل الزورق يترجع في رعشة لحموم، وكنت أسمع صوتك وأنت تقاوم وكأنما حطاب يقد جذع شجرة هائلة ويطرحها أرضاً، وكان دمها يتفجر حولي.
أحقاً تذكر هذا المشهد، أم تذكر ما رويته لك عنه ؟
بل أذكر كل ما كان منذ ن أن خرجنا معاً لأول مرة.
فتطلع إليه العجوز بعينيه الوامقتين الواثقتين برغم ما احرقت الشمس من جفونهما وقال له :
لو أنك كنت أبني لخرجت بك إلى الدنيا لتغامر معي، ولكنك ملك لأبيك وأمك وأنك لتعمل في مركب حسن الطالع.
هل أذهب فأجيئك بالسردين وبعض الطعم أيضاً ؟
إنني لم استهلك طعم اليوم وسينفعني غداً لقد وضعته في الماء الملح ليصلح لغد.
دعني اجيء لك بأربع قطع طازجة من الطعم.
فأجاب العجوز متأثراً ولما يزل به كثير من الأمل وكثير من الثقة وكأنما انعشتهما في كيانه خطرة النسمات !
قطعة واحدة تكفي.
بل اثنتين.
حسناً ... ولكن غير مسروقتين ؟
لا ضير علي إذا أنا سرقتها من أجلك ، ولكن الواقع أنني اشتريتهما.
اشكرك .
وراح العجوز يتملى مشهد البحر ثم قال :
هذا التيار يبشر بغد طيب .
فسأله الغلام :
إلى أين متجه غداً ؟
سأذهب بعيداً لأعود مع الريح عندما تغير وجهتها ولأخرج من الماء قبل انبلاج الخيط الأبيض من الفجر.
سأحاول أن أحمل الذي أعمل معه على الذهاب بعيداً هو الآخر، حتى إذا وقعت لك سمكة ضخمة هرعنا إليك لنعينك على أمرها.
ولكن صاحبك لا يروق له أن يوغل كثيراً في البحر.
أجل ولكني سأحدثه عن شيء لا تراه عيناه كطائر بحري مثلاً يتعقب فريسة في الماء وهكذا أحمله على الايغال في البحر ولو وراء دلفين.
أبصره ضعيف إلى هذا الحد ؟
يكاد يكون أعمى
عجيب ... مع أنه يسير مستقيماً ولا ينعرج خلال سيره في البحر مما يذهب بأبصار الملاحين.
ولكنك كثيراً ما انعرجت خلال سيرك في البحر موغلاً في شاطئ البعوض لسنوات طويلة ومازالت عيناك بخير.
أنا عجوز عجيب يا ولدي.
أو ترى أن لك جلداً على صيد الأسماك الكبيرة حتى الآن ؟.
أظن هذا وأني لأستعين عليها بما عندي من حيل كثيرة.
قم بنا نحمل المعدات إلى البيت ثم أخذ الشبكة الصغيرة لأتصيد بها بعض السردين.
وقاما إلى الزورق فحملا معداته .
حمل العجوز الصاري على كتفه في حين حمل الغلام الصندوق الخشبي والحبال والحربة وما إليها وتركا عليه الطعم تحت مؤخر الزورق إلى جانب الهراوة التي تؤدب الأسماك الكبيرة.
صحيح أن أحداً من أهل القرية لم يكن ليفكر في سرقة متاع العجوز ولكنه كان يؤثر أن يحمله معه إلى بيته لأن قطرات الندى تضر بالشراع والحبال الثقيلة.
أما الصنانير والحربة، فقد كان العجوز يدرك أن ما فيها من قلة الاغراء خليق بأن يحمل أحداً من أهل الحي على مد يده إليها.
وسارا صعداً في الطريق إلى كوخ العجوز ودلفا من بابه المفتوح.
وانزل العجوز الصاري الذي يلتف حوله الشراع عن كتفه واسنده إلى الأرض.
أما الغلام فقد وضع الصندوق وبقية ما يحمل من معدات إلى جانب الصاري الذي يكاد يبلغ في امتداده طول الغرفة اليتيمة التي يتألف منها كوخ العجوز.
كان الكوخ مصنوعاً من جذوع النخيل وليس فيه من متاع الدنيا أكثر من مخدع ومائدة ورقعة خاوية من الأرض التراب، يخصصها العجوز الطهي لقمته على الفحم.
وعلى بعض جدران الكوخ صورة ملونة للقلب المقدس وأخرى للعذراء.
وهناك بعض مخلفات زوجته الراحلة..
كانت لها صورة فوتوغرافية باهتة الألوان معلقة على الحائظ ولكن هذه الصورة كانت تشعره دائماً بقسوة الوحدة كلما وقع بصره عليها فآثر أن يهبط بها عن الحائظ ويضعها على رف في ركن الكوخ خلف قميصه النظيف اليتيم.
وسأله الغلام :
ماذا تأكل الليلة ؟
عندي صحن من الأرز الاصفر والسمك أتأكل معي ؟
لا بل أكل في بيتي هل اوقد لك النار ؟
لا حاجة بنا إلى اشعالها الآن وقد أكل الأرز بارداً.
أتأذن لي أن آخذ الشبكة الصغيرة ؟
طبعاً.
وكان الغلام يعرف أن الشبكة الصغيرة لا وجود لها ويذكر متى باعاها ليستعينا بثمنها على القوت ولكن كان يلذ لهما أن يتخيلا كل يوم أنها لا تزال باقية.
وعلى هذا القياس أيضاً، لم يكن هناك صحن فيه أرز أصفر ولا سمك.
وكان الغلام يدرك هذه الحقيقة أيضاً.
وذكر العجوز أن اليوم التالي هو يومه الخامس والثمانون في البحر .... وقد مر مامر من الأيام بغير صيد فقال الغلام :
خمسة وثمانون ؟ لعل هذا الرقم مجلبة للحظ ما ظنك بي لو رأيتني أخرج بسمكة تزن أكثر من ألف رطل ؟
سآخذ الشبكة الصغيرة، وأذهب في طلب السردين، أما أنت، فاخرج وأجلس في الشمس أمام الباب.
حسناً، سأفعل ما تقول، وعندي جريدة أمس، أجلس في الشمس وأقرأ صحيفة البيسبول.
ولم يكن الغلام يدري أهي حقاً جريدة أمس أم أنها مجرد خيال كبقية ما تحدثا عنه ؟
ولكن العجوز مد يده تحت المخدع فتناول الصحيفة قائلاً:
لقد اعطاني (بيريكو) إياها ونحن في البوديجا
وهمّ الغلام بالانصراف وهو يقول :
سأعود إليك حالماً أظفر بالسردين وسأحتفظ بنصيبك ونصيبي معاً في الثلج إلى ان نتقاسمها في الصباح على أن تخبرني بأنباء البيسبول عندما أعود.
أن فريق (اليانكي) لا يخسر أية مباراة .. مطلقاً.
ولكني مشفق عليه من هنود (كليفلاند).
ثق أبطال (اليانكي) يا ولدي وأذكر (ديماجيو) العظيم.
بل لا أزال مشفقاً عليه من فريقين : نمرة (ديترويت) وهنود (كليفلاند)
لا تجانب الحق، وإلا اشفقت أيضاً من حمر (سنسناتي) وبيض (سوكس أوف شيكاجو)
سأتركك تدرس الموقف، على أن تخبرني بالنتيجة عندما أعود.
أتراه من الرأي أن نشتري تذكرة يا نصيب تنتهي بالرقم 85 إن غداً هو يومي الخامس والثمانون.
نستطيع أن نفعل هذا ولكن ما رأيك في الرقم 87 ؟ ألا يذكرك باليوم الذي سجلت فيه الرقم القياسي في الصيد ؟
هذا لا يحدث مرتين في العمر، ولكن قل لي: أترى أنه من الميسور الحصول على تذكرة يا نصيب تنتهي بالرقم 85 ؟
سأطلب واحدة يتوافر فيها هذا الشرط.
ولكن ثمن الورقة الواحدة دولاران ونصف الدولار فممن نقترض هذا المبلغ ؟
هذا سهل : إنني استطيع أن اقترض دولارين ونصف دولار في أي وقت.
وأحسب أنني استطيع هذا أنا الآخر ولكني أؤثر الاقتراض فإن من يبدأ الاقتراض ينتهي بالتسول.
وعبرت لحظة من الصمت خرج منها الغلام بقوله :
تذرع بالدفء أيها العجوز وأذكر أننا في شهر سبتمبر.
فأجاب العجوز :
الشهر الذي تكثر فيه الأسماك الكبيرة أما مايو فإن كل امرىء يستطيع أن يزعم فيه أنه صياد.
ونهض الغلام قائلاً :
سأذهب الآن ... من أجل السردين.
وحينما عاد الغلام إلى الكوخ كان العجوز قد استغرقه النوم وهو جالس على مقعده.
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب.
وتناول الغلام بطانية من مخلفات الجيش كانت على المخدع، فنشرها فوق ظهر المقعد وعلى كتفي العجوز.
كان للعجوز كتفان عجيبتان أكلت منهما السنون، ولكنهما لا تزالان قويتين.
وكذلك عنقه كانت عليه سمات القوة وقد أوشكت تلك الغضون أن تمحى حينما تدلى رأسه إلى الأمام في نومته.
أما قميصه فقد تكاثرت عليه الرقع حتى شابه شراع زورقه وقد عبث الوهج بهذه الرقع فأصبح كل منها بلون.
كان رأس العجوز - إذ هو كذلك - يبدو موغلاً في الهرم حتى لكأنه وقد اسدل جفونه على عينيه قد تجرد من كل معالم الحياة .
أما الجريدة فكانت لا تزال في حجرة نائمة بين ركبتيه وثقل يده ملقاة فوقها ونسمات الليل طائفة به وقدماه حافيتين.
هكذا تركه الغلام.
وهكذا عاد فألفاه.
وربت الغلام فوق ركبة العجوز وصاح به :
قم أيها العجوز.
وفتح العجوز عينيه ومرت هنيهة عاد خلالها إلى واقعه من احلام سحيقة المدى.
وابتسم وسأل الغلام :
بم جئت ؟
قال الغلام :
جئت بالعشاء وسنأكل معاً
لكنني لا أشعر بجوع شديد.
هيا، كل أنك لن تستطيع أن تخرج للصيد وأنت جوعان.
أجل ... يجب أن آكل.
وهبّ العجوز من مكانه، وطوى الجريدة، ثم جعل يرفع البطانية ويلفها فصاح به الغلام :
دعها حول كتفيك.
ثم تابع قوله :
ليهب لك الله طول العمر ولترع حق نفسك.
ثم تأمل ما جاء به الغلام وسأله :
ماذا سنأكل ؟
فولاً وأرزاً وموزاً مقلياً ويخني.
وكان الغلام قد جاء بالطعام في عمود ذي صحنين، من محل (الشرفة) وحمل في جيبه ملعقتين وشوكتين وسكينتين كل زوج منها في منديل من الورق.
وسأله العجوز :
من أين لك هذا ؟
من (مارتن) صاحب المحل :
ينبغي لي أذن أن أشكره.
لقد قمت بهذه المهمة فلا حاجة بك إلى شكره مرة أخرى.
سأنفحه لحم بطن سمكة كبيرة يوماً ما، ولكن أتذكر أنه صنع مثل هذا بنا من قبل ؟
أظن هذا .
إذن .. يجب أن انفحه شيئاً أكثر من لحم بطن سمكة كبيرة ما دام مشغولاً بأمرنا إلى هذا الحد.
وقد أضاف إلى عطائه بعض البيرة لي ولك.
كنت أفضل البيرة المعلبة.
أعرف هذا ولكنها في قوارير هذه المرة أسمها (هاتوي)
وسأعيد إليه القارورتين الفارغتين.
هذا لطف منك والآن أنأكل ؟
فقال الغلام برفق :
هذا ما سألتك اياه ، ولم أشأ أن أفتح العمود قبل ان تكون متأهباً للطعام.
لقد تأهبت له .. لا أسألك إلا هنيهة أغتسل فيها.
وسأل الغلام نفسه : أين يغتسل العجوز ؟ ان صنبور مياه القرية على مسيرة شارعين من هذا الطريق كان عليّ أن أجيئه بشيء من الماء، وقطعة من الصابون ومنشفة كيف لم أفطن إلى هذا ؟ وعلي أيضاً أن اشتري له قميصاً آخر، وسترة للشتاء، وحذاء من أي نوع وبطانية أخرى.
وهمهم العجوز والطعام في فمه :
ان اليخني ممتاز.
وعاد الغلام يسأله :
وما أنباء البيسبول ؟
في مباريات الدوري، فاز فريق (اليانكي) كما قلت لك.
ولكنه خسر مباراة اليوم !
هذا لا يعني شيئاً، فإن (ديماجيو) العظيم قد استرد مجده
ولكن لديهم ابطالاً غيره في الفريق.
هذا طبيعي أما (ديماجيو) فشيء آخر، وأما أنباء الدوري الآخر، بين فريقي (بروكلين) و(فيلادلفيا).. فأني أرجح كفة بروكلين على أنني لا ازال أفكر في (ديك سيسلر) وأولئك الأبطال الراسخين في الملاعب القديمة.
أولئك لا نظير لهم لقد رأيت (ديك سيسلر) يطلق أطول كرة شهدتها في حياتي.
اتذكر أيام كان يتردد على (الشرفة) ؟ لقد هممت مرة بأن أدعوه إلى الصيد ، فمنعني الحياء، فسألتك أن تدعوه أنت، ولكنك استحييت أنت الآخر.
نعم كانت غلطة كبرى ، وكان من الجائز أن يذهب معنا، ومن يدري، لعله كان يستمرىء الصيد ويواصل حياته معنا طوال العمر.
وهنا قال العجوز :
كم أتمنى أن آخذ (ديماجيو) العظيم معي في رحلة صيد، يقولون: إن أباه كان صياداً ومن يدري... لعل أباه كان فقيراً مثلنا يحس بأحساسنا.
أما (سيسلر) العظيم... فإن أباه لم يذق مرارة الفقر.. وكان يلعب في مباريات الدوري حينما كان في مثل سني.
أما أنا فعندما كنت في مثل سنك، كنت أتولى أمر الشراع في سفينة مربعة الاضلاع ذهبنا بها إلى افريقيا، ورأيت هناك السباع تعبث على الشاطئ في الليل.
ـ أعرف هذه القصة , فقد حدثتني بها من قبل.
ـ هل تؤثر أن نتحدث عن افريقيا أو عن البيسبول؟
ـ أؤثر الثانية , حدثني عن (ماكجرو) العظيم.
ـ كان يتردد على (الشرفة) هو الآخر فيما مضى, ولكنه كان جلفاً غليظ القول , وكان يبدو متعباً إذا شرب الخمر , وكان رأسه موزعاً بين أمرين: الجياد , والبيسبول , فكنت ترى جيوبه محشوة بقوائم أسماء الجياد دائماً , ولا يزال يردد اسماء الكثير منها كلما تحدث إلى أحد في الهاتف.
فقال الغلام:
ـ وكان منظماً كبيراً , بل أن أبي يقول عنه: أنه كان أعظم المنظمين.
ـ ذلك لأنه كان يأتي إلى هنا كثيراً ولو أن (دوروتشر) قد واصل مجيئه إلى هنا كل عام هو الآخر , لقال أبوك عنه أنه أعظم منظم.
ـ ومن هو أعظم المنظمين في رأيك؟ أيكون (اليوك) أم (مايك جوانزليز)؟
ـ أظن أنهما سيان.
ـ ومن أمهر صياد؟ أتراه أنت؟
ـ لا.. بل أني أعرف أن هناك من هم أمهر مني.
ـ هناك كثير من مهرة الصيادين , وهناك أيضاً صيادون عظماء ,أما أنت فإنك نسيج وحدك.
ـ شكراً لك ,إنك تغمرني بالسعادة ,وأتمنى على الله ألا تبرز من جوف البحر سمكة تثبت خطأ ما تزعم.
ـ إن جوف البحر لايستطيع أن يطوي سمكة تجرؤ على هذا ,ما دمت لاتزال قوياً.. كما تقول.
ـ قد لا أكون قوياً كما أعتقد ,ولكنني أتذرع بكثير من الحيل ,وأتزود بالعزيمة.
ـ احسب أنه من الخير أن تذهب الآن إلى مخدعك فتنام ,حتى تصحو نشطاً في الصباح وسآخذ المعدات معي إلى الشرفة.
ـ تصبح على خير ,وسأوقظك في الصباح.
ـ أنك ساعتي المنبهة.
ـ فأجاب العجوز قائلاً:
ـ الشيخوخة هي ساعتي المنبهة , ولعلك لاتعرف لماذا يستيقظ العجائز مبكرين.. ليجعلوا أيامهم الباقية أطول من أيام الناس.. فعقب الغلام بقوله:
ـ لست أدري ,ولكني أعرف أن الصغار ينامون في ساعة متأخرة .. وبصعوبة.
ـ نعم... أذكر هذا من عهد طفولتي ,على أية حال سأوقظك في الموعد.
ـ إني لا أحب أن يوقظني صاحبي الذي أعمل معه ,فإن هذا يشعرني بأنني دونه.
ـ أحس بهذا..
ـ طاب منامك أيها العجوز.
كان الكوج ظلاماً.. وقد تناول العجوز والغلام عشاءهما في جنحه فلما انصرف الغلام انسرب العجوز إلى مخدعه يتحسس موضع قدميه وخلع سرواله وحشاه بأوراق الجريدة ليتخذ منه وسادة يريح عليها رأسه.
ثم نشر ما عنده من صحف قديمة فوق المخدع لعله يلين جسده وتندثر ببطانيته ,وسرعان ما استغرقه النوم.
وراحت أحلامه تحمله إلى افريقيا وترد له ذكريات صباه فيها إذ طالما نعم بمشاهد ضفافها الذهبية ,وشطآنها البيضاء التي تبهر العيون , ورؤوس اشجارها في السموق وجبالها السمراء الفارعة.
كانت أحلام شيخوخته تحمله كل ليلة إلى تلك الشواطئ النائية ,وتطالعه بمشهد العبيد يرددون صيحاتهم والقوارب قادمة بهم وتغشاه رائحة القار والبلوط المنبعثة من سطح السفينة إذ هو مستلق عليه ,ويزدحم في أنفه عبق أرض افريقيا الذي تحمله إليه نسمات الصباح ,وكان من شأن العجوز أن يصحو على عبق الأرض إذا حملته إليه نسمات الصباح ,وعندئذٍ يهب من مخدعه ويلبس ثيابه ويذهب لإيقاظ الغلام.
ولكن عبق الأرض عادة تلك الليلة قبل موعده المألوف في ساعة مبكرة , وأدرك العجوز هذه الحقيقة حتى وهو يحلم فلم ينهض من مخدعه وواصل ما يراه في منامه ليشهد رؤوس الجزر الناتئة في البحر وليطوف بكثير من موانع جزر الكناريا ومراسيها البحرية.
ولم يعد العجوز ـ في أيامه هذه ـ يحلم بالعواصف ,ولا بالنساء ولا بالأحداث الضخمة , ولا بالحروب ومعارك القوة.. ولا بزوجته.
لم يعد يرى فيما يرى النائم إلا البلاد والسباع التي تلهو على الشاطئ كما تلهو القطط في الغسق.
وكان يحب مشهد هذا السباع حبه للغلام على أنه لم يحلم بالغلام قط.
###
صحا من نومه في موعده , وتطلع إلى الباب المفتوح الذي تطل منه بقية من ضوء القمر وفض سرواله مما فيه وارتداه وقضى حاجته خارج الكوخ , ثم ذهب يوقظ الغلام.
وذكر إذ هو في طريقه إلى بيت الغلام , إن ذلك الدفء الذي يستشعره لن يلبث أن يزول وتحل محله رعشة البرد إذ هو مقبل على مهمته في البحر.
كان باب بيت الغلام غير موصد فدفعه العجوز وانسرب إلى الداخل حافي القدمين.
وكان الغلام ممدداً على أريكة في أول غرفة من غرف الدار ,فرآه العجوز بوضوح على ضوء ما بقي من أشعة القمر الآفل ,وتحسس إحدى قدميه في رفق فصحا الغلام وتمطى ملتفتاً إليه.
وأوما العجوز إليه بتحية الصباح.
ونهض الغلام من سريره فتناول سرواله من فوق المقعد المجاور ,واعتدل في جلسته على السرير ,ولبس السروال وانسرب العجوز إلى الخارج وتبعه الغلام ,وكان النوم لايزال يخامر عينيه ,فوضع العجوز ذراعه حول كتفيه في اشفاق قائلاً له:
ـ أنا آسف
ـ فقال الغلام
ـ لابأس هكذا حياة الرجال.
وسلكا إلى كوخ العجوز في الظلام ,وكان الرجال يتحركون كالاشباح في دروب القرية حفاة الأقدام يحملون صواري قواربهم.
وحينما بلغ العجوز وصاحبه الكوخ ,حمل الغلام حبال الصيد والحربة ,وحمل العجوز الصاري بشراعه المطوي على كتفه.
وسأله الغلام:
ـ اتحتسي قدحاً من القهوة؟
ـ بل نضع المعدات في الزورق ثم نعود إلى القهوة.
وانتهيا إلى المقهى الذي يفتح أبوابه في هذه الساعة المبكرة ليقدم للصيادين أقداح القهوة باللبن ,وسأل الغلام صاحبه ,وكان النوم يوشك أن يفارق عينيه:
ـ كيف كانت نومتك أيها العجوز؟
ـ طيبة جداً , وإني اليوم لمليئ بالثقة.
فأجاب الغلام قائلاً:
ـ وأنا أيضاً اشاطرك هذا الشعور والآن .. يجب أن أذهب فأجئ بنصيبك ونصيبي من السردين وأجيء بالطعم الطازج أيضاً أن الصياد الذي اعمل معه يحمل معداته بنفسه ,ولا يحب أن يحمل احد له أي شيئ.
فقال العجوز:
ـ إننا مختلفان لقد كنت أجعلك تحمل المعدات وأنت في الخامسة.
ـ أذكر هذا.. سأعود حالاً.. خذ قدحاً آخر من القهوة ,فأننا نأخذ ما نأخذ هنا على الحساب.
ومضى الغلام يعبر فوق الصخور المرجانية حافي القدمين ,في طريقه إلى بيت الثلج ,حيث يخزن الطعم.
وشرب العجوز قهوته في هوادة ,وكانت هي كل زاد يومه ,فقد مل الطعام منذ سنوات ,فلم يعد يحمل معه أي زاد للغداء.
كان كل زاده في رحلته قارورة يضعها في حنية الزورق فلا يحتاج بعدها إلى شيئ.
وعاد الغلام يحمل السردين وقطعتين من الطعم ,وقد لفها جميعاً في صحيفة قديمة , وسارا صوب الشاطئ وحصباء أرض تعبث بأقدامهما الحافية , حتى بلغا موضع الزورق فدفعا به إلى الماء.
وقال الغلام لصاحبه:
ـ حظ باسم أيها العجوز.
ـ ولك أنت الآخر يا ولدي.
وعقد العجوز مجدافيه وبدأ يجدف في الظلام , وقد امتلأت صفحة الماء بعدة زوارق قادمة من الشواطئ الأخرى.
وكان العجوز يسمع حفيف مجاديفها , وإن لم ير منها شيئاً لأن القمر كان قد غاب وراء التلال.
وكان الصمت يسود وجه الماء ,اللهم إلا حفيف هذه المجاديف ,وبضع كلمات تخرج من أفواه الصيادين الفينة بعد الفينة.
وما كادت القوارب تتجاوز ثغر الميناء ,حتى تفرقت شتى في مياه المحيط العريضة ,كل منها يضرب نحو البقعة التي يأمل أن يجد فيها رزقاً حسناً.
كان العجوز قد عقد عزمه على أن يضرب بعيداً ,موغلاً في البحر وقد طرح وراءه رائحة الأرض وراح يشق الماء بمجدافيه ,ويستأف رائحة المحيط الطاهرة في الصباح الباكر.
وتراءى له الاشعاع الفوسفوري المنبعث من أعشاب الخليج يلمع في الماء وهو يجدف في هذه البقعة في المحيط , التي يطلق عليها الصيادون اسم (البئر الكبيرة) لأن بها عمقاً مفاجئاً يهبط إلى سبعمائة غور تتجمع عنده جميع أنواع السمك ويحتشد فيه الجمبري وسمك الطعم واحياناً أسراب (الحبار) في الثقوب المتعمقة ,وهي تطفو إلى مقربة من السطح ليلاً فتتغذى بها الأسماك المطوفة.
وأحس العجوز في هذه الحلكة بالصباح مقبلاً وترامى إلى سمعه ,وهو يجدف صوت مروق سرب من السمك الطائر ,عرفه من حفيف أجنحته الجافة وهو ينطلق من الماء إلى الجو في جنح الظلام.
وكان يؤثر هذا النوع من السمك ويعتبره صديقه الأثير في المحيط ,أما الطيور فكان يأسى عليها ولاسيما صغار العصافير البحرية الرقيقة السمراء التي تحوم فوق الماء طويلاً وقلما تظفر بشيئ.
وراح يهمس إلى نفسه:
إن حياة الطير أقسى من حياة البشر ,فيما عدا الطيور السارقة والكاسرة ,لماذا خلقت هذه الطيور الصغيرة بهذه الرقة وهذا اللطف ,وخلق المحيط بهذه القسوة؟ إن المحيط رفيق ورائع الفتنة.. ولكنه يستطيع أن يكون قاسياً كل القسوة في غمضة عين ,وهذه الطيور المحلقة ,تغوص وتتصيد.. إنها بأصواتها الرقيقة الحزينة , أرق من أن تستطيع مواجهة البحر.
كان العجوز يعشق البحر...
كان يتملاه دائماً على طريقة الاسبان ,حيثما يتملونه في وله ويسمونه (لامار).
وأحياناً .. يرمونه بنعوت غير محببة ولكنهم برغم هذا يحدثون عنه دائماً كما لو كانوا يتحدثون عن أمرأة.
أما شباب الصيادين ممن يستخدمون الشمندورات في تعويم شباكهم ,وممن زودوا زوارقهم بمحركات آليه , حين كانت كبود اسماك القرش تباع بأثمان مجزية , فإنهم عندما يتحدثون عن البحر يقولون (ال مار) ولايقولون (لا مار) كالسابقين...
إنهم يجعلونه مذكراً لا مؤنثاً.. ينظرون إليه كرجل لا كامرأة..
يتحدثون عنه كمنافس.. أو كمجرد مكان من الكون.. وأحياناً كعدو خصيم.
أما العجوز ,فكان يتخيله دائماً أنثى تنفح الحياة بالمنح العظيمة , أو تحتضن هذه المنح.
فإذا ما بدرت منها أمور وحشية , أو غير مستحبة , فما هذا إلا لأنها لا تملك أن تصنع شيئاً آخر.
وللقمر عليه أثره.. نفس أثره على المرأة.
وظل العجوز يضرب بمجدافيه قدماً في المياه دون أن يستشعر جهداً ,فهو يسير بسرعة منتظمه ووجه المحيط هادىء منبسط , اللهم إلا بضع شطحات عابرة تعتور التيار الفينة ,بعد الفينة وقد ترك العجوز التيار يضطلع بثلث المهمة في شق العباب.
وبدأ النهار ينبلج .. فأدرك العجوز أنه قد تجاوز ما كان قد قدر لنفسه أن يجتازه حتى تلك الساعة.
وقال لنفسه:
ـ لقد سبرت الأغوار السحيقة أسبوعاً كاملاً دون أن أصل إلى شيء ـ أما اليوم ,فسأحاول أن التمس مخابئ أسراب (التونة) و(السقمري) وقد أظفر بسمكة كبيرة منها.
وقبل أن يكتمل ضوء الصباح أعد العجوز ما عنده من الطعم ,وسار مع التيار.
وألقى حباله في الماء مزودة بالطعم احدها إلى أربعين غورا ,والثاني إلى خمسة وسبعين.
أما الحبلان الثالث والرابع ,فقد ألقى بهما إلى عمق الماء الأزرق.. أحدهما إلى مائة غور ,والآخر إلى مائة وخمسة وسبعين غوراً.
وكانت كل قطعة من الطعم تخفي في جوفها خطافاً وهي نفسها تختفي في جوف سميكة صغيرة من سميكات الطعم وكل سميكة مطوية بدورها في جوف سردينة طازجة وفي رأس كل سردينة خطاف مزدوج له طرف في كل عين!
ولا تخلو مجموعة من هذه المجموعات كلها ,من رائحة تلذ لاية سمكة كبيرة.
وكان الطعم الذي أعطاه الغلام أياه ,يتألف من سمكتين طازجتين صغيرتين من نوع التونه والسقمري هبطت بها حبال الصيد إلى الغوريز البعيدين كأنما هما ريشتان في الماء.
أما الحبلان الأخران ,فقد هبطا بقطعتين من الطعم أحداهما صفراء والأخرى زرقاء ,كان العجوز قد استخدمهما من قبل فلم تخرجا من الماء بجواب.
على أنهما كانتا لاتزالان في حالة طيبة ,ولاسيما بعد أن غلفهما بالسردين الطازج , لتطيب رائحتهما ويحسن فالهما.
وكان كل حبل من حبال الصيد يستدير في قامة القلم الرصاص ويتدلى من عصا خضراء خفيفة , بحيث تكفل أية لمسة تصيب الطعم في جوف الماء تحريك العصا.
وتابع العجوز مسيره في الماء وهو يرقب اهتزازات العصا ليحفظ على كل حبل غوره.
وأوشك نور النهار أن يكتمل...
وطلعت الشمس من وراء البحر ,فرأى العجوز بقية القوارب متناثرة فوق سطح الماء حتى الشاطئ.
وصعدت الشمس ونشرت شعاعاتها على الماء فعكسها الماء على عيني العجوز حتى احرقتهما فجعل يجذف وهو يتجنب النظر إلى سطح البحر مكتفياً بمراقبة حركات حباله في الاغوار ,وقد أحكم مواضعها بحيث يهبط كل طعم إلى البقعة التي يريدها له ,بأسلوب لا يحسنه أحد من أهل الصيد سواه , أما من عداه من الصيادين فأنهم يتركون التيار يعبث بالحبال ما شاء له العبث ,وقد دخل في روعهم انها هبطت إلى مائة غور ,بينما هي لم تهبط إلى أكثر من ستين غوراً.
وجعل العجوز يحدث نفسه:
ـ إنني أحكم مواقع ما ألقي به من الطعم ولكن الحظ قد تخلى عني ومن يدري؟.. لعله لا يجانبني اليوم.. كل يوم هو يوم جديد يحمل أملا جديداً ,إن حسن الطالع شيئ رائع ولكني أوثر إذا عملت شيئاً أن أحسنه ,فإذا وأتاني الحظ كنت متأهباً لاستقباله.
كانت الشمس قد سلكت مسيرة ساعتين في سماء النهار ,لم يعد وهجها يؤذي عيني العجوز كثيراً فاستطاع أن يرنو نحو الشرق ,فلم تقع عيناه على أكثر من ثلاثة قوارب على مدى رؤيته قرب الشاطئ.
وقال العجوز:
ـ لكم آذت شمس البكر عيني طول حياتي صحيح أنهما لا تزالان بخير حتى أنني لا استطيع أن احدق بهما في عين الشمس رأساً عند اقتراب المساء ,برغم أن ضوءها عندئذ لايفقد الكثير من حدته ,أما وهج الصباح فأليم.
وهنا لمح العجوز طائراً من الطيور المغردة يجدف بجناحيه الأسودين في السماء أماماً ثم يهبط سريعاً ,ثم ينحدر بجناحيه نحو الماء ثم يحلق ويحوم مرة أخرى.
وصاح العجوز:
إنه لايبحث .. بل لقد لمح شيئاً بالفعل..
ومضى العجوز يضرب في الماء وئيداً نحو الموضع الذي يحوم به الطائر , دون أن يتعجل ودون أن يهمل استقامة حباله في الماء مبحراً في اتجاه الطائر.
وعلا الطائر في الجو وظل يجدف بجناحيه ثم خاض فجأة.
ولمح العجوز سرباً من السمك الطائر يخرج من الماء ثم لايلبث أن يطفو يائساً على السطح.
وتأمل العجوز الماء ثم صاح:
دلفين .. دلفين كبير
وأسند مجدافيه , وجاء من حنية الزورق بحبل صغير من السلك ينتهي بخطاف صغير ثبت فيه طعماً من السردين وعقد طرفي الحبل في مؤخرة الزورق.
ثم أعد حبلاً آخر وزود خطافه بالطعم وتركه في حنية الزورق.
وعاد يجدف ويتابع بعينيه حركات الطائر ذي الجناحين الطويلين وكان قد هبط حتى اقترب من سطح الماء يلتمس رزقه.
وانقض الطائر مرة أخرى وهو يضرب بجناحيه متعقباً السمك الطائر وشهد العجوز في الماء تلك التلة الخفيفة التي رفعها الدلفين الضخم وهو الطائر يتعقبان الأسماك الهاربة.
وتأمل العجوز التلة المائية فأدرك أنها ليست من صنع دلفين واحد.
إنه سرب من الدلافين يشق الماء تحت مطار السمك الطائر الذي يلتمس النجاة.
وأدرك العجوز أن سرب الدلافين قد انتشر في الماء فتضاءل أمل السمك الطائر في الافلات منه وانقطع معه أمل الطائر المحلق ,فالسمك الطائر كبير .. أكبر من طاقة الطائر المحلق وأسرع منه.
وظل العجوز يرقب السمك الطائر وهو يندفع مرة وأخرى وثالثة والطائر المغرد يتعقبه على غير طائل.
وحدّث العجوز نفسه:
لقد افلت مني هذا السرب أنه يبتعد كثيراً وبسرعة بالغة ولكن.. لعلي أظفر بسمكة شاردة ولعلها تكون كبيرة لابد أن تكون سمكتي الضخمة المنشودة في مكان ما.. تنتظر قدرها.
كان زورق العجوز قد أوغل في البحر حتى بدت السحب فوق الارض كأنما هي جبال وبدأ الشاطئ كأنما هو شريط طويل مخضوضر تطل من ورائه التلال الشهباء الضاربة في الزرقة.
أما الماء فقد ضرب لونه إلى الزرقة الحالكة المشوبة بلون الأرجوان.
وتملى العجوز الماء وراح يراقب استقامة حباله فيه وهبوطها إلى أغوار لاتراها العين.
وكان الضوء العجيب الذي ترسله الشمس في الماء بعد أن ازدادت سموقاً في كبد السماء بشيراً بجو طيب يؤكده شكل السحب المترامية على الأرض في الأفق.
وكان الطائر قد أوشك أن يغيب عن مدى الرؤية ولم يعد على وجه الماء غير بضع بقع من أعشاب السرخس الصفراء وحولها مثانات بعض الطيور المغردة عائمة حول الزورق تتخللها بعض السميكات الصغيرة تسبح في الماء وترسل فقاعات لطيفة الصورة.
وكان يروق للعجوز أن يشهد السلاحف البحرية الكبيرة وهي تزدرد هذه السميكات الصغيرة.
واقبلت السلاحف البحرية وجعلت تلتهم السميكات وما حولها من العشب ,ذلك المشهد الذي يحبه العجوز كما يحب ان يسير فوق ظهور هذه السلاحف بقدمين حافيتين عندما يكون على الشاطئ.
وكان يؤثر السلاحف الخضراء وتعجبه اناقتها وسرعتها في حين يكره الصفراء ذات الرؤوس الضخمة.
ولم يكن صيد السلاحف يستهويه برغم أنه قضى السنوات الطوال من شبابه يعمل في مراكب صيادي السلاحف.
بيد أنه كان يشعر بالاشفاق عليها جميعاً.. حتى السلاحف الضخمة التي يمتد طول الواحدة منها إلى طول زورقه وتزن طناً كاملاً.
إن أكثر الناس لايعطف على هذه السلاحف لأن قلوبها تظل تخفق عدة ساعات بعد ذبحها ولكن العجوز قال وهو يحدث نفسه:
أن لي قلباً كقلب هذه السلاحف ولي يدان وقدمان كأيديها واقدامها.
وكان يأكل بيضها , ويأكل السلاحف نفسها طوال شهر مايو حتى يساعداه ويقوى على مواجهة الأسماك الضخمة في شهري سبتمبر وأكتوبر كما كان يشرب قدحاً من زيت كبد القرش كل يوم ,من القربة القائمة في الكوخ الذي يضع فيه الصيادون معداتهم.
إن هذه القربة هناك دائماً موهوبة لكل من ينشد القوة من الصيادين ولكن اكثرهم يكره مذاق الزيت , في حين أن مذاقه ليس أشد قسوة من مرارة الساعة التي يغادرون فيها مضاجعهم في الصباح الباكر.
هذا إلى أن ذلك الزيت دواء ناجع لمقاومة البرد والحمى , ومفيد للبصر.
وعاد العجوز يتطلع إلى أعلى فلمح الطائر يحلق مرة أخرى فصاح:
لقد رأيت سمكاً.
لم ير العجوز سمكاً طائراً , ولا حتى سمك طعم هذه المرة.
وجعل يتملى ما حوله في الماء فلمح سمكة صغيرة من نوع التونة تبرز فوق الماء وتتلفت ثم تهوي رأسها في الماء مرة أخرى.
كانت تبدو في وهج الشمس كأنها قطعة من فضة.
وما كادت تهبط إلى الماء ,حتى برزت أخرى وثالثة.. وكثيرات من أخواتها وراحت جميعها تثب في كل ناحية ,وتموج الماء وتقفز وراء سميكات الطعم قفزات طويلة تحاصرها وتهبط بها.
وقال العجوز لنفسه:
سأفوز بها إذا لم تبادر إلى الاختفاء.
وجعل يتابع بعينيه سرب السمك وهو يلمع كمسطح أبيض في الماء ,ويتملىء الطائر وهو يهبط ويغوص وراء سميكات الطعم التي لاذت بالسطح في ذعر شديد ,تلتمس النجاة.
وقال العجوز: أن هذا الطائر هو خير عون له على رزقه.
وهنا تحرك الحبل الذي في مؤخرة الزورق وجعل يهتز بسمكة التونة العالقة به وظل الحمل يثقل في يده كلما اجتذب الحبل إلى أن برزت به السمكة الكبيرة العالقة بظهرها الأزرق وجوانبها الذهبية فاستلقى على ظهره واجتذبها بكل قوته.
وراحت ترفرف في الزورق بعنف فضربها على أم رأسها وراح يلكزها بقدمه.
وصاح العجوز:
انها سمقرية .. تصلح لأن اصنع من لحمها طعماً فاخراً.. انها تزن نحو عشرة أرطال.
وراح العجوز يتذكر ايامه الأولى حينما بدأ حياته كصياد.
كان لايتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع إلا حينما يكون وحده.
وكان يغني إذا ما خلا إلى نفسه.
وكان يلذ له الغناء في الليل , وهو يعمل في مراكب صيد السلاحف.. ثم تعود الحديث إلى نفسه بصوت مرتفع بعد أن تركه الغلام.
على أنه ما كان يتحدث الى الغلام ـ حينما كان الغلام معه ـ إلا إذا كان هناك مايدعو إلى الحديث ,وكان حديثهما دائماً بالليل , أو عندما تواجههما العاصفة.
ذلك أن الثرثرة ليست من فضائل البحار، وكان العجوز يحترم هذه الفضيلة.
أما الآن فإنه إذ يتحدث إلى نفسه فإنما يعرب عن أفكاره بصوت مرتفع ما دام وحده وليس هناك من يضيق بثرثرته.
وقال العجوز لنفسه ، بصوت مرتفع :
لو سمعني أحد وأنا اتحدث إلى نفسي بصوت مرتفع لظن أنني مخبول ولكنني لا أبالي ما دمت أعرف أنني لست مخبولاً أن أثرياء الصيادين يحملون معهم أجهزة راديو في زوارقهم تتحدث إليهم، وتنقل لهم أنباء البيسبول.
ثم عاد يقول :
على أن هذا ليس أوان التفكير في البيسبول بل في أمر واحد، هو الأمر الذي خلقت من أجله، قد تكون هناك سمكة ضخمة حول هذا السرب من السمك، لقد ظهرت سمقرية واحدة من السرب الذي كان هنا يطعم ولابد أن تكون صويحباتها قد رحلن بعيداً عن هذا المكان.
إنها سريعة وموغلة في البعد، كل ما يطفو على سطح الماء في هذه الأيام يذرع الماء بسرعة، ويتجه نحو الشمال الشرقي، ترى أتكون هذه عادة السمك في مثل هذا الوقت من اليوم ؟ أم أنها سمة من سمات الطقس لا أعرفها ؟
وكانت خضرة الشاطئ قد غابت عن عينيه، فلم يعد يرى إلا قمم التلال الزرقاء تبدو بيضاء كأنما توجتها الثلوج كما تراءت السحب كأنما هي جبال عالية من الثلج فوق القمم.
أما مياه البحر، فكانت تبدو مغرقة في القتامة والنور ينعكس على الماء على شكل مخروطي.
كان الصيادون يطلقون على السمك التي تشبه اسماك هذا السرب اسم (التونة) ولا يميزون بينها بأسمائها الصحيحة إلا عندما يصنعون منها الطعم أو يبيعونها في السوق.
وعلى هذا الأساس أدرك العجوز أن سرب التونة الذي كان ملماً به قد هبط إلى جوف الماء وكانت الشمس قد اعتلت كبد السماء ، وتكاثرت أشعتها المخروطية، في الماء واشتدت حرارتها وأحس العجوز بلسعتها في قفاه، وجعل العرق يتصبب على ظهره إذ هو يضرب بمجدافيه في الماء.
وحدث نفسه :
كيف استطيع أن أدع الزورق ينساب مع التيار وأنام بعد أن أربط طرف عقدة الحبال حول أصبع قدمي ليوقظني عند الحاجة ولكن هذا يومي الخامس والثمانون ولابد اليوم من صيد حسن.
وفي تلك اللحظة لمح إذ هو يرقب حباله عصا من عصيه الخضر تنجذب نحو الماء بشدة فهمهم.
نعم .... نعم ..
ووسق مجدافيه دون أن يحرك الزورق وسار إلى الحبل فأحكمه برفق بين إبهام يمناه وسبابتها فلم يحس لأي توتر ولا أي ثقل فأطلق الحبل في يسر.
ولكن الشيء نفسه ما لبث أن حدث مرة أخرى وكانت الجذبة في هذه المرة أكثر اغراء فلا هي عنيفة ولا هي خفيفة فأدرك ما هنالك تماماً.
كانت هناك على عمق مائة غور سمكة تنش السردينة التي تحيط بالخطاف.
وتحسس العجوز الحبل بيده اليسرى، في رفق ونعومة وأطلقه من العصا ليجري بين أصابعه دون أن تحس السمكة أي توتر.
وجعل يتكلم :
عند هذا العمق لابد ان يكون حلق السمكة ضخماً كلي أيتها السمكة كلي الطعام كله إنه طازج وأنت على عمق ستمائة قدم في الماء البارد الحالك خذي جولة أخرى في الظلام ثم عودي لتأكلي من طيبات هذا الطعام.
وأحس جذبة خفيفة ثم أخرى أشد منها، معناها أنه ليس من السهل أن يخلس رأس السردينة من الخطاف
ثم لم يعد يحس شيئاً !
وصاح العجوز :
تعالي خذي جولة أخرى: شميها فقط أليست لذيذة ؟ كليها وستظفرين في داخلها بالتونة ، جافة وباردة وشهية، لا تخجلي أيتها السمكة كليها.
وظل ينتظر والحبل بين ابهامه وسبابته وهو يرقبه ويرقب الحبال الأخرى في الوقت ذاته لعل السمكة تتحول إلى واحد منها وعادت اللمسة الخفيفة مرة أخرى.
وصاح العجوز :
ستأخذها اللهم أعنها عليها !
ولكن السمكة لم تأخذها بل مضت عنها ولم تعد أصبعا العجوز تحسان شيئاً :
وقال العجوز :
لا أظن أنها مضت إلى سبيلها الله وحده يعلم هذا مستحيل.
إنها في جولة وحسب، لعلها كابدت خطافاً كهذا من قبل ، فأخذت عبرة من الماضي ودرساً.
وعاد يحس اللمسة الخفيفة، الحبل من جديد فسرت النشوة في بدنه وقال :
كانت مجرد جولة، وستأخذها هذه المرة.
وكانت هذه اللمسات الخفيفة تغمر نفس العجوز بالنشوة.
ثم أحس شيئاً ثقيلاً ... أثقل مما يصور.
وأرخى للحبل العنان، فأحس ما يدور هناك وحدس ان الخطاف قد تعلق بفك السمكة من ناحيته وهاهي ذي تتحرك معه في عمق الماء وستبتلعه بعد ذلك.
حدس هذا، ولكنه لم يقله لانه كان ممن يعتقدون ان الإنسان إذا ثرثر عن خير مقبل عليه فقد لا يقبل الخير ابداً.
ولكنه كان يحس بضخامة السمكة وكان يتخيلها وهي تتحرك في قتامة الاعماق والطعم عالق بها من الجانبين.
وفي تلك اللحظة أحس أن الحركة قد توقفت أما الثقل فباق على ما هو عليه .
ثم ازداد الثقل فأرخى الحبل أكثر مما هو وشدد ضغط أصبعيه حوله، فأحس بازدياد الثقل وجعل الحبل يهبط عمودياً إلى أسفل وصاح الرجل:
لقد ابتلعتها والآن ، سأحملها على ان تأكل أكلة طيبة.
وترك الحبل ينزلق بين إصبعيه، قليلاً وهو يردد في خاطره.
ازدردي... ازدرديها جيداً حتى يدخل طرف الخطاف في قلبك ويصرعك.. ثم اصعدي بعد هذا في يسر، ودعيني اطعنك بالحربة.
حسناً، هل أنت متأهبة الآن ؟ هل طال مكثك على مائدة الطعام ؟
وصاح
والآن ؟
ثم استجمع كل قوى ذراعيه وجسده، وراح يحاول جذب الحبل بكل ما أبقى له الزمن من عافية.
ولكن شيئاً لم يحدث !
لقد زحفت السمكة بعيداً عنه في هوادة ولم يستطع العجوز أن يرفعها عن مكانها قيد شعرة.
وكان حبله قوياً، وقد صنع خصيصاً لمعالجة الأسماك الضخمة.
وراح العجوز يجذبه وهو مستلق على ظهره يدك قدميه في جنب زورقه.
وبدا الزورق يتحرك نحو الشمال الغربي، وتحركت السمكة في انتظام تقطر الزورق وسارا معاً في المياه الهادئة.
كانت بقية الحبال لا تزال تحمل طعمها في المياه دون أن تبشر بشيء وقال العجوز:
ليت الغلام كان معي.. إن سمكة تقطرني .. وأنا المقطور كان في استطاعتي أن أعجل بجذب الحبل في أول الأمر... ولكن كان من الجائز عندئذ أن تفلت السمكة من الحبل، يجب أن أمسك بها قدر ما استطيع وأرخي لها العنان طالما لابد من أرخاء العنان، اللهم لك الحمد على أن السمكة تسبح ولا تهبط إلى اسفل، ولكن ماذا أصنع لو انها قررت أن تهبط إلى أسفل ؟ لست أدري وماذا يحدث لو أنها سكتت وماتت دون أن أدري ؟ ولكن ينبغي لي أن أفعل شيئاً، في وسعي أن أفعل أشياء كثيرة.
وشد العجوز الحبل إلى ظهره، ومضت السمكة تقطر الزورق صوب الشمال الغربي، دون أن يسري إلى ظن العجوز أن السمكة مستطيعة ان تقاومه إلى الابد.
ولكن أربع ساعات مضت والسمكة تسبح موغلة في البحر نبته الزعانف ، تقطر الزورق نحو الشمال والعجوز مصر على شد الحبل إلى ظهره.
وقال لنفسه :
لقد علقتها عند الظهر، ولم أرها حتى الساعة ؟
وكان قد لبس قبعته المصنوعة من الخوص قبل أن يعلق السمكة وقد أوجعت حكة الخوص جبهته واشتد به الظمأ فانزلق على ركبتيه وظل يزحف وئيداً حتى لا يفلت منه الحبل، ومد إحدى ذراعيه لتصل إلى موضع قارورة الماء، فشرب قليلاً، ثم جلس قبالة حنية الزورق على مقربة من الشراع المطوي، لا يحاول أن يفكر بل يدخر كل جهده للمثابرة والصبر.
فقال لنفسه :
هذا لا يهم فطالما جئت من (هافانا) على أضواء الليل، ولا تزال أمامي ساعتان قبل أن تغرب الشمس، وقد تطلع السمكة قبل الغروب، فإذا لم تفعل فلعلها تطلع مع القمر، فإذا لم تفعل فلعلها تطلع مع شروق الشمس، انني لا أشكو أي تقلص وإني لا شعر بأنني قوي والخطاف في فمها لا في فمي ولكن أية سمكة هذه التي تجرني وزورقي على هذه الصورة ؟ لابد أن تكون قد احكمت حلقها حول الحبل، كم أتوق إلى رؤيتها ولو مرة واحدة، حتى أعرف أي غرم أواجه.
وأدرك العجوز من مواقع النجوم في السماء أن السمكة لم تغير من سيرها ولا اتجاهها طول الليل.
وكان البرد قد اشتد بعد غروب الشمس، وقد جف عرق العجوز فتحول إلى برد يلذع ظهره وذراعيه وساقيه.
وكان قد نشر الجوال الذي يغطي به علبة الطعم أثناء النهار في الشمس ليجف فلما غربت الشمس تناوله فلفه حول عنقه، وتدلت بقيته على ظهره، فحشره بين ظهره والحبل الذي يعلق السمكة.
وأحس بشيء من الراحة.
وقال لنفسه :
لن أملك أن أصنع مع هذه السمكة شيئاً حتى تصنع هي بي ما تشاء.
ووقف عند حافة الزورق فقضى حاجته وتطلع إلى النجوم لعله يدرك الموقع الذي بلغه.
وكان الحبل المتدلي من عنقه إلى الماء يلمع كشريط من الفوسفور في الماء.
وتباطأ زحف الزورق قليلاً، وكانت أضواء (هافانا) تبدو خافته فأدرك أن التيار لابد أن يكون متجهاً به صوب الشرق.
وأدرك أيضاً أنه إذا كانت أضوء (هافانا) قد افلتت منه فمعنى هذا انه موغل في اتجاه الشرق.
وعاوده التفكير فيما يمكن أن تسفر عنه نتائج البيسبول اليوم، فتمنى لو كان يملك جهاز راديو ليعرف النتائج.
ثم عاد ليقول لنفسه:
فكر فيما أنت فيه، لابد من ارتكاب أية حماقة لإنقاذ الموقف.
ليت الغلام كان معي ليمد لي يد العون وليرى ما أنا فيه، أن المرء لا يستطيع ان يبقى وحيداً إذا تقدمت به السن ولكن لابد مما ليس منه بد.
قال هذا ثم همهم لنفسه:
يجب أن آكل التونة قبل أن تفسد حتى أحتفظ بقواي، لا تنس هذا مهما ضعفت شهيتك أيها العجوز يجب أن تأكل التونة في الصباح تذكر!.
وفي جنح الليل طاف زوج من الدلافين حول الزورق.
وسمع العجوز صرير دوراتهما وقفزاتهما في الماء، واستطاع ان يميز بين صوت الذكر وتأوه الانثى.
وقال لنفسه:
إنهما يلهوان ويتضاحكان ويهمان بالهوى، إنهما من أصدقائنا، كالأسماك الطائرة.
ثم انتابه شعور الرثاء للسمكة العالقة بخطافه وقال لنفسه:
إنها سمكة عجيبة ومذهلة ترى ما عمرها؟ انني لم أظفر في حياتي بسمكة بهذه القوة ولا بمثل هذا التصرف لعلها أذكى من أن تقفز إنها تستطيع ان تصرعني إذا قفزت أو لطمتني لطمة واحدة، بل لعلها وقعت فريسة كثر من خطاف فيما مضى من أمرها، فتعلمت كيف تنازل! ولكنها لا تعرف أنها تواجه رجلاً واحداً بمفرده، وانه رجل عجوز، يا لها من سمكة ضخمة، ترى كم يكون ثمنها في السوق.
إذا كانت ذات لحم طيب ؟ لقد ازدردت الطعم كسمكة ذكر ، إنها لتجرني جرة وتحارب غير مذعورة لست أدري أهي تسير وفق خطة مرسومة أم إنها تصارع مستحية مثلي ؟
وتذكر العجوز يوماً علق فيه واحدة من زوج من الأسماك الكبيرة ومن شأن السمكة الذكر أن تحمل الأنثى على تذوق السارح في الماء أولاً، فإذا علقت الأنثى بالخطاف راحت تحارب بكل قواها مذعورة يائسة حتى تفقد قواها.
أما الذكر فيبقى إلى جانبها يطوف حولها طوال الصراع، حتى تطفو، فيطفو معها إلى سطح الماء، يظل إلى جانبها.
وذكر العجوز أن السمكة الذكر كانت يومئذ قريبة من الأنثى إلى حد أن العجوز خشي أن يضرب الذكر الحبل بذيله الحاد كسن المنشار، وفي شكل سن المنشار وحجمه أيضاً.
وحينما ظفر العجوز بالسمكة الأنثى وضربها على أم رأسها، حال لونها، كمرآة انقلبت على ظهرها، فأجتذبها إلى زورقه، بمساعدة الغلام الذي كان معه آنذاك ووقف الذكر إلى جانب الزورق.
وبينما العجوز يخلص الخطاف من حلق الانثى ويعد الحربة، قفز الذكر إلى ما فوق الزورق قفزة عالية لعله يرى أين ذهبت أنثاه.
ثم هبط فغاص في الماء.
عن الجمهورية نت ...
ترجمة: د.زياد زكريا
هذه القصة
تقع هذه القصة في منتصف الطريق.. بين الأقصوصة والرواية ومع ذلك فإنها قد نهضت دليلاً من أدلة القياس الفكري العالمي على أن الكيف انما هو أعمق اثراً من الكم, ومصداق هذا أن قضاة جائزة نوبل, حينما منحوا صاحب هذه القصة, أرنست هيمنجواي جائزة الأدب, وذلك في نوفمبر من عام 1954, لم يشيروا إلى قصص اخرى اكثر منها طولاً , كما أشاروا إلى هذه القصة بالذات, فقالوا: أن الجائزة قد منحت له (لتفوقة في فن الرواية الحديثة, كما يظهر ذلك بوضوح في قصته الاخيرة: (العجوز والبحر).
ولقد نشرت هذه القصة لأول مرة عام 1952 وصادفت هوى في نفوس الناس في كل صقع من اصقاع العالم , مما حمل المترجمين على ترجمتها إلى كل لغة, كما حمل الطابعين والناشرين على اصدار عدة طبعات متتالية منها, مجردة أو مقترنة بالصور التي أفتن في مجالها كثير من الرسامين العالميين.
والصور التي تقترن بهذه الترجمة التي نقدمها لقراء العربية, من صنع ريشتي الفنانين العالميين (ك.ف. تانيكليف) و(ريموند شبرد) وكل منهما صاحب مدرسة في الفن غير مدرسة الآخر ومع هذا فقد اشتركا في تصور قسمات العجوز والغلام, وسمات الخليج والمحيط والزورق والسمك, وتصورا قد يختلف في أسلوبه, ولكنه يلتقي في تأثيره.
وهذه القصة ليست كسائر القصص.. ذلك أن من يبن سمات القصص أن يكون لها ابطال كثيرون, اما هذه القصة فإنها إذا استثنينا بضع صفحات معدودة منها تقع في أولها وآخرها, تقوم كلها على بطولة بطل واحد, هو العجوز.
وليست هناك امرأة..
واذا جاز أن نعدد في هذه القصة أبطالاً غير هذا العجوز, فإن هؤلاء الابطال ليسوا من البشر.
فالبطل الثاني – الذي يقابل دور المرأة في كل قصة عادية – هي السمكة الكبيرة.
وأصحاب الأدوار التالية في البطولة هم: المحيط والرياح والدلافين, وألوان غير ذات عدد من الاسماك والاعشاب والطيور البحرية.
ولانحسب أن أحداً من كتاب القصة العالميين قد استطاع أن يجمع أبطالاً كأبطال هذه القصة, وأن يحركهم على هذه الصورة مثلما جمع ارنست هيمنجواي أبطال قصته وأتاح لهم أن يتحركوا.
نحن نعرف أن الرجل كان مفتوناً بكوبا, وكان كثير التردد على شواطئها ولهذا فإنه على الرغم من اخلاصه لأمريكيته, لم يستطع من ضعفه نحو كوبا – أن يخفي مايحس به من عطف نحو الزعيم الكوبي الثائر (فيدل كاسترو) خصيم بلاده الأول في نصف الكرة الغربي ومن حبه لكوبا, ومن خبرته بشواطئها وأمواجها, جعلها مجالاً لأحداث قصته هذه التي تدلنا على مدى المام مؤلفها بالبحر وأحواله ورياحه وتياراته وسكانه الفوقيين والتحتيين, في تفصيل لا يعرفه إلا أمهر الصيادين.
ومرة أخرى, نقول: اننا اذا استثنينا بعض صفحات معدودة في أول الرواية واخرها, لانجد بطلاً من البشر طوال قراءتنا لهذه القصة , إلا العجوز وحده.
ومن هنا تنبثق الصعوبة الكبرى أمام كاتب القصة, حينما يريد أن يصور موقفاً ما بأسلوب من أساليب الحوار, فلا يجد أمامه إلا العجوز, يحدث نفسه طوراً ويفكر بصوت عال تارة, ويخاطب السمكة تارة أخرى وقد كلم الله عرضاً, أو يلعن الاقدار في ساعة ضيق.
وقد يتساءل قارئي: ماهدف هذه القصة التي قد تبدو للقارىء العادي غير ذات هدف؟ أقول لهذا القارىء ماقاله الناقد الكبير (أريك لاينليتر) بعد أن انتهى من قراءة هذه القصة:
(ان هيمنجواي لم يكتب في حياته أجمل من هذه القصة التي صور فيها الجراح البطولية للانسانية انه كتاب صغير في كمه, ولكني أنصحك بأن تقرأه ثلاث مرات.
وانك - إن قرأته ثلاث مرات – قد تصل إلى أعماق (هيمنجواي) وهو يصور لذة الكفاح حتى آخر العمر, وكذلك فائدة التجربة التي كثيراً ماتغني عن القوة, واثر الحاجة التي هي أم الاختراع, وطاقة الرجولة في الصبر على المكاره.. إلى أن يصل بك المؤلف – في آخر الرواية – إلى السمكة التي لم يبق منها إلا عظمها وذيلها ليصبحا حديث الناس من مقيمن أو وافدين.
فإذا كنت من أهل الحكمة أدركت الهدف الاخير, وهو أن لكل مجاهد أجره, وان لم يستطع المجاهد أن يلمس جوهر هذا الاجر, فإنك أنت - ايها القارىء – تلمسه في كلمة طيبة تقال عن هذا المجاهد, فتصبح عطراً في سيرة حياته بعد أن تحترق ذبالة النور الأخيرة من هذه الحياة.
كان الرجل قد بلغ من الكبر عتياً
ولكنه لا يزال رابضاً في زورقه وحيداً يطلب الصيد في خليج جولد ستريم وقد عبرت به حتى الساعة أربعة وثمانون يوماً لم يجد عليه البحر خلالها بشيء من الرزق.
في الأيام الأربعين الأولى منها كان له غلام يعينه على أمره،
ولكن أربعين يوماً انطوت على غير طائل فلم يسع والدا الغلام إلا أن يقطعا لولدهما بأن هذا العجوز مشؤوم لا يطلع نجمه إلا على نحس.
وهكذا نزل الغلام عند رغبة أبويه وترك صحبة العجوز وذهب يعمل في زورق آخر جاد البحر على ذويه بثلاث سمكات طيبات منذ أول أسبوع.
وكان يحز في قلب الغلام أن يرى العجوز قافلاً إلى الشاطئ في نهاية كل يوم، وزورقه خاوي الوفاض فلا يملك إلا أن يهرع إليه ليعاونه في لملمة حباله وحمل حربة صيد القرش وطي الشراع حول الصاري.
وكان هذا الشراع المرقع بالخيش إذا ما انطوى حول صاريه بدا كأنما هو علم للهزيمة المتصلة.
كان العجوز جسداً ناحل العود، توغلت في قفاه غضون عميقة، وقد عدت حرقة الشمس في انعكاساتها على مياه البحر على بشرته عدواناً قاسياً، فملأت خديه بالبثور واستدارت فنثرت الكثير منها على جانبي وجهه.
أما كفاه فقد حفرت فيهما الحبال التي طالما جرر بها الأسماك الثقيلة جراحا عميقة الغور ليس بينها جرح جديد، فهي جميعاً قديمة قدم الحفريات في صحراء عديمة السمك.
كان كل ما فيه عجوز مثله إلا عينيه.
عيناه كانتا في صفاء مياه البحر يطل منهما المرح وعدم الاعتراف بالهزيمة.
آذن النهار بنهايته.
واستقر الزورق وألقى مراسيه على الشاطئ.
وقال الغلام للعجوز وهما يسيران صعدا صوب الشاطئ :
الآن ... استطيع أن أعود فأعمل معك يا سانتياجو فقد أدخرت بعض النقود.
كانت كلمات الغلام آية عرفان الجميل فقد كان يحب العجوز، لأنه هو الذي لقنه أصول مهنة الصيد.
ولكن العجوز لم يطق هذه المهنة فقال الغلام :
لا يا ولدي أنك تعمل في مركب حسن الطالع فابق مع أصحابه.
ولكن .... اتذكر كيف عبرت بك ذات مرة سبعة وثمانون يوماً دون أن نظفر خلالها بسمكة واحدة، ثم ما لبثت الآية أن انقلبت وجعلنا نظفر بعدة سمكات كبيرات كل يوم طوال ثلاثة أسابيع ؟
فأجاب العجوز بقوله :
نعم أذكر وأعرف أنك لم تتخل عني لأنك أصبحت في شك من أمري.
ان أبي هو الذي حملني على تركك واني لغلام ولا اعصي له أمراً.
نعم يا ولدي هذا طبيعي.
إنه قليل الثقة.
أما نحن فكلنا ثقة السنا كذلك ؟
أجل
واستطرد الغلام يقول :
أتـأذن أن أقدم لك قدحاً من البيرت في محل (الشرفة) قبل أن نحمل المعدات إلى بيتك ؟
ولم لا؟ إنها حفاوة الصياد بالصياد.
وانتهيا إلى (الشرفة).
ووقعت على العجوز أنظار جماعة من شباب الصيادين، فاتخذت منه مادة للتندر والضحك على أنه لم يغضب مما يصنعون.
أما شيوخ الصيادين فقد راحوا يتطلعون إليه في أسى ورثاء وإشفاق ولكنهم لم يظهروا له ما يستشعرون نحوه، بل جعلوا يتحدثون في تأدب عن التيار، وعن الأعماق التي القوا بشباكهم إليها، وعن نعمة الطقس الطيب المنتظم، وعن كل ما يلم بهم في حياة البحار.
وكان الصيادون الذين طاب رزقهم في ذلك اليوم من سمك (البوري) قد جمعوا حصيلة صيدهم وحملها أربعة رجال على وفاض ضخم مشدود إلى لوحين من الخشب وساروا بها إلى بيت السمك في انتظار السيارة المثلجة لتحملها إلى السوق في هافانا.
أما من كان نصيبهم من صيد اليوم اسماك القرش فقد حملوها إلى مصنع القرش عند الشاطئ الآخر من القرية حيث شدت إلى الالواح واخرجت اكبادها وسلخت جلودها وفصلت زعانفها وقطعت لحومها شرائح للتمليح.
كانت الريح إذا هبت من الشرق حملت معها رائحة منبعثة من مصنع القرش.
أما اليوم فالريح تهب صوب الجنوب ثم لا تلبث أن تخبو فتخبو معها الرائحة.
وكان الجو مشمساً لطيفاً في (الشرفة).
وصاح الغلام بصاحبه العجوز :
سانتياجو ...
فأفاق العجوز من سبحة بعيدة عبر ذكريات السنين وقال وقدح البيرة في يده:
نعم ...
أتحب أن أذهب فأجيئك ببعض السردين، لعلك تحتاج إليه في الصيد غداً؟
لا يا ولدي أذهب والعب البيسبول أنني لا أزال قادراً على العمل وسيتولى روجيليو حمل الحبال.
بل لابد أن أذهب لأجيئك بها فما دمت لا أملك أن أعاونك في الصيد فما سبيلي إلى عونك بأية وسيلة ؟
لقد أصبحت رجلاً بالفعل وقدمت لي قدحاً من البيرة.
وتساءل الغلام :
كم كان عمري عندما اخذتني في زورقك لأول مرة ؟
خمس سنوات وقد كدت تهلك عندما أخرجت حبالي سمكة هائلة، أوشكت وهي تقاوم أن تمزق الزورق أرباً، اتراك تذكر هذه الواقعة ؟
أذكر أن ذيلها راح يضرب الزورق ويلطم قيدومه بعنف صارخ وأذكر انك يومئذ القيت بي في حنية الزورق فوق الحبال المبتلة في حين جعل الزورق يترجع في رعشة لحموم، وكنت أسمع صوتك وأنت تقاوم وكأنما حطاب يقد جذع شجرة هائلة ويطرحها أرضاً، وكان دمها يتفجر حولي.
أحقاً تذكر هذا المشهد، أم تذكر ما رويته لك عنه ؟
بل أذكر كل ما كان منذ ن أن خرجنا معاً لأول مرة.
فتطلع إليه العجوز بعينيه الوامقتين الواثقتين برغم ما احرقت الشمس من جفونهما وقال له :
لو أنك كنت أبني لخرجت بك إلى الدنيا لتغامر معي، ولكنك ملك لأبيك وأمك وأنك لتعمل في مركب حسن الطالع.
هل أذهب فأجيئك بالسردين وبعض الطعم أيضاً ؟
إنني لم استهلك طعم اليوم وسينفعني غداً لقد وضعته في الماء الملح ليصلح لغد.
دعني اجيء لك بأربع قطع طازجة من الطعم.
فأجاب العجوز متأثراً ولما يزل به كثير من الأمل وكثير من الثقة وكأنما انعشتهما في كيانه خطرة النسمات !
قطعة واحدة تكفي.
بل اثنتين.
حسناً ... ولكن غير مسروقتين ؟
لا ضير علي إذا أنا سرقتها من أجلك ، ولكن الواقع أنني اشتريتهما.
اشكرك .
وراح العجوز يتملى مشهد البحر ثم قال :
هذا التيار يبشر بغد طيب .
فسأله الغلام :
إلى أين متجه غداً ؟
سأذهب بعيداً لأعود مع الريح عندما تغير وجهتها ولأخرج من الماء قبل انبلاج الخيط الأبيض من الفجر.
سأحاول أن أحمل الذي أعمل معه على الذهاب بعيداً هو الآخر، حتى إذا وقعت لك سمكة ضخمة هرعنا إليك لنعينك على أمرها.
ولكن صاحبك لا يروق له أن يوغل كثيراً في البحر.
أجل ولكني سأحدثه عن شيء لا تراه عيناه كطائر بحري مثلاً يتعقب فريسة في الماء وهكذا أحمله على الايغال في البحر ولو وراء دلفين.
أبصره ضعيف إلى هذا الحد ؟
يكاد يكون أعمى
عجيب ... مع أنه يسير مستقيماً ولا ينعرج خلال سيره في البحر مما يذهب بأبصار الملاحين.
ولكنك كثيراً ما انعرجت خلال سيرك في البحر موغلاً في شاطئ البعوض لسنوات طويلة ومازالت عيناك بخير.
أنا عجوز عجيب يا ولدي.
أو ترى أن لك جلداً على صيد الأسماك الكبيرة حتى الآن ؟.
أظن هذا وأني لأستعين عليها بما عندي من حيل كثيرة.
قم بنا نحمل المعدات إلى البيت ثم أخذ الشبكة الصغيرة لأتصيد بها بعض السردين.
وقاما إلى الزورق فحملا معداته .
حمل العجوز الصاري على كتفه في حين حمل الغلام الصندوق الخشبي والحبال والحربة وما إليها وتركا عليه الطعم تحت مؤخر الزورق إلى جانب الهراوة التي تؤدب الأسماك الكبيرة.
صحيح أن أحداً من أهل القرية لم يكن ليفكر في سرقة متاع العجوز ولكنه كان يؤثر أن يحمله معه إلى بيته لأن قطرات الندى تضر بالشراع والحبال الثقيلة.
أما الصنانير والحربة، فقد كان العجوز يدرك أن ما فيها من قلة الاغراء خليق بأن يحمل أحداً من أهل الحي على مد يده إليها.
وسارا صعداً في الطريق إلى كوخ العجوز ودلفا من بابه المفتوح.
وانزل العجوز الصاري الذي يلتف حوله الشراع عن كتفه واسنده إلى الأرض.
أما الغلام فقد وضع الصندوق وبقية ما يحمل من معدات إلى جانب الصاري الذي يكاد يبلغ في امتداده طول الغرفة اليتيمة التي يتألف منها كوخ العجوز.
كان الكوخ مصنوعاً من جذوع النخيل وليس فيه من متاع الدنيا أكثر من مخدع ومائدة ورقعة خاوية من الأرض التراب، يخصصها العجوز الطهي لقمته على الفحم.
وعلى بعض جدران الكوخ صورة ملونة للقلب المقدس وأخرى للعذراء.
وهناك بعض مخلفات زوجته الراحلة..
كانت لها صورة فوتوغرافية باهتة الألوان معلقة على الحائظ ولكن هذه الصورة كانت تشعره دائماً بقسوة الوحدة كلما وقع بصره عليها فآثر أن يهبط بها عن الحائظ ويضعها على رف في ركن الكوخ خلف قميصه النظيف اليتيم.
وسأله الغلام :
ماذا تأكل الليلة ؟
عندي صحن من الأرز الاصفر والسمك أتأكل معي ؟
لا بل أكل في بيتي هل اوقد لك النار ؟
لا حاجة بنا إلى اشعالها الآن وقد أكل الأرز بارداً.
أتأذن لي أن آخذ الشبكة الصغيرة ؟
طبعاً.
وكان الغلام يعرف أن الشبكة الصغيرة لا وجود لها ويذكر متى باعاها ليستعينا بثمنها على القوت ولكن كان يلذ لهما أن يتخيلا كل يوم أنها لا تزال باقية.
وعلى هذا القياس أيضاً، لم يكن هناك صحن فيه أرز أصفر ولا سمك.
وكان الغلام يدرك هذه الحقيقة أيضاً.
وذكر العجوز أن اليوم التالي هو يومه الخامس والثمانون في البحر .... وقد مر مامر من الأيام بغير صيد فقال الغلام :
خمسة وثمانون ؟ لعل هذا الرقم مجلبة للحظ ما ظنك بي لو رأيتني أخرج بسمكة تزن أكثر من ألف رطل ؟
سآخذ الشبكة الصغيرة، وأذهب في طلب السردين، أما أنت، فاخرج وأجلس في الشمس أمام الباب.
حسناً، سأفعل ما تقول، وعندي جريدة أمس، أجلس في الشمس وأقرأ صحيفة البيسبول.
ولم يكن الغلام يدري أهي حقاً جريدة أمس أم أنها مجرد خيال كبقية ما تحدثا عنه ؟
ولكن العجوز مد يده تحت المخدع فتناول الصحيفة قائلاً:
لقد اعطاني (بيريكو) إياها ونحن في البوديجا
وهمّ الغلام بالانصراف وهو يقول :
سأعود إليك حالماً أظفر بالسردين وسأحتفظ بنصيبك ونصيبي معاً في الثلج إلى ان نتقاسمها في الصباح على أن تخبرني بأنباء البيسبول عندما أعود.
أن فريق (اليانكي) لا يخسر أية مباراة .. مطلقاً.
ولكني مشفق عليه من هنود (كليفلاند).
ثق أبطال (اليانكي) يا ولدي وأذكر (ديماجيو) العظيم.
بل لا أزال مشفقاً عليه من فريقين : نمرة (ديترويت) وهنود (كليفلاند)
لا تجانب الحق، وإلا اشفقت أيضاً من حمر (سنسناتي) وبيض (سوكس أوف شيكاجو)
سأتركك تدرس الموقف، على أن تخبرني بالنتيجة عندما أعود.
أتراه من الرأي أن نشتري تذكرة يا نصيب تنتهي بالرقم 85 إن غداً هو يومي الخامس والثمانون.
نستطيع أن نفعل هذا ولكن ما رأيك في الرقم 87 ؟ ألا يذكرك باليوم الذي سجلت فيه الرقم القياسي في الصيد ؟
هذا لا يحدث مرتين في العمر، ولكن قل لي: أترى أنه من الميسور الحصول على تذكرة يا نصيب تنتهي بالرقم 85 ؟
سأطلب واحدة يتوافر فيها هذا الشرط.
ولكن ثمن الورقة الواحدة دولاران ونصف الدولار فممن نقترض هذا المبلغ ؟
هذا سهل : إنني استطيع أن اقترض دولارين ونصف دولار في أي وقت.
وأحسب أنني استطيع هذا أنا الآخر ولكني أؤثر الاقتراض فإن من يبدأ الاقتراض ينتهي بالتسول.
وعبرت لحظة من الصمت خرج منها الغلام بقوله :
تذرع بالدفء أيها العجوز وأذكر أننا في شهر سبتمبر.
فأجاب العجوز :
الشهر الذي تكثر فيه الأسماك الكبيرة أما مايو فإن كل امرىء يستطيع أن يزعم فيه أنه صياد.
ونهض الغلام قائلاً :
سأذهب الآن ... من أجل السردين.
وحينما عاد الغلام إلى الكوخ كان العجوز قد استغرقه النوم وهو جالس على مقعده.
وكانت الشمس قد مالت إلى الغروب.
وتناول الغلام بطانية من مخلفات الجيش كانت على المخدع، فنشرها فوق ظهر المقعد وعلى كتفي العجوز.
كان للعجوز كتفان عجيبتان أكلت منهما السنون، ولكنهما لا تزالان قويتين.
وكذلك عنقه كانت عليه سمات القوة وقد أوشكت تلك الغضون أن تمحى حينما تدلى رأسه إلى الأمام في نومته.
أما قميصه فقد تكاثرت عليه الرقع حتى شابه شراع زورقه وقد عبث الوهج بهذه الرقع فأصبح كل منها بلون.
كان رأس العجوز - إذ هو كذلك - يبدو موغلاً في الهرم حتى لكأنه وقد اسدل جفونه على عينيه قد تجرد من كل معالم الحياة .
أما الجريدة فكانت لا تزال في حجرة نائمة بين ركبتيه وثقل يده ملقاة فوقها ونسمات الليل طائفة به وقدماه حافيتين.
هكذا تركه الغلام.
وهكذا عاد فألفاه.
وربت الغلام فوق ركبة العجوز وصاح به :
قم أيها العجوز.
وفتح العجوز عينيه ومرت هنيهة عاد خلالها إلى واقعه من احلام سحيقة المدى.
وابتسم وسأل الغلام :
بم جئت ؟
قال الغلام :
جئت بالعشاء وسنأكل معاً
لكنني لا أشعر بجوع شديد.
هيا، كل أنك لن تستطيع أن تخرج للصيد وأنت جوعان.
أجل ... يجب أن آكل.
وهبّ العجوز من مكانه، وطوى الجريدة، ثم جعل يرفع البطانية ويلفها فصاح به الغلام :
دعها حول كتفيك.
ثم تابع قوله :
ليهب لك الله طول العمر ولترع حق نفسك.
ثم تأمل ما جاء به الغلام وسأله :
ماذا سنأكل ؟
فولاً وأرزاً وموزاً مقلياً ويخني.
وكان الغلام قد جاء بالطعام في عمود ذي صحنين، من محل (الشرفة) وحمل في جيبه ملعقتين وشوكتين وسكينتين كل زوج منها في منديل من الورق.
وسأله العجوز :
من أين لك هذا ؟
من (مارتن) صاحب المحل :
ينبغي لي أذن أن أشكره.
لقد قمت بهذه المهمة فلا حاجة بك إلى شكره مرة أخرى.
سأنفحه لحم بطن سمكة كبيرة يوماً ما، ولكن أتذكر أنه صنع مثل هذا بنا من قبل ؟
أظن هذا .
إذن .. يجب أن انفحه شيئاً أكثر من لحم بطن سمكة كبيرة ما دام مشغولاً بأمرنا إلى هذا الحد.
وقد أضاف إلى عطائه بعض البيرة لي ولك.
كنت أفضل البيرة المعلبة.
أعرف هذا ولكنها في قوارير هذه المرة أسمها (هاتوي)
وسأعيد إليه القارورتين الفارغتين.
هذا لطف منك والآن أنأكل ؟
فقال الغلام برفق :
هذا ما سألتك اياه ، ولم أشأ أن أفتح العمود قبل ان تكون متأهباً للطعام.
لقد تأهبت له .. لا أسألك إلا هنيهة أغتسل فيها.
وسأل الغلام نفسه : أين يغتسل العجوز ؟ ان صنبور مياه القرية على مسيرة شارعين من هذا الطريق كان عليّ أن أجيئه بشيء من الماء، وقطعة من الصابون ومنشفة كيف لم أفطن إلى هذا ؟ وعلي أيضاً أن اشتري له قميصاً آخر، وسترة للشتاء، وحذاء من أي نوع وبطانية أخرى.
وهمهم العجوز والطعام في فمه :
ان اليخني ممتاز.
وعاد الغلام يسأله :
وما أنباء البيسبول ؟
في مباريات الدوري، فاز فريق (اليانكي) كما قلت لك.
ولكنه خسر مباراة اليوم !
هذا لا يعني شيئاً، فإن (ديماجيو) العظيم قد استرد مجده
ولكن لديهم ابطالاً غيره في الفريق.
هذا طبيعي أما (ديماجيو) فشيء آخر، وأما أنباء الدوري الآخر، بين فريقي (بروكلين) و(فيلادلفيا).. فأني أرجح كفة بروكلين على أنني لا ازال أفكر في (ديك سيسلر) وأولئك الأبطال الراسخين في الملاعب القديمة.
أولئك لا نظير لهم لقد رأيت (ديك سيسلر) يطلق أطول كرة شهدتها في حياتي.
اتذكر أيام كان يتردد على (الشرفة) ؟ لقد هممت مرة بأن أدعوه إلى الصيد ، فمنعني الحياء، فسألتك أن تدعوه أنت، ولكنك استحييت أنت الآخر.
نعم كانت غلطة كبرى ، وكان من الجائز أن يذهب معنا، ومن يدري، لعله كان يستمرىء الصيد ويواصل حياته معنا طوال العمر.
وهنا قال العجوز :
كم أتمنى أن آخذ (ديماجيو) العظيم معي في رحلة صيد، يقولون: إن أباه كان صياداً ومن يدري... لعل أباه كان فقيراً مثلنا يحس بأحساسنا.
أما (سيسلر) العظيم... فإن أباه لم يذق مرارة الفقر.. وكان يلعب في مباريات الدوري حينما كان في مثل سني.
أما أنا فعندما كنت في مثل سنك، كنت أتولى أمر الشراع في سفينة مربعة الاضلاع ذهبنا بها إلى افريقيا، ورأيت هناك السباع تعبث على الشاطئ في الليل.
ـ أعرف هذه القصة , فقد حدثتني بها من قبل.
ـ هل تؤثر أن نتحدث عن افريقيا أو عن البيسبول؟
ـ أؤثر الثانية , حدثني عن (ماكجرو) العظيم.
ـ كان يتردد على (الشرفة) هو الآخر فيما مضى, ولكنه كان جلفاً غليظ القول , وكان يبدو متعباً إذا شرب الخمر , وكان رأسه موزعاً بين أمرين: الجياد , والبيسبول , فكنت ترى جيوبه محشوة بقوائم أسماء الجياد دائماً , ولا يزال يردد اسماء الكثير منها كلما تحدث إلى أحد في الهاتف.
فقال الغلام:
ـ وكان منظماً كبيراً , بل أن أبي يقول عنه: أنه كان أعظم المنظمين.
ـ ذلك لأنه كان يأتي إلى هنا كثيراً ولو أن (دوروتشر) قد واصل مجيئه إلى هنا كل عام هو الآخر , لقال أبوك عنه أنه أعظم منظم.
ـ ومن هو أعظم المنظمين في رأيك؟ أيكون (اليوك) أم (مايك جوانزليز)؟
ـ أظن أنهما سيان.
ـ ومن أمهر صياد؟ أتراه أنت؟
ـ لا.. بل أني أعرف أن هناك من هم أمهر مني.
ـ هناك كثير من مهرة الصيادين , وهناك أيضاً صيادون عظماء ,أما أنت فإنك نسيج وحدك.
ـ شكراً لك ,إنك تغمرني بالسعادة ,وأتمنى على الله ألا تبرز من جوف البحر سمكة تثبت خطأ ما تزعم.
ـ إن جوف البحر لايستطيع أن يطوي سمكة تجرؤ على هذا ,ما دمت لاتزال قوياً.. كما تقول.
ـ قد لا أكون قوياً كما أعتقد ,ولكنني أتذرع بكثير من الحيل ,وأتزود بالعزيمة.
ـ احسب أنه من الخير أن تذهب الآن إلى مخدعك فتنام ,حتى تصحو نشطاً في الصباح وسآخذ المعدات معي إلى الشرفة.
ـ تصبح على خير ,وسأوقظك في الصباح.
ـ أنك ساعتي المنبهة.
ـ فأجاب العجوز قائلاً:
ـ الشيخوخة هي ساعتي المنبهة , ولعلك لاتعرف لماذا يستيقظ العجائز مبكرين.. ليجعلوا أيامهم الباقية أطول من أيام الناس.. فعقب الغلام بقوله:
ـ لست أدري ,ولكني أعرف أن الصغار ينامون في ساعة متأخرة .. وبصعوبة.
ـ نعم... أذكر هذا من عهد طفولتي ,على أية حال سأوقظك في الموعد.
ـ إني لا أحب أن يوقظني صاحبي الذي أعمل معه ,فإن هذا يشعرني بأنني دونه.
ـ أحس بهذا..
ـ طاب منامك أيها العجوز.
كان الكوج ظلاماً.. وقد تناول العجوز والغلام عشاءهما في جنحه فلما انصرف الغلام انسرب العجوز إلى مخدعه يتحسس موضع قدميه وخلع سرواله وحشاه بأوراق الجريدة ليتخذ منه وسادة يريح عليها رأسه.
ثم نشر ما عنده من صحف قديمة فوق المخدع لعله يلين جسده وتندثر ببطانيته ,وسرعان ما استغرقه النوم.
وراحت أحلامه تحمله إلى افريقيا وترد له ذكريات صباه فيها إذ طالما نعم بمشاهد ضفافها الذهبية ,وشطآنها البيضاء التي تبهر العيون , ورؤوس اشجارها في السموق وجبالها السمراء الفارعة.
كانت أحلام شيخوخته تحمله كل ليلة إلى تلك الشواطئ النائية ,وتطالعه بمشهد العبيد يرددون صيحاتهم والقوارب قادمة بهم وتغشاه رائحة القار والبلوط المنبعثة من سطح السفينة إذ هو مستلق عليه ,ويزدحم في أنفه عبق أرض افريقيا الذي تحمله إليه نسمات الصباح ,وكان من شأن العجوز أن يصحو على عبق الأرض إذا حملته إليه نسمات الصباح ,وعندئذٍ يهب من مخدعه ويلبس ثيابه ويذهب لإيقاظ الغلام.
ولكن عبق الأرض عادة تلك الليلة قبل موعده المألوف في ساعة مبكرة , وأدرك العجوز هذه الحقيقة حتى وهو يحلم فلم ينهض من مخدعه وواصل ما يراه في منامه ليشهد رؤوس الجزر الناتئة في البحر وليطوف بكثير من موانع جزر الكناريا ومراسيها البحرية.
ولم يعد العجوز ـ في أيامه هذه ـ يحلم بالعواصف ,ولا بالنساء ولا بالأحداث الضخمة , ولا بالحروب ومعارك القوة.. ولا بزوجته.
لم يعد يرى فيما يرى النائم إلا البلاد والسباع التي تلهو على الشاطئ كما تلهو القطط في الغسق.
وكان يحب مشهد هذا السباع حبه للغلام على أنه لم يحلم بالغلام قط.
###
صحا من نومه في موعده , وتطلع إلى الباب المفتوح الذي تطل منه بقية من ضوء القمر وفض سرواله مما فيه وارتداه وقضى حاجته خارج الكوخ , ثم ذهب يوقظ الغلام.
وذكر إذ هو في طريقه إلى بيت الغلام , إن ذلك الدفء الذي يستشعره لن يلبث أن يزول وتحل محله رعشة البرد إذ هو مقبل على مهمته في البحر.
كان باب بيت الغلام غير موصد فدفعه العجوز وانسرب إلى الداخل حافي القدمين.
وكان الغلام ممدداً على أريكة في أول غرفة من غرف الدار ,فرآه العجوز بوضوح على ضوء ما بقي من أشعة القمر الآفل ,وتحسس إحدى قدميه في رفق فصحا الغلام وتمطى ملتفتاً إليه.
وأوما العجوز إليه بتحية الصباح.
ونهض الغلام من سريره فتناول سرواله من فوق المقعد المجاور ,واعتدل في جلسته على السرير ,ولبس السروال وانسرب العجوز إلى الخارج وتبعه الغلام ,وكان النوم لايزال يخامر عينيه ,فوضع العجوز ذراعه حول كتفيه في اشفاق قائلاً له:
ـ أنا آسف
ـ فقال الغلام
ـ لابأس هكذا حياة الرجال.
وسلكا إلى كوخ العجوز في الظلام ,وكان الرجال يتحركون كالاشباح في دروب القرية حفاة الأقدام يحملون صواري قواربهم.
وحينما بلغ العجوز وصاحبه الكوخ ,حمل الغلام حبال الصيد والحربة ,وحمل العجوز الصاري بشراعه المطوي على كتفه.
وسأله الغلام:
ـ اتحتسي قدحاً من القهوة؟
ـ بل نضع المعدات في الزورق ثم نعود إلى القهوة.
وانتهيا إلى المقهى الذي يفتح أبوابه في هذه الساعة المبكرة ليقدم للصيادين أقداح القهوة باللبن ,وسأل الغلام صاحبه ,وكان النوم يوشك أن يفارق عينيه:
ـ كيف كانت نومتك أيها العجوز؟
ـ طيبة جداً , وإني اليوم لمليئ بالثقة.
فأجاب الغلام قائلاً:
ـ وأنا أيضاً اشاطرك هذا الشعور والآن .. يجب أن أذهب فأجئ بنصيبك ونصيبي من السردين وأجيء بالطعم الطازج أيضاً أن الصياد الذي اعمل معه يحمل معداته بنفسه ,ولا يحب أن يحمل احد له أي شيئ.
فقال العجوز:
ـ إننا مختلفان لقد كنت أجعلك تحمل المعدات وأنت في الخامسة.
ـ أذكر هذا.. سأعود حالاً.. خذ قدحاً آخر من القهوة ,فأننا نأخذ ما نأخذ هنا على الحساب.
ومضى الغلام يعبر فوق الصخور المرجانية حافي القدمين ,في طريقه إلى بيت الثلج ,حيث يخزن الطعم.
وشرب العجوز قهوته في هوادة ,وكانت هي كل زاد يومه ,فقد مل الطعام منذ سنوات ,فلم يعد يحمل معه أي زاد للغداء.
كان كل زاده في رحلته قارورة يضعها في حنية الزورق فلا يحتاج بعدها إلى شيئ.
وعاد الغلام يحمل السردين وقطعتين من الطعم ,وقد لفها جميعاً في صحيفة قديمة , وسارا صوب الشاطئ وحصباء أرض تعبث بأقدامهما الحافية , حتى بلغا موضع الزورق فدفعا به إلى الماء.
وقال الغلام لصاحبه:
ـ حظ باسم أيها العجوز.
ـ ولك أنت الآخر يا ولدي.
وعقد العجوز مجدافيه وبدأ يجدف في الظلام , وقد امتلأت صفحة الماء بعدة زوارق قادمة من الشواطئ الأخرى.
وكان العجوز يسمع حفيف مجاديفها , وإن لم ير منها شيئاً لأن القمر كان قد غاب وراء التلال.
وكان الصمت يسود وجه الماء ,اللهم إلا حفيف هذه المجاديف ,وبضع كلمات تخرج من أفواه الصيادين الفينة بعد الفينة.
وما كادت القوارب تتجاوز ثغر الميناء ,حتى تفرقت شتى في مياه المحيط العريضة ,كل منها يضرب نحو البقعة التي يأمل أن يجد فيها رزقاً حسناً.
كان العجوز قد عقد عزمه على أن يضرب بعيداً ,موغلاً في البحر وقد طرح وراءه رائحة الأرض وراح يشق الماء بمجدافيه ,ويستأف رائحة المحيط الطاهرة في الصباح الباكر.
وتراءى له الاشعاع الفوسفوري المنبعث من أعشاب الخليج يلمع في الماء وهو يجدف في هذه البقعة في المحيط , التي يطلق عليها الصيادون اسم (البئر الكبيرة) لأن بها عمقاً مفاجئاً يهبط إلى سبعمائة غور تتجمع عنده جميع أنواع السمك ويحتشد فيه الجمبري وسمك الطعم واحياناً أسراب (الحبار) في الثقوب المتعمقة ,وهي تطفو إلى مقربة من السطح ليلاً فتتغذى بها الأسماك المطوفة.
وأحس العجوز في هذه الحلكة بالصباح مقبلاً وترامى إلى سمعه ,وهو يجدف صوت مروق سرب من السمك الطائر ,عرفه من حفيف أجنحته الجافة وهو ينطلق من الماء إلى الجو في جنح الظلام.
وكان يؤثر هذا النوع من السمك ويعتبره صديقه الأثير في المحيط ,أما الطيور فكان يأسى عليها ولاسيما صغار العصافير البحرية الرقيقة السمراء التي تحوم فوق الماء طويلاً وقلما تظفر بشيئ.
وراح يهمس إلى نفسه:
إن حياة الطير أقسى من حياة البشر ,فيما عدا الطيور السارقة والكاسرة ,لماذا خلقت هذه الطيور الصغيرة بهذه الرقة وهذا اللطف ,وخلق المحيط بهذه القسوة؟ إن المحيط رفيق ورائع الفتنة.. ولكنه يستطيع أن يكون قاسياً كل القسوة في غمضة عين ,وهذه الطيور المحلقة ,تغوص وتتصيد.. إنها بأصواتها الرقيقة الحزينة , أرق من أن تستطيع مواجهة البحر.
كان العجوز يعشق البحر...
كان يتملاه دائماً على طريقة الاسبان ,حيثما يتملونه في وله ويسمونه (لامار).
وأحياناً .. يرمونه بنعوت غير محببة ولكنهم برغم هذا يحدثون عنه دائماً كما لو كانوا يتحدثون عن أمرأة.
أما شباب الصيادين ممن يستخدمون الشمندورات في تعويم شباكهم ,وممن زودوا زوارقهم بمحركات آليه , حين كانت كبود اسماك القرش تباع بأثمان مجزية , فإنهم عندما يتحدثون عن البحر يقولون (ال مار) ولايقولون (لا مار) كالسابقين...
إنهم يجعلونه مذكراً لا مؤنثاً.. ينظرون إليه كرجل لا كامرأة..
يتحدثون عنه كمنافس.. أو كمجرد مكان من الكون.. وأحياناً كعدو خصيم.
أما العجوز ,فكان يتخيله دائماً أنثى تنفح الحياة بالمنح العظيمة , أو تحتضن هذه المنح.
فإذا ما بدرت منها أمور وحشية , أو غير مستحبة , فما هذا إلا لأنها لا تملك أن تصنع شيئاً آخر.
وللقمر عليه أثره.. نفس أثره على المرأة.
وظل العجوز يضرب بمجدافيه قدماً في المياه دون أن يستشعر جهداً ,فهو يسير بسرعة منتظمه ووجه المحيط هادىء منبسط , اللهم إلا بضع شطحات عابرة تعتور التيار الفينة ,بعد الفينة وقد ترك العجوز التيار يضطلع بثلث المهمة في شق العباب.
وبدأ النهار ينبلج .. فأدرك العجوز أنه قد تجاوز ما كان قد قدر لنفسه أن يجتازه حتى تلك الساعة.
وقال لنفسه:
ـ لقد سبرت الأغوار السحيقة أسبوعاً كاملاً دون أن أصل إلى شيء ـ أما اليوم ,فسأحاول أن التمس مخابئ أسراب (التونة) و(السقمري) وقد أظفر بسمكة كبيرة منها.
وقبل أن يكتمل ضوء الصباح أعد العجوز ما عنده من الطعم ,وسار مع التيار.
وألقى حباله في الماء مزودة بالطعم احدها إلى أربعين غورا ,والثاني إلى خمسة وسبعين.
أما الحبلان الثالث والرابع ,فقد ألقى بهما إلى عمق الماء الأزرق.. أحدهما إلى مائة غور ,والآخر إلى مائة وخمسة وسبعين غوراً.
وكانت كل قطعة من الطعم تخفي في جوفها خطافاً وهي نفسها تختفي في جوف سميكة صغيرة من سميكات الطعم وكل سميكة مطوية بدورها في جوف سردينة طازجة وفي رأس كل سردينة خطاف مزدوج له طرف في كل عين!
ولا تخلو مجموعة من هذه المجموعات كلها ,من رائحة تلذ لاية سمكة كبيرة.
وكان الطعم الذي أعطاه الغلام أياه ,يتألف من سمكتين طازجتين صغيرتين من نوع التونه والسقمري هبطت بها حبال الصيد إلى الغوريز البعيدين كأنما هما ريشتان في الماء.
أما الحبلان الأخران ,فقد هبطا بقطعتين من الطعم أحداهما صفراء والأخرى زرقاء ,كان العجوز قد استخدمهما من قبل فلم تخرجا من الماء بجواب.
على أنهما كانتا لاتزالان في حالة طيبة ,ولاسيما بعد أن غلفهما بالسردين الطازج , لتطيب رائحتهما ويحسن فالهما.
وكان كل حبل من حبال الصيد يستدير في قامة القلم الرصاص ويتدلى من عصا خضراء خفيفة , بحيث تكفل أية لمسة تصيب الطعم في جوف الماء تحريك العصا.
وتابع العجوز مسيره في الماء وهو يرقب اهتزازات العصا ليحفظ على كل حبل غوره.
وأوشك نور النهار أن يكتمل...
وطلعت الشمس من وراء البحر ,فرأى العجوز بقية القوارب متناثرة فوق سطح الماء حتى الشاطئ.
وصعدت الشمس ونشرت شعاعاتها على الماء فعكسها الماء على عيني العجوز حتى احرقتهما فجعل يجذف وهو يتجنب النظر إلى سطح البحر مكتفياً بمراقبة حركات حباله في الاغوار ,وقد أحكم مواضعها بحيث يهبط كل طعم إلى البقعة التي يريدها له ,بأسلوب لا يحسنه أحد من أهل الصيد سواه , أما من عداه من الصيادين فأنهم يتركون التيار يعبث بالحبال ما شاء له العبث ,وقد دخل في روعهم انها هبطت إلى مائة غور ,بينما هي لم تهبط إلى أكثر من ستين غوراً.
وجعل العجوز يحدث نفسه:
ـ إنني أحكم مواقع ما ألقي به من الطعم ولكن الحظ قد تخلى عني ومن يدري؟.. لعله لا يجانبني اليوم.. كل يوم هو يوم جديد يحمل أملا جديداً ,إن حسن الطالع شيئ رائع ولكني أوثر إذا عملت شيئاً أن أحسنه ,فإذا وأتاني الحظ كنت متأهباً لاستقباله.
كانت الشمس قد سلكت مسيرة ساعتين في سماء النهار ,لم يعد وهجها يؤذي عيني العجوز كثيراً فاستطاع أن يرنو نحو الشرق ,فلم تقع عيناه على أكثر من ثلاثة قوارب على مدى رؤيته قرب الشاطئ.
وقال العجوز:
ـ لكم آذت شمس البكر عيني طول حياتي صحيح أنهما لا تزالان بخير حتى أنني لا استطيع أن احدق بهما في عين الشمس رأساً عند اقتراب المساء ,برغم أن ضوءها عندئذ لايفقد الكثير من حدته ,أما وهج الصباح فأليم.
وهنا لمح العجوز طائراً من الطيور المغردة يجدف بجناحيه الأسودين في السماء أماماً ثم يهبط سريعاً ,ثم ينحدر بجناحيه نحو الماء ثم يحلق ويحوم مرة أخرى.
وصاح العجوز:
إنه لايبحث .. بل لقد لمح شيئاً بالفعل..
ومضى العجوز يضرب في الماء وئيداً نحو الموضع الذي يحوم به الطائر , دون أن يتعجل ودون أن يهمل استقامة حباله في الماء مبحراً في اتجاه الطائر.
وعلا الطائر في الجو وظل يجدف بجناحيه ثم خاض فجأة.
ولمح العجوز سرباً من السمك الطائر يخرج من الماء ثم لايلبث أن يطفو يائساً على السطح.
وتأمل العجوز الماء ثم صاح:
دلفين .. دلفين كبير
وأسند مجدافيه , وجاء من حنية الزورق بحبل صغير من السلك ينتهي بخطاف صغير ثبت فيه طعماً من السردين وعقد طرفي الحبل في مؤخرة الزورق.
ثم أعد حبلاً آخر وزود خطافه بالطعم وتركه في حنية الزورق.
وعاد يجدف ويتابع بعينيه حركات الطائر ذي الجناحين الطويلين وكان قد هبط حتى اقترب من سطح الماء يلتمس رزقه.
وانقض الطائر مرة أخرى وهو يضرب بجناحيه متعقباً السمك الطائر وشهد العجوز في الماء تلك التلة الخفيفة التي رفعها الدلفين الضخم وهو الطائر يتعقبان الأسماك الهاربة.
وتأمل العجوز التلة المائية فأدرك أنها ليست من صنع دلفين واحد.
إنه سرب من الدلافين يشق الماء تحت مطار السمك الطائر الذي يلتمس النجاة.
وأدرك العجوز أن سرب الدلافين قد انتشر في الماء فتضاءل أمل السمك الطائر في الافلات منه وانقطع معه أمل الطائر المحلق ,فالسمك الطائر كبير .. أكبر من طاقة الطائر المحلق وأسرع منه.
وظل العجوز يرقب السمك الطائر وهو يندفع مرة وأخرى وثالثة والطائر المغرد يتعقبه على غير طائل.
وحدّث العجوز نفسه:
لقد افلت مني هذا السرب أنه يبتعد كثيراً وبسرعة بالغة ولكن.. لعلي أظفر بسمكة شاردة ولعلها تكون كبيرة لابد أن تكون سمكتي الضخمة المنشودة في مكان ما.. تنتظر قدرها.
كان زورق العجوز قد أوغل في البحر حتى بدت السحب فوق الارض كأنما هي جبال وبدأ الشاطئ كأنما هو شريط طويل مخضوضر تطل من ورائه التلال الشهباء الضاربة في الزرقة.
أما الماء فقد ضرب لونه إلى الزرقة الحالكة المشوبة بلون الأرجوان.
وتملى العجوز الماء وراح يراقب استقامة حباله فيه وهبوطها إلى أغوار لاتراها العين.
وكان الضوء العجيب الذي ترسله الشمس في الماء بعد أن ازدادت سموقاً في كبد السماء بشيراً بجو طيب يؤكده شكل السحب المترامية على الأرض في الأفق.
وكان الطائر قد أوشك أن يغيب عن مدى الرؤية ولم يعد على وجه الماء غير بضع بقع من أعشاب السرخس الصفراء وحولها مثانات بعض الطيور المغردة عائمة حول الزورق تتخللها بعض السميكات الصغيرة تسبح في الماء وترسل فقاعات لطيفة الصورة.
وكان يروق للعجوز أن يشهد السلاحف البحرية الكبيرة وهي تزدرد هذه السميكات الصغيرة.
واقبلت السلاحف البحرية وجعلت تلتهم السميكات وما حولها من العشب ,ذلك المشهد الذي يحبه العجوز كما يحب ان يسير فوق ظهور هذه السلاحف بقدمين حافيتين عندما يكون على الشاطئ.
وكان يؤثر السلاحف الخضراء وتعجبه اناقتها وسرعتها في حين يكره الصفراء ذات الرؤوس الضخمة.
ولم يكن صيد السلاحف يستهويه برغم أنه قضى السنوات الطوال من شبابه يعمل في مراكب صيادي السلاحف.
بيد أنه كان يشعر بالاشفاق عليها جميعاً.. حتى السلاحف الضخمة التي يمتد طول الواحدة منها إلى طول زورقه وتزن طناً كاملاً.
إن أكثر الناس لايعطف على هذه السلاحف لأن قلوبها تظل تخفق عدة ساعات بعد ذبحها ولكن العجوز قال وهو يحدث نفسه:
أن لي قلباً كقلب هذه السلاحف ولي يدان وقدمان كأيديها واقدامها.
وكان يأكل بيضها , ويأكل السلاحف نفسها طوال شهر مايو حتى يساعداه ويقوى على مواجهة الأسماك الضخمة في شهري سبتمبر وأكتوبر كما كان يشرب قدحاً من زيت كبد القرش كل يوم ,من القربة القائمة في الكوخ الذي يضع فيه الصيادون معداتهم.
إن هذه القربة هناك دائماً موهوبة لكل من ينشد القوة من الصيادين ولكن اكثرهم يكره مذاق الزيت , في حين أن مذاقه ليس أشد قسوة من مرارة الساعة التي يغادرون فيها مضاجعهم في الصباح الباكر.
هذا إلى أن ذلك الزيت دواء ناجع لمقاومة البرد والحمى , ومفيد للبصر.
وعاد العجوز يتطلع إلى أعلى فلمح الطائر يحلق مرة أخرى فصاح:
لقد رأيت سمكاً.
لم ير العجوز سمكاً طائراً , ولا حتى سمك طعم هذه المرة.
وجعل يتملى ما حوله في الماء فلمح سمكة صغيرة من نوع التونة تبرز فوق الماء وتتلفت ثم تهوي رأسها في الماء مرة أخرى.
كانت تبدو في وهج الشمس كأنها قطعة من فضة.
وما كادت تهبط إلى الماء ,حتى برزت أخرى وثالثة.. وكثيرات من أخواتها وراحت جميعها تثب في كل ناحية ,وتموج الماء وتقفز وراء سميكات الطعم قفزات طويلة تحاصرها وتهبط بها.
وقال العجوز لنفسه:
سأفوز بها إذا لم تبادر إلى الاختفاء.
وجعل يتابع بعينيه سرب السمك وهو يلمع كمسطح أبيض في الماء ,ويتملىء الطائر وهو يهبط ويغوص وراء سميكات الطعم التي لاذت بالسطح في ذعر شديد ,تلتمس النجاة.
وقال العجوز: أن هذا الطائر هو خير عون له على رزقه.
وهنا تحرك الحبل الذي في مؤخرة الزورق وجعل يهتز بسمكة التونة العالقة به وظل الحمل يثقل في يده كلما اجتذب الحبل إلى أن برزت به السمكة الكبيرة العالقة بظهرها الأزرق وجوانبها الذهبية فاستلقى على ظهره واجتذبها بكل قوته.
وراحت ترفرف في الزورق بعنف فضربها على أم رأسها وراح يلكزها بقدمه.
وصاح العجوز:
انها سمقرية .. تصلح لأن اصنع من لحمها طعماً فاخراً.. انها تزن نحو عشرة أرطال.
وراح العجوز يتذكر ايامه الأولى حينما بدأ حياته كصياد.
كان لايتحدث إلى نفسه بصوت مرتفع إلا حينما يكون وحده.
وكان يغني إذا ما خلا إلى نفسه.
وكان يلذ له الغناء في الليل , وهو يعمل في مراكب صيد السلاحف.. ثم تعود الحديث إلى نفسه بصوت مرتفع بعد أن تركه الغلام.
على أنه ما كان يتحدث الى الغلام ـ حينما كان الغلام معه ـ إلا إذا كان هناك مايدعو إلى الحديث ,وكان حديثهما دائماً بالليل , أو عندما تواجههما العاصفة.
ذلك أن الثرثرة ليست من فضائل البحار، وكان العجوز يحترم هذه الفضيلة.
أما الآن فإنه إذ يتحدث إلى نفسه فإنما يعرب عن أفكاره بصوت مرتفع ما دام وحده وليس هناك من يضيق بثرثرته.
وقال العجوز لنفسه ، بصوت مرتفع :
لو سمعني أحد وأنا اتحدث إلى نفسي بصوت مرتفع لظن أنني مخبول ولكنني لا أبالي ما دمت أعرف أنني لست مخبولاً أن أثرياء الصيادين يحملون معهم أجهزة راديو في زوارقهم تتحدث إليهم، وتنقل لهم أنباء البيسبول.
ثم عاد يقول :
على أن هذا ليس أوان التفكير في البيسبول بل في أمر واحد، هو الأمر الذي خلقت من أجله، قد تكون هناك سمكة ضخمة حول هذا السرب من السمك، لقد ظهرت سمقرية واحدة من السرب الذي كان هنا يطعم ولابد أن تكون صويحباتها قد رحلن بعيداً عن هذا المكان.
إنها سريعة وموغلة في البعد، كل ما يطفو على سطح الماء في هذه الأيام يذرع الماء بسرعة، ويتجه نحو الشمال الشرقي، ترى أتكون هذه عادة السمك في مثل هذا الوقت من اليوم ؟ أم أنها سمة من سمات الطقس لا أعرفها ؟
وكانت خضرة الشاطئ قد غابت عن عينيه، فلم يعد يرى إلا قمم التلال الزرقاء تبدو بيضاء كأنما توجتها الثلوج كما تراءت السحب كأنما هي جبال عالية من الثلج فوق القمم.
أما مياه البحر، فكانت تبدو مغرقة في القتامة والنور ينعكس على الماء على شكل مخروطي.
كان الصيادون يطلقون على السمك التي تشبه اسماك هذا السرب اسم (التونة) ولا يميزون بينها بأسمائها الصحيحة إلا عندما يصنعون منها الطعم أو يبيعونها في السوق.
وعلى هذا الأساس أدرك العجوز أن سرب التونة الذي كان ملماً به قد هبط إلى جوف الماء وكانت الشمس قد اعتلت كبد السماء ، وتكاثرت أشعتها المخروطية، في الماء واشتدت حرارتها وأحس العجوز بلسعتها في قفاه، وجعل العرق يتصبب على ظهره إذ هو يضرب بمجدافيه في الماء.
وحدث نفسه :
كيف استطيع أن أدع الزورق ينساب مع التيار وأنام بعد أن أربط طرف عقدة الحبال حول أصبع قدمي ليوقظني عند الحاجة ولكن هذا يومي الخامس والثمانون ولابد اليوم من صيد حسن.
وفي تلك اللحظة لمح إذ هو يرقب حباله عصا من عصيه الخضر تنجذب نحو الماء بشدة فهمهم.
نعم .... نعم ..
ووسق مجدافيه دون أن يحرك الزورق وسار إلى الحبل فأحكمه برفق بين إبهام يمناه وسبابتها فلم يحس لأي توتر ولا أي ثقل فأطلق الحبل في يسر.
ولكن الشيء نفسه ما لبث أن حدث مرة أخرى وكانت الجذبة في هذه المرة أكثر اغراء فلا هي عنيفة ولا هي خفيفة فأدرك ما هنالك تماماً.
كانت هناك على عمق مائة غور سمكة تنش السردينة التي تحيط بالخطاف.
وتحسس العجوز الحبل بيده اليسرى، في رفق ونعومة وأطلقه من العصا ليجري بين أصابعه دون أن تحس السمكة أي توتر.
وجعل يتكلم :
عند هذا العمق لابد ان يكون حلق السمكة ضخماً كلي أيتها السمكة كلي الطعام كله إنه طازج وأنت على عمق ستمائة قدم في الماء البارد الحالك خذي جولة أخرى في الظلام ثم عودي لتأكلي من طيبات هذا الطعام.
وأحس جذبة خفيفة ثم أخرى أشد منها، معناها أنه ليس من السهل أن يخلس رأس السردينة من الخطاف
ثم لم يعد يحس شيئاً !
وصاح العجوز :
تعالي خذي جولة أخرى: شميها فقط أليست لذيذة ؟ كليها وستظفرين في داخلها بالتونة ، جافة وباردة وشهية، لا تخجلي أيتها السمكة كليها.
وظل ينتظر والحبل بين ابهامه وسبابته وهو يرقبه ويرقب الحبال الأخرى في الوقت ذاته لعل السمكة تتحول إلى واحد منها وعادت اللمسة الخفيفة مرة أخرى.
وصاح العجوز :
ستأخذها اللهم أعنها عليها !
ولكن السمكة لم تأخذها بل مضت عنها ولم تعد أصبعا العجوز تحسان شيئاً :
وقال العجوز :
لا أظن أنها مضت إلى سبيلها الله وحده يعلم هذا مستحيل.
إنها في جولة وحسب، لعلها كابدت خطافاً كهذا من قبل ، فأخذت عبرة من الماضي ودرساً.
وعاد يحس اللمسة الخفيفة، الحبل من جديد فسرت النشوة في بدنه وقال :
كانت مجرد جولة، وستأخذها هذه المرة.
وكانت هذه اللمسات الخفيفة تغمر نفس العجوز بالنشوة.
ثم أحس شيئاً ثقيلاً ... أثقل مما يصور.
وأرخى للحبل العنان، فأحس ما يدور هناك وحدس ان الخطاف قد تعلق بفك السمكة من ناحيته وهاهي ذي تتحرك معه في عمق الماء وستبتلعه بعد ذلك.
حدس هذا، ولكنه لم يقله لانه كان ممن يعتقدون ان الإنسان إذا ثرثر عن خير مقبل عليه فقد لا يقبل الخير ابداً.
ولكنه كان يحس بضخامة السمكة وكان يتخيلها وهي تتحرك في قتامة الاعماق والطعم عالق بها من الجانبين.
وفي تلك اللحظة أحس أن الحركة قد توقفت أما الثقل فباق على ما هو عليه .
ثم ازداد الثقل فأرخى الحبل أكثر مما هو وشدد ضغط أصبعيه حوله، فأحس بازدياد الثقل وجعل الحبل يهبط عمودياً إلى أسفل وصاح الرجل:
لقد ابتلعتها والآن ، سأحملها على ان تأكل أكلة طيبة.
وترك الحبل ينزلق بين إصبعيه، قليلاً وهو يردد في خاطره.
ازدردي... ازدرديها جيداً حتى يدخل طرف الخطاف في قلبك ويصرعك.. ثم اصعدي بعد هذا في يسر، ودعيني اطعنك بالحربة.
حسناً، هل أنت متأهبة الآن ؟ هل طال مكثك على مائدة الطعام ؟
وصاح
والآن ؟
ثم استجمع كل قوى ذراعيه وجسده، وراح يحاول جذب الحبل بكل ما أبقى له الزمن من عافية.
ولكن شيئاً لم يحدث !
لقد زحفت السمكة بعيداً عنه في هوادة ولم يستطع العجوز أن يرفعها عن مكانها قيد شعرة.
وكان حبله قوياً، وقد صنع خصيصاً لمعالجة الأسماك الضخمة.
وراح العجوز يجذبه وهو مستلق على ظهره يدك قدميه في جنب زورقه.
وبدا الزورق يتحرك نحو الشمال الغربي، وتحركت السمكة في انتظام تقطر الزورق وسارا معاً في المياه الهادئة.
كانت بقية الحبال لا تزال تحمل طعمها في المياه دون أن تبشر بشيء وقال العجوز:
ليت الغلام كان معي.. إن سمكة تقطرني .. وأنا المقطور كان في استطاعتي أن أعجل بجذب الحبل في أول الأمر... ولكن كان من الجائز عندئذ أن تفلت السمكة من الحبل، يجب أن أمسك بها قدر ما استطيع وأرخي لها العنان طالما لابد من أرخاء العنان، اللهم لك الحمد على أن السمكة تسبح ولا تهبط إلى اسفل، ولكن ماذا أصنع لو انها قررت أن تهبط إلى أسفل ؟ لست أدري وماذا يحدث لو أنها سكتت وماتت دون أن أدري ؟ ولكن ينبغي لي أن أفعل شيئاً، في وسعي أن أفعل أشياء كثيرة.
وشد العجوز الحبل إلى ظهره، ومضت السمكة تقطر الزورق صوب الشمال الغربي، دون أن يسري إلى ظن العجوز أن السمكة مستطيعة ان تقاومه إلى الابد.
ولكن أربع ساعات مضت والسمكة تسبح موغلة في البحر نبته الزعانف ، تقطر الزورق نحو الشمال والعجوز مصر على شد الحبل إلى ظهره.
وقال لنفسه :
لقد علقتها عند الظهر، ولم أرها حتى الساعة ؟
وكان قد لبس قبعته المصنوعة من الخوص قبل أن يعلق السمكة وقد أوجعت حكة الخوص جبهته واشتد به الظمأ فانزلق على ركبتيه وظل يزحف وئيداً حتى لا يفلت منه الحبل، ومد إحدى ذراعيه لتصل إلى موضع قارورة الماء، فشرب قليلاً، ثم جلس قبالة حنية الزورق على مقربة من الشراع المطوي، لا يحاول أن يفكر بل يدخر كل جهده للمثابرة والصبر.
فقال لنفسه :
هذا لا يهم فطالما جئت من (هافانا) على أضواء الليل، ولا تزال أمامي ساعتان قبل أن تغرب الشمس، وقد تطلع السمكة قبل الغروب، فإذا لم تفعل فلعلها تطلع مع القمر، فإذا لم تفعل فلعلها تطلع مع شروق الشمس، انني لا أشكو أي تقلص وإني لا شعر بأنني قوي والخطاف في فمها لا في فمي ولكن أية سمكة هذه التي تجرني وزورقي على هذه الصورة ؟ لابد أن تكون قد احكمت حلقها حول الحبل، كم أتوق إلى رؤيتها ولو مرة واحدة، حتى أعرف أي غرم أواجه.
وأدرك العجوز من مواقع النجوم في السماء أن السمكة لم تغير من سيرها ولا اتجاهها طول الليل.
وكان البرد قد اشتد بعد غروب الشمس، وقد جف عرق العجوز فتحول إلى برد يلذع ظهره وذراعيه وساقيه.
وكان قد نشر الجوال الذي يغطي به علبة الطعم أثناء النهار في الشمس ليجف فلما غربت الشمس تناوله فلفه حول عنقه، وتدلت بقيته على ظهره، فحشره بين ظهره والحبل الذي يعلق السمكة.
وأحس بشيء من الراحة.
وقال لنفسه :
لن أملك أن أصنع مع هذه السمكة شيئاً حتى تصنع هي بي ما تشاء.
ووقف عند حافة الزورق فقضى حاجته وتطلع إلى النجوم لعله يدرك الموقع الذي بلغه.
وكان الحبل المتدلي من عنقه إلى الماء يلمع كشريط من الفوسفور في الماء.
وتباطأ زحف الزورق قليلاً، وكانت أضواء (هافانا) تبدو خافته فأدرك أن التيار لابد أن يكون متجهاً به صوب الشرق.
وأدرك أيضاً أنه إذا كانت أضوء (هافانا) قد افلتت منه فمعنى هذا انه موغل في اتجاه الشرق.
وعاوده التفكير فيما يمكن أن تسفر عنه نتائج البيسبول اليوم، فتمنى لو كان يملك جهاز راديو ليعرف النتائج.
ثم عاد ليقول لنفسه:
فكر فيما أنت فيه، لابد من ارتكاب أية حماقة لإنقاذ الموقف.
ليت الغلام كان معي ليمد لي يد العون وليرى ما أنا فيه، أن المرء لا يستطيع ان يبقى وحيداً إذا تقدمت به السن ولكن لابد مما ليس منه بد.
قال هذا ثم همهم لنفسه:
يجب أن آكل التونة قبل أن تفسد حتى أحتفظ بقواي، لا تنس هذا مهما ضعفت شهيتك أيها العجوز يجب أن تأكل التونة في الصباح تذكر!.
وفي جنح الليل طاف زوج من الدلافين حول الزورق.
وسمع العجوز صرير دوراتهما وقفزاتهما في الماء، واستطاع ان يميز بين صوت الذكر وتأوه الانثى.
وقال لنفسه:
إنهما يلهوان ويتضاحكان ويهمان بالهوى، إنهما من أصدقائنا، كالأسماك الطائرة.
ثم انتابه شعور الرثاء للسمكة العالقة بخطافه وقال لنفسه:
إنها سمكة عجيبة ومذهلة ترى ما عمرها؟ انني لم أظفر في حياتي بسمكة بهذه القوة ولا بمثل هذا التصرف لعلها أذكى من أن تقفز إنها تستطيع ان تصرعني إذا قفزت أو لطمتني لطمة واحدة، بل لعلها وقعت فريسة كثر من خطاف فيما مضى من أمرها، فتعلمت كيف تنازل! ولكنها لا تعرف أنها تواجه رجلاً واحداً بمفرده، وانه رجل عجوز، يا لها من سمكة ضخمة، ترى كم يكون ثمنها في السوق.
إذا كانت ذات لحم طيب ؟ لقد ازدردت الطعم كسمكة ذكر ، إنها لتجرني جرة وتحارب غير مذعورة لست أدري أهي تسير وفق خطة مرسومة أم إنها تصارع مستحية مثلي ؟
وتذكر العجوز يوماً علق فيه واحدة من زوج من الأسماك الكبيرة ومن شأن السمكة الذكر أن تحمل الأنثى على تذوق السارح في الماء أولاً، فإذا علقت الأنثى بالخطاف راحت تحارب بكل قواها مذعورة يائسة حتى تفقد قواها.
أما الذكر فيبقى إلى جانبها يطوف حولها طوال الصراع، حتى تطفو، فيطفو معها إلى سطح الماء، يظل إلى جانبها.
وذكر العجوز أن السمكة الذكر كانت يومئذ قريبة من الأنثى إلى حد أن العجوز خشي أن يضرب الذكر الحبل بذيله الحاد كسن المنشار، وفي شكل سن المنشار وحجمه أيضاً.
وحينما ظفر العجوز بالسمكة الأنثى وضربها على أم رأسها، حال لونها، كمرآة انقلبت على ظهرها، فأجتذبها إلى زورقه، بمساعدة الغلام الذي كان معه آنذاك ووقف الذكر إلى جانب الزورق.
وبينما العجوز يخلص الخطاف من حلق الانثى ويعد الحربة، قفز الذكر إلى ما فوق الزورق قفزة عالية لعله يرى أين ذهبت أنثاه.
ثم هبط فغاص في الماء.
عن الجمهورية نت ...
تعليقات