العجــــــــــــــــــــــــــــــــــوز والبحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر...3 ـ 3 أرنست همنجواي!
والآن.. يبدو أن ذهنك قد اضطرب أيها العجوز يجب أن يبقى ذهنك صافياً.. روق بالك.. وتعلم كيف يستطيع الرجال – وحتى الأسماك – احتمال العناء!
وصاح بصوت لايكاد يصل إلى أذنيه:
- أصف ياذهني.. أصف.
وتكررت المأساة دورتين أخريين.
وهمس العجوز لنفسه:
- لست أدري.. أنها تحس أنه ينبغي لها أن تذهب بعيداً في كل دورة.. ولكني سأجرب مرة أخرى.
وحاول مرة أخرى..
وأصرت السمكة على اعادة الكرة، وسبحت بعيداً وذيلها الضخم يتماوج في الهواء.
وقطع العجوز على نفسه عهداً أن يحاول للمرة الأخيرة، ولو أن يديه كانتا قد بلغتا غاية الإعياء ولم تعد عيناه تريان الأشياء إلا لماماً.
وأعادت الكرة.. على غير طائل.
وأحس أنه يكاد يسقط من الاعياء واليأس، ولكنه أصر على الصمود واستجمع كل آلامه، وكل مابقي له من قوة وكل ما أحرز في حياته من اعتزاز واعتداد بالنفس، ووضعه أمام عناء السمكة في هذه الدورة.
واقتربت السمكة، وسبحت إلى جواره حتى كادت تلمس ببطنها حافة الزورق، وبدأت تتجاوزه، طويلة، عميقة، واسعة، فضية، مزركشة بالأرجوان.. لا أخت لها في المياه!
وألقى العجوز بالحبل، ورسخ عليه بقدمه، ورفع الحربة عالية قدر ما استطاع وطعن بكل قواه، واستعار من القدر مزيداً من القوة.
طعن السمكة في جنبها خلف زعانف صدرها الكبير الذي ارتفع في الهواء إلى مستوى صدر العجوز وأحس بحديد الحربة يتوغل في جسدها، فمال عليه، وزاده توغلاً، ملقياً بكل ثقة وراء حربته.
ولكن السمكة التي تحمل الموت في جوفها نهضت حية، وارتفعت خارج الماء كأنما تريد أن تظهر للعجوز طولها وعرضها وقدرتها وجمالها!
وأصبحت وكأنها معلقة في الهواء، فوق العجوز وزورقه!
ثم سقطت في الماء سقطة كبيرة غمرت برشاشها العجوز وكل جزء من زورقه.
وأحس العجوز كأنه هو الذي سقط، واشتد به السقم، ولم يعد يرى شيئاً.
ولكنه أطلق الحبال للحربة وجعلها تسترخي رويداً رويداً بين يديه الخشنتين.
وعندئذ استطاع أن يرى السمكة مستلقية على ظهرها، وبطنها الفضي إلى أعلى.
وكان سهم الحربة يعمل عمله في زاوية من كتف السمكة وقد اصطبغ ماء البحر بالحمرة التي سالت من دماء قلبها.
كان الدم في أول أمره قانياً في الماء الأزرق الذي لايقل عمقه عن ميل كامل، ثم أنتشر على وجه الماء كأنه سحابة.
وكان جسد السمكة الفضي ساكناً طافياً مع الموج.
وحملق العجوز بالبقية الباقية من الابصار في عينيه وأمسك ببضع حبال الحربة المشدودة إلى حنية الزورق ثم اعتمد رأسه بين يديه وقال له:
- لاتفقد توقدك أيها الرأس!
وانكفأ على لوحات الحنية وهو يقول:
- انني عجوز مجهد ولكني صرعت هذه السمكة.. التي هي أختي وعليّ الآن أن أقوم بعمل العبيد عليّ الآن أن أعد الخيات والحبال لأشدها معي ولو كنا اثنين ما استطعنا أن نرفعها ونضعها في هذا الزورق لأنه لايكفيها عليّ أن أعد كل شيء لأعود بها إلى البيت.
وجعل يشد السمكة لتقترب بحذاء الزورق، حتى يستطيع أن يمرر حبلاً في خياشيمها ويخرجه من حلقها ويشد رأسها على طول حنية الزورق.
وجعل يحدث نفسه:
- أريد أن أراها.. وأحسها.. وألمسها انها ثروتي.
ولكني لا أريد أن أحسها من أجل هذا.. أحسب أنني أحسست بقلبها حينما دفعت فيه بسهم الحربة للمرة الثانية فلأجذبنها الآن إلى هنا ولأربطنها وأعقد خية حول ذيلها، وأخرى حول وسطها، لأوثقها في الزورق.
وصاح بنفسه:
- قم واشتغل أيها العجوز!
واحتسى جرعة ماء، ثم عاد يحدث نفسه:
- أن أمامك عملاً شاقاً جداً برغم انتهاء المعركة.
وتطلع إلى السماء ثم إلى سمكته.
ونظر إلى الشمس في حذر، فأدرك أن الوقت لم يتجاوز الظهيرة، والرياح التجارية تهب وقال:
- لم تعد للحبال قيمة وسنتولى اصلاحها أنا والغلام عندما أعود إلى البيت.
ثم نادى السمكة:
- تعالي!
ولكن السمكة لم تأت.. بل غربت عنه في الماء فذهب هو بزورقه إليها.. حتى أصبحت بين يديه..
وحتى في هذه اللحظة.. لم يصدق أنها ضخمة إلى هذا الحد!
ووحد حبال الحربة، ومررها في خياشيم السمكة وحول قلبها، ولفها حول رمحها، ثم أدخلها في خياشيمها الأخرى ولفها حول بطنها وعقد الحبل المزدوج وشده إلى حنية الزورق.
وقطع لفة الحبال، ثم استدار إلى خلف ليعقد الخيات حول الذيل واستحال لون السمكة إلى فضي خالص، بعد أن كان مزاجاً من الفضة والأرجوان.
أما خطوطها فقد بقيت على لونها البنفسجي الباهت، وكذلك الذيل.. كان عرض ذيلها نحو شبرين.
أما عيناها فكانتا كعيني منظار بحري، أو كعيني راهب متبتل.
وقال العجوز:
- لم يكن هناك بد من قتلها بهذه الوسيلة انها الآن تستشعر راحة لم تكن تستشعرها إذ هي في الماءوقد أدركت المسكينة ألا سبيل إلى النجاة.. وكان ذهنها صافياً أنها هي – تزن أكثر من ألف وخمسمائة رطل.. وقد تزيد.. فلو كان صافيها الثلثين، وسعر الرطل منها ثلاثين سنتاً.. فكم يكون ثمنها؟
وعاد يقول لنفسه:
- هذه حسبة تحتاج إلى ورقة وقلم.. إن ذهني لم يعد صافياً.. ولست أشك في أن (ديماجيو) العظيم سيفخر بي الليلة.. أنا لا أحس نخسا في العظام.. ولكن يدي وظهري يتألمان بقسوة.. لست أدري ماهو خس العظام.. لعلنا مصابون به دون أن ندري!
وشد العجوز السمكة إلى الحنية والصاري والعارضة الوسطى كانت كبيرة، وكأنما كان زورق العجوز يقطر زورقاً أكبر منه.
وقطع العجوز جزءاً من الحبل، وشد به فكها الأسفل إلى خشمها حتى لايبقى مفتوحاً! ولكي يسير الزورق آمناً.
ثم ذهب لينشر الشراع، وبمعاونة العصا ذات المهماز فك الحبال التي حول الشراع فانبسط.. وبدأ الزورق يتحرك، واستلقى العجوز على الصاري نصف استلقاءة، وأبحر صوب الجنوب الغربي.
ولم يكن بحاجة إلى بوصلة ترشده إلى الجنوب الغربي.
كان كل ما يحتاج إليه هو الاحساس بالرياح التجارية وانسياب الشراع.
وقال لنفسه:
- يجمل بي الآن أن ألقي بحبل صغير فيه سمكة صغيرة، لعلي أظفر بشيء آكله أو أسد به رمقي.
ولكنه لم يجد سميكة وكان السردين قد فسد فتصيد بعض أعشاب الخليج الصفراء بعصاه ذات المهماز وهو سائر بزورقه وهزها فسقطت منها الجمبريات الصغيرة المتعلقة بها في قاع الزورق وكانت أكثر من اثنتي عشرة وجعلت تتواثب كحبات الرمال.. فقطر العجوز رؤوسها بين ابهامه وسبابته، وراح يلوكها في فمه بأصدافها وذيولها كانت صغيرة جداً ولكنه كان يدرك أنها مغذية، ويحس أنها لذيذة.
وكانت قارورة الماء لاتزال بها جرعتان فشرب نصف جرعة بعد أن التهم الجمبريات الصغيرات.
وكان الزورق يسير سيراً طيباً برغم التيار الخفيف المضاد، وقد وجه العجوز الدفة نحو الشاطئ واعتمدها بذراعه.
وراح يتطلع إلى السمكة..
كان كل ما بقي له من هم أن ينظر إلى يديه ويتحسس ظهره وهو مستند إلى الصاري ليعرف أنه في حقيقة لا في حلم.
لقد كان يشعر – قبل أن يظفر بالسمكة – أنه في أسوأ حال إلى حد أنه خيل له أن يحلم.
ولكنه حينما رأى السمكة تخرج من البحر وتثب ساكنة في الهواء قبل أن تسقط سقطتها الأخيرة.. أدرك في الدنيا أموراً تستحق العجب إلى حد لايكاد يصدق.
ثم غام علي عينيه في بعض الآونة شيء فلم يعد يحسن الرؤية.
- أما الآن فإن بصره حديد!
الآن، عرف أن ذلك الشيء الذي غام على عينيه هو السمكة وأن آلام يديه وظهره ليست حلماً.
وقال لنفسه:
- أن الأيدي تشفى بسرعة وقد طهرت يديّ من الدماء وسترقأ الجراح سريعاً من أثر الملح أن مياه الخليج القاتمة خير ما تندمل به الجراح كل ماينبغي لي هو أن احتفظ بذهني صافياً ولقد أحسنت يداي أداء رسالتهما.. ونحن الآن نمخر العباب بخير.. وسنمضي.. وفم السمكة مغلق.. وذيلها يهبط ويعلو في استقامة.. كأنما نحن أخ وأخته.
ثم بدأ العجوز يفقد صفاء ذهنه.. وانتابته الهواجس:
- من منا الذي يجر الآخر؟ لو أنني أنا الذي أقطرها فليس عليّ من بأس.. ولو كانت السمكة داخل الزورق، وقد راحت كل هيبتها فلا بأس أيضاً.. ولكننا نبحر معاً.. لتجرني السمكة إذا راق لها هذا.. انني لا أفضلها إلا بالحيلة وهي لاتريد بي سوء!
وطاب سير الزورق في البحر.
وأغرق العجوز يديه في الماء الأجاج، وهو يجهد الاسترداد صفاء ذهنه.
وكانت السحب العمودية تتجمع عالية، فأدرك العجوز أن الريح ستستمر طول الليل.
وكان يتأمل السمكة باستمرار، ليتأكد أنه في يقظة لافي منام.
ومرت ساعة قبل أن تلطمه سمكة من أعجب أنواع القرش.
لم يكن مجيء القرش مجرد صدفة..
لقد صعد من الأعماق حينما استطالت سحابة الدم القاتم المنساب من السمكة الضخمة وتعمقت في البحر مسافة ميل، فأسرع القرش بالبروز إلى السطح، وبلا حذر ضرب وجه الماء الأزرق في أشعة الشمس ثم هبط القرش مرة أخرى إلى جوف الماء، ففاوحته رائحة الدم، فظل يسبح في مجرى الزورق والسمكة الضخمة.
وكان القرش يفقد مجرى الرائحة في بعض الأحيان، ثم لايلبث أن يستأنفها ثانية فيسبح في مجرى الزورق.
وكان القرش كبيراً جداً، وسريعاً كأسرع سمكة في الماء، وكان كل مافيه جميلاً عدا فكيه.
كان ظهره أزرق كالسيف، وبطنه فضياً، وجلده ناعماً وأنيقاً.
وكان قوامه سمهرياً فيما عدا فكيه، إذ هما مغلقان مجموعان.
ومضى يسبح في الماء بسرعة تحت السطح مباشرة وزعانفه الظهرية منشورة لاتهتز.
وكانت صفوف أسنانه الثمانية تنحرف وراء شفتيه المزدوجتين المغلقتين في فكيه إلى الداخل.
لم تكن أسنانه هرمية الشكل كأسنان أسماك القرش العادية بل كانت على شكل أصابع يدي الانسان حينما تنقبض فتصبح كالمخالب.
وكانت في طول أصابع العجوز، وحدها قاطع كالموسى من الجانبين.. انه نوع من القرش يعيش على التهام أي نوع من السمك في البحر.. وهو نوع قوي وسريع ومسلح، ولاند له في البحر، فلايقف أمامه عدو.
وقد ازدادت سرعته عندما اقترب من الرائحة اللذيذة، وجعل يشق الماء بزعانفه الظهرية الزرقاء.
وحينما رآه العجوز مقبلاً، أدرك أنه نوع من القرش لايرهب شيئاً في الوجود.
وكانت السمكة الضخمة خير رغيبة يحلم بها مثل هذا القرش.
وأعد العجوز حربته، وعقدها في الحبال، وأحكم طرف الحبل في قاع حنية الزورق، وجعل يرقب مقدم هذا العدو الخصيم.
وكان الحبل قد قصر بعد أن قطع العجوز منه ما قطع ليربط السمكة.
وكان ذهن العجوز قد صفا بعد أن استراح، فامتلأ عزماً، لولا أنه لمن يكن يطمح في مزيد من الآمال.
وقال لنفسه:
- إن التعلق بالأمل.. أكثر من هذا الحد.. شيء أجمل من أن يتحقق.
وألقى نظرة سريعة على السمكة وهو يرقب دنو القرش في الوقت ذاته.
وقال يحدث نفسه:
كان ممكناً أن يكون هذا حلماً هو الآخر ولن أستطيع أن أمنع القرش عن لطمي ولكني قد أظفر به.
وصاح بالقرش:
- يا أبا الأسنان.. لعن الله من ولدتك.
واقترب القرش من مؤخرة الزورق ولطم السمكة.
ورأى العجوز حلق القرش مفتوحاً، ولمح عينيه العجيبتين وأسنانه المسنونة والقرش يهم بأن يطبقها على اللحم القريب من ذيل السمكة.
وكان رأس القرش خارج الماء وظهره يهم بالبروز وقد سمع العجوز صوت الجلد واللحم في السمكة الكبيرة يتمزق حينما طعن القرش بالحربة في رأسه في الموضع الذي يتقاطع فيه الخط الممتد بين عينيه والخط الذي يصعد من أنفه.
لم تكن هناك خطوط واقعية لم يكن هناك غير رأسه الضخم الازرق وعينيه الكبيرتين وفكيه المصطكين النهمين يتوعدان بابتلاع كل شيء.
ولكن هذا الموضع الذي حدده العجوز على خطوط وهمية، هو موضع المخ.
ولقد أصابه العجوز!
طعنه بيديه اللتين طالما سال منهما الدم – وغرس فيه الحربة بكل قواه – طعنة مستميتة بعزيمة متفانية وبخبث شديد.
وترجح القرش ولمح العجوز عينيه تودعان الحياة.
وترجح مرة أخرى ولف نفسه في الحبال.
وأدرك العجوز أن القرش قد مات..
ولكن القرش لم يتقبل الموت بهذه البساطة، واستلقى على ظهره وذيله يتلاعب، وفكاه يصطكان ووثب فوق الماء كأنه قارب من قوارب السباق.
وكان الماء يبدو أبيض اللون، وذيل القرش يضرب فيه، وثلاثة أرباع جسمه ظاهرة فوق السطح، حينما توتر حبل الحربة ثم ارتعش ثم انقطع.
وطفا القرش قليلاً على سطح الماء في هدوء، والعجوز يتطلع إليه ثم بدأ يهبط رويداً رويداً.
وصاح العجوز:
- لقد أفلتت مني أربعون رطلاً من اللحم.. وأخذ معه حربتي وحبالي.. وهاهي ذي سمكتي لاتزال تدمي.. وسيجتذب دمها مزيداً من القروش!
ولم يرق له أن يتطلع إلى السمكة بعد أن خدش القرش لحمها.. كانت القضمة من لحمها كأنما هي قضمة من لحمه.
وقال العجوز:
- لقد قتلت القرش الذي عض سمكتي.. انه أكبر قرش من نوع أبي الأسنان رأيته في حياتي.. ويعلم الله أنني طالما رأيت قروشاً كبيرة من هذا النوع.
ثم راح يهمهم:
- لقد كان الأمل الذي تحقق أجمل من أن يطول كم كنت أتمنى لو أن ذلك كله كان حلماً.. ولو أنني لم أظفر بالسمكة، ولو أنني وحدي في مخدعي أتوسد الجرائد!
ثم عاد العجوز يشد عزم نفسه قائلاً:
- ولكن الرجال لم يخلقوا للهزيمة وقد يتحطم الرجل دون أن ينهزم ومع هذا فإني أشعر بالأسى لأنني قتلت السمكة والآن بدأ وقت المتاعب، وليست معي حربة، أن (أبا الأسنان) قوي وقادر وذكي.. ولكني كنت أذكى منه.
واستدرك يقول:
- لعلي لم أكن أذكى منه.. بل كنت مسلحاً أكثر منه.
وصاح يخاطب نفسه:
- لاتفكر أيها العجوز أمض في طريقك.. وليكن مايكون.
ثم أردف يقول:
ولكن.. ينبغي لي أن أفكر، لأن التفكير هو كل مابقي لي من قوة.. التفكير.. والبيسبول.. ترى ماذا يكون شعور(ديماجيو) العظيم لو أنه رآني وأنا أصيب القرش في مخه؟.. هه.. لم يكن عملاً رائعاً.. أي رجل في الدنيا يستطيع أن يفعل هذا.. ولكن.. هي يمكن ليدي أن تعوقاني عن العمل كما يعوق نخس العظام قدمي لاعب البيسبول؟ لست أدري.. لم أصب في كعبي أبداً.. اللهم إلا تلك المرة.. عندما مست كعبي سمكة من نوع (السفن) كنت قد دست فوقها أثناء السباحة، فأحسست كأن شللاً أصاب الجزء الأسفل من ساقي واحتملت يومئذ من الآلام مالايحتمل.
ثم شد العجوز من عزمه، وصاح:
- فكر في شيء يبعث في نفسك المرح أيها العجوز إن كل دقيقة تمضي تقربك من بيتك ولايحزنك فقدانك هذا القرش أبا الأسنان الذي يزن أربعين رطلاً فقد كان الظفر قمنياً به بألا يجعل ابحارك خفيفاً.
وكان العجوز يدرك كل مايحتمل أن يحدث عندما يخوض المنطقة الداخلية للتيار، على أنه لاحيلة له فيه.
وقال بصوت مرتفع:
- أستطيع أن أربط سكيني بقيد المجداف، استعداداً للمفاجآت.
وقطع القيد الذي يربط المجداف بالزورق، وقال:
صحيح أنني الآن عجوز، ولكني لست مجرداً من السلاح.. وكان النسيم منعشاً والابحار طيباً.
وراح العجوز يرمق بعينيه الجزء الأمامي وحده من سمكته، فعاوده بعض الأمل.
وجعل يفكر:
- انها لحماقة أن يستولي اليأس على المرء.. كما أن اليأس خطيئة فيما أعتقد ولكنك لن تفكر في الخطيئة.. هذا إلى أنني لا أفهم معنى الخطيئة.. لا أفهمها.. لست واثقاً أنني أؤمن بها.. قد يكون من الخطيئة أن يقتل الانسان سمكة وأظن أنهم يعدونها خطيئة.. حتى ولو كانت غاية صيدي لها أن أسد رمقي وأرماق الناس.. وبرغم هذا فإنهم يعدون كل شيء خطيئة.. لن أفكر في الخطيئة.. فلات ساعة مندم.. أن هناك قوماً في الحياة يعيشون في التفكير في أمر الخطيئة.. فليفكروا هم فيها.. لقد ولدت أيها العجوز صياداً.. وقد كان (سان بدرو) أبو(ديماجيو) العظيم صياداً هو الآخر.
وطاب له أن يفكر في كل ما يحيط به، ما دام لايجد صحيفة يقرؤها، وليس لديه راديو.
وأوغل في التفكير..
وعاد يفكر في الخطيئة..
وهمهم وهو يفكر، محدثاً نفسه:
- أنك لم تقتل السمكة لمجرد أن تعيش.. ولتبيعها للطامعين لقد قتلتها بدافع الزهو أيضاً.. لأنك صياد.. لقد عشقتها وهي على قيد الحياة.. وعشقتها بعد أن فارقت الحياة.. لو كنت تحبها حقاً.. فقتلك إياها ليس خطيئة.. أم ترى أن هذا العمل إنما هو شيء أكبر من الخطيئة ؟
وصاح مستدركاً:
- انك تفكر أكثر مما يجوز لك أيها العجوز.. ولكنك استمتعت بقتل أبي الأسنان أنه يعيش على السمك الذي هو قوام حياتي أنا الآخر.
أن أبا الأسنان ليس جامع قمامة يقتات على البقايا.. وهو نهم كغيره من أنواع القرش.. انه جميل ونبيل.. ولايعرف معنى للرهبة من أي شيء.
ثم جعل يحدث نفسه بصوت مرتفع:
- لقد قتلته دفاعاً عن النفس وقد أحسنت قتله وفوق هذا، فليس في الدنيا إلا قاتل ومقتول.. ان الصيد يقتلني كما أنه مصدر حياتي.. ولكن الغلام يحرص على حياتي أيضاً.. لايجوز أن أخدع نفسي أكثر مما يجب.
وانحني على السمكة فتناول قطعة من لحمها، من الموضع الذي نهشه (أبوالأسنان) ومضغها مختبراً نوعها، متذوقاً طعمها.
وكانت متماسكة، ذات عصير عذب كأنه لحم الماشية.. ولم تكن حمراء ولامقتلة فأدرك أنها ستأتي بخير ثمن في السوق.
بيدا أنه أشفق على لحمها أن يفسد إذا طال مكثها في الماء ولاسيما ان الجو مقبل على سوء.
واستمرت الريح رتيبة، واتجهت قليلاً صوب الشمال الشرقي مما يعني أنها لن تتوقف.
وتطلع العجوز أمامه، فلم يلمح أي شراع ولا رأى هيكلاً ولادخاناً لاية باخرة.
لم يكن حوله إلا السمك الطائر يثب فوق حنية زورقه – من ناحية إلى ناحية – وأعشاب الخليج الصفراء، وقد خلا الجو حتى من الطير.
وأبحر بزورقه ساعتين آخريين، مستنداً إلى الصاري، وهو يلوك بين الحين والحين قطعة من لحم سمكته، لعلها تجدد قواه.
ثم لمح أولى سمكتي قرش مقبلتين نحوه فصاح:
- آه..
ولم تكن هناك ترجمة أخرى لمعنى هذه الآهة، إلا أنها كصرخة المرء إذا شرع يدق مسماراً في لوح من الخشب فدقه في يده.
وصرخ العجوز:
- انها من الجالانوس.
ثم لمح زعانف السمكة الثانية مقبلة وراء الأولى، وتأكد أنها من ذلك النوع من القرش، محدود بالأنف ذي الزعانف السمر، مثلثة الشكل.
واستافت السمكتان رائحة دماء السمكة الضخمة فاهتاجتهما وفي غفلة جوعهما القاتل، جعلتا تقتربان شيئاً فشيئاً.
ونهض العجوز، فعقد السكين في طرف المجداف برفق، والألم مشتد على يديه، ووقف يرقب دنو سمكتي القرش.
وكان يراهما برأسيهما العريضين المفلطحين الممدودين.. ثم بدت له زعانفهما العريضة ذات الأطراف البيضاء.
كان منظرهما قبيحاً، وكانتا كريهتي الرائحة، إذ هما من النوع الذي يصرع السمك من أي نوع، ويقتات بالرمم، فإذا اشتد به الجوع نهش أي شيء حتى مجداف الزورق أو دفته.
وهذا النوع من أسماك القرش، هو الذي يقتضم أرجل السلاحف البحرية ويهرب عندما تكون السلاحف نائمة على سطح الماء.
وهو كذلك الذي إذا جاع نهش الأناسي وهم يسبحون في البحر، مع أن الأناسي ليست لها رائحة الدم ولالزج الأسماك.. ومرة أخرى.. صاح العجوز:
- آه..
وأقبل القرشان.. ولكنهما لم يجيئا كما جاء(أبو الأسنان) من قبلهما، بل أقبل أحدهما ثم اختفى عن نظر العجوز تحت الزورق.
وأحس العجوز أن الزورق يهتز والقرش يتحرك من تحته وينهش السمكة.
أما القرش الآخر، فقد راح يرقب العجوز بعينين صفراوين، ثم أسرع نحو الجزء المنهوض من السمكة بفكيه – وكان هناك خط واضح بين قمة رأسه الأسمر وعموده الشوكي، حيث تبين العجوز موضع المخ، فطعنه بسكينه المشدودة إلى طرف المجداف.
ثم سحب المجداف..
ثم طعنه طعنة ثانية في عينيه الصفراوين كعيني القطط، فترك القرش السمكة وهبط في الماء وهو يزدرد ماقضم من لحمها بينما هو يلفظ الروح.
وكان الزورق لايزال يهتز فوق القرش الآخر وهو يعبث بالسمكة.. فعبث العجوز بالشراع حتى مال الزورق على جنبه، وخرج القرش المختفي تحته من مخبئه.
واقترب العجوز منه وطعنه.. ولكن الطعنة أصابت اللحم أما الجلد فكان سميكاً.. وهكذا سلم من الطعنة التي أوجعت يدي العجوز وكتفيه.
وبرز القرش برأسه ثانية، فصوب إليه العجوز طعنة أخرى في وسط رأسه، فسقط أنفه أمامه.
وسحب العجوز السكين، وطعن في الموضع نفسه.. وكان القرش لا يزال مطبقاً فكيه على السمكة، فطعنه العجوز في عينه اليسرى.
وبقي القرش في موضعه!
وصاح العجوز!
- هذا غير ممكن!
وعاد فطعنه بين المخ والنخاع، وكان الطعن عندئذ قد أصبح سهل المنال ولكن العجوز أحس باشتداد الالم على غضروفه، فوضع السكين بين فكي القرش ليفتحها، وثناها، فلما انفرج فكاه، هبط القرش في الماء.
وراح العجوز يلعنه.
- اهبط أيها اللعين.. اهبط ميلاً في قاع البحر.. اذهب والتمس صاحبك.. أو لعله أمك.
ومسح العجوز حد سكينه، ووضع المجداف وأحكم الشراع، وأعاد الزورق إلى مجراه وهو يقول لنفسه:
- لابد أنهما قد ذهبا بربع السمكة.. ومن خير قطع اللحم فيها.. ألا ليتني كنت في حلم.. وليتني ماظفرت بهذه السمكة.. انني آسف أيتها السمكة.. لقد ساء كل شيء.
ولم يعد به شوق إلى أن يتطلع اليها وهي غارقة في دمها.
وقال لنفسه:
- ماكان يجوز لي أن أوغل في البحر كل هذه المسافة.. لامن أجلي.. ولا من أجلك أيتها السمكة.. أنا آسف.
واستطرد في نجواه:
- والآن.. تأمل أيها العجوز القيد الذي يربط السكين بالمجداف، هل تقطعت أوصاله أم لا.. ثم أصلح من أمر يدك، فلايزال أمامنا مزيد من الصراع.. ألا ليت معي حجراً لأسن عليه السكين.
قال هذا وجعل يعقد العقدة التي تربط السكين بالمجداف.. وردد مرة أخرى:
ألا ليتني جئت معي بحجر!.
ثم عاد يقول لنفسه:
- كان عليك أن تجيء معك بأشياء كثيرة ولكنك لم تفعل.. أيها العجوز على أن هذا ليس أوان التفكير فيما نسيت أن تجيء به فكر الآن فيما تستطيع أن تفعل بما لديك.
وناجى نفسه في سخرية:
- لقد كثرت نصائحك الطيبة، حتى تعبت منها.
وغسل يديه في الماء، وسار الزورق قدماً والعجوز يتحدث:
يعلم الله كم من لحم السمكة قضم هذا القرش الأخير على أن الزورق أخف الآن مما كان.
ولم يحاول أن يفكر فيما فقدت السمكة من جزئها السفلي، ولكنه أدرك أن القروش قد مزقت لحم السمكة، بحيث جعل الدم يتدفق منها.. ويصنع شريطاً دموياً طويلاً عريضاً في المياه، خليقاً باجتذاب كل أنواع القرش.
وقال العجوز لنفسه:
- كانت سمكة قمينة بأن يعيش المرء من ثمنها طول الشتاء.. لا تفكر في هذا.. استرح الآن، وقو يديك لتدافع عما بقي من السمكة.. ان الدم الذي في يدي لايقاس بالدم النازف من السمكة.. ان يدي لا تدميان كثيراً.. وجراحهما ليست بالغة.. وهذا الدم النازف من يدي اليسرى قد يقيها شر التقليص.
ثم جعل يفكر:
- فيم ينبغي لي أن أفكر الآن؟ لاشيء.. لايجوز لي أن أفكر في أي شيء.. وعليّ أن أنتظر الا ليته كان حلماً، ولكن.. من يدري؟ قد ينتهي الأمر على خير الوجوه.
وجاء قرش آخر..
وكان من نوع محدودب الأنف كان شكله كالخنزير.. وحنكه كحنك الخنزير.. واسع إلى حد أنه يكاد يتسع لرأس انسان.
وتركه العجوز يلطم السمكة، ثم شد السكين إلى المجداف، وطعنه في مخه فتراجع القرش.. وانكسرت السكين؟
واتجه العجوز إلى الدفة ولم يعن حتى بأن يشهد القرش وهو يغوص وئيداً في الماء، قد جعل حجمه يتضاءل في الرؤية كلما غاص، حتى أصبح كأصغر الأشياء.
كان هذا المشهد يروقه دائماً.. أما الآن، فإنه لم يعد يهتم حتى بالتطلع إليه.
وقال العجوز:
- والآن.. لم يبق إلا العصا ذات المهماز.. ولكنها لن تغني.. عندي
- كنت أستطيع ان أقطع منقارك لأحارب به القروش. ولكنه ليس ذا حد كحد السكين. على انه لو كان رمح راسخ معي, لشددته إلى المجداف.. أي سلاح.. اننا نحارب القروش معاً, أنا وأنت, ماذا تصنعين الآن لو جاءت القروش في الليل؟ ماذا تملكين ان تفعلي؟..
نحاربها.. نحاربها إلى ان أموت.
###
وهبط الظلام..
ولم يطل أي ضوء.. ولو من بعيد..
لم تكن هناك غير الريح, وانسياب الشراع الرتيب.
وأحس العجوز كأنما هو مشرف على الموت.
وتحسس كفيه, فإذا هما لم تصلا إلى حد العدم.
وجعل يحاول اخراج الألم منهما, بطيهما ونشرهما, واسند ظهره إلى الصاري.. انه لم يمت بعد.
هكذا قالت له كتفاه!
وقال لنفسه:
- انني مدين بكل هذه الصلوات التي وعدت بأدائها إذا ظفرت بالسمكة ولكني الآن مجهد إلى حد انني لاأملك ترديد الدعاء. خير لي ان أضع الجوال حول كتفي.
ورقد مستنداً إلى الصاري, ويده على الدفة, وجعل يرتقب أي ضوء ينعكس في الماء, وقال:
- معي الآن نصف سمكة. وقد يسعدني الحظ فأحتفظ بهذا النصف.. لابد ان يحالفني الحظ.
- لا.. لقد تحديت الحظ أيها العجوز بايغالك في البحر.
ولكنه عاد يصيح:
- لاتكن سخيفاً.. وتيقظ.. وامسك بالدفة, فقد تكون هناك بقية باقية من الحظ.. كم أحب أن ابتاع الحظ, ولو كان الحظ يشترى ولكن.. بم يباع الحظ؟ هل أستطيع شراءه بحربة مفقودة وسكين مكسورة ويدين سقيمتين؟
وأجاب على تساؤله بقوله:
- ممكن.. لقد حاولت ان تشتريه بأربعة وثمانين يوماً في البحر.. فباعتك هذه الأيام اياه.. لاينبغي لي ان أفكر تفكيراً عابثاً.. ان الحظ شيء في صور كثيرة.. ومن ذا الذي يستطيع تمييزه؟ سأتقبله لو جاء في أية صورة.. وأدفع فيه أي ثمن.. كم أتمنى ان ألمح ومضات الضوء.. كم أتمنى أشياء كثيرة.. ولكن الأضواء هي كل ماأريد الآن.
واتخذ وضعاً يهيئ له نصيباً أوفر من الراحة على الصاري, وأدرك من آلام يديه انه لايزال على قيد الحياة.
وبدت له انعكاسات أضواء المدينة في البحر من بعيد, وقدر ان الساعة قد تكون نحو العاشرة من المساء.
طالعته الأضواء في أول الأمر كمجرد احساس.. لانها انعكاسات أضواء غير ضوء القمر, فالقمر لم يطلع بعد.. ثم ظلت ثابتة الرؤية على مياه المحيط, الذي بدأ يهيج مع الريح.
ووجه العجوز الدفة صوب وهج الأضواء, وأدرك انه الآن عند حافة المجرى.. فقال:
- الآن أوشكت المتاعب ان تنتهي, وقد تبرز لي القروش مرة أخرى, ولكن.. ماذا يملك المرء ان يصنع معها في الظلام, وهو أعزل من السلاح؟
المجداف والهراوة الصغيرة وقضيب الدفة
وقال العجوز:
الآن غلبتني القروش.. انني اعجز من أن اخدعها بالهراوة ولكني سأحاول أن اصرعها، طالما ان المجدافين معي, والهراوة.. والقضيب.
ونقع يديه في الماء ثانية، وكانت الساعة متاخرة بعد الظهر، وهو لا يرى شيئاً حوله إلا الماء والسماء.
وكانت الريح قد زاد هبوبها فتضاعف أمل العجوز في رؤية البر.
وقال لنفسه:
لقد تعبت أيها العجوز .... ومسك الضر من الداخل.
ولم تطالعه القروش حتى ساعة الغروب، حين لمح العجوز الزعانف السمراء، تبدو عبر المجرى الدموي الواسع الذي تصنعه الدماء النازفة من السمكة في الماء.
ولم تكن القروش تتبع الرائحة هذه المرة، بل كانت تضرب الماء نحو الزورق رأساً وأفراد سر بها متجاورة.
وأمسك بقضيب الدفة، ثم تناول الهراوة وكانت هذه الهراوة قطعة مكسورة من يد مجداف طولها نحو قدمين ونصف القدم ولم يملك أن يستخدمها الا بيد واحدة لأن قبضتها صغيرة.
واطبق يمناه عليها بقوة وراح يرقب قدوم سرب القروش.
وكان السرب من نفس نوع القرش الأخير.
وقال :
سأدع القرش الأول يمسك السمكة ثم أضر به على أنفه أو على أم رأسه.
وجاء قرشان معاً..
وحين رأى العجوز اقربهما إليه يفغر فاه ويطبقه على جانب من السمكة، رفع الهراوة عالية، وأهوى بها على رأس القرش بكل قواه.
وأحس بأنه يضرب في مطاط.
كما أحس صرامة عظام رأس القرش، وأعاد الكرة على أم رأسه، فتراجع القرش الأول عن السمكة.
أما القرش الآخر، قفد جعل يحوم حول السمكة ثم فغرفاه ليقضمها.
ورأى العجوز قطعاً من لحم السمكة الأبيض تطل من ركن فكيه، وهما مطبقان عليها، فأهوى على رأسه بالهراوة، فتطلع إليه القرش، ثم انتزع اللحم الذي في فكيه من جسد السمكة، وأهوى عليه العجوز بالهراوة مرة أخرى والقرش يحال أن يزدرد قطعة سائبة من لحم السمكة، ولكن الهراوة لم تصب هذه المرة إلا الجزء المطاطي من رأس القرش.
وقال له العجوز محنقاً :
تعال أيها القرش .. تعال مرة أخرى ..
وجاء القرش .. وضربة العجوز والقرش مطبق فكيه على السمكة..
ضربه من عل ... من أعلى ما استطاع أن يرفع يده، وأحس بالهراوة ترتطم بعظام مخة، وضربة مرة أخرى في الموضع نفسه، بينما القرش ماض في تمزيق لحم السمكة وهو أخذ في التراجع عنها.
وراح العجوز يرقب عودة القرش، ولكنه لم يعد ، كما لم يعد أخوه،
ثم رأى قرشاً آخر يحوم سابحاً في الماء، دون أن يرى زعانفه،
وقال العجوز لنفسه:
ما كنت أتوقع أن اقتلهما كنت استطيع هذا في شبابي ولكني آذيتها كثيراً على كل حال، فلم يعد لأحد منهما حول ولا طول، ولو كنت أملك مضرباً استطيع أن استخدمه باليدين لتمكنت من قتل أولهما قطعاً ... حتى في هذه السن.
لم يعد العجوز يطيق أن ينظر إلى السمكة فقد أدرك أن نصفها قد تمزق.
وكانت الشمس قد غربت وهو في صراعه مع القروش.
وقال لنفسه:
- سيهبط الظلام الآن ... وسأرى أضواء (هافانا) فإذا كنت بعيداً جداً صوب الشرق فسأرى أضواء بعض الشواطئ الجديدة.
ثم استطرد في حديثه:
- لا يمكن أن أكون الآن بعيداً إلى حد كبير ولا أظن أن أحداً قد شعر بالقلق عليّ... الا الغلام طبعاً ولكني متأكد انه يثق بمقدرتي.
وقد يقلق بعض عجائز الصيادين وغيرهم أيضاً... انني أقيم في بلدة طيبة.
لم يعد يطيب له أن يتطلع إلى السمكة.. أو مابقي منها:
- يانصف السمكة.. يامن كنت سمكة.. فقد تمزقت ارباً.
ثم خطر له خاطر، فجعل يحدث السمكة، انني آسف إذ أوغلت في البحر، لقد حطمتك وحطمت نفسي، ولكننا صرعنا قروشاً كثيرة، أنت وأنا الا قولي، كم سمكة قتلت في حياتك أيتها السمكة العجوز ؟
أن هذا الرمح في رأسك لم يخلق عبثاً .
وحلا له أن يتصور السمكة حية، وقد التقت في طريقها بسرب من القروش، ثم تابع حديثه إليها :
كان العجوز قد تجمد من برودة الليل، واشتدت الأمة، وتقلبت عليه جراح كل جزء من جسده، فتمنى الا يخوض مزيداً من المعارك.
ولكنه عندما انتصف الليل، وجد نفسه مضطراً لخوض معركة جديدة.
وأدرك منذ البداية ان المعركة في هذه المرة خاسرة.
كانت القروش الكثيرة ولم ير منها إلا زعانفها تنساب، في خطوطه طويلة، ووهج اشعاعها الفوسفوري، والقت القروش جميعها بنفسها على السمكة فهب، العجوز يضربها، على رؤوسها بهراوته وسمع اصطكاك فكوكها واحس باهتزاز الزورق فوق القروش التي نزلت تحته.
وظل يضرب مستميتاً حيثما اتفق، وهنا أحس كأن احداً يمسك بالهراوة وإذا بالهراوة تفلت من يده !
فأخذ قضيب الدفة، وجعل يضرب به، بكلتا يديه، ويهوي به على رؤوس القروش، مرات ومرات... ولكن القروش صعدت إلى قرب حنية الزورق، واحداً وراء الآخر، وتكاثرت بغير عد، وجعلت تمزق لحم السمكة التي أخذت تتوهج تحت الماء، وجاء احد القروش إلى رأس السمكة... وأدرك العجوز أن الأمر قد انتهى، ولكنه أهوى بالقضيب على رأس القرش الذي أطبق فكيه على رأس السمكة ليمزقه وضرب ضربة أخرى، وثالثة ورابعة، وسمع صوت القضيب يتكسر... ولا يبقى منه إلا شطر في يده وطعن القرش بهذا الشطر الباقي من القضيب وأعاد الكرة، فانسحب القرش مهزوماً.
كان هذا آخر قرش بقي بعد المعركة، وقد انقضت بقية القروش، لانه لم يعد على المائدة مزيد من الطعام، لقد نهشت القروش كل ما في السمكة من لحم.
وكانت انفاس العجوز تتقطع واحس بطعم غريب في فمه، طعم نحاسي حلو.
واشفق منه لحظة ولكن الطعم ما لبث ان زال ، فبصق العجوز في المحيط قائلاً :
ابتلعي هذه البصقة أيتها القروش... واحلمي بأنك قتلت إنساناً.
وأدرك العجوز في النهاية أن الهزيمة النكراء قد حاقت به وان لا دواء لها.
وعاد إلى الشراع...
وأدرك ان القطعة الباقية من القضيب تكفي لحسن قيام الدفة بمهمتها ولف كتفيه بالجوال وأبحر زورقه.
أبحر متخففاً... دون ان يفكر أو يحس أي شعور.
لقد فات أوان كل شيء، وأصبح كل همه أن يصل إلى بيته بأمان .
وفي الليل ... راحت القروش، تعبث بأعشاب السرخس كما يلهو الاكل بفتات المائدة، ولم يهتم العجوز بأمرها، ولم يلق بالاً لأي شيء غير توجيه الدفه: كان كل همه أن يبحر متخففاً وان يسير الزورق هوناً وقال :
إن الزورق بخير ... انه سليم لم يصبه ضر ... فيما عدا القضيب وهذا ما استطيع أن اعوضه بسهولة.
ثم أحس انه في قلب التيار، ورأى أضواء المستعمرات الشاطئية على طول الضفة، وعرف أين هو فليس بينه وبين قومه كثير.
وأخذ يفكر ...
ان الريح صديقة لنا ... مهما تكن ...
ثم قال :
إنها كذلك ... في بعض الاحيان ... أما البحر الكبير فإنه معنا ومع اعدائنا همهم :
والمخدع ... أن المخدع شيء مستحب ... انه مريح ... حينما يعود المرء مهزوماً لم أكن اتخيله مريحاً إلى هذا الحد.
ورجع العجوز يسائل نفسه :
ولكن .... من الذي هزمك ؟
واجاب على نفسه بصوت مرتفع :
لا شيء ... أنا الذي ذهبت بعيداً..
وعندما دخل زورقه الميناء الصغير، كانت أضواء الشرفة قد اطفئت فأدرك أن الجميع قد انقلبوا إلى مخادعهم.
وهبت الريح برتابة، ثم جعلت تشتد أما الميناء فكان هادئاً، برغم ذلك وسلك بزورقه صوب رقعة الحصباء الواقعة تحت الصخور، ولم يكن هناك من يعينه على أمره، فأجتذب الزورق إلى الشاطئ قدر ما استطاع ونزل منه، وشده على بعض الصخور.
وخلع الصاري بعد أن طوى حوله الشراع، وحمله على كتفيه وسار صعداً، وهنا أدرك عمق عنائه، فتوقف لحظة ونظر إلى الخلف، فرأى في انعكاس نور الشارع ذيل السمكة منتصباً خلف موضع الصاري.
ورأى عمودها الشوكي الاجرد الأبيض وبقايا الرأس، وهيكل المنقار كلها جرداء من اللحم.
وواصل سيره صعداً وعند الذروة سقط ورقد على الأرض والصاري عند كتفه.
وحاول أن ينهض ولكنه لم يستطع فجلس هناك والصاري ملتصق بكتفه وجعل ينظر إلى الطريق.
ثم نهض فواصل مسيره ولكنه جلس يستريح خمس مرات قبل أن يصل إلى كوخه.
وفي الكوخ أسند الصاري إلى الجدار، وعثر في الظلام بقارورة ماء فتناول منها جرعة، ثم تمدد على مخدعه وشد البطانية على كتفية ثم على ظهره وساقيه، ونام ووجهه إلى أسفل، على الجريدة، وذراعاه ممتدتان في استقامة وكفاه إلى أعلى.
وكان لا يزال نائماً حينما قدم الغلام فأطل من الباب في الصباح،
وكانت الريح صرصراً إلى حد ان القوارب لم تخرج للصيد، وقد نام الغلام حتى ساعة متأخرة ثم جاء إلى كوخ العجوز كما كان يجيء كل صباح خلال أيام غيبته ليطمئن عليه.
ورأى الغلام أن العجوز لا يزال يتنفس ثم لمح يديه وحالهما فأخذ يبكي وسارع بالخروج ليجيء له ببعض القهوة.
وظل يبكي طول الطريق.
واحتشد كثير من الصيادين حول الزورق ليروا هذا الشيء المعلق به ونزل احدهم إلى الماء بعد أن ثنى سرواله يقيس طول الهيكل بقطعة من الخيط.
أما الغلام فلم يهبط إلى موضع الزورق.... إذ كان قد هبط من قبل وكان احد الصيادين يهتم بأمر الزورق ويحكم شده إلى الصخور.
وصاح هذا الصياد بالغلام:
كيف حاله ؟
وصاح الغلام :
إنه نائم .
ولم يبال الغلام بأمرهم، إذ هم يرونه في بكائه وقال لهم:
لا يزعجنه احد !
وقال الصياد الذي كان يقيس بقايا السمكة !
ان طولها ثمانية عشر قدماً ... من الأنف إلى الذيل.
قال الغلام :
إني أصدق هذا
وذهب إلى الشرفة فطلب إناء قهوة، فيه كثير من اللبن والسكر وقال له صاحب (الشرفة):
أي شيء آخر ؟
لا.. وسأرى ماذا يأكل فيما بعد
كم كانت سمكة عجيبة أن أحداً لم ير سمكة كهذه أبداً على أن السمكتين اللتين ظفرت بهما أنت أمس كانتا بديعتين.
قال الغلام:
لعنة الله على سمكاتي.
وعاد يبكي ثانية، وسأله صاحب (الشرفة).
الا تريد شراباً من أي نوع ؟
فأجاب الغلام قائلاً :
لا وقل لهم لا داعي لازعاج سانتياجو، وسأعود ثانية.
أبلغه كم أنا آسف له.
شكراً.
وحمل الغلام إناء القهوة الساخنة صعدا نحو كوخ العجوز وجلس بجواره إلى أن استيقط أو إلى أن بدا له أنه استيقظ.
ولكن العجوز ما لبث ان استغرقه النوم من جديد.
وخرج الغلام ليستعير بعض الحطب يدفىء به القهوة عندما يصحو العجوز.
وأخيراً ... استيقظ العجوز فقال له الغلام :
لا تنهض ... أشرب هذا .
وصب له بعض القهوة في كوبه، تناولها العجوز فاحتساها ثم قال :
لقد غلبت على أمري يا مانولين.. غلبت تماماً.
فقال الغلام :
إنها لم تهزمك ... اعني السمكة.
لا ... بل جاءت الهزيمة فيما بعد.
أن (بدريكو) مهتم بأمر الزورق والمعدات.. فقل لي : ماذا تريد ان تصنع برأس السمكة ؟
دع (بدريكو) يقطعها ويستخدمها كطعم.
ورمحها ؟
احتفظ به أنت ... إذا شئت.
نعم ... أني اريده ... والآن ... لنفكر في بقية الأشياء.
هل بحث عني أحد ؟
طبعاً ... خفر السواحل ... والطائرات.
فأجاب العجوز وهو يستشعر لذة وجود أحد يتحدث إليه، بعد أن طالت احاديثه إلى نفسه في البحر:
إن المحيط واسع جداً، وزورقي صغير بحيث يشق على الطائرة أن تراه، لقد افتقدتك كثيراً يا ولدي... وأنت ... ماذا خرج لك من الصيد ؟
واحدة في اليوم الأول، وأخرى في الثاني، واثنتان في الثالث
رزق طيب.
والآن ... لن نخرج إلى الصيد إلا معاً، أنت وأنا.
لا يا ولدي ... أنني لست حسن الطالع، لقد تخلى عني الحظ نهائياً.
دعك من الحظ سأجلبه أنا لك.
وماذا تقول أسرتك ؟
لن أبالي، لقد ظفرت بسمكتين أمس ... ولكننا سنخرج للصيد معاً، من الآن، لانني لا ازال اتمنى أن اتعلم منك أشياء كثيرة.
نحن في حاجة إلى رمح قوي لنصرع به الأسماك نحمله معنا دائماً في الزورق ونستطيع أن نصنع حده من رقيقة قوية من سيارة (فورد) قديمة ونستطيع كذلك ان نخرطه في (جوانا باكوا) يجب أن يكون حاداً ولا ينقضم لقد انكسرت سكيني.
سأجيئك بسكين أخرى... وسأخرط الرمح، ترى كم يوماً تستمر هذه الريح الصرصر؟
قد تستمر ثلاثة أيام ... أو أكثر.
فقال الغلام :
سأعد كل شيء وعليك أن تهتم بأمر يديك أيها العجوز.
إني أعرف كيف اعالجها، لقد بصقت في الليل شيئاً غريباً.
وهل عانيت ؟
فقال العجوز ؟
كثيراً .
سأجيئك بالطعام والصحف استرح راحة تامة أيها العجوز.
وسأجيئك بدواء ليديك من الصيدلية.
ولا تنس أن تبلغ (بدريكو) أن رأس السمكة له.
- لن يفوتني هذا.
وحينما خرج الغلام وهبط الطريق المرجاني الخشن عاوده البكاء، وبعد الظهيره كان هناك رهط من السائحين في (الشرفة) وكانت في الرهط امرأة تتطلع إلى السماء، فرأت بين أكوام علب البيرة الخاوية والمخلفات المتراكمة عموداً شوكياً أبيض طويلاً، ينتهي بذيل ضخم، ينتصب ويتماوج مع المد والجزر، في حين ان الريح الشرقية ترفع مياه البحر بانتظام خارج مدخل الميناء.
وسألت السائحة الساقي وهي تشير إلى عظمة ظهر السمكة الضخمة التي كانت تتأهب للذهاب مع الجزر:
ما هذا الشيء ؟
أنه ذيل قرش.
قال هذا وهو يحاول أن يشرح لها ما حدث. قالت :
لم أكن أعرف أن للقرش ذيلاً أنيقاً جميلاً إلى هذا الحد.
وقال الرفيق لها :
- ولا أنا أيضاً.
وفي الكوخ كان العجوز لا يزال نائماً على وجهه والغلام قابع إلى جواره.
وكان العجوز يحلم بالسباع !.
(تمت).
عن الجمهورية نت
وصاح بصوت لايكاد يصل إلى أذنيه:
- أصف ياذهني.. أصف.
وتكررت المأساة دورتين أخريين.
وهمس العجوز لنفسه:
- لست أدري.. أنها تحس أنه ينبغي لها أن تذهب بعيداً في كل دورة.. ولكني سأجرب مرة أخرى.
وحاول مرة أخرى..
وأصرت السمكة على اعادة الكرة، وسبحت بعيداً وذيلها الضخم يتماوج في الهواء.
وقطع العجوز على نفسه عهداً أن يحاول للمرة الأخيرة، ولو أن يديه كانتا قد بلغتا غاية الإعياء ولم تعد عيناه تريان الأشياء إلا لماماً.
وأعادت الكرة.. على غير طائل.
وأحس أنه يكاد يسقط من الاعياء واليأس، ولكنه أصر على الصمود واستجمع كل آلامه، وكل مابقي له من قوة وكل ما أحرز في حياته من اعتزاز واعتداد بالنفس، ووضعه أمام عناء السمكة في هذه الدورة.
واقتربت السمكة، وسبحت إلى جواره حتى كادت تلمس ببطنها حافة الزورق، وبدأت تتجاوزه، طويلة، عميقة، واسعة، فضية، مزركشة بالأرجوان.. لا أخت لها في المياه!
وألقى العجوز بالحبل، ورسخ عليه بقدمه، ورفع الحربة عالية قدر ما استطاع وطعن بكل قواه، واستعار من القدر مزيداً من القوة.
طعن السمكة في جنبها خلف زعانف صدرها الكبير الذي ارتفع في الهواء إلى مستوى صدر العجوز وأحس بحديد الحربة يتوغل في جسدها، فمال عليه، وزاده توغلاً، ملقياً بكل ثقة وراء حربته.
ولكن السمكة التي تحمل الموت في جوفها نهضت حية، وارتفعت خارج الماء كأنما تريد أن تظهر للعجوز طولها وعرضها وقدرتها وجمالها!
وأصبحت وكأنها معلقة في الهواء، فوق العجوز وزورقه!
ثم سقطت في الماء سقطة كبيرة غمرت برشاشها العجوز وكل جزء من زورقه.
وأحس العجوز كأنه هو الذي سقط، واشتد به السقم، ولم يعد يرى شيئاً.
ولكنه أطلق الحبال للحربة وجعلها تسترخي رويداً رويداً بين يديه الخشنتين.
وعندئذ استطاع أن يرى السمكة مستلقية على ظهرها، وبطنها الفضي إلى أعلى.
وكان سهم الحربة يعمل عمله في زاوية من كتف السمكة وقد اصطبغ ماء البحر بالحمرة التي سالت من دماء قلبها.
كان الدم في أول أمره قانياً في الماء الأزرق الذي لايقل عمقه عن ميل كامل، ثم أنتشر على وجه الماء كأنه سحابة.
وكان جسد السمكة الفضي ساكناً طافياً مع الموج.
وحملق العجوز بالبقية الباقية من الابصار في عينيه وأمسك ببضع حبال الحربة المشدودة إلى حنية الزورق ثم اعتمد رأسه بين يديه وقال له:
- لاتفقد توقدك أيها الرأس!
وانكفأ على لوحات الحنية وهو يقول:
- انني عجوز مجهد ولكني صرعت هذه السمكة.. التي هي أختي وعليّ الآن أن أقوم بعمل العبيد عليّ الآن أن أعد الخيات والحبال لأشدها معي ولو كنا اثنين ما استطعنا أن نرفعها ونضعها في هذا الزورق لأنه لايكفيها عليّ أن أعد كل شيء لأعود بها إلى البيت.
وجعل يشد السمكة لتقترب بحذاء الزورق، حتى يستطيع أن يمرر حبلاً في خياشيمها ويخرجه من حلقها ويشد رأسها على طول حنية الزورق.
وجعل يحدث نفسه:
- أريد أن أراها.. وأحسها.. وألمسها انها ثروتي.
ولكني لا أريد أن أحسها من أجل هذا.. أحسب أنني أحسست بقلبها حينما دفعت فيه بسهم الحربة للمرة الثانية فلأجذبنها الآن إلى هنا ولأربطنها وأعقد خية حول ذيلها، وأخرى حول وسطها، لأوثقها في الزورق.
وصاح بنفسه:
- قم واشتغل أيها العجوز!
واحتسى جرعة ماء، ثم عاد يحدث نفسه:
- أن أمامك عملاً شاقاً جداً برغم انتهاء المعركة.
وتطلع إلى السماء ثم إلى سمكته.
ونظر إلى الشمس في حذر، فأدرك أن الوقت لم يتجاوز الظهيرة، والرياح التجارية تهب وقال:
- لم تعد للحبال قيمة وسنتولى اصلاحها أنا والغلام عندما أعود إلى البيت.
ثم نادى السمكة:
- تعالي!
ولكن السمكة لم تأت.. بل غربت عنه في الماء فذهب هو بزورقه إليها.. حتى أصبحت بين يديه..
وحتى في هذه اللحظة.. لم يصدق أنها ضخمة إلى هذا الحد!
ووحد حبال الحربة، ومررها في خياشيم السمكة وحول قلبها، ولفها حول رمحها، ثم أدخلها في خياشيمها الأخرى ولفها حول بطنها وعقد الحبل المزدوج وشده إلى حنية الزورق.
وقطع لفة الحبال، ثم استدار إلى خلف ليعقد الخيات حول الذيل واستحال لون السمكة إلى فضي خالص، بعد أن كان مزاجاً من الفضة والأرجوان.
أما خطوطها فقد بقيت على لونها البنفسجي الباهت، وكذلك الذيل.. كان عرض ذيلها نحو شبرين.
أما عيناها فكانتا كعيني منظار بحري، أو كعيني راهب متبتل.
وقال العجوز:
- لم يكن هناك بد من قتلها بهذه الوسيلة انها الآن تستشعر راحة لم تكن تستشعرها إذ هي في الماءوقد أدركت المسكينة ألا سبيل إلى النجاة.. وكان ذهنها صافياً أنها هي – تزن أكثر من ألف وخمسمائة رطل.. وقد تزيد.. فلو كان صافيها الثلثين، وسعر الرطل منها ثلاثين سنتاً.. فكم يكون ثمنها؟
وعاد يقول لنفسه:
- هذه حسبة تحتاج إلى ورقة وقلم.. إن ذهني لم يعد صافياً.. ولست أشك في أن (ديماجيو) العظيم سيفخر بي الليلة.. أنا لا أحس نخسا في العظام.. ولكن يدي وظهري يتألمان بقسوة.. لست أدري ماهو خس العظام.. لعلنا مصابون به دون أن ندري!
وشد العجوز السمكة إلى الحنية والصاري والعارضة الوسطى كانت كبيرة، وكأنما كان زورق العجوز يقطر زورقاً أكبر منه.
وقطع العجوز جزءاً من الحبل، وشد به فكها الأسفل إلى خشمها حتى لايبقى مفتوحاً! ولكي يسير الزورق آمناً.
ثم ذهب لينشر الشراع، وبمعاونة العصا ذات المهماز فك الحبال التي حول الشراع فانبسط.. وبدأ الزورق يتحرك، واستلقى العجوز على الصاري نصف استلقاءة، وأبحر صوب الجنوب الغربي.
ولم يكن بحاجة إلى بوصلة ترشده إلى الجنوب الغربي.
كان كل ما يحتاج إليه هو الاحساس بالرياح التجارية وانسياب الشراع.
وقال لنفسه:
- يجمل بي الآن أن ألقي بحبل صغير فيه سمكة صغيرة، لعلي أظفر بشيء آكله أو أسد به رمقي.
ولكنه لم يجد سميكة وكان السردين قد فسد فتصيد بعض أعشاب الخليج الصفراء بعصاه ذات المهماز وهو سائر بزورقه وهزها فسقطت منها الجمبريات الصغيرة المتعلقة بها في قاع الزورق وكانت أكثر من اثنتي عشرة وجعلت تتواثب كحبات الرمال.. فقطر العجوز رؤوسها بين ابهامه وسبابته، وراح يلوكها في فمه بأصدافها وذيولها كانت صغيرة جداً ولكنه كان يدرك أنها مغذية، ويحس أنها لذيذة.
وكانت قارورة الماء لاتزال بها جرعتان فشرب نصف جرعة بعد أن التهم الجمبريات الصغيرات.
وكان الزورق يسير سيراً طيباً برغم التيار الخفيف المضاد، وقد وجه العجوز الدفة نحو الشاطئ واعتمدها بذراعه.
وراح يتطلع إلى السمكة..
كان كل ما بقي له من هم أن ينظر إلى يديه ويتحسس ظهره وهو مستند إلى الصاري ليعرف أنه في حقيقة لا في حلم.
لقد كان يشعر – قبل أن يظفر بالسمكة – أنه في أسوأ حال إلى حد أنه خيل له أن يحلم.
ولكنه حينما رأى السمكة تخرج من البحر وتثب ساكنة في الهواء قبل أن تسقط سقطتها الأخيرة.. أدرك في الدنيا أموراً تستحق العجب إلى حد لايكاد يصدق.
ثم غام علي عينيه في بعض الآونة شيء فلم يعد يحسن الرؤية.
- أما الآن فإن بصره حديد!
الآن، عرف أن ذلك الشيء الذي غام على عينيه هو السمكة وأن آلام يديه وظهره ليست حلماً.
وقال لنفسه:
- أن الأيدي تشفى بسرعة وقد طهرت يديّ من الدماء وسترقأ الجراح سريعاً من أثر الملح أن مياه الخليج القاتمة خير ما تندمل به الجراح كل ماينبغي لي هو أن احتفظ بذهني صافياً ولقد أحسنت يداي أداء رسالتهما.. ونحن الآن نمخر العباب بخير.. وسنمضي.. وفم السمكة مغلق.. وذيلها يهبط ويعلو في استقامة.. كأنما نحن أخ وأخته.
ثم بدأ العجوز يفقد صفاء ذهنه.. وانتابته الهواجس:
- من منا الذي يجر الآخر؟ لو أنني أنا الذي أقطرها فليس عليّ من بأس.. ولو كانت السمكة داخل الزورق، وقد راحت كل هيبتها فلا بأس أيضاً.. ولكننا نبحر معاً.. لتجرني السمكة إذا راق لها هذا.. انني لا أفضلها إلا بالحيلة وهي لاتريد بي سوء!
وطاب سير الزورق في البحر.
وأغرق العجوز يديه في الماء الأجاج، وهو يجهد الاسترداد صفاء ذهنه.
وكانت السحب العمودية تتجمع عالية، فأدرك العجوز أن الريح ستستمر طول الليل.
وكان يتأمل السمكة باستمرار، ليتأكد أنه في يقظة لافي منام.
ومرت ساعة قبل أن تلطمه سمكة من أعجب أنواع القرش.
لم يكن مجيء القرش مجرد صدفة..
لقد صعد من الأعماق حينما استطالت سحابة الدم القاتم المنساب من السمكة الضخمة وتعمقت في البحر مسافة ميل، فأسرع القرش بالبروز إلى السطح، وبلا حذر ضرب وجه الماء الأزرق في أشعة الشمس ثم هبط القرش مرة أخرى إلى جوف الماء، ففاوحته رائحة الدم، فظل يسبح في مجرى الزورق والسمكة الضخمة.
وكان القرش يفقد مجرى الرائحة في بعض الأحيان، ثم لايلبث أن يستأنفها ثانية فيسبح في مجرى الزورق.
وكان القرش كبيراً جداً، وسريعاً كأسرع سمكة في الماء، وكان كل مافيه جميلاً عدا فكيه.
كان ظهره أزرق كالسيف، وبطنه فضياً، وجلده ناعماً وأنيقاً.
وكان قوامه سمهرياً فيما عدا فكيه، إذ هما مغلقان مجموعان.
ومضى يسبح في الماء بسرعة تحت السطح مباشرة وزعانفه الظهرية منشورة لاتهتز.
وكانت صفوف أسنانه الثمانية تنحرف وراء شفتيه المزدوجتين المغلقتين في فكيه إلى الداخل.
لم تكن أسنانه هرمية الشكل كأسنان أسماك القرش العادية بل كانت على شكل أصابع يدي الانسان حينما تنقبض فتصبح كالمخالب.
وكانت في طول أصابع العجوز، وحدها قاطع كالموسى من الجانبين.. انه نوع من القرش يعيش على التهام أي نوع من السمك في البحر.. وهو نوع قوي وسريع ومسلح، ولاند له في البحر، فلايقف أمامه عدو.
وقد ازدادت سرعته عندما اقترب من الرائحة اللذيذة، وجعل يشق الماء بزعانفه الظهرية الزرقاء.
وحينما رآه العجوز مقبلاً، أدرك أنه نوع من القرش لايرهب شيئاً في الوجود.
وكانت السمكة الضخمة خير رغيبة يحلم بها مثل هذا القرش.
وأعد العجوز حربته، وعقدها في الحبال، وأحكم طرف الحبل في قاع حنية الزورق، وجعل يرقب مقدم هذا العدو الخصيم.
وكان الحبل قد قصر بعد أن قطع العجوز منه ما قطع ليربط السمكة.
وكان ذهن العجوز قد صفا بعد أن استراح، فامتلأ عزماً، لولا أنه لمن يكن يطمح في مزيد من الآمال.
وقال لنفسه:
- إن التعلق بالأمل.. أكثر من هذا الحد.. شيء أجمل من أن يتحقق.
وألقى نظرة سريعة على السمكة وهو يرقب دنو القرش في الوقت ذاته.
وقال يحدث نفسه:
كان ممكناً أن يكون هذا حلماً هو الآخر ولن أستطيع أن أمنع القرش عن لطمي ولكني قد أظفر به.
وصاح بالقرش:
- يا أبا الأسنان.. لعن الله من ولدتك.
واقترب القرش من مؤخرة الزورق ولطم السمكة.
ورأى العجوز حلق القرش مفتوحاً، ولمح عينيه العجيبتين وأسنانه المسنونة والقرش يهم بأن يطبقها على اللحم القريب من ذيل السمكة.
وكان رأس القرش خارج الماء وظهره يهم بالبروز وقد سمع العجوز صوت الجلد واللحم في السمكة الكبيرة يتمزق حينما طعن القرش بالحربة في رأسه في الموضع الذي يتقاطع فيه الخط الممتد بين عينيه والخط الذي يصعد من أنفه.
لم تكن هناك خطوط واقعية لم يكن هناك غير رأسه الضخم الازرق وعينيه الكبيرتين وفكيه المصطكين النهمين يتوعدان بابتلاع كل شيء.
ولكن هذا الموضع الذي حدده العجوز على خطوط وهمية، هو موضع المخ.
ولقد أصابه العجوز!
طعنه بيديه اللتين طالما سال منهما الدم – وغرس فيه الحربة بكل قواه – طعنة مستميتة بعزيمة متفانية وبخبث شديد.
وترجح القرش ولمح العجوز عينيه تودعان الحياة.
وترجح مرة أخرى ولف نفسه في الحبال.
وأدرك العجوز أن القرش قد مات..
ولكن القرش لم يتقبل الموت بهذه البساطة، واستلقى على ظهره وذيله يتلاعب، وفكاه يصطكان ووثب فوق الماء كأنه قارب من قوارب السباق.
وكان الماء يبدو أبيض اللون، وذيل القرش يضرب فيه، وثلاثة أرباع جسمه ظاهرة فوق السطح، حينما توتر حبل الحربة ثم ارتعش ثم انقطع.
وطفا القرش قليلاً على سطح الماء في هدوء، والعجوز يتطلع إليه ثم بدأ يهبط رويداً رويداً.
وصاح العجوز:
- لقد أفلتت مني أربعون رطلاً من اللحم.. وأخذ معه حربتي وحبالي.. وهاهي ذي سمكتي لاتزال تدمي.. وسيجتذب دمها مزيداً من القروش!
ولم يرق له أن يتطلع إلى السمكة بعد أن خدش القرش لحمها.. كانت القضمة من لحمها كأنما هي قضمة من لحمه.
وقال العجوز:
- لقد قتلت القرش الذي عض سمكتي.. انه أكبر قرش من نوع أبي الأسنان رأيته في حياتي.. ويعلم الله أنني طالما رأيت قروشاً كبيرة من هذا النوع.
ثم راح يهمهم:
- لقد كان الأمل الذي تحقق أجمل من أن يطول كم كنت أتمنى لو أن ذلك كله كان حلماً.. ولو أنني لم أظفر بالسمكة، ولو أنني وحدي في مخدعي أتوسد الجرائد!
ثم عاد العجوز يشد عزم نفسه قائلاً:
- ولكن الرجال لم يخلقوا للهزيمة وقد يتحطم الرجل دون أن ينهزم ومع هذا فإني أشعر بالأسى لأنني قتلت السمكة والآن بدأ وقت المتاعب، وليست معي حربة، أن (أبا الأسنان) قوي وقادر وذكي.. ولكني كنت أذكى منه.
واستدرك يقول:
- لعلي لم أكن أذكى منه.. بل كنت مسلحاً أكثر منه.
وصاح يخاطب نفسه:
- لاتفكر أيها العجوز أمض في طريقك.. وليكن مايكون.
ثم أردف يقول:
ولكن.. ينبغي لي أن أفكر، لأن التفكير هو كل مابقي لي من قوة.. التفكير.. والبيسبول.. ترى ماذا يكون شعور(ديماجيو) العظيم لو أنه رآني وأنا أصيب القرش في مخه؟.. هه.. لم يكن عملاً رائعاً.. أي رجل في الدنيا يستطيع أن يفعل هذا.. ولكن.. هي يمكن ليدي أن تعوقاني عن العمل كما يعوق نخس العظام قدمي لاعب البيسبول؟ لست أدري.. لم أصب في كعبي أبداً.. اللهم إلا تلك المرة.. عندما مست كعبي سمكة من نوع (السفن) كنت قد دست فوقها أثناء السباحة، فأحسست كأن شللاً أصاب الجزء الأسفل من ساقي واحتملت يومئذ من الآلام مالايحتمل.
ثم شد العجوز من عزمه، وصاح:
- فكر في شيء يبعث في نفسك المرح أيها العجوز إن كل دقيقة تمضي تقربك من بيتك ولايحزنك فقدانك هذا القرش أبا الأسنان الذي يزن أربعين رطلاً فقد كان الظفر قمنياً به بألا يجعل ابحارك خفيفاً.
وكان العجوز يدرك كل مايحتمل أن يحدث عندما يخوض المنطقة الداخلية للتيار، على أنه لاحيلة له فيه.
وقال بصوت مرتفع:
- أستطيع أن أربط سكيني بقيد المجداف، استعداداً للمفاجآت.
وقطع القيد الذي يربط المجداف بالزورق، وقال:
صحيح أنني الآن عجوز، ولكني لست مجرداً من السلاح.. وكان النسيم منعشاً والابحار طيباً.
وراح العجوز يرمق بعينيه الجزء الأمامي وحده من سمكته، فعاوده بعض الأمل.
وجعل يفكر:
- انها لحماقة أن يستولي اليأس على المرء.. كما أن اليأس خطيئة فيما أعتقد ولكنك لن تفكر في الخطيئة.. هذا إلى أنني لا أفهم معنى الخطيئة.. لا أفهمها.. لست واثقاً أنني أؤمن بها.. قد يكون من الخطيئة أن يقتل الانسان سمكة وأظن أنهم يعدونها خطيئة.. حتى ولو كانت غاية صيدي لها أن أسد رمقي وأرماق الناس.. وبرغم هذا فإنهم يعدون كل شيء خطيئة.. لن أفكر في الخطيئة.. فلات ساعة مندم.. أن هناك قوماً في الحياة يعيشون في التفكير في أمر الخطيئة.. فليفكروا هم فيها.. لقد ولدت أيها العجوز صياداً.. وقد كان (سان بدرو) أبو(ديماجيو) العظيم صياداً هو الآخر.
وطاب له أن يفكر في كل ما يحيط به، ما دام لايجد صحيفة يقرؤها، وليس لديه راديو.
وأوغل في التفكير..
وعاد يفكر في الخطيئة..
وهمهم وهو يفكر، محدثاً نفسه:
- أنك لم تقتل السمكة لمجرد أن تعيش.. ولتبيعها للطامعين لقد قتلتها بدافع الزهو أيضاً.. لأنك صياد.. لقد عشقتها وهي على قيد الحياة.. وعشقتها بعد أن فارقت الحياة.. لو كنت تحبها حقاً.. فقتلك إياها ليس خطيئة.. أم ترى أن هذا العمل إنما هو شيء أكبر من الخطيئة ؟
وصاح مستدركاً:
- انك تفكر أكثر مما يجوز لك أيها العجوز.. ولكنك استمتعت بقتل أبي الأسنان أنه يعيش على السمك الذي هو قوام حياتي أنا الآخر.
أن أبا الأسنان ليس جامع قمامة يقتات على البقايا.. وهو نهم كغيره من أنواع القرش.. انه جميل ونبيل.. ولايعرف معنى للرهبة من أي شيء.
ثم جعل يحدث نفسه بصوت مرتفع:
- لقد قتلته دفاعاً عن النفس وقد أحسنت قتله وفوق هذا، فليس في الدنيا إلا قاتل ومقتول.. ان الصيد يقتلني كما أنه مصدر حياتي.. ولكن الغلام يحرص على حياتي أيضاً.. لايجوز أن أخدع نفسي أكثر مما يجب.
وانحني على السمكة فتناول قطعة من لحمها، من الموضع الذي نهشه (أبوالأسنان) ومضغها مختبراً نوعها، متذوقاً طعمها.
وكانت متماسكة، ذات عصير عذب كأنه لحم الماشية.. ولم تكن حمراء ولامقتلة فأدرك أنها ستأتي بخير ثمن في السوق.
بيدا أنه أشفق على لحمها أن يفسد إذا طال مكثها في الماء ولاسيما ان الجو مقبل على سوء.
واستمرت الريح رتيبة، واتجهت قليلاً صوب الشمال الشرقي مما يعني أنها لن تتوقف.
وتطلع العجوز أمامه، فلم يلمح أي شراع ولا رأى هيكلاً ولادخاناً لاية باخرة.
لم يكن حوله إلا السمك الطائر يثب فوق حنية زورقه – من ناحية إلى ناحية – وأعشاب الخليج الصفراء، وقد خلا الجو حتى من الطير.
وأبحر بزورقه ساعتين آخريين، مستنداً إلى الصاري، وهو يلوك بين الحين والحين قطعة من لحم سمكته، لعلها تجدد قواه.
ثم لمح أولى سمكتي قرش مقبلتين نحوه فصاح:
- آه..
ولم تكن هناك ترجمة أخرى لمعنى هذه الآهة، إلا أنها كصرخة المرء إذا شرع يدق مسماراً في لوح من الخشب فدقه في يده.
وصرخ العجوز:
- انها من الجالانوس.
ثم لمح زعانف السمكة الثانية مقبلة وراء الأولى، وتأكد أنها من ذلك النوع من القرش، محدود بالأنف ذي الزعانف السمر، مثلثة الشكل.
واستافت السمكتان رائحة دماء السمكة الضخمة فاهتاجتهما وفي غفلة جوعهما القاتل، جعلتا تقتربان شيئاً فشيئاً.
ونهض العجوز، فعقد السكين في طرف المجداف برفق، والألم مشتد على يديه، ووقف يرقب دنو سمكتي القرش.
وكان يراهما برأسيهما العريضين المفلطحين الممدودين.. ثم بدت له زعانفهما العريضة ذات الأطراف البيضاء.
كان منظرهما قبيحاً، وكانتا كريهتي الرائحة، إذ هما من النوع الذي يصرع السمك من أي نوع، ويقتات بالرمم، فإذا اشتد به الجوع نهش أي شيء حتى مجداف الزورق أو دفته.
وهذا النوع من أسماك القرش، هو الذي يقتضم أرجل السلاحف البحرية ويهرب عندما تكون السلاحف نائمة على سطح الماء.
وهو كذلك الذي إذا جاع نهش الأناسي وهم يسبحون في البحر، مع أن الأناسي ليست لها رائحة الدم ولالزج الأسماك.. ومرة أخرى.. صاح العجوز:
- آه..
وأقبل القرشان.. ولكنهما لم يجيئا كما جاء(أبو الأسنان) من قبلهما، بل أقبل أحدهما ثم اختفى عن نظر العجوز تحت الزورق.
وأحس العجوز أن الزورق يهتز والقرش يتحرك من تحته وينهش السمكة.
أما القرش الآخر، فقد راح يرقب العجوز بعينين صفراوين، ثم أسرع نحو الجزء المنهوض من السمكة بفكيه – وكان هناك خط واضح بين قمة رأسه الأسمر وعموده الشوكي، حيث تبين العجوز موضع المخ، فطعنه بسكينه المشدودة إلى طرف المجداف.
ثم سحب المجداف..
ثم طعنه طعنة ثانية في عينيه الصفراوين كعيني القطط، فترك القرش السمكة وهبط في الماء وهو يزدرد ماقضم من لحمها بينما هو يلفظ الروح.
وكان الزورق لايزال يهتز فوق القرش الآخر وهو يعبث بالسمكة.. فعبث العجوز بالشراع حتى مال الزورق على جنبه، وخرج القرش المختفي تحته من مخبئه.
واقترب العجوز منه وطعنه.. ولكن الطعنة أصابت اللحم أما الجلد فكان سميكاً.. وهكذا سلم من الطعنة التي أوجعت يدي العجوز وكتفيه.
وبرز القرش برأسه ثانية، فصوب إليه العجوز طعنة أخرى في وسط رأسه، فسقط أنفه أمامه.
وسحب العجوز السكين، وطعن في الموضع نفسه.. وكان القرش لا يزال مطبقاً فكيه على السمكة، فطعنه العجوز في عينه اليسرى.
وبقي القرش في موضعه!
وصاح العجوز!
- هذا غير ممكن!
وعاد فطعنه بين المخ والنخاع، وكان الطعن عندئذ قد أصبح سهل المنال ولكن العجوز أحس باشتداد الالم على غضروفه، فوضع السكين بين فكي القرش ليفتحها، وثناها، فلما انفرج فكاه، هبط القرش في الماء.
وراح العجوز يلعنه.
- اهبط أيها اللعين.. اهبط ميلاً في قاع البحر.. اذهب والتمس صاحبك.. أو لعله أمك.
ومسح العجوز حد سكينه، ووضع المجداف وأحكم الشراع، وأعاد الزورق إلى مجراه وهو يقول لنفسه:
- لابد أنهما قد ذهبا بربع السمكة.. ومن خير قطع اللحم فيها.. ألا ليتني كنت في حلم.. وليتني ماظفرت بهذه السمكة.. انني آسف أيتها السمكة.. لقد ساء كل شيء.
ولم يعد به شوق إلى أن يتطلع اليها وهي غارقة في دمها.
وقال لنفسه:
- ماكان يجوز لي أن أوغل في البحر كل هذه المسافة.. لامن أجلي.. ولا من أجلك أيتها السمكة.. أنا آسف.
واستطرد في نجواه:
- والآن.. تأمل أيها العجوز القيد الذي يربط السكين بالمجداف، هل تقطعت أوصاله أم لا.. ثم أصلح من أمر يدك، فلايزال أمامنا مزيد من الصراع.. ألا ليت معي حجراً لأسن عليه السكين.
قال هذا وجعل يعقد العقدة التي تربط السكين بالمجداف.. وردد مرة أخرى:
ألا ليتني جئت معي بحجر!.
ثم عاد يقول لنفسه:
- كان عليك أن تجيء معك بأشياء كثيرة ولكنك لم تفعل.. أيها العجوز على أن هذا ليس أوان التفكير فيما نسيت أن تجيء به فكر الآن فيما تستطيع أن تفعل بما لديك.
وناجى نفسه في سخرية:
- لقد كثرت نصائحك الطيبة، حتى تعبت منها.
وغسل يديه في الماء، وسار الزورق قدماً والعجوز يتحدث:
يعلم الله كم من لحم السمكة قضم هذا القرش الأخير على أن الزورق أخف الآن مما كان.
ولم يحاول أن يفكر فيما فقدت السمكة من جزئها السفلي، ولكنه أدرك أن القروش قد مزقت لحم السمكة، بحيث جعل الدم يتدفق منها.. ويصنع شريطاً دموياً طويلاً عريضاً في المياه، خليقاً باجتذاب كل أنواع القرش.
وقال العجوز لنفسه:
- كانت سمكة قمينة بأن يعيش المرء من ثمنها طول الشتاء.. لا تفكر في هذا.. استرح الآن، وقو يديك لتدافع عما بقي من السمكة.. ان الدم الذي في يدي لايقاس بالدم النازف من السمكة.. ان يدي لا تدميان كثيراً.. وجراحهما ليست بالغة.. وهذا الدم النازف من يدي اليسرى قد يقيها شر التقليص.
ثم جعل يفكر:
- فيم ينبغي لي أن أفكر الآن؟ لاشيء.. لايجوز لي أن أفكر في أي شيء.. وعليّ أن أنتظر الا ليته كان حلماً، ولكن.. من يدري؟ قد ينتهي الأمر على خير الوجوه.
وجاء قرش آخر..
وكان من نوع محدودب الأنف كان شكله كالخنزير.. وحنكه كحنك الخنزير.. واسع إلى حد أنه يكاد يتسع لرأس انسان.
وتركه العجوز يلطم السمكة، ثم شد السكين إلى المجداف، وطعنه في مخه فتراجع القرش.. وانكسرت السكين؟
واتجه العجوز إلى الدفة ولم يعن حتى بأن يشهد القرش وهو يغوص وئيداً في الماء، قد جعل حجمه يتضاءل في الرؤية كلما غاص، حتى أصبح كأصغر الأشياء.
كان هذا المشهد يروقه دائماً.. أما الآن، فإنه لم يعد يهتم حتى بالتطلع إليه.
وقال العجوز:
- والآن.. لم يبق إلا العصا ذات المهماز.. ولكنها لن تغني.. عندي
- كنت أستطيع ان أقطع منقارك لأحارب به القروش. ولكنه ليس ذا حد كحد السكين. على انه لو كان رمح راسخ معي, لشددته إلى المجداف.. أي سلاح.. اننا نحارب القروش معاً, أنا وأنت, ماذا تصنعين الآن لو جاءت القروش في الليل؟ ماذا تملكين ان تفعلي؟..
نحاربها.. نحاربها إلى ان أموت.
###
وهبط الظلام..
ولم يطل أي ضوء.. ولو من بعيد..
لم تكن هناك غير الريح, وانسياب الشراع الرتيب.
وأحس العجوز كأنما هو مشرف على الموت.
وتحسس كفيه, فإذا هما لم تصلا إلى حد العدم.
وجعل يحاول اخراج الألم منهما, بطيهما ونشرهما, واسند ظهره إلى الصاري.. انه لم يمت بعد.
هكذا قالت له كتفاه!
وقال لنفسه:
- انني مدين بكل هذه الصلوات التي وعدت بأدائها إذا ظفرت بالسمكة ولكني الآن مجهد إلى حد انني لاأملك ترديد الدعاء. خير لي ان أضع الجوال حول كتفي.
ورقد مستنداً إلى الصاري, ويده على الدفة, وجعل يرتقب أي ضوء ينعكس في الماء, وقال:
- معي الآن نصف سمكة. وقد يسعدني الحظ فأحتفظ بهذا النصف.. لابد ان يحالفني الحظ.
- لا.. لقد تحديت الحظ أيها العجوز بايغالك في البحر.
ولكنه عاد يصيح:
- لاتكن سخيفاً.. وتيقظ.. وامسك بالدفة, فقد تكون هناك بقية باقية من الحظ.. كم أحب أن ابتاع الحظ, ولو كان الحظ يشترى ولكن.. بم يباع الحظ؟ هل أستطيع شراءه بحربة مفقودة وسكين مكسورة ويدين سقيمتين؟
وأجاب على تساؤله بقوله:
- ممكن.. لقد حاولت ان تشتريه بأربعة وثمانين يوماً في البحر.. فباعتك هذه الأيام اياه.. لاينبغي لي ان أفكر تفكيراً عابثاً.. ان الحظ شيء في صور كثيرة.. ومن ذا الذي يستطيع تمييزه؟ سأتقبله لو جاء في أية صورة.. وأدفع فيه أي ثمن.. كم أتمنى ان ألمح ومضات الضوء.. كم أتمنى أشياء كثيرة.. ولكن الأضواء هي كل ماأريد الآن.
واتخذ وضعاً يهيئ له نصيباً أوفر من الراحة على الصاري, وأدرك من آلام يديه انه لايزال على قيد الحياة.
وبدت له انعكاسات أضواء المدينة في البحر من بعيد, وقدر ان الساعة قد تكون نحو العاشرة من المساء.
طالعته الأضواء في أول الأمر كمجرد احساس.. لانها انعكاسات أضواء غير ضوء القمر, فالقمر لم يطلع بعد.. ثم ظلت ثابتة الرؤية على مياه المحيط, الذي بدأ يهيج مع الريح.
ووجه العجوز الدفة صوب وهج الأضواء, وأدرك انه الآن عند حافة المجرى.. فقال:
- الآن أوشكت المتاعب ان تنتهي, وقد تبرز لي القروش مرة أخرى, ولكن.. ماذا يملك المرء ان يصنع معها في الظلام, وهو أعزل من السلاح؟
المجداف والهراوة الصغيرة وقضيب الدفة
وقال العجوز:
الآن غلبتني القروش.. انني اعجز من أن اخدعها بالهراوة ولكني سأحاول أن اصرعها، طالما ان المجدافين معي, والهراوة.. والقضيب.
ونقع يديه في الماء ثانية، وكانت الساعة متاخرة بعد الظهر، وهو لا يرى شيئاً حوله إلا الماء والسماء.
وكانت الريح قد زاد هبوبها فتضاعف أمل العجوز في رؤية البر.
وقال لنفسه:
لقد تعبت أيها العجوز .... ومسك الضر من الداخل.
ولم تطالعه القروش حتى ساعة الغروب، حين لمح العجوز الزعانف السمراء، تبدو عبر المجرى الدموي الواسع الذي تصنعه الدماء النازفة من السمكة في الماء.
ولم تكن القروش تتبع الرائحة هذه المرة، بل كانت تضرب الماء نحو الزورق رأساً وأفراد سر بها متجاورة.
وأمسك بقضيب الدفة، ثم تناول الهراوة وكانت هذه الهراوة قطعة مكسورة من يد مجداف طولها نحو قدمين ونصف القدم ولم يملك أن يستخدمها الا بيد واحدة لأن قبضتها صغيرة.
واطبق يمناه عليها بقوة وراح يرقب قدوم سرب القروش.
وكان السرب من نفس نوع القرش الأخير.
وقال :
سأدع القرش الأول يمسك السمكة ثم أضر به على أنفه أو على أم رأسه.
وجاء قرشان معاً..
وحين رأى العجوز اقربهما إليه يفغر فاه ويطبقه على جانب من السمكة، رفع الهراوة عالية، وأهوى بها على رأس القرش بكل قواه.
وأحس بأنه يضرب في مطاط.
كما أحس صرامة عظام رأس القرش، وأعاد الكرة على أم رأسه، فتراجع القرش الأول عن السمكة.
أما القرش الآخر، قفد جعل يحوم حول السمكة ثم فغرفاه ليقضمها.
ورأى العجوز قطعاً من لحم السمكة الأبيض تطل من ركن فكيه، وهما مطبقان عليها، فأهوى على رأسه بالهراوة، فتطلع إليه القرش، ثم انتزع اللحم الذي في فكيه من جسد السمكة، وأهوى عليه العجوز بالهراوة مرة أخرى والقرش يحال أن يزدرد قطعة سائبة من لحم السمكة، ولكن الهراوة لم تصب هذه المرة إلا الجزء المطاطي من رأس القرش.
وقال له العجوز محنقاً :
تعال أيها القرش .. تعال مرة أخرى ..
وجاء القرش .. وضربة العجوز والقرش مطبق فكيه على السمكة..
ضربه من عل ... من أعلى ما استطاع أن يرفع يده، وأحس بالهراوة ترتطم بعظام مخة، وضربة مرة أخرى في الموضع نفسه، بينما القرش ماض في تمزيق لحم السمكة وهو أخذ في التراجع عنها.
وراح العجوز يرقب عودة القرش، ولكنه لم يعد ، كما لم يعد أخوه،
ثم رأى قرشاً آخر يحوم سابحاً في الماء، دون أن يرى زعانفه،
وقال العجوز لنفسه:
ما كنت أتوقع أن اقتلهما كنت استطيع هذا في شبابي ولكني آذيتها كثيراً على كل حال، فلم يعد لأحد منهما حول ولا طول، ولو كنت أملك مضرباً استطيع أن استخدمه باليدين لتمكنت من قتل أولهما قطعاً ... حتى في هذه السن.
لم يعد العجوز يطيق أن ينظر إلى السمكة فقد أدرك أن نصفها قد تمزق.
وكانت الشمس قد غربت وهو في صراعه مع القروش.
وقال لنفسه:
- سيهبط الظلام الآن ... وسأرى أضواء (هافانا) فإذا كنت بعيداً جداً صوب الشرق فسأرى أضواء بعض الشواطئ الجديدة.
ثم استطرد في حديثه:
- لا يمكن أن أكون الآن بعيداً إلى حد كبير ولا أظن أن أحداً قد شعر بالقلق عليّ... الا الغلام طبعاً ولكني متأكد انه يثق بمقدرتي.
وقد يقلق بعض عجائز الصيادين وغيرهم أيضاً... انني أقيم في بلدة طيبة.
لم يعد يطيب له أن يتطلع إلى السمكة.. أو مابقي منها:
- يانصف السمكة.. يامن كنت سمكة.. فقد تمزقت ارباً.
ثم خطر له خاطر، فجعل يحدث السمكة، انني آسف إذ أوغلت في البحر، لقد حطمتك وحطمت نفسي، ولكننا صرعنا قروشاً كثيرة، أنت وأنا الا قولي، كم سمكة قتلت في حياتك أيتها السمكة العجوز ؟
أن هذا الرمح في رأسك لم يخلق عبثاً .
وحلا له أن يتصور السمكة حية، وقد التقت في طريقها بسرب من القروش، ثم تابع حديثه إليها :
كان العجوز قد تجمد من برودة الليل، واشتدت الأمة، وتقلبت عليه جراح كل جزء من جسده، فتمنى الا يخوض مزيداً من المعارك.
ولكنه عندما انتصف الليل، وجد نفسه مضطراً لخوض معركة جديدة.
وأدرك منذ البداية ان المعركة في هذه المرة خاسرة.
كانت القروش الكثيرة ولم ير منها إلا زعانفها تنساب، في خطوطه طويلة، ووهج اشعاعها الفوسفوري، والقت القروش جميعها بنفسها على السمكة فهب، العجوز يضربها، على رؤوسها بهراوته وسمع اصطكاك فكوكها واحس باهتزاز الزورق فوق القروش التي نزلت تحته.
وظل يضرب مستميتاً حيثما اتفق، وهنا أحس كأن احداً يمسك بالهراوة وإذا بالهراوة تفلت من يده !
فأخذ قضيب الدفة، وجعل يضرب به، بكلتا يديه، ويهوي به على رؤوس القروش، مرات ومرات... ولكن القروش صعدت إلى قرب حنية الزورق، واحداً وراء الآخر، وتكاثرت بغير عد، وجعلت تمزق لحم السمكة التي أخذت تتوهج تحت الماء، وجاء احد القروش إلى رأس السمكة... وأدرك العجوز أن الأمر قد انتهى، ولكنه أهوى بالقضيب على رأس القرش الذي أطبق فكيه على رأس السمكة ليمزقه وضرب ضربة أخرى، وثالثة ورابعة، وسمع صوت القضيب يتكسر... ولا يبقى منه إلا شطر في يده وطعن القرش بهذا الشطر الباقي من القضيب وأعاد الكرة، فانسحب القرش مهزوماً.
كان هذا آخر قرش بقي بعد المعركة، وقد انقضت بقية القروش، لانه لم يعد على المائدة مزيد من الطعام، لقد نهشت القروش كل ما في السمكة من لحم.
وكانت انفاس العجوز تتقطع واحس بطعم غريب في فمه، طعم نحاسي حلو.
واشفق منه لحظة ولكن الطعم ما لبث ان زال ، فبصق العجوز في المحيط قائلاً :
ابتلعي هذه البصقة أيتها القروش... واحلمي بأنك قتلت إنساناً.
وأدرك العجوز في النهاية أن الهزيمة النكراء قد حاقت به وان لا دواء لها.
وعاد إلى الشراع...
وأدرك ان القطعة الباقية من القضيب تكفي لحسن قيام الدفة بمهمتها ولف كتفيه بالجوال وأبحر زورقه.
أبحر متخففاً... دون ان يفكر أو يحس أي شعور.
لقد فات أوان كل شيء، وأصبح كل همه أن يصل إلى بيته بأمان .
وفي الليل ... راحت القروش، تعبث بأعشاب السرخس كما يلهو الاكل بفتات المائدة، ولم يهتم العجوز بأمرها، ولم يلق بالاً لأي شيء غير توجيه الدفه: كان كل همه أن يبحر متخففاً وان يسير الزورق هوناً وقال :
إن الزورق بخير ... انه سليم لم يصبه ضر ... فيما عدا القضيب وهذا ما استطيع أن اعوضه بسهولة.
ثم أحس انه في قلب التيار، ورأى أضواء المستعمرات الشاطئية على طول الضفة، وعرف أين هو فليس بينه وبين قومه كثير.
وأخذ يفكر ...
ان الريح صديقة لنا ... مهما تكن ...
ثم قال :
إنها كذلك ... في بعض الاحيان ... أما البحر الكبير فإنه معنا ومع اعدائنا همهم :
والمخدع ... أن المخدع شيء مستحب ... انه مريح ... حينما يعود المرء مهزوماً لم أكن اتخيله مريحاً إلى هذا الحد.
ورجع العجوز يسائل نفسه :
ولكن .... من الذي هزمك ؟
واجاب على نفسه بصوت مرتفع :
لا شيء ... أنا الذي ذهبت بعيداً..
وعندما دخل زورقه الميناء الصغير، كانت أضواء الشرفة قد اطفئت فأدرك أن الجميع قد انقلبوا إلى مخادعهم.
وهبت الريح برتابة، ثم جعلت تشتد أما الميناء فكان هادئاً، برغم ذلك وسلك بزورقه صوب رقعة الحصباء الواقعة تحت الصخور، ولم يكن هناك من يعينه على أمره، فأجتذب الزورق إلى الشاطئ قدر ما استطاع ونزل منه، وشده على بعض الصخور.
وخلع الصاري بعد أن طوى حوله الشراع، وحمله على كتفيه وسار صعداً، وهنا أدرك عمق عنائه، فتوقف لحظة ونظر إلى الخلف، فرأى في انعكاس نور الشارع ذيل السمكة منتصباً خلف موضع الصاري.
ورأى عمودها الشوكي الاجرد الأبيض وبقايا الرأس، وهيكل المنقار كلها جرداء من اللحم.
وواصل سيره صعداً وعند الذروة سقط ورقد على الأرض والصاري عند كتفه.
وحاول أن ينهض ولكنه لم يستطع فجلس هناك والصاري ملتصق بكتفه وجعل ينظر إلى الطريق.
ثم نهض فواصل مسيره ولكنه جلس يستريح خمس مرات قبل أن يصل إلى كوخه.
وفي الكوخ أسند الصاري إلى الجدار، وعثر في الظلام بقارورة ماء فتناول منها جرعة، ثم تمدد على مخدعه وشد البطانية على كتفية ثم على ظهره وساقيه، ونام ووجهه إلى أسفل، على الجريدة، وذراعاه ممتدتان في استقامة وكفاه إلى أعلى.
وكان لا يزال نائماً حينما قدم الغلام فأطل من الباب في الصباح،
وكانت الريح صرصراً إلى حد ان القوارب لم تخرج للصيد، وقد نام الغلام حتى ساعة متأخرة ثم جاء إلى كوخ العجوز كما كان يجيء كل صباح خلال أيام غيبته ليطمئن عليه.
ورأى الغلام أن العجوز لا يزال يتنفس ثم لمح يديه وحالهما فأخذ يبكي وسارع بالخروج ليجيء له ببعض القهوة.
وظل يبكي طول الطريق.
واحتشد كثير من الصيادين حول الزورق ليروا هذا الشيء المعلق به ونزل احدهم إلى الماء بعد أن ثنى سرواله يقيس طول الهيكل بقطعة من الخيط.
أما الغلام فلم يهبط إلى موضع الزورق.... إذ كان قد هبط من قبل وكان احد الصيادين يهتم بأمر الزورق ويحكم شده إلى الصخور.
وصاح هذا الصياد بالغلام:
كيف حاله ؟
وصاح الغلام :
إنه نائم .
ولم يبال الغلام بأمرهم، إذ هم يرونه في بكائه وقال لهم:
لا يزعجنه احد !
وقال الصياد الذي كان يقيس بقايا السمكة !
ان طولها ثمانية عشر قدماً ... من الأنف إلى الذيل.
قال الغلام :
إني أصدق هذا
وذهب إلى الشرفة فطلب إناء قهوة، فيه كثير من اللبن والسكر وقال له صاحب (الشرفة):
أي شيء آخر ؟
لا.. وسأرى ماذا يأكل فيما بعد
كم كانت سمكة عجيبة أن أحداً لم ير سمكة كهذه أبداً على أن السمكتين اللتين ظفرت بهما أنت أمس كانتا بديعتين.
قال الغلام:
لعنة الله على سمكاتي.
وعاد يبكي ثانية، وسأله صاحب (الشرفة).
الا تريد شراباً من أي نوع ؟
فأجاب الغلام قائلاً :
لا وقل لهم لا داعي لازعاج سانتياجو، وسأعود ثانية.
أبلغه كم أنا آسف له.
شكراً.
وحمل الغلام إناء القهوة الساخنة صعدا نحو كوخ العجوز وجلس بجواره إلى أن استيقط أو إلى أن بدا له أنه استيقظ.
ولكن العجوز ما لبث ان استغرقه النوم من جديد.
وخرج الغلام ليستعير بعض الحطب يدفىء به القهوة عندما يصحو العجوز.
وأخيراً ... استيقظ العجوز فقال له الغلام :
لا تنهض ... أشرب هذا .
وصب له بعض القهوة في كوبه، تناولها العجوز فاحتساها ثم قال :
لقد غلبت على أمري يا مانولين.. غلبت تماماً.
فقال الغلام :
إنها لم تهزمك ... اعني السمكة.
لا ... بل جاءت الهزيمة فيما بعد.
أن (بدريكو) مهتم بأمر الزورق والمعدات.. فقل لي : ماذا تريد ان تصنع برأس السمكة ؟
دع (بدريكو) يقطعها ويستخدمها كطعم.
ورمحها ؟
احتفظ به أنت ... إذا شئت.
نعم ... أني اريده ... والآن ... لنفكر في بقية الأشياء.
هل بحث عني أحد ؟
طبعاً ... خفر السواحل ... والطائرات.
فأجاب العجوز وهو يستشعر لذة وجود أحد يتحدث إليه، بعد أن طالت احاديثه إلى نفسه في البحر:
إن المحيط واسع جداً، وزورقي صغير بحيث يشق على الطائرة أن تراه، لقد افتقدتك كثيراً يا ولدي... وأنت ... ماذا خرج لك من الصيد ؟
واحدة في اليوم الأول، وأخرى في الثاني، واثنتان في الثالث
رزق طيب.
والآن ... لن نخرج إلى الصيد إلا معاً، أنت وأنا.
لا يا ولدي ... أنني لست حسن الطالع، لقد تخلى عني الحظ نهائياً.
دعك من الحظ سأجلبه أنا لك.
وماذا تقول أسرتك ؟
لن أبالي، لقد ظفرت بسمكتين أمس ... ولكننا سنخرج للصيد معاً، من الآن، لانني لا ازال اتمنى أن اتعلم منك أشياء كثيرة.
نحن في حاجة إلى رمح قوي لنصرع به الأسماك نحمله معنا دائماً في الزورق ونستطيع أن نصنع حده من رقيقة قوية من سيارة (فورد) قديمة ونستطيع كذلك ان نخرطه في (جوانا باكوا) يجب أن يكون حاداً ولا ينقضم لقد انكسرت سكيني.
سأجيئك بسكين أخرى... وسأخرط الرمح، ترى كم يوماً تستمر هذه الريح الصرصر؟
قد تستمر ثلاثة أيام ... أو أكثر.
فقال الغلام :
سأعد كل شيء وعليك أن تهتم بأمر يديك أيها العجوز.
إني أعرف كيف اعالجها، لقد بصقت في الليل شيئاً غريباً.
وهل عانيت ؟
فقال العجوز ؟
كثيراً .
سأجيئك بالطعام والصحف استرح راحة تامة أيها العجوز.
وسأجيئك بدواء ليديك من الصيدلية.
ولا تنس أن تبلغ (بدريكو) أن رأس السمكة له.
- لن يفوتني هذا.
وحينما خرج الغلام وهبط الطريق المرجاني الخشن عاوده البكاء، وبعد الظهيره كان هناك رهط من السائحين في (الشرفة) وكانت في الرهط امرأة تتطلع إلى السماء، فرأت بين أكوام علب البيرة الخاوية والمخلفات المتراكمة عموداً شوكياً أبيض طويلاً، ينتهي بذيل ضخم، ينتصب ويتماوج مع المد والجزر، في حين ان الريح الشرقية ترفع مياه البحر بانتظام خارج مدخل الميناء.
وسألت السائحة الساقي وهي تشير إلى عظمة ظهر السمكة الضخمة التي كانت تتأهب للذهاب مع الجزر:
ما هذا الشيء ؟
أنه ذيل قرش.
قال هذا وهو يحاول أن يشرح لها ما حدث. قالت :
لم أكن أعرف أن للقرش ذيلاً أنيقاً جميلاً إلى هذا الحد.
وقال الرفيق لها :
- ولا أنا أيضاً.
وفي الكوخ كان العجوز لا يزال نائماً على وجهه والغلام قابع إلى جواره.
وكان العجوز يحلم بالسباع !.
(تمت).
عن الجمهورية نت
تعليقات