كتاب النطق والصمت..نصوص صوفية مختارة

كتاب النطق والصمت..نصوص صوفية مختارة


الأربعاء 11 أغسطس-آب 2010 القراءات: 30

تحقيق وتقديم: قاسم محمد عباس



بين النطق والصمت برزخ فيه قبر العقل وفيه قبور الأشياء

إن تقديمنا لهذه النصوص والشذرات دون غيرها قد تم بدافع التركيز على جانب آخر من نتاج النفري وتجربته الروحية، بعيداً عن المواقف والمخاطبات، فإن هذه الشذرات في حقيقتها ترتبط بمشروع النفري بشكل عام، أو هي تتمة عرفانية لهذا المشروع، لأننا نرجح أن النفري كان قد كتبها بعد مرحلة المواقف والمخاطبات.

وإن تركزت هذه الشذرات في محاور جديدة منها : موضوعة الحب المتبادل بين الله والصوفي، أو إشكالية المعرفة في مفاصلها الأساسية: العلم والجهل، وانتشار مجموعة من الآراء المتعلقة بتنزيه الصوفي لله، وتناول بعض المقامات والأحوال التي يمر بها وهو في طريقه إلى (الوقفة).

ليتناول في فقرات منفصلة حكمة في الحد، والنطق والصمت والبكاء واستواء الأضداد في الوجد.

ينطلق النفري في هذه الشذرات من إحساسه بالمسافة الهائلة التي تفصل بين الله والإنسان ويكابد بسبب احتلال هذا الإحساس لمساحة كبيرة من وعيه الصوفي، ويكتشف في لحظات حاسمة كما لو كان هذا الوعي الجوهري ثنائية متميزة، وحتى في حالة غياب هذه الثنائية، يهيمن شعور حاد بوجود برزخ بين الصوفي العاجز والله صاحب الإرادة المطلقة.

إن النفري يدرك ذلك بحدة، وهناك بعد إيجابي في هذا الإدراك يتلخص في رغبته لردم هذا البرزخ من خلال التعالي عليه، بمفهوم (التجربة) في عقيدة النفري الصوفية، هذه التجربة التي يسكنها الله باستمرار.

ويمكن أن نذهب إلى أن تجربة النفري وحدها التي استطاعت أن تلغي تلك المسافة الفاصلة بين الله ومحبه، وإعادة النتاج الصوفي الذي حاول حل هذه الإشكالية في القرنين الثالث والرابع الهجريين، إلا أنه تجاوز التصريح الذي قام به كل الصوفية الذين سبقوه بل منذ الحسن البصري وحتى الحلاج مروراً بسهل التستري والبسطامي والنوري وغيرهم.

يمكن أن نلمس ما تضمره ثنائية التصريح والكتم، في إخفاء هذا التصريح، أو تقنيعه بمفهومي الرمز والصورة،ـ تلك الإشكالية الأساسية التي يتوفر النفري على مفاصل معالجتها وعلى آليات التعبير التي تنشد إلى التجربة ولا تنفصل عنها، حتى يحصل التطابق بين التجربة وبين الآلية التي يتم التعبير بها عن هذه التجربة، ليتم التحقيق وتنتفي تلك الثلاثية التي سيطرت على النص الصوفي قبل النفري لزمن طويل، ونعني بها ثلاثية: الكلام، المتكلم، المسامع ليغدو الكلام والمتكلم والسامع واحداً في لغة واحدة.

فرموز التجربة هي جوهر الإشكالية التي أمسك بها النفري كي يتعرف إلى الله، ويتحدث عنه ومعه، ومن خلال الموقف الصوفي الذي يمثله النفري استطاعت الروحانية الإسلامية، حسم جزء كبير من هذه الإشكالية إلا أن موقف النفري قد خلف مساحة من الاختلاف بين اللغة التجريدية والخطاب الرمزي بسبب أن الفكر الإسلامي قاطبة يتردد على مستوى اللغة التجريدية بين التشبية والتنزية ومجمل مشاكل الإلهيات الإسلامية هي مشاكل تأويلية وهذا التأويل يجري في لغة مجردة لا تنتج شيئاً آخر غير الذي جاء به القرآن هذا لو استثنينا نتاج النفري الذي يكتسب أهميته من قدرة النفري على نقل وعيه من الخطاب الذاتي إلى حوار مع الله، يستنفد فيه هذا الحوار كل بعده المعرفي إذ لخص النفري حواره في استجوابات تحصل داخل التجربة التي يستقر الله فيها أساساً، مكوناً بذلك حواراً بين حقيقتين:

إحداهما الإنسان ليس بوصفه ذاتاً منفصلة تواجه الأسئلة الإلهية وإنما حقيقة تشكل مجالاً فاعلاً لإرادة الله المطلقة والأخرى الجوهر الأصلي، أو الغيب جوهر الآخر.

وقد عثر النفري على هذا الخيار في تجربة النبي (صلى الله عليه وسلم) حينما تلقى الوحي الإلهي ليس كموضع وحيد للسر الإلهي، بل لقدرته على معرفة جوهر الآخر قبل نزول الوحي، وإن حصل تلقي التعاليم عبر وسيط ثالث هو الوحي، ومن هذه الرؤية تحولت تجربة النبي (صلى الله عليه وسلم) عند الصوفية إلى مفهوم (الحقيقة المحمدية) التي تباين دون شك حقيقة (النبي صلى الله عليه وسلم) تاريخياً لأن إشكالية الاتصالات الممكنة مع السماء شغلت المشروع الصوفي برمته، وقد تعرض النفري هو الآخر لمفاصل هذا الموضوع من خلال حوار الجواهر أو الحوار بين الجوهر الإلهي والجوهر الإنساني، وأعاد تناول التجربة الشخصية للنبي (صلى الله عليه وسلم) من خلال حوار يغدو فيه الإنسان خليص الله وموضع سره.

وفي الوقت الذي نقترب فيه من المجال النفسي الذي ولدت فيه نصوص النفري، نستطيع أن نلامس أبعاد هذا الحوار الذي لخصه لنا النفري عبر مفهومه في (الوقفة).

أما في نصوص هذا الكتاب، فإن غياب الحوار راجع لهذه العودة من الوقفة، لتتغير في هذه العودة لغة النفري، ويغيب الزمن المزدوج أو زمن العروج والرؤيا ذلك الزمن الذي ينتقل فيه وعي النفري إلى ما فوق الشخصي، وحين يعود إلى وعيه الشخصي يصبح الكلام ممكناً مع الآخر، الآخر الإنسان وليس الغيب، فتحدد لنا أبعاد العلاقة السامية مع الله، بإثبات الحجاب الذي يفصل ما بين الله والإنسان، إلا أنه الحجاب الأكثر حقيقية ودقة، ذلك هو الحجاب المسمى بحجاب المعرفة.

يتناول النفري حجاب المعرفة مفرقاً بينه وبين العلم وبينه وبين الفهم ومن ثم بين العلم والفهم، من خلال النطق والصمت، إذ يلخص لنا في فقرة من شذرات الكتاب المحددات الأساسية لهذه الإشكالية.

(العلم كله يطالب بحكمه، ولا سبيل إلى الفكاك من الحكم، أو يصمت لسان العلم، والعلم كله ما كان طريقه السمع، ولا يصمت لسان العلم، أو ينطق لسان المعرفة).

تشير هذه الفقرة إلى العلاقة بين الكلام كماهية وبين العلم، محددة في الوقت نفسه الطرف الآخر من الإشكالية غير المنظور وهو غياب هذه العلاقة بين الكلام كصورة وبين العلم، بسبب تعلق الصورة بالفهم وهذه المسافة التي تمتد بين العلم والفهم هي ذاتها مجال عمل الصوفي مع النص القرآني، إذ تتمثل بالكشف والذوق والشهود من ناحية وبالمعرفة الاستدلالية العقلية من ناحية ثانية، حيث تكون الأولى يقينية تتوحد فيها الذات مع موضوعها والثانية تتم عبر وسائط تقوم على الثنائية بين الذات والموضوع، فالصوفي في المعرفة الأولى يعلم وفي الثانية يفهم.

لقد تناول النفري موضوعات أخرى في طائفة من الشذرات تتعلق بالتعاليم الصوفية دون الانخراط في اتجاه روحي، أو مسلك ذوقي بل قدم رؤاه بالاستناد إلى تجربته الممثلة لنموذج التصوف الإسلامي في القرن الرابع الهجري هذه التجربة التي يمكن عدها عقيدة صوفية لمرحلة ما قبل ابن عربي.

لقد تعرض النفري إلى تلك التعاليم في شذرات منثورة، ومقطعات شعرية قمنا بجمعها من مجمل الأجزاء، حيث شكلت هذه الشذرات الوجهة الجديدة لتصوف النفري، الذي لم يزل على مستوى شخصيته لغزاً غامضاً لم تتعرض لحله التواريخ القديمة، حتى زمن ابن عربي الذي تدين له الثقافة الإسلامية بإعادة النفري لواجهة التاريخ بعد اختفاء دام ثلاثة قرون، دون أن ندري لماذا تم تجاهل هذه الشخصية الروحية طيلة ذلك الزمن ؟

وقد تكون الأسباب الأولى الظاهرة لهذا التجاهل متعلقة بنتاج النفري ذاته، هذا النتاج اللا متمركز، أو نصوصه الملغزة والمرمزة، صعبة التداول، وقد يكون نتاج النفري في لا تمركزه سبباً في عدم انتشاره، لكننا لا نستطيع فهم هذا الصمت نحو شخصية قد أثرت في تاريخ الروحانية الإسلامية بشكل حاد، إنه صمت يثير الشك، بسبب هذا الاتفاق الجماعي عليه سواء عند القدماء أو المحدثين، ولولا إشارات ابن عربي إلى شخصيته وبعض نصوصه لتصور الدارس أنه تم صياغة هذه الشخصية تاريخياً وان تمت الإشارة إليه قبل ابن عربي، إلا أنها اشارات سريعة وعابرة لم يتوفر لها التأثير الذي احدثه ابن عربي في إعادة النفري إلى واجهة الحادثة الصوفية في الإسلام، إنه لامر مدهش أن تصل إلينا آثار هذا الصوفي في غياب شخصيته التاريخية وإن كان ما يعنينا حقاً هو نتاجه الذي يشير إلى أنه من طبقة الكتاب الذين يشكلون بنتاجهم محددات وعقيدة زمنهم.

وعليه، فإن رغبتنا في تقديم نصوص النفري هذه بعد محاولة بولص نويا هي أقرب إلى المساهمة في إظهار زاوية أخرى من فكره عبر شذرات تعد من أكثر الكتابات التماعاً وجمالاً في الأدب الصوفي، فقسم من هذه الشذرات قد كتب بأسلوب رؤيوي معقد يقلق النص الصوفي الذي كتب في القرن الرابع الهجري عامة، لأنها تنفتح وتتسع بكثافة وبشكل مفاجئ على مناطق جديدة وحديثة في مجال لغة النفري الرمزية، من قبل إلا أن هذه المفارقة هي الماهية الأصلية لهذه النصوص، فضلاً عن الديوان الذي يسلط الضوء على النفري بوصفه شاعراً من طبقة الشعراء الصوفية، لنقول إن شذرات الكتاب والديوان والمناجيات تكمل لنا صورة النفري الصوفية وتظهره في هيئة الرؤيويين الكبار الذين أنجزوا كبريات الأدبيات الصوفية، الذين يلجؤون – بعد اكتمال رؤيتهم تجربة ولغة – إلى إقصاء كل الوظائف الجانبية للكلام، والنظر إليه – أي الكلام – بوصفه متكلماً، وإنجاز الخطوة الأخيرة من تجربتهم عبر البحث عن التكلم في الكلام ذاته لأن ما يتكلم هو الكلام ذاته وليس الصوفي، لنخلص إلى إشكالية تبادل اللغة بين الله والصوفي، أو توحد هذه اللغة في بؤرة تتكون من زمنين متقاطعين : الزمن الأول الذي يهيمن فيه التنزيه المطلق لله، والزمن الثاني الذي ينصهر فيه الصوفي في هذا التنزيه محوِّراً وعيه إلى رؤية يجد الصوفي فيها الله وذاته، ذاته الممتلئة بقدرات إلهية بضمنها قدرة الكلام، فيتخذ الصوفي هنا شكل الآخر الغائب، أو شكل ذاته بلا فرق ما دامت اللغة
عن الجمهورية نت








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3