العجــــــــــــــــــــــــــــــــــوز والبحـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر....1ـ 3 أرنست همنجواي!

ذكر العجوز ذلك المشهد في تأثر وقال :


إنه أحزن مشهد عبر بي وقد تأثر الغلام هو الآخر يومئذ وجعلنا نسأل الأنثى أن تغفر لنا ما صنعناه وذبحناها على الفور.

وعاد العجوز يحدث نفسه بصوت مرتفع:

ليت الغلام كان معي الآن.

قالها وهو لا يزال يستشعر قوة السمكة الضخمة من شدة الحبل المعقود حول كتفيه والزورق يجري في الاتجاه الذي اختارته السمكة.

ومضي يحدث نفسه :

إن السمكة على اثر غدري بها، لم تجد بداً من الاختيار، ولقد اختارت البقاء في الماء، العميق القائم بعيداً عن جميع الأحاليل والفخاخ ووسائل الغدر أما أنا فقد اخترت أن أسير معها بعيداً عن جميع البشر، وها نحن الآن، مصير كل منا مرتبط بمصير الآخر منذ الظهيرة ولا من يعينني أو يعينها.

وهمهم العجوز :

لعله لم يكن خليقاً بين أن أكون صياداً بيد أن تلك هي المهنة التي ولدت لها أوه يجب أن أذكر أن آكل التونة حينما يطلع النور.

قبل أن يبزغ ضوء النهار ! بدأ شيء يقضم طعم أحد الحبال المتدلية وراء ظهر العجوز:

وسمع صوت العصا تتكسر...

ورأى الحبل يوشك أن ينساب في الماء فأخرج سكينة من جرابها وقطع الحبل، واحتمل كل ثقل الحبل العالق بالسمكة الضخمة على كتفه اليسرى ثم قطع الحبل، والحبل القريب منه، وعقد أطراف الحبال المزدوجة بعضها ببعض في الظلام فجعلها حبلاً واحداً وشدها إلى لفة الحبال الاحتياطية.

أنجز كل هذه المهمة بمهارة فائقة مستعيناً بيده وقدمه في عقدها واطمأن عندما أدرك أن لديه ستة حبال احتياطية حبلين في كل طعم، وحبلين آخرين في الطعم الذي يعلق السمكة الكبيرة أصبحت كلها حبلاً واحداً يتيح له أن يرخي العنان للسمكة كما يشاء.

وقال لنفسه :

عندما يبزغ ضوء الفجر ، سأقطع الحبل الذي ينساب إلى خمسة وأربعين غوراً هو الآخر واصله بالحبال الاحتياطية وأكون بهذا قد ضمنت أن تمتد حبالي وراء السمكة الضخمة إلى مائتي غور، كل هذا البتر يمكن تعويضه ولكن شيئاً في الوجود لا يعوض هذه السمكة.

لست أدري ما نوع السمكة التي التهمت الطعم الآن قد تكون من نوع التونة، أو غيرها، لم أحس بها أبداً ينبغي لي أن اتخلص منها بسرعة.

وعاد يذكر الغلام ويقول :

كم كنت اتمنى أن يكون الغلام معي.

ثم استدرك قائلاً :

ولكن الغلام ليس معي، إنك وحدك أيها العجوز وليس امامك إلا أن تعمل إلى آخر حبل يبقى معك، في النور أو في الظلام سيان !.

قال هذا ... وتكاثر حوله الظلام، وعجت السمكة في عمق الماء عجة ألقتة على وجهه فارتطم بخشب الزورق فأصيب بجرح تحت عينه، وسال الدم على خده وجرى في شئونه ثم لم يلبث ان تجلط وجف قبل أن يصل إلى ذقنه.

واعتدل العجوز في حنية الزورق واستند إلى الواحه فأحكم لفة الجوال حول عنقة، وأصلح من وضع بقيته المحشوة بين ظهره والحبل، ليحز في جنب آخر من كتفيه وهنا أحس عجة أخرى للسمكة، فأدرك أنها لا تزال توغل في الماء وراح يسائل نفسه.

لماذا عجت السمكة هذه العجة في الماء لابد أن يكون الحبل قد اصاب ظهرها العالي بيد أني لا أحسب أن ظهرها يستشعر ألماً كالذي أحسه في ظهري ولن تستطيع هذه السمكة أن تجر الزورق إلى الأبد، مهما كبر حجمها.

ثم راح يخاطب السمكة :

والآن تفرغت لك، وانتهيت من كل ما يشغلني واصبح لدي احتياطي كبير من الحبال، كأقصى ما يتطلع إليه صياد.

ومضى يحدثها بصوت مرتفع:

أيتها السمكة، سأظل معك حتى أموت !

وهي الأخرى ... ستظل معي على ما اعتقد.

ومضى العجوز في انتظار نور الفجر، وكانت البرودة قد اشتدت في ذلك الهزيع قبيل انبلاج النور فالتصق العجوز بخشب الزورق يلتمس شيئاً من الدفء وهو يقول لنفسه:

ان لي صبراً كصبر هذه السمكة.

ومع الخيط الأول من النور جعل الحبل يترجح في الماء والزورق يترجح معه.

وحينما بدأت أول انحناء من قرص الشمس كان الحبل على الكتف اليسرى للعجوز الذي جعل يقول :

إن السمكة تتجه شمالاً، أما التيار فإنه يتجه صوب الشرق.

ليت هذه السمكة تسير مع التيار، فإنها تكون إذن قد أصابها الاعياء.

وازدادت الشمس سموقاً.

وأدرك العجوز أن السمكة لم تتعب بعد.

على أنه كان هناك بصيص ضئيل من الأمل ذلك أن انحراف الحبل في الماء كان يشير إلى أن السمكة اخذت تسبح في مستوى أعلى مما كانت تسبح فيه ومهما يكن من أمر فإن هذا لا يقطع بأنها تزمع ان تقفز إلى السطح ولكن يجوز !

وقال العجوز :

ليعنها الله على القفز، ان عندي من الحبال ما يكفل الصمود لها.

ثم حدث نفسه:

لعلي إذا شددت عليها النكير، أحست بالألم فقفزت إلى السطح.

وقد طلع ضوء النهار، وقد يغريها بالقفز لتملأ خياشيمها بالهواء، ثم لا تقوى بعدئذ على الغوص فتموت.

واستجمع قواه ليشدد عليها النكير، ولكن الحبل انجذب من بين يديه حتى بلغ غاية التوتر.

ومال العجوز ظهرياً، وعاود جذب الحبل حتى لم يعد يحتمل أي مزيد، ثم أدرك انه ليس من الحكمة ان يعبث الخطاف بحلق السمكة، لأن كل هزة توسع الفجوة في حلقها، وقد ينتهي الأمر بأن يفلت منه الخطاف.

قال العجوز:

مهما يكن من أمر، فإني أحس الآن انني أحس مما كنت بعد ان اشرقت الشمس، على انه لا ينبغي لي أن أحدق في وجها.

وكان بعض الأعشاب الصفراء قد تعلق بالحبل، وأدرك العجوز أن هذه الأعشاب لن تزيد الحبل إلا اغراء بإخفاء معالمه فانشرح صدره لهذا الخاطر.

إنه عشب الخليج الاصفر، الذي ينشر على وجه الماء اشعاعات فوسفورية في الظلام.

وراح العجوز يحدث السمكة:

أيتها السمكة اني أحبك واحترمك كثيراً، ولكني سأصرعك حتى الموت قبل أن ينتهي هذا اليوم.

وقال في حديثه:

ـ لنتعلق بهذا الأمل..

وأقبل طائر صغير من الطيور المغردة، قادماً من الشمال، وحلق على مقربة من سطح الماء، فأدرك العجوز أن الطائر قد بلغ آية العناء.

واستراح الطائر على صدر الزورق، مستقراً عليه، ثم لم يلبث أن طار مطوفاً حول رأس العجوز.ثم راق له أن يقف على الحبل.

وسأله العجوز:

ـ ما عمرك؟.....أو هذه رحلتك الأولى؟

وظل الطائر يتطلع إليه إذ هو يتكلم، ثم راح يقبض بقدميه الرقيقتين على الحبل، فقال له العجوز:

ـ انه ثابت كل الثبات. وما كان لك أيها العزيز أن تتجشم كل هذا العناء في ليلة كهذه، بلا ريح...ولكن حدثني...لماذا تأتي الطيور إلى هنا؟

وحدث العجوز نفسه:

ـ أن الصقور تفد إلى البحر لتلتقي بمثل هذا الطائر.

ولكنه لم يقل هذا الطائر، لأن الطائر لا يفهم لغته، ولابد أن يعرف قصة الصقور يوماً ما.

ثم قال للطائر:

ـ خذ نصيبك من الراحة أيها الطائر الصغير. ثم اذهب إلى موعدك مع القدر، كأي إنسان، أو أي طائر، أو أية سمكة.

وراق للعجوز أن يثرثر، لأن ظهره كان قد تظلب واشتد به الألم أثناء الليل.

وعاد يقول للطائر:

ـ أغرب عن مأواي إذا شئت. ويؤسفني أنني لا أستطيع نشر الشراع لآخذك فيه مع هذه النسمة الخفيفة التي بدأت تهفو. على أني أحس الآن أن معي صديقاً.

وهنا اهتزت السمكة هزة مفاجئة ألقت العجوز في حنية الزورق، وكانت زعيمة بأن تقذف به خارج الزورق، لولا أنه تماسك وأرخى لها بعض العنان.

وطار الطائر بمجرد اهتزاز الحبل دون أن يراه العجوز الذي تحسس الحبل بيمناه في حذر، فاستكشف أن يده تدمي، فقال بصوت مرتفع:

ـ لابد أن شيئاً قد آلم السمكة.

وأراد أن يجرب حظه معها مرة أخرى، فعاد يجذب الحبل لعل السمكة تخرج.وعندما أدرك الحبل غاية التوتر، عاد العجوز فأرخى العنان وهو يقول للسمكة:

ـ إنك تحسين بالألم الآن..وأنا أيضاً.

ومضى يتلفت حوله باحثاً عن الطائر الذي استراح إلى صحبته، فلم يجد له أثراً، فراح يناجيه:

ـ انك لم تطل الاقامة. على أن الإقامة هنا كانت أقل قسوة عليك مما أنت ماضٍ إليه...إلى أن تدرك الشاطئ.

ثم رجع العجوز إلى نفسه يحدثها:

ـ ولكن...لم تركت السمكة تصيبني بهذا الجرح..وبهذه المفاجأة؟

كم أنا غبي..لعلي كنت مشغولاً بأمر هذا الطائر الصغير...والآن..سأوجه كل همي إلى عملي. وينبغي لي أن آكل التونة حتى لا أفقد قواي.

ولكنه رجع يصيح:

ـ كم كنت أتمنى لو كان الغلام معي..ولو كان معي أيضاً بعض الملح!

وثقل الحبل على كتفه اليسرى، فانحنى بحذر فغسل يده الجريحة في مياه المحيط وأبقاها في الماء حيناً وهو يلمح الدم يسيل منها.....والزورق يتحرك وئيداً في الماء.

ـ لقد تباطأت السمكة في السباحة.

وود العجوز أن يدع يده في الماء الأجاج مدة أطول، لولا أنه أشفق من هزة أخرة للسمكة تلقي به في الماء، فنهض على قدميه في الزورق، وشد قامته.وعرض يده الجريحة للشمس، فأدرك أن لسعة سخونة الحبل هي التي جرحت يده.

ولكن الجرح أصاب مكمن القوة في يده، وهو يعلم أنه في حاجة إلى يديه معاً، إلى أن ينتهي من رفع هذه السمكة من جوف الماء، وأنه لم يبدأ هذه المهمة بعد.

وحين جف الدم على يده، قال:

ـ والآن .آكل السمكة الصغيرة.

وانحنى فتناول سمكة التونة من تحت الصاري، وشد الحبل إلى كتفه اليسرى ثانية، وقطع التونة إلى ست شرائح. نشرها على لوحات حنية الزورق. ومسح سكينه في سرواله.ثم حمل بقايا سمكة التونة من ذيلها وألقى بها في الماء وهو يقول:

ـ لا أحسب أنني أستطيع أن آكل سمكة برمتها.

وأعمل سكينه في إحدى الشرائح وهو لا يزال يحس انجذاب الحبل في الماء.

واستشعر تقلصاً في يده اليسرى، فقد ثقلت عليها وطأة الحبل، فقال يحدثها:

ـ أية يد أنت...تقلصي ما شئت، فهذا لن يعفيك من العمل.

ونظر إلى الماء القاتم يرقب الحبل، ثم قال محدثاً نفسه:

ـ كل...يشتد ساعدك، وتقو يدك، على أن الذنب ليس ذنب يدك. بل أنك أنت الذي قضيت ساعات طويلة مع هذه السمكة، ولكنك لن تستطيع أن تظل معها إلى الأبد.كل التونة الآن.

ومد يده إلى قطعة منها فألقى بها في فمه، وجعل يلوكها ببطء،فوجدها طيبة المذاق.

وهمس لنفسه:

ـ امضغها جيداً، وابتلع كل عصيرها، ما كان أطيبها لو كان عليها بعض الملح، وقليل من الليمون.

ونظر إلى يده المتقلصة وجعل يسألها:

ـ كيف حالك الآن يا سيدي، سأستزيد من الأكل..من أجلك.

وتناول القطعة الباقية من الشريحة التي كان قد قدها شطرين، ومضغها بعناية، ثم بصق ما كان حولها من الجلد.

وتطلع إلى يده مرة أخرى وسألها:

ـ بم تحسين الآن؟..أم إن موعد السؤال لم يحن بعد.

وتناول شريحة أخرى كاملة فلاكها في فمه، وهو يقول لنفسه:

ـ انها سمكة قوية مليئة بالدم.كان من حسن الطالع أن أظفر بها، إنها ليست بدلفين. إن لحم الدلفين مفرط في الحلاوة، أما هذه فحلاوتها خفيفة جداً، ولاتزال كل قواها كامنة فيها.

وأدرك العجوز أن لا مناص من الواقعية، فليس هناك بديل عنها.

وقال يحدث نفسه:

ـ كنت أتمنى أن يكون معي بعض الملح، ولست أدري هل تفسد الشمس ما بقي من الشرائح أم تجففه،ولهذا لابد أن آكل بقية الشرائح،برغم أني لست جوعان.. إن سمكتي الضخمة هادئة ومنتظمة السير في الماء.. سآكل هذه الشرائح، ثم أعود إلى السمكة.

وعاد يتأمل يده ويقول لها:

ـ اصبري يايدي .. إنني أصنع كل هذا من أجلك.

ثم حدث نفسه:

ـ كم كنت أتمنى لو استطعت أن أطعم هذه السمكة، إنها أختي.

بيد أنه لا مناص من قتلها، ولابد أن أحتفظ بقواي لهذه المهمة.

وأتى العجوز على الشرائع كلها، ثم شد قامته، ومسح يديه في سرواله، وقال ليده:

والآن .. تستطعين أن تتركي الحبل،وستتولى يمناي مهمة الإمساك به حتى يزول عنك هذا العارض السخيف.

وأرسى قدمه اليسرى على طرف الحبل الذي انطلق من يسراه، ودعا الله:

ـ ليشفني الله من هذا التقلص، فإني لا أعرف ماذا تدبر لي هذه السمكة، ولكنها تبدو هادئة ولاتزال تسير وفق خطتها المرسومة، أما أنا.. فما خطتي؟ يجب أن تكون أبرع من خطتها،لأنها سمكة كبيرة الحجم، فإذا قفزت ،فلا بد أن أصرعها، أما إذا استقرت في جوف الماء،فسأهبط معها.. إلى الأبد!

وجعل العجوز يحك أصابع يده المغلقة في سرواله، ويلين أصابعها دون أن تنفرج، فقال:

ـ لعلها تنبسط مع الشمس، أو حينما أهضم لحم سمكة التونة القوية في معدتي، وإذا جد الجد، فسأفتح هذه اليد بالقوة، مهما تكن النتيجة، على أني لا أحب أن استخدم القوة معها الآن.. والواقع أنني أسأت استغلالها كثيراً في الليل، حين اضطررت إلى قطع الحبال المختلفة وشدها بعضها إلى بعض.

وتلفت العجوز إلى البحر حوله، فأحس بالوحدة، ومخروطات الضوء المنعكس في الماء القاتم العميق، وتموجاتها الرتيبة، تزيد من شعوره بالوحشة.

وكانت السحب تتجمع وقتئذ ايذاناً ببدء هبوب الرياح التجارية.

ونظر العجوز أمامه، فرأى سرباً من البط البحري يتأرجح في الجو فوق سطح الماء، ويهبط ويعلو، ثم يهبط ويعلو.

ولم يذكر أن إنساناً على الأرض قد أراد لنفسه مثل هذه الوحدة في البحر.

وأدرك لماذا يخشى الناس أن يغيبوا عن مدى الرؤية من الشاطئ.. ولاسيما إذا كانوا في زورق صغير كهذا، وفي أوان تكثر فيه مفاجآت الجو، فهذه شهور الزوابع.

واستراح لخاطر آخر.. هو إنه إذا لم تهب الزوابع في هذا الفصل من العام، فإنه يكون دائماً أجمل فصول العام.

على أنه عرف أن الزوبعة إذا اقتربت،فإن سماتها تبدو في السماء قبل هبوبها بأيام إذا كان المرء في البحر.. أما إذا كان على الشاطئ فإنه لايلمح هذه السمات لأنه لايعرف عندئذ إلام يتطلع.

وليس هناك أي نذير بزوبعة قادمة.

وتطلع العجوز إلى السماء، فرأى أكداس السحب تتجمع كأنها تلال لذيذة من المثلجات، يعلوها ريش رفيع يضرب في أجواء سبتمبر العالية.

وقال العجوز:

ـ نسمة خفيفة.. الجو أنسب لي منك أيتها السمكة:

وكانت يسراه لاتزال على تقلصها،فحاول أن يفضها بهوادة، وقال لنفسه:

ـ إنني أكره التقلصات.. إنها خيانة يواجهها المرء من ذات جسمه، ولا سيما حين يكون في مثل هذه الوحدة.. لو أن الغلام كان هناك لدلك ذراعي حتى تنفرج قبضتي.. على أنها ستنفرج بإذن الله.

وأحست يمناه بتغير في درجة انجذاب الحبل، قبل أن يرى بعينيه تبدل انحرافه في الماء.

وانحنى على الحبل،وضرب يسراه في فخذه بعنف وسرعة.. وهنا رأى الحبل يصعد ويئداً، فصاح بيده:

ـ إن السمكة صاعدة، هيا يايدي.. أتوسل إليك .. انبسطي.

وأخذ الحبل يصعد قادماً في بطء .. ثم بدأ له ماء المحيط ينفرج ليفسح الطريق.. ثم أطلت السمكة!

وجعلت تبرز وتبرز،كأن طولها لا ينتهي، والماء يتدفق عن جانبيها، كانت تلمح في وهج الشمس، أما رأسها وظهرها، فكانا كالأرجوان القاتم وعلى جانبيها خطوط عريضة كلون “ اللاوندة” الخفيفة.

أما رمحها، فكان طويلاً كمضرب الكرة، وقد استدق طرفه كالسيف، ورفعت السمكة قامتها في الماء، ثم عادت فغاصت برفق كأنها سباح متمكن.

ولمح العجوز ذيلها الصارم كحد السيف يهبط، والحبل يهبط وراءه.

وقال العجوز:

ـ إنها أطول من زورقي .. بقدمين.

وأرخى العنان للحبل وراء السمكة بسرعة وانتظام، دون أن يلحظ أي أثر للذعر على السمكة.

وأفرغ جهده محاولاً بكلتا يديه أن يرخي لها العنان إلى أبعد حد.

حتى لاتفلت، وقد أدرك أنه إذا لم يستطع أن يحد من سرعتها بشيء من الجذب المنتظم، فإن مثل هذه السمكة قمينة بأن تقطع الحبل وتمضي به.

وهمس لنفسه:

إنها سمكة ضخمة، ويجب أن أقنعها بالعودة، ولا ينبغي لي أن أوقفها على مدى قوتها.. وأنها تستطيع الفكاك مني، لو كنت مكانها، لظللت أسبح وأسبح إلى أن أفلت من الحبل، ولكن السمك ليس مثلنا والحمد لله.. ليس له نكاؤنا نحن صياديه.

لقد رأى العجوز في حياته كثيراً من الأسماك الكبيرة.

رأى أسماكاً تزن الواحدة منها أكثر من ألف رطل.

وقد أمسك باثنتين من هذا النوع في حياته.

ولكنه لم يكن وحده أبداً!

أما الآن، فإنه وحده، بعيداً عن مدى الرؤية من الشاطئ وأما هذه السمكة، فإنها أسرع من أكبر سمكة رآها، وأكبر من كل سمكة سمع بها!

كانت يسراه لاتزال منقبضة، كأنها مخلب نسر، فقال لنفسه، ولكنها ستنبسط لابد أنها ستنبسط لتساعد اليمنى، فهناك ثلاثة أشياء كالأشقاء: السمكة ويداي.. يجب أن يزال هذا التقلص أنها لاتستأهل التقلص.

وتباطأ سير السمكة مرة أخرى وهبطت إلى مكانها الأول.

وتساءل العجوز:

فيم إذن قفزت إلى السطح؟ لعلها قفزت لتخيفني بحجمها، وقد عرفت الآن.. كم اتمنة أن أريها أنا الآخر أي نوع من الرجال أكون.. ولكنها لو رأتني لعرفت أن يدي متقلصة دعها تحسب أنني أقوى مما أنا وسأكون عند حسن ظنها بي.. ليتني كنت أنا السمكة بكل ما فيها، وهي لاتواجه إلا عزيمتي وذكائي.

واستند قليلاً إلى خشب الزورق ليستريح ويوطن نفسه على احتمال آلامه.

وظلت السمكة تسبح تحت الماء بانتظام، والزورق يتحرك وراءها وئيداً في الماء القاتم، وقد بدأت الريح تهب من الشرق فتعلو بماء البحر علواً خفيفاً.

وعندما جاءت الظهيرة كانت يد العجوز قد انفرجت فقال يناجي السمكة:

أنباء سيئة لك يا سمكتي..

وشد الجوال الذي يغطي كتفيه اللتين تشدان الحبل.

كان لايزال يحس الألم، ولكنه كان هادئاً متماسكاً لايعترف بالآلام.

وقال لنفسه:

أنا لست متديناً، ولكني أتوسل بجميع الآباء المقدسين وبجميع العذارى المقدسات، عشرات المرات، أن أظفر بالسمكة واعد بالحج إلى مقر العذراء لو أنني ظفرت بها أنه عهد أقطعه على نفسي.

وبدأ يردد صلواته بطريقة آلية، والعناء يبلغ به في بعض الأحيان إلى حد نسيان أدعيته، فيسارع بترديد نغماتها حتى تعاوده كلماتها من تلقاء ذاتها.

وأنهى صلواته وختمها بقوله: آمين!

ثم أضاف:

أيتها العذراء المقدسة صلي من أجل مصرع هذه السمكة مهما تكن جبارة!

وأحس بعد ترديد صلواته ودعواته أنه أحسن مما كان ولو أن آلامه كانت لاتزال على حالها أو أشد قليلاً، وانحنى على لوح حنية الزورق، وراح يتحسس الحبل بأصابع يده اليسرى

وكانت الشمس قائظة لولا نسمة رقيقة تخفف من حدتها.

وقال لنفسه:

أظن أنه يجدر بي الآن أن أعيد الطعم إلى الحبل الصغير الباقي عند الصاري حتى إذا ما قررت السمكة أن تبيت في الماء ليلة أخرى، وجدت ما أتبلغ به إذا أحسست بالجوع، أما الماء ففي القارورة منه قليل، لا أظن أنني مستطيع أن أظفر في هذا المكان بأكثر من دلفين.

ولا بأس به لو أكلته طازجاً ليت سمكة طائرة تطوق بي الليلة ولكني لا أحمل مشعلاً أجتذبها بضوئه.. إن السمك الطائر شهي إذا أكل نيئاً.

ولا حاجة بي إلى تقطيعه.. ويجب أن أدخر كل قواي الآن يا الله لم أكن أتصور أن هذه السمكة ضخمة إلى هذا الحد.. على أني سأقتلها برغم عظمتها وروعتها.

ثم عاد يقول لنفسه:

قد لايكون هذا عدلاً.. ولكني سأريها ما يستطيع الرجال أن يفعلوا ومدى ما يحتملون لقد كنت أقول للغلام انني عجوز عجيب وقد آن الأوان لإثبات هذا القول.

ولقد أثبت العجوز هذا القول فيما خلا من أيامه ألوف المرات.

ولكن هذه الجولة هي مرة المرات.. إن كل جولة هي مرة جديدة.. وهو لايفكر في أية معركة سابقة إذا كان في غمار معركة قائمة.

وقال لنفسه:

ـ ليت هذه السمكة تنام .. حتى أنام أنا الآخر وأحلم بالسباع.

لست أدري لم لم يبق في ذاكرتي إلا السباع؟

لست أدري، أنها العجوز.. اتكئ الآن قليلاً على الألواح..ولاتفكر في شيء،ودع السمكة تعمل، أما أنت، فأبذل أقل مجهود.

وكان العصر.. والزورق لا يزال يتحرك ببطء وانتظام، ونسمة نصف خفيفة تقبل من الشرق.. وحز الحبال في ظهره يؤلم ألماً شديداً.

وبدأ الحبل يرتفع مرة أخرى، وراحت السمكة تسبح على مستوى أعلى مما كانت فيه.. دون سطح الماء.

وكانت الشمس تلفح ذراع العجوز اليسرى وكتفه وظهره، فأدرك أن السمكة تتجه إلى الشمال الشرقي، ولمحها مرة أخرى تحت الماء.

وتساءل أهي مستطيعة أن تراه وهي على هذا العمق الصغير؟

ـ ان عينيها كبيرتان،عيون الخيل أصغر من عينيها.. ومع هذا فإن الخيل ترى في الظلام.. وأنا الآخر.. كنت أحسن الرؤية فيما مضى،في الظلام.. لا في الظلام الدامس،بل كما ترى الهرة.

وكانت حرارة الشمس وتحركات أصابعه المنتظمة على الحبل قد ذهبت بكل تقلص في يسراه، وبدأ يعالج الحبل بالتوتر وهو يشد عضلات ظهره، التي تتألم من الحبل الملفوف حولها.

ثم قال للسمكة:

ـ إذا كنت لم تتعبي حتى الآن، فإنك إذن لعجيبة العجائب.

أجل .. لقد نال العناء منه كل منال، وأدرك أن الليل لن يلبث أن أرخى سدوله.. فجعل يفكر في ألف شيء وشيء.

جعل يفكر في نهائيات الدوري،وكان يعلم أن فريق يانكي يويورك ينازل نمرة ديترويت.

وقال لنفسه:

ـ هذا ثاني يوم لا أقف فيه على النتائج، ولكن يجب أن أكون مليئاً بالثقة بديماجيو العظيم، حتى عندما يشتد النخس على كعب قدمه.. ترى هل تؤلمه عظمة الكعب إلى حد كبير؟... إننا لم نجربها أتراها تؤلم ألم الديكة عندما تتصارع؟ لا أحسب أنني استطيع احتمال آلام الديكة حينما تتصارع وتفقأ عيونها.. ومع هذا تواصل المعركة.

ما أضأل الإنسان إذا قيس بالطيور الجارحة والوحوش الضارية ومع هذا.. كنت أؤثر أن أكون أنا ذلك الحيوان الرابض في جوف الماء.

ثم علا صوت العجوز وهو يقول:

ـ اللهم إلا إذا أقبلت الحيتان.. فإن هي أقبلت فليرحم الله هذه السمكة وليرحمني أنا الآخر.

وسأل نفسه:

ـ هل تعتقد أن ديماجيو العظيم كان يستطيع أن يصبر على هذه المشكلة صبري عليها؟.. أنا واثق أنه يستطيع، ولا سيما أنه أوفر مني قوة وشباباً.. وقد كان أبوه صياداً.. ولكن ترى أتؤلمه عظمة كعبه؟.. لست أدري.. أنني لم أجربها قط.

وغربت الشمس..

ولكي يزود نفسه بمزيد من الثقة، جعل يفكر في حانة الدار البيضاء، حيث تبارى ذات يوم من أيام شبابه مع زنجي في لعبة الذراع الحديدية.

وكان هذا الزنجي أقوى عمال الرصيف، وقد قضيا نهاراً كاملاً وليلة كاملة.. يتباريان على الفوز دون أن يستطيع أحدهما ثني ذراع الآخر على المائدة.

وكان الناس قد تكاثروا حولهما وأسرفوا في الراهنة عليهما، وجعلوا يخرجون ويدخلون.. والمباراة لا تزال قائمة.

أما الحكام فقد جعلوا يتبدلون كل أربع ساعات بعد انقضاء الساعات الثماني الأولى.. إلى أن نام الحكام، ونفرت الدماء من أصابع المتبارين، وراح كل منهما يحملق في عيني الآخر.. وينظر إلى يديه وإلى رسغه.

وظل المتراهنون عليهما يروحون، ويغدون، ويدخلون، ويخرجون، ويعتلون المقاعد العالية يرقبون المعركة تحت أضواء مصابيح الكيروسين.

كانت جدران الحانة مصنوعة من الخشب المطلي باللون الأزرق اللامع، والمصابيح تلقي ظلالها على المتبارين، وظل خيال الزنجي الضخم يتحرك على الحائط كلما هزت الريح المصابيح.

وتراوحت الفرص بينهما طول الليل، وكان القوم يسقون الزنجي كؤوس الروم ويشعلون له اللفافات وهو رابض في مكانه.

وكان كلما احتسى جرعة من الروم اشتد ساعده وبذل مجهوداً جباراً للغلبة.

وكان يظفر مرة بالعجوز، الذي لم يكن عجوزاً يومئذ، بل كان اسمه البطل سانتيتاجو.. كان يظهر مرة به ويثني ذراعه نحو ثلاث درجات.

ولكن سانتياجو تماسك على الفور وقوم ذراعه، واحتفظ بتوازنها وامتلأ ثقة أنه سيفوز على الزنجي.

وكان هذا الزنجي رياضياً كبيراً رقيق الحاشية.

وعندما انبلج ضوء النهار وأراد المتراهنون أن يعتبروها مباراة متعادلة، وهز الحكم رأسه في حيرة، استجمع سانتياجو قواه، وشدد نكيره على ذراع الزنجي، وجعل يهبط بها ويهبط، حتى طرحها على المائدة.

بدأت المباراة صباح الأحد وانتهت صباح الاثنين حيث طال إلحاح المتراهنين على اعتبارهما متعادلين.. لأنهم كانوا يريدون الانصراف إلى أعمالهم على الأرصفة، يحملون أكياس السكر، أو يعملون في شركة هافانا للفحم.

ولولا نداء العمل، لتمنى الجميع أن يبقوا وان تستمر المباراة إلى أن تنتهي.

على أن سانتياجو أنهاها قبل أن تدق ساعة العمل وينصرف إليه الناس.

وقد ظل الناس عقل هذا الحادث لا ينادون سانتياجو إلا باسم البطل.

وتقرر بعد هذا أن تقام مباراة ثأرية بين الرجلين في الربيع وكان المتراهنون قلة هذه المرة.. واستطاع سانتياجو أن يتغلب على غريمه بسهولة.. إذ إنه أفقد الزنجي ثقته بنفسه منذ المرة الأولى.

وخاض سانتيجو عدة مباريات بعد هاتين، ثم انتهى من كل ذلك حينما أدرك أنه يستطيع أن يتغلب على أي منازل، ولكن على حساب ضعاف يمناه، وهي أداة رزقه كصياد.

ثم خاض بعض المباريات بيده اليسرى، ولكنها كثيراً ما غدرت به، ولم تحقق ما عقد عليها من آمال، وهكذا فقد ثقته في يسراه عاودته كل هذه الذكريات..

ثم ذكر أن الشمس قد أدفأت يسراه فلن تتقلص مرة أخرى إلا إذا اشتد البرد في الليل.

وسأل نفسه:

ـ لست أدري ماذا تجيء به هذه الليلة؟

وحلقت فوق رأس العجوز طائرة في طريقها إلى ميامي، ورأى ظلها في الماء يطوي سرباً من الأسماك الطائرة، فقال:

ـ لابد أن يكون هناك دلفين وراء كل هذه الأسماك الطائرة الكثيرة.

ومال إلى الأمام يتأمل الحبل، لعل هناك فرصة سانحة للظفر بالسمكة، على غير طائل.

وظل الزورق يتحرك قدماً في انتظام وبطء والعجوز يرقب الطائرة إلى أن غابت عن عينيه .فجعل يحدث نفسه:

لابد أن يكون ركوب الطائرة أمراً عجيباً ترى كيف يكون مشهد البحر من هذا الارتفاع؟ أظن أن راكبيها يستطيعون أن يلمحوا السمك في البحر. لولا أنهم يطيرون على هذا الارتفاع الشاهق. كم أتمنى أن أحلق في طائرة على ارتفاع مائتي غور، وأرى السمك من حالق، إنني لأذكر حينما كنت أعمل مع سفن صيد السلاحف، إنني كنت أصعد إلى ذروة الصاري، وأرى السمك برغم هذا الارتفاع.كان الدلفين يبدو لي عندئذ أكثر خضرة. كنت أرى خطوطه ورقشه الأرجواني. كنت أرى أسرابه كاملة وهي تذرع البحر. ولكن، لماذا تتميز الأسماك السريعة التي تعيش في التيارات القاتمة بهذا الأرجوان على ظهورها، مع خطوط ونقاط أرجوانية في أغلب الأحيان؟إن الدلفين يبدو أخضر لأنه ذهبي اللون في الواقع، ولكنه حينما يشتد به الجوع فيطلب الطعام تتجلى خطوطه الأرجوانية الممتدة على جانبيه، ولعل هذا من أثر الغضب.أو لعل هذه الخطوط تبرز عندما يلوذ بالسرعة.

وقبيل أن يهبط الظلام، مر الزورق بجزيرة واسعة المدى من أعشاب

السرخس كانت تتحرك وتتماوج في المياه كأنما المحيط يهتز فوق شيء ينام تحته في لحظة من لحظات الهوى, وقد غطى ظهره بملاءة صفراء!

وعلق الحبل الصغير بدلفين كان العجوز قد لمحه من قبل, حين قفز في الهواء ولمع كقطعة من الذهب في ضوء آخر شعاعات الشمس المودعة.

وظل الدلفين بعد أن علق بالخطاف يثب ويثب من الخوف كأنه لاعب في سيرك.

وأمسك العجوز بحبل السمكة الضخمة بيمناه وذراعه- واجتذب الدلفين بيسراه بمعاونة قدمه اليسرى.

وعندما أصبح الدلفين على مقربة من الصاري, وهو لايزال يحاول الفكاك على غير أمل.. رفعه العجوز إلى الصاري, والدلفين لايزال يعض الخطاف في محاولة يائسة للافلات. ثم سقط في جوف الزورق بجسده الطويل المنبسط, ولم يلبث أن هدأت حركته. فخلصه العجوز من الخطاف وأعد قطعة من الطعم داخل سردينه, ووضعها في الخطاف, وألقى بالحبل الصغير في الماء من جديد.

وعاد العجوز إلى مكانه في حنية الزورق بخطا متئدة وغسل يسراه ومسحها في سرواله ونقل الحبل الثقيل من يمناه إلى يسراه وهو يرقب الشمس الغاربة إذ هي تهبط في المحيط.

ومضى يتطلع إلى الحبل, ثم قال:

- انها لم تغير رأيها بالمرة.

غير انه لاحظ من حركة الحبل في الماء ان السمكة قد تباطأت, فقال:

- سأعلق المجدافين معاً حول الصاري وأشد الحبل إليها, فتقل سرعة السمكة في الليل.

ان الليل هو موعدها مع القدر, ووعدي معه أنا الآخر.

ثم همهم لنفسه:

- من الخير أن أؤخر ذبح الدلفين قليلاً, حتى لايتسرب دمه وسأذبحه وأعلق المجدافين في الصاري, واعلق عليهما الدلفين أيضاً في وقت واحد. يجمل بي أن أترك السمكة في هدوئها الآن, ولاأزعجها ساعة الغروب انها ساعة عصيبة بالنسبة لجميع أنواع السمك.

وجفف يده في الهواء, ثم أمسك بها الحبل, واسترخى إلى الأمام قدر ما استطاع على ألواح الزورق.

وذكر أن السمكة لم تأكل حتماً منذ أن ازدردت الطعم, انها لسمكة ضخمة, فهي في حاجة إلى مزيد من الزاد.

وقال لنفسه:

- لقد أكلت شطراً كبيراً من سمكة التونة. وغداً سآكل الدلفين وسأسميه”المرجانة” سآكل شطراً منه بعد أن أنظفه, وسيكون أكثر استعصاء من التونة في المضع, ولكن ما شيء بالسهل.

وصاح بالسمكة:

- كيف حالك الآن ياسمكتي. انني بخير, ويدي اليسرى تحسنت وعندي من الزاد مايكفيني ليلة ويوماً بعدها. اقطري الزورق ماشئت أيتها السمكة.

ولكن عاد يقول لنفسه:

- لطالما عبرت بي أمور أسوأ من هذه. ان الجرح الذي أصاب يمناي تافه, ويسراي قد انبسطت وزالت تقلصاتها, وساقاي بخير. ولقد تفوقت على السمكة في مسألة التموين.

وكان الظلام قد أرحى سدوله.. إذ إن الظلام يهبط سريعاً بعد الغروب في شهر سبتمبر.

ومال العجوز إلى الأمام فاستلقى على لوحة حنية الزورق قدر ما استطاع وطلعت النجوم الأولى في السماء.

ولمح العجوز بينها نجماً لايعرف اسمه, وإن كان يعرف من أمره مايشير إلى أن هذه الوحدة تقترب من نهايتها, ولن يلبث أن يجد نفسه بين أصحابه النائمين.

وقال العجوز:

- هذه السمكة صاحبتي هي الأخرى, انني لم أر أو أسمع بمثلها في حياتي.. ولكن لابد لي من قتلها. من حسن الحظ اننا لانحاول قتل النجوم.

وجعل يفكر محدثاً نفسه:

- تصور.. لو حاول الناس كل يوم ان يقتلوا القمر! ان القمر يستطيع ان يهرب ويلوذ بالنجاة ولكن.. تصور, لو بذل انسان جهد يومه ليقتل الشمس.. من حسن الطالع اننا ولدنا هكذا.

ثم عاوده الرثاء للسمكة التي لم تطعم شيئاً على ان رثاءه لم يخفف من حدة شوقه إلى قتلها.

- كم من أفواه الناس سيأكل من لحم هذه السمكة؟ ولكن أهذه الأفواه أهل لأكلها؟.. لا. طبعاً لا.. ان هذه السمكة بعظمتها وبراعة تصرفها لاتجد من هو أهل لأكل لحمها.. انني لا أحسن فهم هذه الأمور. ولكن من حسن الطالع لاينبغي لنا ان نحاول قتل الشمس والقمر والنجوم حسبنا ان نعيش على الماء ونقتل اخوتنا الصادقين في الود.

ثم مضى يقول:

- والآن.. يجب ان أفكر في الكلاب. ان له منافعه ومخاطره.. فمن شأنه أن يقصر من طول الحبل المشدود إلى السمكة وقد يكون هذا سبباً في ان أفقد السمكة نفسها لو أنها بذلت جهداً للفكاك. وفقد الزورق خفته بثقل المجدافين عليه. ان خفة الزورق تطيل متاعبي ومتاعب السمكة ولكنها ضمان لسلامتي, إذ ان سرعة السمكة كبيرة وهي لم تستغلها بعد. ومهما يكن من أمر, فإن علي أن أذبح الدلفين قبل ان يفسد, وآكل شطراً منه لأحتفظ بقواي.. وسأستريح ساعة أخرى وأرى أهي لا تزال صامدة منتظمة السير, قبل أن أتراجع إلى الصاري لأقوم بالمهمة وأنجز ما قررت.. وفي الوقت ذاته.. أراقب تصرفات السمكة وأرى ان كان هناك أي تبدل في أمرها ان عملية المجدافين حيلة طيبة, ولكن سلامتي أمر يستحق التفكير في الوقت ذاته. وهذه السمكة من الأسماك النادرة التي قلما تصادف المرء, وهي من النوع الذي يحكم اغلاق حلقة بينما الخطاف في ركن منه. ان عذاب الخطاف لايقاس بعذاب الجوع.

وانها أمام غريم لاتدرك من هو.. وهذا سبق لي عليها.

ثم ناجى نفسه:

- استرح الآن أيها العجوز ودع السمكة تصنع ما تشاء إلى ان يحين حين الخطوة التالية.

واسترخى آونة قدرها بنحو ساعتين, ولم يلمح القمر لأنه يرتفع متأخراً في هذا الوقت من الشهر, ولم تكن لدى العجوز وسيلة لتقدير الوقت ولاكانت استرخاءاته إلا راحة نسبية. وكان لايزال يحتمل ثقل السمكة على كتفيه, ولكنه اعتمد يده اليسرى على حنية الزورق وجعل يفكر:

- كم يكون الامر أكثر يسراً لو استطعت ان أجعل الحبل أسرع مما هو الآن في انسيابه. ولكن السمكة تستطيع عندئذ ان تفلت منه برجفة صغيرة. لابد لي ان أترك الحبل فوق جسدي, وأكون متأهباً لإرخاء العنان بكلتا يدي في أي وقت.

ثم قال لنفسه:

- ولكنك لم تنم حتى الآن أيها العجوز. لقد انصرم نصف يوم وليلة كاملة. وهذا يوم آخر.. مرت جميعاً دون أن يغمض لك جفن. عليك ان تلتمس سبيلاً إلى النوم إذا سارت الأمور هادئة رتيبة. فإنك إن لم تنم فقدت توقد ذهنك.

ومضى يخاطب نفسه:

- إن لي ذهناً متوقداً كل التوقد. ان فكري يلمع كالنجوم التي هي إخوتي. على انه ينبغي لي ان أنام. ان النجوم تغفو. والشمس والقمر كذلك وحتى المحيط, ينام في أيام معينة, حينما تنعدم التيارات فتنبسط صفحته.

وسكت هنيهة ثم مضى يهمهم لنفسه:

- تذكر ان تنام ثم بعد ان تبتكر وسيلة مؤكدة لأداء الحبال لواجباتها. والآن.. عد فجهز الدلفين انه لمن الخطورة بمكان ان تصنع من المجاديف كلاباً إذا كان لابد لك ان تنام. انني أستطيع ان أبقى بلا نوم, ولكن هذا خطير أيضاً.

وبدأ يتراجع ثوب الصاري على يدي وركبتيه. وملؤه الحذر ان يزعج السمكة, فلعلها نصف نائمة.. وقال:

- ولكني لاأريد لها ان تستريح. أريد لها ان تعمل إلى ان تموت.

واستدار نحو الصاري, بحيث تتحمل يسراه, توتر الحبل الذي حول كتفيه, واستل سكينة من جرابها بيمناه.

وكانت النجوم باهرة الضوء, فرأى الدلفين بوضوح. دفع بسكينة في رأسه فاجتذبه من تحت الصاري, وركز عليه احدى قدميه, وشقه بالسكين من بطنه إلى أسفل فكه. ثم طرح السكين جانباً, وشقه بيمناه ونظفه فتهدل كرش الدلفين في يد العجوز, ففتحه فظفر في داخله بسمكتين من نوع السمك الطائر. وكانتا طازجتين جافتين, فطرح احداهما إلى جانب الأخرى وألقى بأمعاء الدلفين وخياشيمه في الماء, فهبطت بعد ان تركت لمعة فوسفورية خافتة على سطح البحر.

كان الدلفين بارداً, وقد حال لونه إلى بياض أشهب في ضوء النجوم وسلخه العجوز من جانبيه, من الذيل إلى الرأس. وألقى بالبقايا في البحر.

ونظر إلى الماء, لعل هناك جديداً من أمر السمكة, فلم يشهد إلا هبوط تلك البقايا في الماء.. فاستدار وتناول السمكتين الطائرتين مع شريحتي الدلفين إلى حنية الزورق, وأعاد السكين إلى جرابها.

كان ظهره قد تقوس من أثر الحبل المشدود حوله, وقد احتمل ثقل الحبل بيده اليمنى.

فلما استقر في حنية الزورق, ونشر الشريحتين والسمكتين الطائرتين على لوحة بجانبه, وعدل موضع الحبل حول كتفه, وامسك به بيسراه مال إلى الماء فغسل السمكتين الطائرتين وهو يرقب سرعة الماء إذ يده فيه.

وكان الماء وئيد السرى في يده.

ومسح يده في لوحات الزورق, وقال:

- لقد تعبت السمكة ولعلها الآن تستريح. فلآكل الآن من لحم هذا الدلفين ثم استريح قليلاً وأغمض جفني إلى حين.

وأكل نصف شريحة من لحم الدلفين تحت ضوء النجوم. وكان البرد قد اشتد إلى حد ما. ثم أكل سمكة طائرة بعد ان بتر رأسها وألقى بأمعائها.

وقال لنفسه:

- ماأشهى لحم الدلفين لو انه كان مطهواً وماأقبحه نيئاً. لن أركب الزورق بعد الآن إلا إذا جئت معي بالملح والليمون.

ثم عاد يقول:

- لو كنت ذكياً, لألقيت ببعض ماء البحر في حنية الزورق طول النهار حتى إذا جف تحول إلى ملح. بيد اني لم أظفر بالدلفين إلا عند الغروب. ومهما يكن من أمر, فانه سوء استعداد على اني مضغته دون ان أشعر بالغثيان.

14

وكانت السماء تتلبد بالغيوم شرقاً. وبدأت النجوم التي يعرفها تختفي وراء الغيوم واحدة بعد الأخرى.

وبدا له كأنما هو موغل في سلسلة من جبال الغيوم, وقد هبطت الريح فقال لنفسه:

يبدو ان الجو لن يسوء, لا اليوم ولا في غد. انه لن يسوء قبل ثلاثة أيام أو أربعة.. استلق الآن لتظفر بشيء من النوم أيها العجوز, فالسمكة هادئة رتيبة السير.

واحكم الحبل في يده اليمنى. وأسندها بفخذه ولاصق بجسده لوحات حنية الزورق وعدل من حز الحبل حول ظهره ووضع يسراه فوقه, وهمس لنفسه:

- ان يمناي تستطيع ان تمسك بالحبل طالما هو متوتر. فإذا استرخى وأنا نائم فان يسراي توقظني عند استرخائه. ان يمناي قاسية على السمكة, ولكن السمكة قد تعودت العقاب. وحسبي ان أغفو ثلث ساعة أو نصف ساعة.

وانكفأ العجوز على الحبل بكل جسده رامياً كل ثقله على يده اليمنى.

وأسلم جفنيه للنعاس.

ولم يحلم بالسباع هذه المرة. بل رأى فيما يرى النائم سرباً من السمك يشبه الدلفين, يمتد نحو ثمانية أميال أو عشرة, وهو في موسم التلقيح. وقد أخذ يعلو في الجو ثم يعود إلى نفس المجرى الذي شقه في المياه أول ما برز.

ثم حلم بأنه في القرية, راقداً على مخدعه, وقد هبت رياح الشمال فأحس بالبرد القارس, وخذلت يمناه, لأن رأسه قد توسدها وأطال المكث عليها.

ثم عاوده حلم الشاطئ الأصفر الطويل. ورأى أول السباع مقبلاً نحو الشاطئ في الهزيع الأول من الليل. ثم توافدت السباع الأخرى, وقد أسند العجوز ذقنه إلى حافة السفينة التي ألقت مراسيها في الماء بعيداً عن الشاطئ, وراح يتطلع إلى المشهد, ويرتقب مزيداً من السباع, وهو يستشعر سعادة بالغة.

وكان القمر قد ارتفع في السماء منذ حين, ولكن العجوز ظل مستسلماً للنوم, والسمكة تقطر الزورق في رتابة, والزورق يتحرك في نفق من السحب.

وصحا العجوز على رجفة في يمناه التي ارتفعت حتى كادت تلطم وجهه والحبل فيها.

ولم يشعر بيده اليسرى, ولكنه جذب الحبل بكل مافيه يمينه من قوة, فانفلت الحبل بين قبضتها. فأسرعت يسراه إلى غوث اليمنى وجعلتا تجتذبان الحبل معاً.

وانحنى العجوز على الحبل الذي ألهب ظهره ويسراه, وكانت اليسرى قد احتملت أكثر العبء وجرى فيها حز مؤلم.

وفي هذه اللحظة, وثبت السمكة وثبة هائلة في المحيط, ثم دبت دبة ثقيلة, ثم جعلت تثب مرة أخرى وثالثة ورابعة.

وانطلق الزورق بسرعة وكان الحبل شريكاً في هذا السياق. والعجوز يبذل من توتر الحبل مداه مراراً وتكراراً, حتى انكفأ على وجهه في حنية الزورق وانغمس وجهه في الشريحة الباقية من الدلفين.

ولم يعد يستطيع حراكاً.

وقال العجوز:

- هذا ما كنا نتوقع.. فلنواجه الأمر الآن.. ولأدعها تدفع ثمن الحبل.. لتدفعن ثمنه!

لم ير العجوز وثبات السمكة.

ولكنه سمع لطماتها في مياه المحيط, وارتطامها الثقيل وهي تهبط على سطحه. وكانت سرعة الحبل تحز في يديه بقسوة ولكنه كان يتوقع ان أمراً كهذا لابد ان يحدث.

وحاول جهده ان يبقي مواضع الحز في يديه بعيدة عن الحبل دون ان يدع الحبل يزحف على كفه أو يصيب أصابعه بسوء.

وجعل يقول:

- لو كان الغلام هنا.. لبلل لفة الحبل. أجل.. لو كان الغلام هنا!.. ليته كان معي.

وظل الحبل يستطيل ويستطيل مغرباً عنه. ولو أن سرعته قد جعلت تتناقص.

واستمر العجوز يرخي العنان للسمكة قيراطاً بقيراط وهو لايزال متكفئاً, ثم رفع رأسه عن حنية الزورق بعيداً عن شريحة الدلفين التي انغمس فيها خده. ثم برك على ركبتيه ونهض الهويني على قدميه وهو يجتذب الحبل بمنتهى الضعف.

وبذل جهده ليعود إلى حيث يستطيع ان يتحسس لفة الحبال ويرى ماذا بقى فيها. إذ لم يكن يملك ان يراها في الظلام.

وأدرك ان هناك بقية من الطول في الحبال, وقد آن للسمكة ان تجتذب أكثر هذه البقية.

وقال يحدث نفسه:

- نعم لقد وثبت الآن أكثر من اثنتي عشرة مرة. وامتلأت خياشيمها بالهواء. فلن تستطيع ان تهبط إلى الأعماق لتموت هناك فلا أستطيع أن رفعها. وستمضي في تحويمها هنا على الفوز. وينبغي لي إذن ان أعالجها. ولكني أعجب ماالذي أثارها فجأة. أهو الجوع قد حملها على بذل محاولة مستميتة, أم ان شيئاً آخر قد أدخل الذعر إلى قلبها في الظلام؟ لعل خوفاً طارئاً دهمها.. ولكنها كانت سمك هادئة قوية. وكانت تبدو واثقة بنفسها, لاتخشى أي غائل. هذا أمر يستحق العجب.

ثم توجه إلى نفسه ناصحاً:

- خير لك ان تتزود بالثقة بذاتك ولا تخف شيئاً أيها العجوز: انك لاتزال ممسكاً بها. وانك لا تملك مزيداً من الحبال, ولكن السمكة لن تلبث ان تحوم حول الزورق.

واعتمد العجوز الحبل بيسراه وكتفيه وانحنى فملأ يمناه بالماء ليغسل وجهه من زفر شريحة الدلفين ثم غسل يمناه أيضاً. وتركها في الماء الأجاج وهو يتأمل الخيط الأول من الفجر, بشيراً بشروق الشمس, وقال:

- ان السمكة تسير غالباً صوب الشرق, وهذا يعني انها قد أصابها العناء واستسلمت للتيار, وستحوم حالاً. وعندئذ تبدأ مهمتي.

وأخرج يمناه من الماء بعد ان أحس أنها قد بقيت فيه مدة كافية, وتملأها, ثم قال:

- لابأس. ان احتمال الآلام من شيم الرجال.

وأمسك بالحبل في حذر بحيث لايرخي مزيداً من الحبال الاحتياطية, وانحنى ليمد يده اليسرى في الماء على الجانب الآخر من الزورق.

وقال ليسراه:

- انت لاتتألمين من أجل شيء لايستحق كل هذا العناء ولقد عبرت بي لحظة كنت لاأجدك فيها.

ثم أخذ يفكر:

- لماذا لم أولد بيدين متعادلتين في القوة؟ لعله ذنبي أنا.. إذا لم أحسن مران هذه اليد.. ولكن.. يعلم الله.. لقد أتيحت لها فرص كثيرة للمران.. على انها لم تتألم الليلة كثيراً ولم تتقلص إلا مرة واحدة, فليقطعها الحبل إذا تقلصت مرة أخرى.

وجال بخاطره ان ذهنه لم يعد صافياً, فخطر له ان يمضغ شريحة الدلفين.

ولكنه عاد يقول لنفسه:

- بل لا أستطيع. خير لي ان أبقى جائعاً من ان أفقد قواي من أثر الغثيان. واني لأعلم ان الشريحة قد التصقت بوجهي, فإذا لم أكلها فلن أستطيع ان أحتفظ بها.. على اني سأحتفظ بها لساعة الحاجة الملحة.. قبل ان تفسد ومهما يكن من أمر, فقد فات أوان نشداني القوة الآن عن طريق التغذية. كم أنت غبي أيها العجوز.. كل السمكة الطائرة الثانية!

وكانت هناك.. نظيفة مجهزة.

وتناولها العجوز بيسراه, وأكلها ماضغاً عظامها بحذر فأجهز عليها حتى ذيلها!

وقال لنفسه:

- إن فيها من الغذاء ماليس في أية سمكة أخرى.. فيها على الأقل ذلك النوع من التقوية الذي احتاجه. ولقد صنعت كل ما أستطيع فلتبدأ السمكة تحويمها. ولتبدأ المعركة.

وجعلت الشمس تصعد للمرة الثالثة منذ ان ركب العجوز زورقه في هذه الرحلة.

وهنا.. جعلت السمكة تحوم. ولم يستطع ان يرى في انحراف الحبل انها تحوم, بل أحس بمجرد تراخ فيه.

وظل الحبل ينجذب في يده مرة أخرى. فلما بلغ حد التوتر عاد يطاوع يده مرة أخرى, فانزلق العجوز بظهره من تحت الحبل, وأخذ يجذبه برفق ورتابة, مستخدماً يديه في حركة متماوجة, مستعيناً بجسده وساقيه, وراحت ساقاه وكتفاه, التي أكلها عليها الدهر وشرب, تتماوج مع حركة الجذب.

وقال العجوز:

- انها تحوم الآن.. ولكن في دائرة كبيرة.

ثم لم يعد الحبل ينجذب, فأمسك به إلى أن رأى نقط الماء تقطر منه في ضوء الشمس. ثم عاد ينجذب بعيداً. فانحنى العجوز وأرخى العنان لينطلق الحبل وئيداً في الماء القاتم.

وقال:

- انها تذهب الآن إلى أقصى محيط الدائرة. وعلي ان أحكم الامساك بالحبل بكل قواي. فان توتر الحبل يضيق محيط الدائرة في كل مرة. ولعلي أراها في خلال ساعة. علي الآن ان أقنعها بالامتثال, ثم أصرعها.

ولكن السمكة ظلت تدور وتدور.. ببطء.

وتصبب العرق على وجه العجوز بغزارة..

وأوغلت الآلام في عظامه ساعتين أخريين. على ان الدائرة كانت تضيق وتضيق على مر اللحظات.

وأدرك العجوز من انحناءات الحبل ان السمكة تعلو وتعلو كلما سبحت في الماء.

ومرت ساعة أخرى غامت خلالها بقع سوداء أمام عيني العجوز.

وملح العرق عينيه والجرح الذي فوق عينه وفي جبهته.

وعلى انه لم يفرق من مشهد البقع السوداء, فبديهي انها نتيجة توتر أعصابه من شد الحبال.

وأحس مرتين انه يكاد يغيب في اغماءة مقترنة بدوخة. مما أقلق خاطره.

وقال يستجمع عزمه:

- لاينبغي لي ان أسقط وأفشل وألقى مصرعي أمام سمكة كهذه, ولاسيما انها تسعى نحوي الآن سعياً جميلاً. فليعني الله على الاحتمال.

سوف أصلي للسماء مائة مرة.. ولكني لا أملك الآن ترديد صلواتي. فلتكتب لي هذه الصلوات, وسأؤديها فيما بعد.

وهنا أحس رجفة شديدة في الحبل، فأمسك به بكلتا يديه، وكان الحبل حاداً قاسياً ثقيلاً.

وقال العجوز:

- أن السمكة تضرب الحبل برمحها كان لابد أن يحدث هذا.. كان ينبغي أن تفعل وقد يحملها هذا على أن تقفز إلى السطح.. كنت أؤثر أن تبقى دائرة على أن الوثب ضرورة لها.. لتتنفس الهواء ولكن كل وثبة لها توسع ثغرة الخطاف، وقد تستطيع في النهاية أن تلفظ الخطاف من حلقها.

وصاح بالسمكة:

- لا تثبي أيتها السمكة.. لاتثبي!

وأخذت السمكة تضرب الحبل عدة مرات، وكانت كلما هزت رأسها أرخى لها العجوز مزيداً من الحبال.

وقال لنفسه:

- يجب أن أخفف من إيلامها.. إن آلامي لاتهم ففي استطاعتي السيطرة عليها أما آلامها فقد تدفعها إلى عمل جنوني.

وبعد قليل توقفت السمكة عن ضرب الحبل وجعلت تدور في بطء في حين أخذ العجوز يجتذب الحبل هوئاً، ويدخر مزيداً منه بانتظام.

ورفع قليلاً من ماء البحر بيسراه فبلل به رأسه ومسح قفاه وناجى نفسه:

- لا تقلص بي والحمدلله وستصعد السمكة حالاً وأنني لأستطيع أن أصمد لها.. يجب أن تصمد أيها العجوز!

وانحنى في الحنية، ووضع الحبل حول ظهره مرة أخرى وهو يقول:

- سأستريح الآن قليلاً ريثما تتم السمكة دورتها ثم أق وأعالج أمرها عندما تدنو مني.

وكان الاغراء كبيراً في استكانته إلى شيء من الراحة في حنية الزورق، ريثما تتم السمكة دورة كاملة وحدها.

ولكنه حينما أدرك من درجة توتر الحبل أن السمكة قادمة نحو الزورق، نهض على قدميه وظل يحاورها بالحبل ويتماوج حتى كاد الحبل كله يصبح رهن يديه.

وقال لنفسه:

- انني أشعر بعناء لم أشهر مثله في حياتي والآن.. هاهي ذي الرياح التجارية تهب ولكنها ستجرف السمكة معها.. أنا في أشد الحاجة إلى هذا.

وعاد يفكر:

- سأستريح خلال الدورة التالية لها وها هي ذي قد بدأت تبتعد.. أحس الآن أنني أحسن حالاً، وسأظفر بها بعد دورتين أو ثلاث.

وكانت قبعته الخوص مسترخية عند أسفل رأسه.. وغطس العجوز في حنية زورقه، وراح يجذب الحبل هوناً عندما أحس بأن السمكة تستدير.

وقال يخاطبها:

- اعملي أنت الآن وسآخذك في هذه الدورة.

وارتفع ماء البحر ارتفاعاً ملحوظاً، ولكن الريح كانت وسطاً وكان لابد منها لتعود به إلى الشاطئ.

- كل ما علي أن أوجه الدفة صوب الجنوب والغرب.. ان الرجال لا يضيعون في البحر.. والجزيرة طويلة الشطآن.

وفي الدورة الثالثة.. رأى السمكة لأول مرة.

رآها أول ما رآها كأنما هي ظل قاتم يمر تحت الزورق ويستغرق مروره لحظات طويلة إلى حد أنه لم يصدق أن تكون السمكة طويلة بهذا القدر:

وصاح:

- لامستحيل أن تكون طويلة إلى هذا الحد!

ولكنها كانت هكذا..

وعند انتهاء هذه الدورة طفت السمكة على سطح الماء، على مسيرة ثلاثين ياردة من الزورق، ورأى العجوز ذيلها يبرز خارج السطح.

كان ما بدا من ذيلها في الماء أعلى من حد المنجل الكبير، وهو فوق الماء الأزرق الداكن في لون الخزام الباهتة.

وهبط الذيل..

وجعلت السمكة تسبح تحت السطح مباشرة، وقد تجلت الخطوط الأرجوانية التي تكسوها.. وكات زعانف صدرها الضخمة على مدى واسع.

وفي هذه الدورة استطاع العجوز أن يتملى السمكة، وأن يرى سمكتين مصاصتين شهباوين تحومان حولها تلتصقان بها طوراً وتنأيان عنها تارة، وتسبحان في ظلها في بعض الآونة مطمئنتين.

كان طول كل من السمكتين المصاصتين أكثر من ثلاثة أقدام وكانتا إذا أسرعتا في السباحة صدر عنهما فحيح كفحيح الثعابين.

كان العرق يتصبب آنئذ على جبين العجوز، لامن أثر الشمس بل لأن الحبل كان ينقاد له في كل دورة للسمكة، حتى لقد أدرك أنه لم تعد لها أكثر من دورتين أو ثلاث، ثم تدنو السمكة منه فيملك أن يمسك بحربته فيطعنها في جسدها.

وقال لنفسه:

- ولكن ينبغي لي أولاً أن أحملها على أن تدنو وتدنو وتدنو.. ولا ينبغي لي أن أصيبها في رأسها، بل في القلب!

وراح يستجمع عزمه قائلاً لنفسه:

- كن قوياً وهادئاً أيها العجوز!

وفي الدورة التالية، كان ظهر السمكة إلى الخارج، ولكنها كانت بعيدة عن الزورق إلى حد ما، بيد أنها كانت أقرب إلى سطح الماء.. وكان العجوز واثقاً من أنه إذا كسب مزيداً من الحبل، زادها قرباً منه.

وكان قد أعد حربته منذ حين.. وكانت لفة الحبال الخفيفة المعلقة بالحربة في السلة المستديرة ونهايتها معقودة في قاع حنية الزورق.

وأقبلت السمكة في دورتها هذه صوب الزورق هادئة بديعة المنظر لا يتحرك منها إلا ذيلها.

وشد العجوز الحبل قدر ما استطاع ليقربها إليه.

ومرت السمكة بجواره، ثم قومت عودها لتأخذ دورة أخرى!

وقال العجوز:

- لقد أصبحت أسيطر عليها.

واستشعر أنه يكاد يهوي في الحنية.

ولكنه عاد فاستجمع مابقي من قواه ليحكم سيطرته على السمكة.. وأحس أنه يتحكم في قدرها الآن، وأنه قد يستطيع أن يظفر بها هذه المرة.

وقال لنفسه:

- اشتدا يايداي.. وأقويا ياساقاي.. وأفق يا رأسي.. احتمل.. أنك لم تفقد صوابك قط.. وسأظفر بها هذه المرة.

وحينما حشد كل عزمه للجولة الأخيرة والسمكة تقترب منه راح يشد الحبل بكل قواه ولكن السمكة صنعت نفس ماتصنع في كل دورة..

وراحت تسبح بعيداً عنه!

وصاح بها:

- أيتها السمكة.. أنك مائتة لامحالة.. فلاتقتليني معك!

ثم حدث نفسه:

- إن شيئاً لايمكن أن ينتهي على هذه الصورة.

وكان حلقه قد جف حتى لم يعد يقوى على الكلام ولكنه لم يكن يستطيع أن يصل إلى قارورة الماء وقال:

- لابد أن اجتذب السمكة إليّ هذه المرة.. إنني لم أعد أحتمل مزيداً من دوراتها.

وشجع نفسه ببضع كلمات:

- ولكنك لاتزال صالحاً للصمود.. إلى الأبد!

وفي الدورة التالية كاد يظفر بها، ولكن السمكة شدت قامتها مرة أخرى، وراحت تسبح هوفا مبتعدة عنه وقال لها:

- انك تقتلينني أيتها السمكة.. طبعاً.. هذا حق لك.. انني لم أر في حياتي سمكة في مثل ضخامتك ولاجمالك ولاهدوئك ولانبلك.. أيتها الشقيقة.. تعالي.. تعالي واقتليني فإنني لم أعد أبال أينا يصرع الآخر.

ثم ناجى نفسه:



عن الجمهورية نت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3