نظرية التأويل ..الخطاب ....عن الجمهورية نتْ....2-3
نظرية التأويل..الخطاب وفائض المعنى3-3
الخميس 19 أغسطس-آب 2010 القراءات: 5
هذه هي مسلمات البلاغة الكلاسيكية التي تضعها المعالجة الدلالية الحديثة للاستعارة موضع السؤال ,ويجد علم الدلالة الحديث هذا خير تعبير عنه في أعمال مؤلفين من طراز آ .أ . ريتشاردز , وماكس بلاد ,ومونرو بيردسلي وكولن تربيان , وفيليب ولرايت وآخرين ومن بين هؤلاء المؤلفين يمثل عمل ريتشاردز عملاً ريادياً بحق ,لأنه يشي فعلاً إلى تهافت الإشكالية التقليدية.
وإذا أمكن لريتشاردز رفض المسلمتين الآخيرتين في النموذج الكلاسيكي ,وهما كون الاستعارة لاتنطوي على معلومات جديدة , وأن الوظيفة التي تقوم بها هي وظيفة تزيينية فقط , فذلك لأنه رفض الخضوع لهذه المسلمات الأولية.
وأول المسلمات المرفوضة هي التي ترى أن الاستعارة مجرد حدث يدل على التسمية ,أي مجرد استبدال في دلالة الكلمات ,وقد حددت البلاغة الكلاسيكية نفسها في إطار هذه المسلمة بوصف أثر المعنى الذي هو حقاً نتيجة أثر الكلمة التي تنتج المعنى الذي يحصل على صعيد النطق أو الجملة الكاملة , وهذا أول كشوف المقاربة الدلالية للاستعارة , فالاستعارة تهتم بعلم دلالة الجملة , قبل أن تهتم بعلم دلالة الكلمة المفردة , ومادامت الاستعارة لاتحظى بالمغزى إلا في قول ,فهي إذا ظاهرة اسناد ,لاتسمية , حين يتحدث الشاعر عن (صلاة زرقاء) أو (غطاء الأحزان) فإنه يضع كلمتين ,نستطيع أن نتابع ريتشارد بتسميتهما المحمول والحامل في علاقة توتر وليس إلا الجمع بينهما ما يشكل الاستعارة , وهكذا لايجب أن نتحدث عن استعمال استعاري لكلمة معينة , بل عن قول استعاري كامل فالاستعارة هي حاصل التوتر بين مفردتين في قول استعاري.
تتضمن القضية الأولى قضية ثانية , فإذا كانت الاستعارة لا تهتم بالكلمات إلا لأنها تنتج أولاً على صعيد جملة كاملة , إذاً فالظاهرة الأولى التي يبغي تأملها ليست العدول عن المعنى الحرفي للكلمات , بل توظيف عمل الاسناد على صعيد الجملة بكاملها , وما دعوناه قبل قليل بالتوتر في القول الاستعاري ليس بالشيء الذي يحصل بين مفردتين في القول ,بل هو في حقيقته توتر بين تأويلين متعارضين للقول ,والصراع بين هذين التأويلين هو الذي يغذي الاستعارة وبهذا الاعتبار نستطيع المضي في ارسال القول أن مناورة الخطاب التي يكتسب بها القول الاستعاري نتيجته هي المجافاة ولا تنكشف هذه المجافاة إلا بمحاولة تأويل القول حرفياً فالصلاة ليست زرقاء , إذا كان الأزرق لوناً , والأحزان ليست غطاء , إذا كان الغطاء كساءً مصنوعاً من قماش ,وهكذا فالاستعارة لاتوجد في ذاتها ,بل في التأويل ومن خلاله، ويفترض التأويل.
الاستعارة والرمز
الاستعاري أيضاً التأويل الحرفي الذي يفكك في تناقض دال، وعملية التدمير الذاتي، أو التحويل هذه، هي التي تملي نوعاً من تحريف الكلمات، وتوسيع معانيها، نستطيع بفضله أن نستخرج المغزى حيث يكون التأويل الحرفي بلا مغزى حرفي، من هنا تبدو الاستعارة وكأنها طعنة انتقامية خاطفة تسدد إلى تنافر من نوع ما في القول الاستعاري المؤول حرفياً، ونستطيع أن نتابع جان كوهن في تسميته هذا التنافر بـ(المنافرة الدلالية) أو إذا شئنا استعمال تعبير اكثر ليونة وشمولاً فيمكننا تسميته بـ(التناقض) أو (المجافاة) وهما تعبيران استعملهما ماكس بلاك ومونرو بيردسلي.
ولإيجاز هذه الأطروحة نقول: بأخذنا بنظر الاعتبار القيم المعجمية للألفاظ في منطوق مجازي أو استعاري، يمكننا أن نضفي المعنى فقط، أي يمكننا فقط إنقاذ المنطوق بكامله، بتعريض الكلمات المعنية إلى نوع من المعنى – كنا قد سميناه – بمتابعة بيردسلي تحريفاً استعارياً ، يصبح المعنى من خلاله مفيداً.
يمكننا الآن أن نعود إلى المسلمة الثالثة في التصور البلاغي التقليدي عن الاستعارة، ألا وهو دور المشابهة، ولقد كان يساء فهم هذا الدور في الغالب، فغالباً ما كان يختزل إلى دور الصور في الخطاب الشعري، حتى صارت دراسة استعارات كاتب ما، عند كثير من النقاد، ولا سيما القدماء منهم، تعني مناقشة أسماء الصور المستعملة لإضاءة أفكاره، لكن إذا لم تكن الاستعارة تنطوي على إضفاء صورة معينة على الأفكار، بل كانت تنطوي بدلاً من ذلك.
على اختزال للصدمة المتولدة عن فكرتين متناقضتين إذاً ففي اختزال هذه الفجوة أو المسافة تلعب المشابهة الدور المنوط بها ما يراهن عليه التعبير الاستعاري بعبارة أخرى هو اظهار قرابة ما حيث لا ترى النظرة الاعتيادية أية علاقة، هنا يكون عمل الاستعارة قريباً مما يطلق عليه غلبرت رايل (غلطاً في التصنيف) هو خطأ محسوب، في آخر الأمر، يجمع بين أشياء متفرقة لا تجتمع وبوساطة سوء الفهم الواضح هذا تقيم الاستعارة علاقة معنوية جديدة لم تلحظ حتى الآن تنبجس من بين المفردات التي تجاهلتها أنظمة التصنيف السابقة أو لم تسمح بها.
حين يتحدث شكسبير عن الزمن شحاذا فهو يعلمنا أن نرى في الزمن وكأنه شحاذ هنا يجتمع صنفان كانا متباعدين سابقاً، وفي اجتماع البعداء هذا يكمن عمل المشابهة وهكذا كان أرسطو مصيباً في هذه النظرة حين قال: إن الانغمار في الاستعارة المبتكرة يتطلب عيناً لالتقاط المشابهات.
ومن هذا الوصف لعمل المشابهة في الأقوال الاستعارية تصدر مقابلة أخرى للتصور البلاغي المحض عن الاستعارة وعلينا أن نتذكر أن المجاز في البلاغة القديمة كان يعني استبدالاً بسيطاً لكلمة بكلمة أخرى، لكن الاستبدال عملية عقيمة في حين أن التوتر بين الألفاظ في الاستعارة الحية) أو بعبارة أدق، بين التأويلين اللذين يكون أحدهما حرفياً والآخر مجازياً، يثير على مستوى الجملة كاملة خلقاً حقيقياً للمعنى لا تنتبه البلاغة التقليدية إلا لآثاره ونتائجه، فهي لا تستطيع أن تفسر خلق المعنى لكن في النظرية التي تذهب إلى وجود توتر في الاستعارة كالتي نقابل بها هنا نظرية الاستبدال، تنبثق دلالة جديدة، تضم في داخلها الجملة كلها، بهذا المعنى، تكون الاستعارة خلقاً، تلقائياً، وابتكاراً دلالياً، لا مكان له في اللغة السائدة، ولا وجود له إلا لأنه اكتسب مسنداً غير عادي أو غير متوقع، ولذلك تشبه الاستعارة حل لغزه أكثر مما تشبه اقتراناً قائماً على المشابهة لأنها تتكون أصلاً من حل لغز التنافر الدلالي، وإذا حصرنا اهتمامنا بالاستعارات الميتة، باستعارات ، إذا أردنا الدقة.
واعنى بالاستعارة الميتة عبارات من طراز (أرجل الكرسي) أو (لسان الباب) الاستعارات الحية هي استعارات الابتكار التي تكون فيها الاستجابة للتنافر في الجملة توسيعاً جديداً للمعنى، وأن صح القول بالتأكيد أن الاستعارات المبتدعة تتحول بالتكرار إلى استعارات ميتة، وفي مثل هذه الأحوال يتحول المعنى الممتد إلى جزء لا يتجزأ من مادة المعجم تسهم في تعدد معاني الألفاظ المعنية التي تتضاعف معانيها اليومية بالنتيجة فليس في القاموس استعارات حية.
يمكن أن نستمد نتيجتين نهائيتين من هذا التحليل، وهما تقفان على طرف نقيض مع المسلمتين الأخيرتين في النظرية التقليدية، الأولى أن الاستعارات الواقعية غير قابلة للترجمة، ولا تقبل الترجمة سوى استعارات الاستبدال، حيث يمكن فيها استعادة الدلالة الحرفية، أما استعارات التوتر فغير قابلة للترجمة، لأنها تخلق معناها، ولا يعني هذا بالطبع أنها غير قابلة للشرح والتفسير، ما دام الشرح غير متناه، ولا يستهدف استنفاد المعنى المبتكر والنتيجة الثانية أن الاستعارة ليست تزويقاً لفظياً للخطاب بل لها أكثر من قيمة انفعالية لأنها تعطينا معلومات جديدة وبوجيز العبارة تخبرنا الاستعارة شيئاً جديداً عن الواقع.
من الاستعارة إلى الرمز
والجدوى من فهم مشكلة المعنى المزدوج من خلال الاستعارات، لا من خلال الرموز، ذات شقين الأول لقد كانت الاستعارة موضوعاً لدراسة طويلة ومفصلة قام بها البلاغيون، والثاني أن تجديد هذا البحث من قبل علم الدلالة الذي يتناول المشكلات البنائية التي تركتها البلاغة دون حل محدود بتلك العناصر اللغوية التي تضفي على هذه الظاهرة بناءً لغوياً متجانساً.
وليست الحال كذلك مع الرموز، إذ تصطدم دراسة الرموز بمعضلتين تجعلان من الدنو المباشر من بنية المعنى المزدوج أمراً صعباً، الأولى أن الرمز تنتمي إلى حقول بحث متعددة جداً ومتشعبة جداً وقد تأملت في ثلاثة من هذه الحقول في كتاباتي المبكرة، يهتم التحليل النفسي، على سبيل المثال بالأحلام وأعراض أخرى، وموضوعات ثقافية ذات مساس بها من حيث دلالتها على صراعات نفسية عميقة، ومن ناحية أخرى، تفهم الشعرية إذا خذنا هذا المصطلح بمعناه الواسع، الرمز على أنها الصور الفنية الأثيرة في قصيدة معينة أو تلك الصور التي تهيمن على أعمال مؤلف ما، أو مدرسة أدبية أو بأنها الأشكال والمجازات المتكررة التي تتعرف فيها ثقافة بأسرها على ذاتها، أو صور النماذج البدئية الكبرى التي تتغنى بها الإنسانية بصرف النظر عما بينها من فوارق ثقافية.
وعند هذه النقطة نكون قريبين من الاستعمال الثالث لكلمة (رمز) في تاريخ الأديان، يتعرف مرسيا إلياد، مثلاً، على كيانات عينية مثل الأشجار والمتاهات والسلالم والجبال بوصفها رموزاً بقدر ما تمثل رموزاً للزمان والمكان، أو الهرب والتعالي وتتخطى ذاتها مشيرة إلى شيء آخر بالكامل، يكشف عن ذاته فيها، هكذا تتشظى مشكلة الرموز في ميادين بحث متعددة وتنقسم فيما بينها حتى لتكاد تضيع في تناسلها.
المعضلة الثانية مع الرموز هي ان مفهوم (الرمز) يجمع بين بعدين، بل يمكننا القول بين عالمين للخطاب أحدهما لغوي والآخر من مرتبة غير لغوية، ومما يشهد على الطبيعة اللغوية للرموز أن بالإمكان فعلاً بناء علم دلالة للرموز، أي نظرية تفسر بنيتها من خلال المعنى أو المغزى، وهكذا نستطيع أن نتحدث عن رموز مزدوجة المعنى، أو رموز ذات معانٍ أوائل أو ثوان، غير أن البعد اللالغوي واضح وضوح البعد اللغوي وكما تشير الأمثلة التي ذكرتها، يحيل العنصر اللغوي في الرمز دائماً على شيء آخر من هنا يربط التحليل النفسي رموزه بصراعات نفسية، خفية، في حين يشير الناقد الأدبي إلى شيء مثل النظرة إلى العالم ، أو الرغبة بتحويل اللغة كلها إلى أدب، ويرى مؤرخ الدين في الرموز وسطاً لتجليات (المقدس) أو ما يسميه إلياد (اشراقات القدسي) hierophanies .
وهذه الصعوبة الخارجية للرموز هي التي تفسر جهدي لتوضيحها في ضوء نظرية الاستعارة، وقد يمكن القيام بذلك عبر ثلاث خطوات في البداية من الممكن تحديد النواة الدلالية التي يتسم بها كل رمز، مهما بلغت الفروق بينها، على أساس بنية المعنى القائم في الأقوال الاستعارية، ثانياً يتيح لنا العمل الاستعاري للغة أن نعزل الطبقة اللا لغوية من الرموز، وأن نفرز مبدأ انتثارها من خلال منهج المقارنة، وأخيراً وبالمقابل سيكون هذا الفهم الجديد للرموز مبعث تطورات لاحقة في نطرية الاستعارة قد تبقى من دونه خفية غير منظورة وبهذه الطريقة ستسمح لنا نظرية الرموز بإكمال نظرية الاستعارة وافترض ان هذه التطورات ستعطينا ما يكفي من خطوات وسطى مفقودة تسمح لنا بردم الهوة بين الاستعارات والرموز.
اللحظة الدلالية للرمز
تقدم لنا العلاقة بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي في منطوق استعاري دليلاً مناسباً يتيح لنا أن نحدد على نحو صحيح السمات الدلالية للرمز، وهذه السمات هي التي تربط صورة كل رمز باللغة، وتضمن بالتالي وحدة الرموز، برغم تفرقها في أماكن متعددة حيث تنبثق أو تظهر، وظهور هذا البعد الدلالي هو نتيجة المقاربة الدلالية التي كنا ومازلنا نخلط فيها الطبيعة الدلالية للرموز بسماتها الأخرى التي تقاوم أي نقل للغة، وهكذا فالرمز وحده يبتعث الفكر بابتعاثه الكلام أولاً، والاستعارة هي العنصر الكاشف المناسب لإضاءة هذا الجانب من الرموز الذي له مساس باللغة.
هنا تكون نظرية التوتر في الاستعارة أكثر جدوى من نظرية الاستبدال، والتحريف الاستعاري الذي ينبغي لألفاظنا أن تجتازه استجابة للمجافاة الدلالية على مستوى الجملة كلها،ـ يمكن اعتباره نموذجاً لاتساع المعنى الفعال في كل رمز، وفي مناطق البحث الثلاث التي أشرنا إليها سابقاً، يعمل الرمز، بمعناه العام جداً، بصفته (فائض دلالة) وتدل معالجة فرويد لذئب هانتر الصغير على أكثر مما نعنيه حين نصف ذئباً ويدل البحر في الأساطير البابلية القديمة على أكثر من امتداد مائي يمكن الوقوف على ساحله، ويدل شروق الشمس في قصيدة من شعر وردزورث على أكثر من مجرد ظاهرة جوية.
وكما في نظرية الاستعارة يمكن المقابلة بين تناول هذه الدلالة في الرمز والدلالة الحرفية، ولكن بشرط أن نقابل تأويلين في وقت واحد، وبالنسبة لتأويل واحد فقط هناك مستويان من الدلالة ما دام التعرف على المعنى الحرفي هو الذي يتيح لنا أن نرى أن الرمز مازال يحتفظ بمزيد من المعنى، وفائض المعنى هذا هو المتبقي من التأويل الحرفي، أما بالنسبة لمن يشترك في الدلالة الرمزية، فليست هناك دلالتان في الواقع، إحداهما حرفية والثانية رمزية ، بل حركة واحدة تنقله من مستوى إلى آخر يجعله يتمثل الدلالة الثانية بوساطة الدلالة الحرفية أو من خلالها.
الدلالة الرمزية إذاً مشكلة بحيث لا نرى منها إلا الدلالة الثانوية عن طريق الدلالة الأولية، حيث تكون هذه الدلالة الثانوية الوسيلة الوحيدة للدنو من فائض المعنى والدلالة الأولية هي التي تعطي الدلالة الثانوية بصفتها معنى المعنى وهذه السمة هي التي تميز بين الرمز والأمثولة، فالأمثولة إجراء بلاغي يمكن اقصاؤه حال انتهائه من مهمته، فما أن نعتلي السلم حتى نستطيع الهبوط منه الامثولة إجراء تعليمي، فهي تسهل التعلم، لكن يمكن لأية مقاربة مفهومية مباشرة أن تتجاهلها وبالمقابل ما من معرفة رمزية إلا حين يستحيل الإمساك المباشر بالمفهوم وإلا حين يكون الاتجاه نحو المفهوم إشارة غير مباشرة من دلالة ثانوية لدلالة أولية.
زد على ذلك أن عمل المشابهة التي تتسم بها الرموز يمكن أيضاَ اقرانه بالعملية المقابلة لها في الاستعارة إذ يقدم لنا تفاعل المماثلة وعدم المماثلة صراعاً بين تصنيف قبلي من نوع ما للواقع، وتصنيف جديد ولد لتوه، وكما يقول أحد الكتاب: فالاستعاره قصيدة رعوية بشريك جديد ينخرط فيها حين يقاومها وقد كانت الاستعارة تقارن منذ زمن طويل بنظرة مجسامية stereoscopic تجتمع فيها المفاهيم المختلفة لتضفي على المظهر الصلابة والعمق صحيح أن هذه العلاقات أكثر اختلاطاً في الرمز، وليس بالمستطاع تمييزها على المستوى المنطقي، وهذا هو السبب في أننا نتحدث عن تمثل لا عن استيعاب والرمز يتمثل المشابهة ولا يستوعبها أضف إلى ذلك أنه حين يمثل بعض الأشياء بأخرى يجعلنا نتمثل ما يدل عليه من خلال هذا التمثيل وهذا هو بالضبط ما يضفي الفتنة على نظرية الرموز، وما يجعلها مضللة أيضاً، إذ تندغم الحدود فيما بين الأشياء وفيما بين الأشياء وبيننا، وسنتمكن فيما بعد من الإمساك بأحد العوامل الفاعلة هنا حين نعود إلى الطبقة اللا – الغوية من الرموز.
إذا كانت نظرية الاستعارة ذات قيمة توضيحية مثلما اقول فذلك لأن عمل اللغة قد سبقها وهو عمل يضع الأشياء على منآى من المنطوق ويفصل في داخل المنطوق بين المسند والمسند إليه وفي واقع الأمر فإننا حين نتحدث عن الاستعارة بصفتها شكلاً فريداً من الإسناد فإن هذا يعني إثارة مبدأ بنائي يفتقر إليه النظام الرمزي.
ومرة أخرى فإن عمل اللغة الاستعاري هو الذي يتيح لنا أن ننصف السمة الأخرى للرموز التي يركز عليها بعناد المدافعون عنها ولكنهم يفتقرون إلى المفتاح المفضي إليها، ونحن نسلم اصلاً بأن اللغة المفهومية لا تستطيع أن تستنفد الرموز بمعالجتها وأن في الرمز أكثر مما في نظائره المفهومية وهي السمة التي يتشبث باعتناقها خصوم التفكير المفهومي وهم يرون ان نظرية الاستعارة تفضي إلى نتيجة مختلفة إذ هي تبين كيف أن إمكانات جديدة لصياغة الواقع واضفاء الصيغة المفهومية conceptualizing يمكن أن تنبعث من خلال تمثيل ميادين دلالية منفصلة حتى الآن.
وبصرف النظر عن كون مثل هذا الابتكار الدلالي جزءاً من التفكير المفهومي، فإنه يميز انبثاقاً مثل هذا التفكير وهذا هو السبب في كون نظرية الرموز منساقة إلى ما يدنو من النظرية الكانطية عن الرسوم التخطيطية schematism والتأليف المفهومي لنظرية الاستعارة، وما من حاجة لإنكار المفهوم من أجل القبول بالقول أن الرموز مبعث تفسير لانهاية له وإذا لم يستنفد المفهوم ما يتطلبه التفكير الإضافي الذي تحمله الرموز، فإن هذه الفكرة تدل فقط على انه ما من تصنيف يمكنه أن يضم جميع الامكانات الدلالية للرمز، لكن عمل المفهوم وحده هو الذي يشهد على فائض المعنى هذا.
اللحظة اللا دلالية للرمز
يمكننا الآن أن نحدد الجانب اللا- دلالي في الرموز ، إذا تابعنا منهجنا في المقارنات، وإذا اتفقنا على اطلاق صفة الدلالة على سمات الرموز التي تعير نفسها للتحليل اللغوي والمنطقي من خلال الدلالة والتأويل تتداخل بمايقابلها من سمات استعارية لأن هناك شيئاً ما لا يتطابق مع الاستعارة ويقاوم بسبب من هذا أي وصف لغوي أو دلالي أو منطقي.
ترتبط عتمة الرموز هذه بتجذر الرموز في منطقة تجربتنا المنفتحة على مختلف مناهج البحث فكون التحليل النفسي، لابد أن يعتبر الأحلام نموذجاً لتمثيلات مبدلة أو مقنعة مثلاً يفترض أولاً أن المرء يجب ان يحسب حساب النوم بوصفه سياق فعالية تفسير الأحلام وليست الصور الشعرية بأقل ارتباطاً بشكل كلي من السلوك، وهو ما يطلق عليه في اللغة الألمانية dichten أي نظم الشعر أو حرفياً الشعرنة to poeticize أفكان لدينا رموز دينية لو لم يسلم الإنسان نفسه لأشكال معقدة وان كانت متعينة من السلوك مصممة لمناشدة أو توسل أو صد القوى فوق الطبيعة التي تسكن في أعماق الوجود الإنساني متعالية ومهيمنة عليه ؟
هكذا تفتقر الفعالية الرمزية بمختلف الطرق إلى الضبط الذاتي فهي فعالية على الحدود أو حدودية ومهمة كثير من الحقول الدراسية أن تكشف الخطوط التي تلصق الوظيفة الرمزية بهذه أو تلك من الفعاليات اللا- رمزية أو ما قبل اللغوية.
وحالة التحليل النفسي على الخصوص مثال نموذجي برغم أنني لن ألبث عندها طويلاً ما دمت قد اهتممت بها تفصيلاً في مكان آخر، وسأكتفي بالقول : إن الفعالية الرمزية في التحليل النفسي هي ظاهرة حدودية ترتبط بالحدود بين الرغبة والثقافة، التي هي ذاتها ظاهرة حدودية بين الدوافع والتمثيلات النائبة عنها أو المتأثرة بها.
وهذه هي الحدود بين الكبت الأولى – الذي يؤثر في شهادتنا الدوافع لأول مرة – والكبت الثاني – الذي هو كبت بمعناه الصحيح – وهو الكبت الذي يحصل بعد حصول الواقعة ويسمح فقط للفروع الاشتقاقية، والاشارات المبدلة غير المحدودة، أو إشارات الإشارات بالظهور، إن وضع إشارة التحليل النفسي على الحدود بين صراع الدوافع، وتفاعل الدوال يعني أن على التحليل النفسي ان يطور لغة خليطة، تربط ألفاظ ديناميات الطاقة النفسية – بل نستطيع الحديث عن حركية هايدروليكية – للدوافع بألفاظ التفسير النصي – وتحمل مصطلحات نفسية كثيرة علامة هذا الأصل المزدوج يقدم كتاب (تأويل الأحلام) لفرويد على سبيل المثال مفهوم الرقابة censorship الذي يعبر عن فعل قوة الكبت على مستوى انتاج النص، برغم كون النص ينكشف أولاً من حيث محوه، أو تشويهه.
وكذلك يجب ان نشير إلى تلك العمليات الغزيرة التي وضعها فرويد تحت عنوان نوعي كبير هو (عمل الحلم) وتعمل هذه العمليات عملاً ميكانيكياً بوصفها إزاحة أو تكثيفاً أو انحلالاً.... إلخ، وهي عمليات يجمعها فرويد تحت عنوان عام : Entstetellung كان قد ترجم بصيغة (تشوية) أو (تلويث) وفي الوقت نفسه، يمكن قراءة تفاعل القوى في نص نبذة الحلم مفهومة بوصفها نوعاً من الرق، أو اللغز، أو الكتابة الهيروغليفية لذلك يجب أن يفترض التحليل النفسي وجود منزلة ابستمولوجية أو معرفية خليطة تفرضها عليه هذه المفاهيم الهجينة جميعاً ما دامت هذه الصراعات العميقة تقاوم أي اختزال إلى عمليات لغوية، وأن كانت لا يمكن ان تقرأ إلا في نص الحلم أو النص الرمزي، مثل هذه الصياغة المفهومية لا تنم عن نقيصة في الصياغة المفهومية للتحليل النفسي، بل على العكس من ذلك تنم عن التعرف الدقيق على المكان الذي يحصل فيه خطابه، عند نقطة تمازج القوة والمعنى، والدافع والخطاب وعلم الطاقة وعلم الدلالة.
تتيح لنا هذه المناقشة الوجيزة للتحليل النفسي أن نضع يدنا على سبب عدم عبور الرمز إلى أرض الاستعارة فالاستعارة تحصل في عالم اللوغوس الخاص تماماً بينما يتردد الرمز على الخط الفاصل بين الحياة واللوغوس فهو يتحقق في نقطة التجذر الأولى للخطاب في الحياة لأنه يولد حيث يتطابق القوة والشكل.
والأكثر صعوبة أن نحدد ما الذي يجعل اللغة الشعرية لغة (مقيدة) وهي في حقيقة الأمر، وكما تظهر لدى أول اقتراب منها، لغة غير مقيدة أو متحررة، القت عن كاهلها بعض القيود المعجمية والنحوية والأسلوبية، بل تحررت قبل كل شيء من الاحالات المقصودة في كل من اللغة اليومية واللغة العلمية، اللتين يمكن الزعم عن طريق المقارنة، أنهما مقيدتان بالوقائع والموضوعات التجريبية والضوابط المنطقية السائدة في طرق التفكير الراسخة لدينا ولكن أليس بوسعنا أن نقول ومرة أخرى عن طريق المقارنة: إن العالم الشعري هو فضاء لا يقل افتراضاً عن النسق الرياضي في علاقته بأي عالم متعين يعمل الشاعر، بوجيز العبارة، عن طريق اللغة في عالم افتراضي بل نستطيع القول بصيغة متطرفة إن المشروع الشعري هو مشروع تدمير للعالم كما نسلم به اعتيادياً ويومياً، تماماً كما جعل هوسرل تدمير عالمنا أساس الاختزال الظاهرياتي (الفينومينولوجي).
أو نستطيع القول دون المبالغة، أو الايغال في البعد، متابعين نورثروب فراي، إن اللغة الشعرية، بوصفها قلباً للغة اليومية، لا تتجه للخارج بل تتجه إلى الداخل نحو الباطن الذي لا يتمثل إلا في الحالة التي تنشئها وتعبر عنها القصيدة، هنا تصير القصيدة أشبه بعمل موسيقي يتماثل امتداده مع امتداد النسق الداخلي لحالة الرموز التي تصوغها لغته.
بهذا المعنى يتحرر الشعر من العالم، ولكنه إن تحرر بهذا المعنى، فقد تقيد بمعنى آخر، تقيد تماماً إلى حد أنه تحرر تماماً.
وما قلناه قبل قليل عن الحالة التي يتسارق امتدادها مع النسق الرمزي للقصيدة، يبين أن القصيدة ليست شكلاً من أشكال اللعب المجاني بالألفاظ، بل تتقيد القصيدة بما تخلفه إذا كان تعطيل الخطاب اليومي وقصدها التعليمي يفترضان خاصية فورية للشاعر، هذا لأن اختزال قيم الإحالة إلى الخارج في الخطاب اليومي هو الشرط السلبي الذي يسمح بتصورات جديدة تعبر عن معنى الواقع الذي يراد نقله إلى اللغة، ومن خلال هذه التصورات الجديدة تنقل إلى اللغة أيضاً طرق جديدة للوجود في العالم والعيش فيه واشتراع إمكاناتنا الداخلية عليه، لذلك ليس بالشيء الكثير أن نحدد أنفسنا بالقول: إن القصيدة تنشىء وتعبر عن حالة ولكن ما هي الحالة، إن لم تكن نمطاً معيناً من الوجود في العالم، وربط المرء نفسه به، وفهمه وتأويله ؟ ما يوثق الخطاب الشعري إذاً هو نقل انماط الوجود التي تعمي عليها الرؤية اليومية، بل حتى تكبتها وبهذا المعنى فالشاعر أكثر الناس تحرراً بل يمكننا أن نقول: إن كلام الشاعر متحرر من الرؤية اليومية للعالم، فقط لأنه يطلق نفسه على الوجود الجديد الذي يريد نقله إلى اللغة.
وأخيراً فإن رمزية المقدس، كما درسها مرسيا إلياد على سبيل المثال، مناسبة تماماً لتأملنا في تجذر الخطاب في النسق اللا – دلالي بل قبل إلياد ركز رودولف أوتو في كتابه (فكرة المقدس) تركيزاً بالغاً على مظهر المقدس بوصفه قوة وسطوة وفاعلية.
ومهما طرحنا من اعتراضات على وصفه للمقدس فإنه يظل قيماً في كونه يساعدنا على أن نظل في منجى من جميع محاولات اختزال الأساطير لغوياً، وقد تم تحذيرنا سلفاً بأننا هنا نعبر عتبة تجربة لا تبيح نفسها تماماً لمقولات اللوغوس ودعاواه في النقل أو التأويل.
وليس العنصر الروحي الخارق بقضية لغوية وإن قدر له أن يصاغ لغوياً، لأن الكلام عن القوة يعني الكلام عن شيء آخر غير الكلام حتى وان كان يتضمن قوة الكلام وهذه القوة من حيث هي فاعلية متميزة هي ما لا ينتقل بالكامل إلى صياغة المعنى.
صحيح أن فكرة القدسي التي يتخذها الياد بديلاً عن فكرة الروح الخارقة على سعتها، تتضمن أن لتجليات المقدس بنية أو شكلاً، ولكن حتى حينئذ لا يمنح الكلام أية أفضلية خاصة، فقد يتجلى المقدس أيضاً في الأحجار أو الأشجار من حيث هي حوامل للفاعلية، وتشهد على الخاصة ما قبل اللفظية لمثل هذه التجربة التعديلات التي تجرى على الزمان والمكان، من حيث هما زمان مقدس ومكان مقدس وهي تعديلات تتعدى حدود اللغة على المستوى الجمالي للتجربة بالمعنى الكانطي للتعبير.
وتشهد الرابطة بين الأسطورة والطقس بطريقة أخرى على البعد اللا – لغوي في المقدس فهي تعمل بوصفها منطق المطابقات التي تسم عالم المقدس وتشير إلى خصوصية رؤية الإنسان الديني للعالم، تحدث هذه الروابط على مستوى عناصر العالم الطبيعي نفسه كالسماء والأرض والهواء والماء وتجعل هذه الرمزية السماوية نفسها الظهورات المتعددة تتواصل فيما بينها، في حين أنها تحيل في القوت نفسه إلى العنصر السماوي الكامن في التجليات القدسية للحياة هكذا يكون مقابل تعالي السماء امتلاء أرضي وشيك، يتمثل في ازدياد أعداد القطعان واخصاب رحم الأم.
لا وجود لمخلوقات حية في داخل العالم المقدس هنا أو هناك، لكن الحياة مبثوته في كل مكان من حيث هي قداسة تتخلل كل شيء ويمكن رؤيتها في حركة النجوم وفي عودة حياة النبات كل عام، وفي تبادل الموت والميلاد، بهذا المعنى تكون الرموز مقيدة في عالم المقدس، فلا تأتي الرموز للغة إلا بمقدار ما تصير عناصر العالم نفسها شفافة هذه الخاصية المقيدة للرموز هي التي تختصر اختلاف الرمز عن الاستعارة فالاستعارة ابتكار خطابي متحرر، والرمز مقيد بالكون هنا نلمس عنصراً غير قابل للاختزال عنصراً أكثر صعوبة على الاختزال من العنصر الذي تشف عنه التجربة الشعرية، تتأسس القدرة على الكلام في عالم المقدس على قدرة الكونيات على الإشارة إلى الإشارة ولذلك ينبع منطق المعنى من بنية عالم المقدس نفسها وقانونه هو قانون المطابقات، المطابقات بين ما حصل في زمن الآلهة in illo tempore وبين النسق الحالي للمظاهر الطبيعية والفعاليات الإنسانية، وهذا هو السبب في أن المعبد، مثلاً يتوافق دائماً مع نموذج سماوي، وهو أيضاً السبب في ان الزواج المقدس بين السماء والأرض يتطابق مع وحدة الذكر والأنثى كمطابقة بين العالم الكبير والعالم الصغير، وكذلك الحال هناك مطابقة بين التربة المحروثة والعضو الأنثوي بين خصوبة الأرض ورحم المرأة بين الشمس وأعيننا ، بين المني والبذور، بين الدفن وبذار الحنطة، والميلاد وعودة الربيع.
هناك مطابقة ثلاثية بين الجسم والبيوت والكون تجعل أعمدة المعبد وأعمدتنا الفقرة يرمز كل منها للآخر تماماً مثلما هناك مطابقات بين السقف والجمجمة والانفاس والريح.... إلخ، وهذه المطابقة الثلاثية هي أيضاً السبب في أن العتبات والأبواب والجسور والممرات الضيقة التي يختصرها فعل السكنى في فضاء ما والمكث فيه تتطابق مع أنواع متماثلة من العبور تساعدنا طقوس التكريس فيها على عبور اللحظات الحاسمة من رحلتنا في الحياة: لحظات مثل الميلاد ، والبلوغ، والزواج، والموت.
هذا هو منطق المطابقات الذي يوثق الخطاب في عالم المقدس ويمكننا القول: إنه بفضل الخطاب دائماً يكشف هذا المنطق عن نفسه، إذ لو لم تجد أسطورة تروى عن كيفية مجيء الأشياء للوجود أو لم توجد طقوس تعيد تفعيل هذه العملية لبقي المقدس بلا تجل يكشف عنه وفيما يتعلق بالطقس الذي هو إحدى كيفيات العمل أو الفعل فعل شيء ما تميزه القوة، فإن مما يفتقر إلى القوة أن ننظم الزمان والمكان دون عون من كلمة مؤسسة أو خطاب يخبرنا كيف يستجيب المرء لتجلي القوة، أما فيما يتعلق بالرمزية الدائرة بين عناصر العالم، فهي أيضاً تفعل عمل اللغة بأكملها بل إن الرمزية لا تعمل إلا حين يتم تأويل بنيتها بهذا المعنى لابد من تأويلية في حدها الادنى لتشغيل أية رمزية لكن هذه الصياغة اللغوية لا تقمع ما سميته بالتصاق الرمزية المميز بالعالم المقدس، بل هي تفترضه أصلاً، ولا يمكن لتأويل الرمزية أن يكون مهيمناً ما لم يحظ عمل تأمله بالشرعية عن طريق علاقة غير مباشرة بين المظهر والمعنى في تجلي المقدس المقصود وتكشف قداسة الطبيعة عن نفسها بقولها ذاتها رمزياً والكشف هو الذي ينشىء القول لا العكس.
إذا جمعنا الآن التحليلات السابقة، فإنني أميل إلى القول إن ما يراد نقله إلى اللغة في الرموز ولكنه لا يجتاز حدود اللغة أبداً، هو دائماً شيء ما قوي، فاعل ذو سطوة، ويبدو أن الإنسان هنا متشخص كقوة وجود منفصل على نحو غير مباشر عن الأعالي، والأسافل والجانبين فقوة الدوافع التي تنتاب تخيلاتنا وأنماط الوجود المتخيلة التي تلهب الكلمة الشعرية، وكل ما يعترينا ويتوعدنا من عنف حين نشعر بعدم حب الآخرين لنا، في كل هذه الحالات، وربما في غيرها أيضاً، يحدث جدل القوة والشكل، الذي يضمن أن تمسك اللغة وحدها بالزبد على سطح الحياة.
الدرجات الوسطى بين الرمز والاستعارة
ترد ملاحظاتي السابقة – مهما غامرت بها وغامرت بي – مشروع إضاءة الرموز كله في ضوء نظرية الاستعارة عبثاً لا طائل منه، إذا لم يغر وصف الرموز بدوره بتطورات جديدة في نظرية الاستعارة.
تدعونا إقامة نظرية الرموز على نظرية الاستعارة إلى ان نتأمل أولاً في عمل الاستعارات كسلسلة أو شبكة، وفي التحليل الذي اقترحناه فيما سبق تظل الاستعارات وقائع، وعلى نحو ما مجرد أماكن في الخطاب، وتميل مقارنة الاستعارة بلغز أو أحجية إلى حصر التحليل بما تطرحه رياح الخطاب من استعارات فردية.
وبالتالي إلى الاكتفاء بالجانب الزائل من اللغة، وفي الحقيقة فإننا حين نجعل الاستعارة ابتداعاً دلالياً فإننا نؤكد على كونها لا توجد إلا في لحظة الابتكار، وحين يتم تجريد الاستعارة من منزلتها في اللغة الراسخة فإنها تكون مجرد واقعة خطابية، بكل ما للكلمة من معنى قوي، والنتيجة ان الاستعارة حين تتداولها الجماعة اللغوية وتقر بها تختلط بامتداد لا حصر له من الكلمات المتعددة المعاني، في البداية، تبتذل الكلمة ثم تتحول إلى استعارة ميته، وفي المقابل، لأن الرموز تمد جذورها في أصقاع الحياة والشعور والعالم المتينة، ولأن لها ثباتاً استثنائياً فإنها تفضي بنا إلى التفكير بأن الرمز لا يموت، بل يتحول فقط، من هنا إذا تشبثنا بمعيار الاستعارة فلابد أن تكون الرموز استعارات ميتة، ولكن ما الفرق إن لم نتشبث به ؟
لعل عمل الاستعارة لا يكتمل ولا يتناسب على الاطلاق كوسيلة للتعبير عن الزمانية المختلفة للرموز، أو ما يمكن لنا أن نسميه، اصرارها على البقاء إذا لم تنفذ الاستعارات أنفسها من الاضمحلال التام عن طريق رص صفوفها لتحقيق تبادل التأثير بين الاشارات، كل استعارة تستدعي الأخرى، وكل واحدة تبقى حية بالحفاظ على قدرتها في استحثاث الشبكة بأسرها، هكذا يطلق على الله في التراث العبري اسم الملك، والأب، والزوج، والمولى، والراعي، والقاضي، كما يطلق عليه الصخرة والحصن والمخلص والعبد المعذب فتولد الشبكة ما يمكننا أن نسميه باستعارات الجذور root metaphors الاستعارات التي لديها القوة من جهة لجمع الاستعارات الجزئية المستمدة من مختلف ميادين تجربتنا وتضفي عليها بالتالي نوعاً من التوازن، ومن جهة أخرى لديها قدرة على توليد غزارة مفهومية أعني عدداً غير محدود من التأويلات الضمنية على المستوى المفهومي، فاستعارات الجذور تجمع وتفرق تجمع الصور التابعة معاً وتفرق المفاهيم على مستوى أعلى إنها الاستعارات المهيمنة القادرة على توليد وتنظيم شبكة نافعة كنقطة اتصال بين المستوى الرمزي بارتقائه البطيء والمستوى الاستعاري السريع الزوال.
وهناك جانب ثانٍ من العمل الاستعاري يميل إلى تقريبه من الرموز، فمجموعة الاستعارات بصرف النظر عن تأسيسها للشبكة الاستعارية، تقدم تأسيساً متدرجاً أصيلاً، كما أكد على ذلك فيليب ولرايت في كتابيه النبع الملتهب والاستعارة والواقع والأخير
التفسير والفهم
الثنائية لا توغل في البعد بحيث تقضي على الجدل الأولي في معنى الناطق ومعنى النطق، وكما رأينا في المقالين الثاني والثالث، يظل هذا الجدل تتوسطه عناصر وسطى كثيرة، لكنه لا يلغى أبداً، وعلى النحو نفسه، لا ينبغي معاملة الاستقطاب بين التفسير والفهم في القراءة بمصطلحات ثنائية، بل بوصفه جدلاً بالغ التعقيد وكثير الوساطات، وبالتالي فإن مصطلح التأويل لا ينبغي أن ينطبق على حالة فهم جزئية منفردة، أعني التعبيرات الحياتية المكتوبة، بل على كامل العملية التي تحيط بالتفسير والفهم، والتأويل بصفته جدل التفسير والفهم أو الاستيعاب يمكن إرجاعه إلى المراحل الابتدائية من السلوك التأويلي الذي يعمل في المناقشة أصلاً، وفي حين يصح أن الكتابة والتأليف الأدبي وحدهما يقدمان تطويراً كاملاً لهذا الجدل، فلا ينبغي الإحالة إلى التأويل بوصفه إقليماً من أقاليم الفهم، فهو لا يتحدد بنوع من الموضوع ـ أعني العلامات “المسطورة” بأكثر معاني الكلمة عموماً ـ بل بنوع من العملية: ألا وهي حركية القراءة التأويلية.
ومن أجل تقديم عرض تعليمي لجدل التفسير والفهم، كمرحلتين من عملية فريدة، اقترح وصف الجدل أولاً كنقلة من الفهم إلى التفسير، ثم كنقلة من التفسير إلى الاستيعاب، في المرة الأولى، سيكون الاستيعاب نمطاً معقداً من الفهم، تدعمه إجراءات تفسيرية، في البداية، الفهم مجرد تخمين، وفي النهاية، يرضي الفهم مفهوم التملك الذي وصفناه في المقال الثالث بكونه إعادة الوصل بنوع من التمييز المرتبط بعملية موضعة النص ككل، سيبدو التفسير، إذاً بوصفه وساطة بين مرحلتين من الفهم، فإذا عزل عن هذه العملية العينية فسيكون مجرد تجريد، أو مجرد صنيع للمنهجية.
من التخمين إلى التصديق
لماذا ينبغي أن يتخذ أول فعل من أفعال الفهم شكل تخمين؟ وما الذي يجب تخمينه في النص؟
قد يمكن ربط الضرورة التي تقضي بتخمين معنى نص ما بنوع من الاستقلال الدلالي الذي عزوته للمعنى النصي في مقالتي الثانية.
مع الكتابة، لا يتوافق المعنى اللفظي للنص مع المعنى العقلي أو قصد النص، فهذا القصد يحققه النص ويُلغيه معاً، لأنه لم يعد يحمل صوت شخص حاضر، النص أخرس، لا صوت له، هنا تحصل علاقة غير متناسبة بين النص والقارىء، يتحدث فيها أحد الشريكين على لسان كليهما، النص أشبه بقطعة موسيقية، والقارىء أشبه بعازف الأوركسترا الذي يطيع تعليمات التنغيم، وبالتالي، فليس الفهم مجرد تكرار للواقعة الكلامية في واقعة شبيهة، بل توليد واقعة جديدة تبدأ من النص الذي تموضعت فيه الواقعة الأولى.
بعبارة أخرى، علينا أن نخمن معنى النص لأن قصد المؤلف بعيد عن متناول أيدينا، ولعل اعتراضي على التأويلية الرومانسية هنا يتضاعف ويزداد قوة، وكلنا يعرف القاعدة العامة ـ السابقة في حقيقتها على الرومانسيين، ما دام كانط يعرفها وقد استشهد بها ـ القائلة بفهم المؤلف بأفضل مما نفسه، وحتى لو اكتسبت هذه القاعدة العامة تأويلات مختلفة الآن، وحتى لو تم استردادها مع تعديلات مناسبة “كما سأحاول أن أبين فيما بعد” فإنها قد ساقت التأويلية قدماً بحيث عبرت عن فكرة المجانسة congeniality أو الاشتراك من “جنس” إلى “جنس” في التأويل، لقد تغاضت أشكال التأويل الرومانسية عن الوضعية الخاصة التي خلقها انفصال المعنى اللفظي للنص عن القصد العقلي للمؤلف، والحقيقة أن المؤلف لا يستطيع “إنقاذ” عمله، إذا استذكرنا الصورة الأثيرة لدى أفلاطون، التي ناقشناها في المقالة الثانية، وغالباً ما يكون قصده مجهولاً لدينا، قد يكون زائداً عن الحاجة، وقد يكون عديم الفائدة، بل قد يكون مضراً فيما يتعلق بتأويل المعنى اللفظي لعمله، وفي أحسن الأحوال يجب أخذه بالاعتبار في ضوء النص نفسه.
وبالنتيجة، ليس السبب في مشكلة التأويل هو عدم إمكان نقل التجربة النفسية للمؤلف، بل يكمن السبب في طبيعة القصد اللفظي للنص، ويدل تخطي المعنى للقصد على أن الفهم يحدث في فضاء غير نفسي، بل دلالي، نحت فيه النص نفسه منفصلاً عن القصد العقلي لمؤلفه.
هنا يبدأ جدل التفسير erklaren والفهم verstehen فإذا كان المعنى الموضوعي شيئاً آخر غير القصد الذاتي للمؤلف فقد يمكن تشكيله بطرق مختلفة، وسوء الفهم ممكن، بل لا يمكن تحاشيه.
ولا يكون بالمستطاع حل مشكلة الفهم الصحيح عن طريق عودة بسيطة إلى موقف المؤلف المزعوم، ولا مصدر آخر سوى هذا لمفهوم التخمين، لأن ترجمة المعنى إلى معنى لفظي للنص هو التخمين بعينه، ولكن كما سنرى فيما بعد، إذا كنا نفتقر إلى وجود قواعد للقيام بتخمينات صحيحة، فإن هناك مناهج للتصديق على تلك التخمينات التي نقوم بها، وكلا الطرفين مطلوب في هذا الجدل الجديد، إذ يتطابق التخمين مع ما يسميه شلير ماخر بـ “التكهني”، بينما يتطابق التصديق مع ما يسميه بـ “القواعدي”، وكلاهما ضروري لعملية قراءة النص.
يحتمي الانتقال من التخمين إلى التفسير ببحث موضوع التخمين المتعين، وقد أجبنا عن سؤالنا الأول، لماذا ينبغي لنا أن نخمن لكي نفهم؟ وما زال علينا أن نقرر ما الذي يجب على الفهم تخمينه.
أولاً، إن تفسير المعنى اللفظي للنص يعني تفسيره ككل، ونحن هنا نعتمد على تحليل النص بصفته عملاً أكثر مما نعتمد على تحليل الخطاب بصفته مكتوباً، وعمل الخطاب أكثر من مجرد تتابع خطي للجمل، بل هو عملية تراكمية، كلية.
وما دامت هذه البنية المتعينة للعمل لا يمكن استمدادها من بنية الجمل المفردة، فإن للنص بذاته نوعاً من التعدد اللفظي plurivocity، الذي هو غير تعدد المعاني في الألفاظ المفردة، وغير غموض الجمل المفردة، وهذا التعدد النصي سمة نموذجية تسم أعمال الخطاب المعقدة، وتنفتح بها على تعدد الأبنية، والعلاقة بين الكل والأجزاء ـ كما في عمل فني أو لدى الحيوان ـ تتطلب نوعاً معيناً من (الحكم) هو الذي أضفى عليه كانط نظريته في كتابه(نقد ملكة الحكم) من الناحية الملموسة، يبدو الكل وكأنه تدرج من الموضوعات، من الموضوعات الأولية والتابعة، ليست على درجة واحدة من الارتفاع، حتى تعطي للنص بنية مجسامية ولذلك تتخذ اعادة بناء معمار النص شكل عملية دائرية، بمعنى أن مسلمات من نوع ما عن الكل تضمن عند التعرف على الأجزاء والعكس صحيح أيضاً، فعند تفسير التفاصيل نفسر الكل فلاضرورة، ولادليل على الخوض في أيها مهم وأيها غير مهم إذ إن الحكم بالأهمية هو نفسه تخمين.
ثانياً، إن تفسير نص ما يعني تفسيره منفرداً وكما رأينا في المقالة الثانية، إذا كان العمل منتجاً على وفق قوانين نوعية (ونشوئية) فإنه منتج أيضاً بوصفه وجوداً فريداً يقول أرسطو: إن التفنية وحدها تولد الأفراد، في حين تمسك المعرفة بالأنواع ويؤكد كانط من وجهة نظر أخرى هذا الموقف، فحكم الذوق هو وحده ما يدور حول الأفراد فعمل الخطاب، من حيث هو هذا العمل الفريد، لايمكن أن تصله سوى عملية تضييق نطاق المفاهيم النوعية، التي تتضمن الأنواع الأدبية، وفئة النصوص التي ينتمي إليها هذا النص، وأنماط الشفرات والبنى التي تتفاعل في هذا النص وهذا التخصيص والتفريد للنص الفريد هو أيضاً تخمين.
يمكن مقارنة النص بصفته كلاً وبصفته كلاً مفرداً بموضوع تمكن رؤيته من جوانب متعددة، ولكن لاتمكن رؤيته من جميع الجوانب دفعة واحدة ولذلك فلإعادة بناء الكل ناحية منظورية مشابهة للناحية المنظورية في الموضوع المدرك يمكن دائماً أن نربط الجملة نفسها بطرق مختلفة بهذه الجملة أو تلك باعتبارها حجر الزاوية في النص ينطوي فعلى القراءة، إذاً على نوع معين من الواحدية وهذه الواحدية هي التي تضفي على التخمين سمة التأويل.
ثالثاً، أن تتضمن النصوص الأدبية آفاق معنى ضمنية، يمكن تحقيقها بطرق مختلفة وترتبط هذه السمة ارتباطاً مباشراً بدور المعاني الاستعارية والرمزية الموصوفة في المقالة الثالثة أكثر مما ترتبط بنظرية الكتابة التي طورناها في المقال الثاني وقبل سنوات قليلة، كنت معتاداً على ربط مهمة التأويلية ربطاً أساسياً بفك مغاليق طبقات متعددة من المعنى في اللغة الاستعارية والرمزية.
أما اليوم فأرى أن اللغة الاستعارية والرمزية ليست نموذجاً إرشادياً لنظرية عامة في التأويلية إذ ينبغي لهذه النظرية أن تغطي مشكلة الخطاب فأرى أن اللغة الاستعارية والرمزية ليست نموذجاً إرشادياً لنظرية عامة في التأويلية إذ ينبغي لهذه النظرية أن تغطي مشكلة الخطاب بأسرها، بما فيها الكتابة والتأليف الأدبي ولكن حتى هنا، يمكن وصف نظرية الاستعارة ونظرية التعبيرات الرمزية لتقديم امتداد حاسم لميدان التعبيرات ذات المعنى، باضافة إشكالية المعنى المتعدد لإشكالية المعنى عموماً فالأدب يتأثر بهذا الامتداد إلى درجة أنه يمكن تعريفه بمصطلحات دلالية من خلال العلاقة بين المعاني الأولية والمعاني الثانوية فيه والمعاني الثانوية، كما في حالة الأفق، تحيط بالموضوع، وتفتح العمل على قراءات متعددة بل يمكن القول: إن هذه القراءات محكومة بتوجيهات المعنى الذي ينتمي لهوامش المعنى الضمني المحيط بالنواة الدلالية للعمل لكن هذه التوجيهات أيضاً يجب أن تخمن قبل أن تحكم عمل التأويل.
أتفق، فيما يتعلق باجراءات التصديق التي نمتحن بها تخميناتنا، مع إ.د.هيرش أنها أقرب إلى منطق الاحتمال منها إلى منطق التحقيق التجريبي وبيان قوة ترجيح تأويل ما في ضوء مانعرفه هو شيء آخر غير بيان صحة شيء ما وبالتالي ليس التصديق هو التحقق.
بل هو مبحث استدلالي تمكن مقارنته بالاجراءات التشريعية المستعملة في تأويل القانون وهو منطق اللايقين والاحتمال الكيفي ويستتبع هذا الفهم للتصديق أننا قد نضفي مغزى مقبولاً على المقابلة بين علوم الطبيعة Naturwissenschaften وعلم الروح Geistwissenschaften دون أن نسلم مع العقيدة الرومانسية المزعومة بعصمة الفرد ومنهج خلط المؤشرات، الذي يسم منطق الاحتمال الذاتي، يوفر لنا أساساً ثابتاً لقيام علم الفرد، الذي يمكننا أن نطلق عليه اسم العلم بحق ومادام النص شبه فردي، فإن التصديق على تأويل منطبق عليه قد يعطينا معرفة علمية بالنص.
هذا هو الميزان بين نوع التخمين والطبيعة العلمية للتصديق، التي تشكل استحضاراً حديثاُ للجدل بين الفهم verstehen والتفسير erklaren ونحن قادرون في الوقت نفسه على اعطاء معنى مقبول للمفهوم الشهير عن الدائرة التأويلية فبمعنى من المعاني، يرتبط التخمين والتصديق ارتباطاً دائرياً بوصفها مقاربتين ذاتية وموضوعية من النص لكن هذه الدائرة ليست حلقة مفرغة سنسقط في الحلقة المفرغة إذا لم نكن قادرين على الافلات من نوع من التوافق الذاتي الذي يهدد، فيما يرى هيرش، العلاقة بين التخمين والتصديق ولكن تنتمي إلى اجراءات التصديق أيضاً اجراءات الابطال invalidation المشابهة لمعايير اثبات التزييف falsiftability التي اقترحها كارل بوبر في كتابه (منطق الكشف) ويلعب الصراع بين التأويلات المتنافسة هنا دور إثبات التزييف ولاينبغي للتأويل أن يكون محتملاً فقط، بل يجب أن يكون أكثر ترجيحاً من سواه وهناك معايير للأفضلية النسبية لحل هذا النزاع، الذي يمكن استمداده بسهولة من منطق الاحتمال الذاتي.
وختاماً لهذا المقطع، إذا صح القول دائماً بوجود أكثر من طريقة لتفسير النص، فلا يصح القول بأن التأويلات متساوية، فالنص يقدم ميداناً محدوداً من الأبنية الممكنة ويتيح لنا منطق التصديق أن نتحرك بين حدي الدوغمائية والشكية بل يمكن دائماً الوقوف مع أو ضد تأويل معين، والمواجهة بين التأويلات، والفصل بينهما، والبحث عن اتفاق، حتى لو كان هذا الاتفاق بعيداً عن متناول أيدينا.
من التفسير إلى الاستيعاب
كان الوصف السابق للجدل بين الفهم تخميناً، والتفسير تصديقاً نظيراً للجدل بين الواقعة والمعنى، أما التقديم التالي لهذا الجدل نفسه، ولكن على نسق معكوس، فيرتبط باستقطاب آخر في بنية الخطاب، ألا وهو جدل المغزى والإحالة وكما قلت عن تخارج الخطاب التام بقدر مالايتوقف المعنى عند الموضوع المثالي الذي يقصده الناطق فقط، بل الواقع الفعلي الذي يهدف إليه المنطق ولكن من وجهة نظر أخرى، يضيق الاستقطاب بين المغزى والاحالة حتى ليستحق معالجة متميزة، تكشف عن مصيره في الكتابة، وقبل كل شيء، في بعض الاستعمالات الأدبية للخطاب وتصح هذه النقاط نفسها مع نظائر نظرية النص في نظرية القراءة.
رأينا سابقاً أن الوظيفة المرجعية للنصوص المكتوبة تتأثر تأثراً عميقاً عند غياب موقف مشترك بين الكاتب والقارىء فهي تتجاوز الدلالة الظاهرية لأفق الواقع المحيط بالموقف الحواري بالطبع تحتفظ الجمل المكتوبة باستعمال الوسائل الظاهرية، لكن هذه الوسائل الظاهرية لن تقوى على توضيح مايحال إليه ولتغيير الدلالة الظاهرية هذا مضامين ايجابية وسلبية فمن ناحية يتضمن توسيعاً لما يحال به على الواقع وقد صار للغة الآن عالم بكامله، لامجرد موقف ولكن بقدر ما يبقى هذا العالم غير مستكشف بعد، بل أشير إليه وحسب، فإن التجريد الكامل للواقع المحيط به يصير ممكناً وهذا مايحصل مع بعض أعمال الخطاب، وفي الحقيقة مع أكثر الأعمال الأدبية، التي يتم فيها تعليق القصد المرجعي، أو في الأقل تلك الأعمال التي يتم فيها تعليق الإحالة إلى الموضوعات الأليفة للخطاب اليومي، فضلاً عن زمن نوع من الاحالة إلى بعض الجوانب ذات الجذور أو الأبعاد الأعمق لوجودنا في العالم.
الجدل الجديد بين التفسير والاستيعاب هو النظير لهذه المغامرات في الوظيفة المرجعية للنص في نظرية القراءة ويتسبب التجريد في العالم المحيط الذي تجعله الكتابة ممكناً ويحققه الأدب، في وجود موقفين متعارضين فإما أن نبقى كقراء في نوع من حالة التعليق فيما يخص أي نوع من المحال به إلى الواقع، أو نحقق خيالياً الاحالات غير الظاهرية الضمنية للنص في موقف جديد، وهو موقف القارىء في الحالة الأولى نعامل النص ككيان لا واقع له.. يتضمنه فعل القراءة وهاتان الامكانيتان موقوفتان معاً على فعل القراءة المفهوم بوصفه تفاعلهما الجدلي.
لقد أوضحت مختلف المدارس البنيوية في النقد الأدبي اليوم الطريقة الأولى في القراءة ومقاربتها ليست فقط ممكنة بل مشروعة فهي تنبع من الاعتراف بما أسميته بتعليق الاحالة الظاهرية أو كبتها.
يحصر النص بعد(العالم) في الخطاب – أي العلاقة بعالم يمكن الكشف عنه – على نحو ما يقطع ارتباط الخطاب بالقصد الذاتي للمؤلف وتعني القراءة، بهذه الطريقة، إطالة تعليق الاحالة الظاهرية، نقل الذات إلى المكان الذي يقف فيه النص، في إطار هذا الانحباس في مكان لاعالم فيه ووفقاً لهذا الاختيار لايعود للنص خارج ما، بل باطن فقط ونكرر أن تشكيل النص نفسه من حيث هو نص، ونظام النصوص من حيث هو أدب، يسوغ هذا القلب للموضوع الأدبي إلى نظام مغلق من العلامات، مشابه لنوع من النظام المغلق الذي اكتشفته الفنلولوجيا(علم النظام الصوتي) أساساً يستند إليه كل خطاب، وهو ماسماه سوسير باللغة langue
واستناداً إلى افتراض العمل هذا يصير الأدب نظيراً للغة بما هي لسان.
على أساس هذا التجريد، يمكن توسيع نوع جديد من الموقف التفسيري للموضوع الأدبي وليس هذا الموقف الجديد بمستعار من منطقة معرفة غريبة عن اللغة، بل يأتي من الحقل نفسه، ألا وهو الحقل السيميائي ومن هنا يمكن معالجة النصوص استناداً إلى القواعد التفسيرية التي أفلح علم اللغة في تطبيقها على الأنظمة الأولية للعلامات التي تشكل أساس استعمال اللغة وقد تعلمنا من مدرسة جنيف ومدرسة براغ، والمدرسة الدنمركية في علم اللغة أن من الممكن دائماً تجريد أنظمة من العمليات، وربط هذه الأنظمة، سواء أكانت صوتية أم معجمية أم نحوية، بوحدات كان قد تم تعريفها من خلال المقابلة مع وحدات أخرى من النظام نفسه وهذا التفاعل بين الكيانات المتميزة في داخل مجموعات محدودة من هذه الوحدات، كما رأينا في المقالة الأولى، يحدد فكرة النظام أو البنية في علم اللغة الحديث.
هذا النموذج البنيوي، إذاً هو الذي يطبق الآن على النصوص، أي على متواليات من العلامات أطول من الجملة التي هي آخر نوع من الوحدات يوليه علم اللغة اهتمامه.
وتوسيع النموذج البنيوي على النصوص مسعى جرئ دون شك ألا يقف النص إلى جانب الكلام أكثر مما يقف إلى جانب اللغة؟ أليس تتابعاً من المنطوقات، وبالتالي وفي التحليل الأخير، تتابعاً من الجمل؟ ألم نبين في مقالنا الأول المقابلة بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، كما يحتوي عليهما مفهوم الخطاب الذي قابلناه باللغة؟ تشير مثل هذه الأسئلة في الأقل إلى أن توسيع النموذج البنيوي إلى النصوص لايستنفد حقل المواقف الممكنة فيما يتعلق بالنص لذلك ينبغي لنا أن نحد من هذا التوسيع للنموذج اللغوي حتى يصير مجرد مقاربة ممكنة واحدة لفكرة النصوص المؤولة مع ذلك دعونا نتأمل أولاً في مثال على هذه المقاربة ممكنة واحدة بقليل من التفصيل قبل الانتقال للتأمل في تصور ثانٍ ممكن عن التأويل.
يصوغ ليفي – شتراوس في مقالته عن(الدراسة البنيوية للأسطورة) افتراض العمل للتحليل البنيوي فيما يتعلق بإحدى فئات النصوص، ألا وهي فئة الاساطير يقول: (تتكون الأسطورة كسائر اللغة، من وحدات مكونة وتفترض هذه الوحدات المكونة قبلاً الوحدات المكونة الحاضرة في اللغة حين يتم تحليلها على مستويات أخرى – وهي تحديداً الفونيمات والمورفيمات والسيميمات – لكنها تختلف عن هذه الوحدات بطريقة ما، مثلما تختلف هذه الوحدات عن بعضها، فهي تنتمي إلى نسق أعلى وأكثر تعقيداً لهذا السبب سندعوها(الوحدات المكونة الاجمالية).
باستعمال هذا الافتراض، سيمكن للوحدات الكبرى، التي لا يختلف حجمها في الأقل عن حجم الجملة، والتي تشكل حين توضع إلى جوار بعضها السرد الخاص بالأسطورة، أن تعامل استناداً إلى القوانين التي تنطبق على الوحدات الصغرى التي يعرفها علم اللغة وتأكيداً على هذه المماثلة يدعوها ليفي – شتراوس بـ(الميثيمات) تماماً مثلما نتكلم عن الفونيمات والمورفيمات والواحدات ذات المستوى الأدنى، فإن تحليل النصوص لابد له أن يؤدي النوع نفسه من التجريد الذي يقوم به عالم الأصوات وليس الفونيم، عند عالم الأصوات، بصوت عياني ملموس، بالمعنى المطلق، بل هو خاصية سمعية ليس الفونيم جوهراً، إذا تحدثنا عن طريقة سوسير، بل شكل فقط، أي تفاعل عدد من العلاقات.
وعلى غرار ذلك، ليس الميثيم جملة من جمل الأسطورة، بل هو قيمة المقابلة المستخلصة من مختلف الجمل المفردة، التي تشكل حزمة من العلاقات ولايمكن لهذه العلاقات أن تستعمل وتجمع مع بعضها لتوليد معنى إلا من حيث هي حزمة وليس ما يسمى بالمعنى هنا هو ماتعنيه الأسطورة على الاطلاق بمعنى محتواها أو قصدها الفلسفي أو الوجودي، بل هو بالأحرى طريقة ترتيب الميثيمات وعرضها، أي بوجيز العبارة، بنية الأسطورة.
أود أن نستذكر هنا بإيجاز التحليل الذي يقدمه ليفي – شتراوس لأسطورة أوديب استناداً إلى هذا المنهج يقسم ليفي – شتراوس في البداية جمل الأسطورة في أربعة أعمدة يضع في العمود الأول جميع تلك الجمل التي تبالغ في تقدير علاقة القربى: على سبيل المثال، أو ديب يتزوج من جوكاستا، أمه، أنتيغونة تدفن بولينيس، أخاها، برغم الأمر الذي تلقته بعدم فعل ذلك ونجد في العمود الثاني هذه العلاقات نفسها ولكن مقلوبة بحيث تصير المبالغة في تقدير علاقات القربى اهمالاً لها: أوديب يقتل أباه، لايوس، إيتوكليس يقتل أخاه، بولينيس ويعنى العمود الثالث بالوحوش والقضاء عليها بينما يضم العمود الرابع جميع أسماء الأعلام التي توحي معانيها بصعوبة السير السوي: الأعرج، الأخرق، ذو القدم المتورمة.
تكشف المقارنة بين هذه الأعمدة الأربعة عن وجود ارتباط بين العمودين واحد واثنين، لدينا علاقات قربى بولغ في تقديرها، وأخرى بولغ في تجاهلها وبين العمودين ثلاثة وأربعة هناك نفي وتأكيد معاً لاستقلال الانسان الذاتي ويستتبع ذلك أن العمود الرابع يقوم بالنسبة إلى العمود الثالث بما يقوم به العمود الأول بالنسبة إلى الثاني.. وبعلاقات ارتباط من هذا النوع يمثل الافراط في تقدير علاقات الدم من التفريط في علاقات الدم ماتمثله محاولة الافلات من الاستقلال الذاتي من استحالة النجاح فيها) هكذا تبدو الأسطورة نوعاً من الأداة المنطقية التي تجمع بين التناقضات لتتغلب عليها(ويتغلب على ربط نوعين من العلاقات أو بالأحرى يحل محله التأكيد على أن العلاقات المتناقضة هي علاقات متطابقة بقدر ماهي متناقضة مع ذاتها على نحو مشابه) وفي حقيقة الأمر، نستطيع القول: إننا فسرنا الأسطورة هنا، لكننا لم نؤولها لقد عرضنا من خلال وسائل التحليل البنيوي، لمنطق العمليات التي تربط الحزم الأربع من العلاقات ببعضها ويشكل هذا المنطق القانون البنيوي للأسطورة موضوع التأمل ولكن لا يصح أن نغفل أن هذا القانون هو موضوع قراءة على نحو بارز، لا قوة الأسطورة في موقف معين وهنا يكون النص مجرد نص، ولا تقيم فيه القراءة إلا من حيث هو نص، بفضل تعليق معناه عنا، وتأجيل تحققه خلال الخطاب المعاصر.
لقد استشهدت بمثال من حقل الأساطير وأستطيع أن أستشهد بمثال آخر من حقل مجاور له، أعني من سرد الحكاية الشعبية لقد استكشف هذا الحقل الشكليون الروس من مدرسة بورب، كما استكشفه المختصون الفرنسيون بالتحليل البنيوي من طراز رولان بارت وغريماس ويستعمل هؤلاء الكتاب المسلمات نفسها التي استعملها ليفي – شتراوس تتألف الوحدات التي فوق الجملة على نحو ما تتألف الوحدات التي تحتها ومعنى عنصر ماهو قدرته على الاندراج في علاقة مع بقية العناصر ومع العمل ككل وهذه المسلمات تحدد خاتمة السرد لذلك تكمن مهمة التحليل البنيوي في تقسيم العمل إلى أجزاء وهذا هو المحور الأفقي ثم دمج الأجزاء في كل على مستويات مختلفة وهذا هو المحور التراتبي لكن وحدات الفعل التي تقسم ثم تنظم بهذه الطريقة، لاعلاقة لها بالسمات النفسية التي يمكن أن تكون قد عيشت، أو بالتقسيم السلوكي الذي يمكن أن يندرج تحت علم النفس السلوكي وقصارى ماتصبو إليه هذه المتواليات أن تكون نقاطاً تحكم في السرد، بحيث إذا تغير عنصر من هذه العناصر، اختلفت بقية العناصر الأخرى أيضاً وهنا نلحظ انتقال المنهج التراكمي من المستوى الصوتي إلى مستوى الوحدات السردية يكمن منطق الفعل، إذاً، في ربط نويات الفعل، التي تشكل معاً الاتصال البنيوي للسرد ويفضي تطبيق هذه التقنية إلى نزع العنصر الزمني عن السرد، بغية إيضاح المنطق السردي الكامن تحت الزمن السردي وبالتالي يتم اختزال السرد إلى تركيبة من الوحدات الدرامية القليلة مثل الوعد والخديعة والمنع والمساعدة.. إلخ التي يمكن بالتالي أن تكون نماذج ارشادية للفعل المتوالية هي تتابع نويات الأفعال، التي ينهي كل منها البديل الذي افتتحه الفعل السابق عليه وتتناسب الوحدات الأولية، بدورها، مع الوحدات الكبرى على سبيل المثال، تضم المواجهة أفعالاً أولية مثل الاقتراب والدعوة والتحية.. إلخ وتفسير السرد يعني التمسك بهذه البنية السيمفونية في تقسيم الأفعال.
تقابل سلسلة الأفعال علاقات مشابهة بين الفاعلين actors في السرد وليس المقصود بالفاعلين هنا الذوات النفسية، بل الأدوار ذات الصيغة الشكلية المرتبطة بالأفعال ذات الصيغة الشكلية ولا يتحدد الفاعلون إلا بصيغ إسناد الأفعال لهم عن طريق المحاور الدلالية للجملة والسرد من يقوم بالأفعال من يتلقى الأفعال، من تؤدي الأفعال معه.. إلخ من يعد، من يتلقى الوعد، المعطي، المتلقي..إلخ وهكذا يستخرج التحليل البنيوي تراتباً من الفاعلين مرتبطاً بتراتب الأفعال الخطوة الأخرى هي جمع أجزاء السرد لتشكيل كل منها، وإعادته إلى الاتصال السردي هو إذاً خطاب يوجه راو إلى متلق.
لكن لاينبغي البحث عن هذين المتحدثين، في رأي التحليل السردي، في أي مكان عدا النص فالراوي يتحدد بالعلامات السردية، التي تنتمي هي نفسها إلى تكوين السرد فليس هناك ما يتخطى المستويات الثلاثة في الأفعال والفاعلين السرد، وتناله والمقاربة السيميائية خلف المستوى الأخير لايوجد سوى عالم مستعملي السرد، الذي يعق هو نفسه تحت طائلة المباحث السيميائية التي تعنى بالأنظمة الاجتماعية أو الاقتصادية أوالايديولوجية.
هذا التحويل للنموذج اللغوي إلى نظرية السرد يعزز تماماً ملاحظتي الأولى بخصوص الفهم المعاصر للتفسير و اليوم لم يعد مفهوم التفسير مستعاراً من العلوم الطبيعية ومنقولاً إلى حقل آخر، هو حقل الوثائق المكتوبة فهو ينبع من عالم اللغة المشترك بفضل الانتقال بالمماثلة من الوحدات الصغرى للغة(الفونيمات واللكسيمات) إلى الوحدات الكبرى التي تتعدى حدود الجملة، بما فيها السرد والحكاية الشعبية والأسطورة وهذا هو ماتعنيه المدارس البنيوية بالتفسير بالمعنى الدقيق للكلمة.
أريد الآن أن أبين كيف يتطلب التفسير الفهم وكيف يولد الفهم بطريقة جديدة الجدل الداخلي الذي يكون التأويل ككل في واقع الأمر، ما من أحد يتوقف عند تصور الأساطير والمرويات بوصفها صيغاً شكلية لا تختلف عن الصيغ الجبرية في الوحدات المكونة ويمكن بيان ذلك بعدد من الطرق في البداية تحمل الوحدات، حتى في أكثر صيغ تقديم الأساطير شكلية، كما اقترحها ليفي – شتراوس، وسماها بالميثيمات، معنى وإحالة، ويعبر عنها بوصفها جملاً هل يستطيع أحد الزعم بأن معناها حيادي حين تدخل في حزمة من العلاقات، التي يحيطها وحدها منطق الأسطورة بنظر الاعتبار؟ حتى حزمة العلاقات هذه لابد من كتابتها على شكل جملة في حالة أسطورة أوديب، مثلاً يعني التغير من الإفراط في علاقات القربى إلى التفريط في علاقات القربى شيئاً له مضامينه الوجودية العميقة وأخيراً فإن نوع اللعبة اللغوية القائمة على أن النسق الكلي للمقابلات والتركيبات التي تجسدها سيفتقر إلى أية دلالة، إذا لم تكن المقابلات نفسها، التي يميل ليفي – شتراوس إلى توسيطها في تقديمه للأسطورة، مقابلات ذات معنى بخصوص الموت والميلاد، العمى والاستبصار، الجنس والحقيقة ومن دون هذه الصراعات الوجودية لن تكون هناك تناقضات يمكن التغلب عليها، ولا وظيفة منطقية للأسطورة كمحاولة لحل هذه التناقضات.
لايستبعد التحليل البنيوي، بل يفترض مقدماً، الفرضية المقابلة بخصوص الأسطورة، أي كونها تحمل معنى بوصفها رواية للأصول والتحليل البنيوي يكبت هذه الوظيفة فقط لكنه لايستطيع إيقافها. بل لاتستطيع الأسطورة أن تؤدي وظيفتها كعامل منطقي, مالم تكن القضايا التي تركبها تشير باتجاه مواقف حدودية. والتحليل البنيوي, بصرف النظر عن تجنبه الخوض في مثل هذه التساؤلات الجذرية, يستعيدها على مستوى أعلى من الجذرية.
إذا صح هذا, أفلا يمكننا القول: إن وظيفة التحليل البنيوي هو أن يقودنا من علم دلالة السطوح, الخاص بالأسطورة المرورية, إلى علم دلالة الأعماق, الخاص بالمواقف الحدودية, التي تكون “المرجع” النهائي للأسطورة؟
أعتقد أنه إذا لم يصح ذلك, فإن التحليل البنيوي سيرتد إلى مجرد لعبة عقيمة, أو جبر سجالي, بل إن الأسطورة نفسها ستُحرم من الوظيفة التي يسندها ليفي- شتراوس نفسه لها, أعني جعل الناس واعين ببعض الأضداد واستمالتهم نحو الوساطة التطورية. وإقصاء الإحالة على التباسات الوجود التي ينجذب إليها الفكر الأسطوري سيكون اختزالاً لنظرية الأسطورة إلى سجل وفيات لخطابات الإنسانية الخالية من المعنى.
أما إذا اعتبرنا التحليل البنيوي, على العكس من ذلك, مرحلة واحدة- وإن كانت مرحلة ضرورية- بين التأويل الساذج والتأويل النقدي, بين تأويل السطوح وتأويل الأعماق, إذاً, فسيمكن وضع التفسير والفهم على مرحلتين مختلفتين من القوس التأويلي الفريد.
وإذا أخذنا علم دلالة الأعماق دليل هدي لنا, فسنستطيع أن نعود الآن إلى مشكلتنا الأولى عن إحالة النص. وفي وسعنا الآن إعطاء اسم لهذه الإحالة اللا- ظاهرية. فهي نوع العالم الذي تنفتح عليه دلاليات الأعماق في النص, أي الانكشاف, الذي ينطوي على نتائج مطمورة بخصوص مايسمى في العادة بمغزى النص. وليس مغزى النص شيئاً وراء النص, بل هو أمامه. ليس بالشيء الخفي, بل هو شيء مفضوح. وماينبغي أن يُفهم ليس الموقف الأولي للخطاب, بل مايشير إلى عالم ممكن, بفضل الإحالة غير الظاهرية للنص. وهنا تكون علاقة الفهم بالمؤلف والسياق أقل مما هي عليه في العادة.
لأنه يريد الإمساك بقضايا العالم التي تنفتح عليها إحالة النص. وفهم النص يعني متابعة حركته من المغزى إلى الإحالة, ومما يقوله إلى مايتحدث عنه. وفي هذه العملية, يشكل الدور الوسيط الذي يلعبه التحليل البنيوي تسويغاً للمقاربة الموضوعية, وتصحيحاً للمقاربة الذاتية للنص معاً. ونحن محظور علينا تحديداً أن نطابق الفهم مع نوع من الإمساك الحدسي بالقصد الذي يتبطن النص. وماقلناه عن دلاليات الأعماق التي يمنحها لنا التحليل البنيوي يدعونا بالأحرى إلى التفكير بأن مغزى النص هذا هو مايقضي به النص, كطريقة جديدة لرؤية الأشياء, وهو قضاء التفكير على نحو ما أيضاً.
هذه هي الإحالة التي تحملها دلاليات الأعماق. يتكلم النص عن عالم ممكن وعن طريقة ممكنة يوجه بها المرء ذاته فيه. وأبعاد هذا العالم يفتحها ويفضحها معاً النص نفسه. والخطاب هو المكافئ للغة المكتوبة في الإحالة الظاهرية بالنسبة إلى اللغة المنطوقة وهو يتعدى مجرد وظيفة التأشير والكشف عما يوجد أصلاً, وبهذا المعنى, يتعالى على وظيفة الإحالة الظاهرية المرتبطة باللغة المنطوقة. وهنا يكون الكشف في الوقت نفسه خلقاً لنمط جديد من الوجود.
الخميس 19 أغسطس-آب 2010 القراءات: 5
هذه هي مسلمات البلاغة الكلاسيكية التي تضعها المعالجة الدلالية الحديثة للاستعارة موضع السؤال ,ويجد علم الدلالة الحديث هذا خير تعبير عنه في أعمال مؤلفين من طراز آ .أ . ريتشاردز , وماكس بلاد ,ومونرو بيردسلي وكولن تربيان , وفيليب ولرايت وآخرين ومن بين هؤلاء المؤلفين يمثل عمل ريتشاردز عملاً ريادياً بحق ,لأنه يشي فعلاً إلى تهافت الإشكالية التقليدية.
وإذا أمكن لريتشاردز رفض المسلمتين الآخيرتين في النموذج الكلاسيكي ,وهما كون الاستعارة لاتنطوي على معلومات جديدة , وأن الوظيفة التي تقوم بها هي وظيفة تزيينية فقط , فذلك لأنه رفض الخضوع لهذه المسلمات الأولية.
وأول المسلمات المرفوضة هي التي ترى أن الاستعارة مجرد حدث يدل على التسمية ,أي مجرد استبدال في دلالة الكلمات ,وقد حددت البلاغة الكلاسيكية نفسها في إطار هذه المسلمة بوصف أثر المعنى الذي هو حقاً نتيجة أثر الكلمة التي تنتج المعنى الذي يحصل على صعيد النطق أو الجملة الكاملة , وهذا أول كشوف المقاربة الدلالية للاستعارة , فالاستعارة تهتم بعلم دلالة الجملة , قبل أن تهتم بعلم دلالة الكلمة المفردة , ومادامت الاستعارة لاتحظى بالمغزى إلا في قول ,فهي إذا ظاهرة اسناد ,لاتسمية , حين يتحدث الشاعر عن (صلاة زرقاء) أو (غطاء الأحزان) فإنه يضع كلمتين ,نستطيع أن نتابع ريتشارد بتسميتهما المحمول والحامل في علاقة توتر وليس إلا الجمع بينهما ما يشكل الاستعارة , وهكذا لايجب أن نتحدث عن استعمال استعاري لكلمة معينة , بل عن قول استعاري كامل فالاستعارة هي حاصل التوتر بين مفردتين في قول استعاري.
تتضمن القضية الأولى قضية ثانية , فإذا كانت الاستعارة لا تهتم بالكلمات إلا لأنها تنتج أولاً على صعيد جملة كاملة , إذاً فالظاهرة الأولى التي يبغي تأملها ليست العدول عن المعنى الحرفي للكلمات , بل توظيف عمل الاسناد على صعيد الجملة بكاملها , وما دعوناه قبل قليل بالتوتر في القول الاستعاري ليس بالشيء الذي يحصل بين مفردتين في القول ,بل هو في حقيقته توتر بين تأويلين متعارضين للقول ,والصراع بين هذين التأويلين هو الذي يغذي الاستعارة وبهذا الاعتبار نستطيع المضي في ارسال القول أن مناورة الخطاب التي يكتسب بها القول الاستعاري نتيجته هي المجافاة ولا تنكشف هذه المجافاة إلا بمحاولة تأويل القول حرفياً فالصلاة ليست زرقاء , إذا كان الأزرق لوناً , والأحزان ليست غطاء , إذا كان الغطاء كساءً مصنوعاً من قماش ,وهكذا فالاستعارة لاتوجد في ذاتها ,بل في التأويل ومن خلاله، ويفترض التأويل.
الاستعارة والرمز
الاستعاري أيضاً التأويل الحرفي الذي يفكك في تناقض دال، وعملية التدمير الذاتي، أو التحويل هذه، هي التي تملي نوعاً من تحريف الكلمات، وتوسيع معانيها، نستطيع بفضله أن نستخرج المغزى حيث يكون التأويل الحرفي بلا مغزى حرفي، من هنا تبدو الاستعارة وكأنها طعنة انتقامية خاطفة تسدد إلى تنافر من نوع ما في القول الاستعاري المؤول حرفياً، ونستطيع أن نتابع جان كوهن في تسميته هذا التنافر بـ(المنافرة الدلالية) أو إذا شئنا استعمال تعبير اكثر ليونة وشمولاً فيمكننا تسميته بـ(التناقض) أو (المجافاة) وهما تعبيران استعملهما ماكس بلاك ومونرو بيردسلي.
ولإيجاز هذه الأطروحة نقول: بأخذنا بنظر الاعتبار القيم المعجمية للألفاظ في منطوق مجازي أو استعاري، يمكننا أن نضفي المعنى فقط، أي يمكننا فقط إنقاذ المنطوق بكامله، بتعريض الكلمات المعنية إلى نوع من المعنى – كنا قد سميناه – بمتابعة بيردسلي تحريفاً استعارياً ، يصبح المعنى من خلاله مفيداً.
يمكننا الآن أن نعود إلى المسلمة الثالثة في التصور البلاغي التقليدي عن الاستعارة، ألا وهو دور المشابهة، ولقد كان يساء فهم هذا الدور في الغالب، فغالباً ما كان يختزل إلى دور الصور في الخطاب الشعري، حتى صارت دراسة استعارات كاتب ما، عند كثير من النقاد، ولا سيما القدماء منهم، تعني مناقشة أسماء الصور المستعملة لإضاءة أفكاره، لكن إذا لم تكن الاستعارة تنطوي على إضفاء صورة معينة على الأفكار، بل كانت تنطوي بدلاً من ذلك.
على اختزال للصدمة المتولدة عن فكرتين متناقضتين إذاً ففي اختزال هذه الفجوة أو المسافة تلعب المشابهة الدور المنوط بها ما يراهن عليه التعبير الاستعاري بعبارة أخرى هو اظهار قرابة ما حيث لا ترى النظرة الاعتيادية أية علاقة، هنا يكون عمل الاستعارة قريباً مما يطلق عليه غلبرت رايل (غلطاً في التصنيف) هو خطأ محسوب، في آخر الأمر، يجمع بين أشياء متفرقة لا تجتمع وبوساطة سوء الفهم الواضح هذا تقيم الاستعارة علاقة معنوية جديدة لم تلحظ حتى الآن تنبجس من بين المفردات التي تجاهلتها أنظمة التصنيف السابقة أو لم تسمح بها.
حين يتحدث شكسبير عن الزمن شحاذا فهو يعلمنا أن نرى في الزمن وكأنه شحاذ هنا يجتمع صنفان كانا متباعدين سابقاً، وفي اجتماع البعداء هذا يكمن عمل المشابهة وهكذا كان أرسطو مصيباً في هذه النظرة حين قال: إن الانغمار في الاستعارة المبتكرة يتطلب عيناً لالتقاط المشابهات.
ومن هذا الوصف لعمل المشابهة في الأقوال الاستعارية تصدر مقابلة أخرى للتصور البلاغي المحض عن الاستعارة وعلينا أن نتذكر أن المجاز في البلاغة القديمة كان يعني استبدالاً بسيطاً لكلمة بكلمة أخرى، لكن الاستبدال عملية عقيمة في حين أن التوتر بين الألفاظ في الاستعارة الحية) أو بعبارة أدق، بين التأويلين اللذين يكون أحدهما حرفياً والآخر مجازياً، يثير على مستوى الجملة كاملة خلقاً حقيقياً للمعنى لا تنتبه البلاغة التقليدية إلا لآثاره ونتائجه، فهي لا تستطيع أن تفسر خلق المعنى لكن في النظرية التي تذهب إلى وجود توتر في الاستعارة كالتي نقابل بها هنا نظرية الاستبدال، تنبثق دلالة جديدة، تضم في داخلها الجملة كلها، بهذا المعنى، تكون الاستعارة خلقاً، تلقائياً، وابتكاراً دلالياً، لا مكان له في اللغة السائدة، ولا وجود له إلا لأنه اكتسب مسنداً غير عادي أو غير متوقع، ولذلك تشبه الاستعارة حل لغزه أكثر مما تشبه اقتراناً قائماً على المشابهة لأنها تتكون أصلاً من حل لغز التنافر الدلالي، وإذا حصرنا اهتمامنا بالاستعارات الميتة، باستعارات ، إذا أردنا الدقة.
واعنى بالاستعارة الميتة عبارات من طراز (أرجل الكرسي) أو (لسان الباب) الاستعارات الحية هي استعارات الابتكار التي تكون فيها الاستجابة للتنافر في الجملة توسيعاً جديداً للمعنى، وأن صح القول بالتأكيد أن الاستعارات المبتدعة تتحول بالتكرار إلى استعارات ميتة، وفي مثل هذه الأحوال يتحول المعنى الممتد إلى جزء لا يتجزأ من مادة المعجم تسهم في تعدد معاني الألفاظ المعنية التي تتضاعف معانيها اليومية بالنتيجة فليس في القاموس استعارات حية.
يمكن أن نستمد نتيجتين نهائيتين من هذا التحليل، وهما تقفان على طرف نقيض مع المسلمتين الأخيرتين في النظرية التقليدية، الأولى أن الاستعارات الواقعية غير قابلة للترجمة، ولا تقبل الترجمة سوى استعارات الاستبدال، حيث يمكن فيها استعادة الدلالة الحرفية، أما استعارات التوتر فغير قابلة للترجمة، لأنها تخلق معناها، ولا يعني هذا بالطبع أنها غير قابلة للشرح والتفسير، ما دام الشرح غير متناه، ولا يستهدف استنفاد المعنى المبتكر والنتيجة الثانية أن الاستعارة ليست تزويقاً لفظياً للخطاب بل لها أكثر من قيمة انفعالية لأنها تعطينا معلومات جديدة وبوجيز العبارة تخبرنا الاستعارة شيئاً جديداً عن الواقع.
من الاستعارة إلى الرمز
والجدوى من فهم مشكلة المعنى المزدوج من خلال الاستعارات، لا من خلال الرموز، ذات شقين الأول لقد كانت الاستعارة موضوعاً لدراسة طويلة ومفصلة قام بها البلاغيون، والثاني أن تجديد هذا البحث من قبل علم الدلالة الذي يتناول المشكلات البنائية التي تركتها البلاغة دون حل محدود بتلك العناصر اللغوية التي تضفي على هذه الظاهرة بناءً لغوياً متجانساً.
وليست الحال كذلك مع الرموز، إذ تصطدم دراسة الرموز بمعضلتين تجعلان من الدنو المباشر من بنية المعنى المزدوج أمراً صعباً، الأولى أن الرمز تنتمي إلى حقول بحث متعددة جداً ومتشعبة جداً وقد تأملت في ثلاثة من هذه الحقول في كتاباتي المبكرة، يهتم التحليل النفسي، على سبيل المثال بالأحلام وأعراض أخرى، وموضوعات ثقافية ذات مساس بها من حيث دلالتها على صراعات نفسية عميقة، ومن ناحية أخرى، تفهم الشعرية إذا خذنا هذا المصطلح بمعناه الواسع، الرمز على أنها الصور الفنية الأثيرة في قصيدة معينة أو تلك الصور التي تهيمن على أعمال مؤلف ما، أو مدرسة أدبية أو بأنها الأشكال والمجازات المتكررة التي تتعرف فيها ثقافة بأسرها على ذاتها، أو صور النماذج البدئية الكبرى التي تتغنى بها الإنسانية بصرف النظر عما بينها من فوارق ثقافية.
وعند هذه النقطة نكون قريبين من الاستعمال الثالث لكلمة (رمز) في تاريخ الأديان، يتعرف مرسيا إلياد، مثلاً، على كيانات عينية مثل الأشجار والمتاهات والسلالم والجبال بوصفها رموزاً بقدر ما تمثل رموزاً للزمان والمكان، أو الهرب والتعالي وتتخطى ذاتها مشيرة إلى شيء آخر بالكامل، يكشف عن ذاته فيها، هكذا تتشظى مشكلة الرموز في ميادين بحث متعددة وتنقسم فيما بينها حتى لتكاد تضيع في تناسلها.
المعضلة الثانية مع الرموز هي ان مفهوم (الرمز) يجمع بين بعدين، بل يمكننا القول بين عالمين للخطاب أحدهما لغوي والآخر من مرتبة غير لغوية، ومما يشهد على الطبيعة اللغوية للرموز أن بالإمكان فعلاً بناء علم دلالة للرموز، أي نظرية تفسر بنيتها من خلال المعنى أو المغزى، وهكذا نستطيع أن نتحدث عن رموز مزدوجة المعنى، أو رموز ذات معانٍ أوائل أو ثوان، غير أن البعد اللالغوي واضح وضوح البعد اللغوي وكما تشير الأمثلة التي ذكرتها، يحيل العنصر اللغوي في الرمز دائماً على شيء آخر من هنا يربط التحليل النفسي رموزه بصراعات نفسية، خفية، في حين يشير الناقد الأدبي إلى شيء مثل النظرة إلى العالم ، أو الرغبة بتحويل اللغة كلها إلى أدب، ويرى مؤرخ الدين في الرموز وسطاً لتجليات (المقدس) أو ما يسميه إلياد (اشراقات القدسي) hierophanies .
وهذه الصعوبة الخارجية للرموز هي التي تفسر جهدي لتوضيحها في ضوء نظرية الاستعارة، وقد يمكن القيام بذلك عبر ثلاث خطوات في البداية من الممكن تحديد النواة الدلالية التي يتسم بها كل رمز، مهما بلغت الفروق بينها، على أساس بنية المعنى القائم في الأقوال الاستعارية، ثانياً يتيح لنا العمل الاستعاري للغة أن نعزل الطبقة اللا لغوية من الرموز، وأن نفرز مبدأ انتثارها من خلال منهج المقارنة، وأخيراً وبالمقابل سيكون هذا الفهم الجديد للرموز مبعث تطورات لاحقة في نطرية الاستعارة قد تبقى من دونه خفية غير منظورة وبهذه الطريقة ستسمح لنا نظرية الرموز بإكمال نظرية الاستعارة وافترض ان هذه التطورات ستعطينا ما يكفي من خطوات وسطى مفقودة تسمح لنا بردم الهوة بين الاستعارات والرموز.
اللحظة الدلالية للرمز
تقدم لنا العلاقة بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي في منطوق استعاري دليلاً مناسباً يتيح لنا أن نحدد على نحو صحيح السمات الدلالية للرمز، وهذه السمات هي التي تربط صورة كل رمز باللغة، وتضمن بالتالي وحدة الرموز، برغم تفرقها في أماكن متعددة حيث تنبثق أو تظهر، وظهور هذا البعد الدلالي هو نتيجة المقاربة الدلالية التي كنا ومازلنا نخلط فيها الطبيعة الدلالية للرموز بسماتها الأخرى التي تقاوم أي نقل للغة، وهكذا فالرمز وحده يبتعث الفكر بابتعاثه الكلام أولاً، والاستعارة هي العنصر الكاشف المناسب لإضاءة هذا الجانب من الرموز الذي له مساس باللغة.
هنا تكون نظرية التوتر في الاستعارة أكثر جدوى من نظرية الاستبدال، والتحريف الاستعاري الذي ينبغي لألفاظنا أن تجتازه استجابة للمجافاة الدلالية على مستوى الجملة كلها،ـ يمكن اعتباره نموذجاً لاتساع المعنى الفعال في كل رمز، وفي مناطق البحث الثلاث التي أشرنا إليها سابقاً، يعمل الرمز، بمعناه العام جداً، بصفته (فائض دلالة) وتدل معالجة فرويد لذئب هانتر الصغير على أكثر مما نعنيه حين نصف ذئباً ويدل البحر في الأساطير البابلية القديمة على أكثر من امتداد مائي يمكن الوقوف على ساحله، ويدل شروق الشمس في قصيدة من شعر وردزورث على أكثر من مجرد ظاهرة جوية.
وكما في نظرية الاستعارة يمكن المقابلة بين تناول هذه الدلالة في الرمز والدلالة الحرفية، ولكن بشرط أن نقابل تأويلين في وقت واحد، وبالنسبة لتأويل واحد فقط هناك مستويان من الدلالة ما دام التعرف على المعنى الحرفي هو الذي يتيح لنا أن نرى أن الرمز مازال يحتفظ بمزيد من المعنى، وفائض المعنى هذا هو المتبقي من التأويل الحرفي، أما بالنسبة لمن يشترك في الدلالة الرمزية، فليست هناك دلالتان في الواقع، إحداهما حرفية والثانية رمزية ، بل حركة واحدة تنقله من مستوى إلى آخر يجعله يتمثل الدلالة الثانية بوساطة الدلالة الحرفية أو من خلالها.
الدلالة الرمزية إذاً مشكلة بحيث لا نرى منها إلا الدلالة الثانوية عن طريق الدلالة الأولية، حيث تكون هذه الدلالة الثانوية الوسيلة الوحيدة للدنو من فائض المعنى والدلالة الأولية هي التي تعطي الدلالة الثانوية بصفتها معنى المعنى وهذه السمة هي التي تميز بين الرمز والأمثولة، فالأمثولة إجراء بلاغي يمكن اقصاؤه حال انتهائه من مهمته، فما أن نعتلي السلم حتى نستطيع الهبوط منه الامثولة إجراء تعليمي، فهي تسهل التعلم، لكن يمكن لأية مقاربة مفهومية مباشرة أن تتجاهلها وبالمقابل ما من معرفة رمزية إلا حين يستحيل الإمساك المباشر بالمفهوم وإلا حين يكون الاتجاه نحو المفهوم إشارة غير مباشرة من دلالة ثانوية لدلالة أولية.
زد على ذلك أن عمل المشابهة التي تتسم بها الرموز يمكن أيضاَ اقرانه بالعملية المقابلة لها في الاستعارة إذ يقدم لنا تفاعل المماثلة وعدم المماثلة صراعاً بين تصنيف قبلي من نوع ما للواقع، وتصنيف جديد ولد لتوه، وكما يقول أحد الكتاب: فالاستعاره قصيدة رعوية بشريك جديد ينخرط فيها حين يقاومها وقد كانت الاستعارة تقارن منذ زمن طويل بنظرة مجسامية stereoscopic تجتمع فيها المفاهيم المختلفة لتضفي على المظهر الصلابة والعمق صحيح أن هذه العلاقات أكثر اختلاطاً في الرمز، وليس بالمستطاع تمييزها على المستوى المنطقي، وهذا هو السبب في أننا نتحدث عن تمثل لا عن استيعاب والرمز يتمثل المشابهة ولا يستوعبها أضف إلى ذلك أنه حين يمثل بعض الأشياء بأخرى يجعلنا نتمثل ما يدل عليه من خلال هذا التمثيل وهذا هو بالضبط ما يضفي الفتنة على نظرية الرموز، وما يجعلها مضللة أيضاً، إذ تندغم الحدود فيما بين الأشياء وفيما بين الأشياء وبيننا، وسنتمكن فيما بعد من الإمساك بأحد العوامل الفاعلة هنا حين نعود إلى الطبقة اللا – الغوية من الرموز.
إذا كانت نظرية الاستعارة ذات قيمة توضيحية مثلما اقول فذلك لأن عمل اللغة قد سبقها وهو عمل يضع الأشياء على منآى من المنطوق ويفصل في داخل المنطوق بين المسند والمسند إليه وفي واقع الأمر فإننا حين نتحدث عن الاستعارة بصفتها شكلاً فريداً من الإسناد فإن هذا يعني إثارة مبدأ بنائي يفتقر إليه النظام الرمزي.
ومرة أخرى فإن عمل اللغة الاستعاري هو الذي يتيح لنا أن ننصف السمة الأخرى للرموز التي يركز عليها بعناد المدافعون عنها ولكنهم يفتقرون إلى المفتاح المفضي إليها، ونحن نسلم اصلاً بأن اللغة المفهومية لا تستطيع أن تستنفد الرموز بمعالجتها وأن في الرمز أكثر مما في نظائره المفهومية وهي السمة التي يتشبث باعتناقها خصوم التفكير المفهومي وهم يرون ان نظرية الاستعارة تفضي إلى نتيجة مختلفة إذ هي تبين كيف أن إمكانات جديدة لصياغة الواقع واضفاء الصيغة المفهومية conceptualizing يمكن أن تنبعث من خلال تمثيل ميادين دلالية منفصلة حتى الآن.
وبصرف النظر عن كون مثل هذا الابتكار الدلالي جزءاً من التفكير المفهومي، فإنه يميز انبثاقاً مثل هذا التفكير وهذا هو السبب في كون نظرية الرموز منساقة إلى ما يدنو من النظرية الكانطية عن الرسوم التخطيطية schematism والتأليف المفهومي لنظرية الاستعارة، وما من حاجة لإنكار المفهوم من أجل القبول بالقول أن الرموز مبعث تفسير لانهاية له وإذا لم يستنفد المفهوم ما يتطلبه التفكير الإضافي الذي تحمله الرموز، فإن هذه الفكرة تدل فقط على انه ما من تصنيف يمكنه أن يضم جميع الامكانات الدلالية للرمز، لكن عمل المفهوم وحده هو الذي يشهد على فائض المعنى هذا.
اللحظة اللا دلالية للرمز
يمكننا الآن أن نحدد الجانب اللا- دلالي في الرموز ، إذا تابعنا منهجنا في المقارنات، وإذا اتفقنا على اطلاق صفة الدلالة على سمات الرموز التي تعير نفسها للتحليل اللغوي والمنطقي من خلال الدلالة والتأويل تتداخل بمايقابلها من سمات استعارية لأن هناك شيئاً ما لا يتطابق مع الاستعارة ويقاوم بسبب من هذا أي وصف لغوي أو دلالي أو منطقي.
ترتبط عتمة الرموز هذه بتجذر الرموز في منطقة تجربتنا المنفتحة على مختلف مناهج البحث فكون التحليل النفسي، لابد أن يعتبر الأحلام نموذجاً لتمثيلات مبدلة أو مقنعة مثلاً يفترض أولاً أن المرء يجب ان يحسب حساب النوم بوصفه سياق فعالية تفسير الأحلام وليست الصور الشعرية بأقل ارتباطاً بشكل كلي من السلوك، وهو ما يطلق عليه في اللغة الألمانية dichten أي نظم الشعر أو حرفياً الشعرنة to poeticize أفكان لدينا رموز دينية لو لم يسلم الإنسان نفسه لأشكال معقدة وان كانت متعينة من السلوك مصممة لمناشدة أو توسل أو صد القوى فوق الطبيعة التي تسكن في أعماق الوجود الإنساني متعالية ومهيمنة عليه ؟
هكذا تفتقر الفعالية الرمزية بمختلف الطرق إلى الضبط الذاتي فهي فعالية على الحدود أو حدودية ومهمة كثير من الحقول الدراسية أن تكشف الخطوط التي تلصق الوظيفة الرمزية بهذه أو تلك من الفعاليات اللا- رمزية أو ما قبل اللغوية.
وحالة التحليل النفسي على الخصوص مثال نموذجي برغم أنني لن ألبث عندها طويلاً ما دمت قد اهتممت بها تفصيلاً في مكان آخر، وسأكتفي بالقول : إن الفعالية الرمزية في التحليل النفسي هي ظاهرة حدودية ترتبط بالحدود بين الرغبة والثقافة، التي هي ذاتها ظاهرة حدودية بين الدوافع والتمثيلات النائبة عنها أو المتأثرة بها.
وهذه هي الحدود بين الكبت الأولى – الذي يؤثر في شهادتنا الدوافع لأول مرة – والكبت الثاني – الذي هو كبت بمعناه الصحيح – وهو الكبت الذي يحصل بعد حصول الواقعة ويسمح فقط للفروع الاشتقاقية، والاشارات المبدلة غير المحدودة، أو إشارات الإشارات بالظهور، إن وضع إشارة التحليل النفسي على الحدود بين صراع الدوافع، وتفاعل الدوال يعني أن على التحليل النفسي ان يطور لغة خليطة، تربط ألفاظ ديناميات الطاقة النفسية – بل نستطيع الحديث عن حركية هايدروليكية – للدوافع بألفاظ التفسير النصي – وتحمل مصطلحات نفسية كثيرة علامة هذا الأصل المزدوج يقدم كتاب (تأويل الأحلام) لفرويد على سبيل المثال مفهوم الرقابة censorship الذي يعبر عن فعل قوة الكبت على مستوى انتاج النص، برغم كون النص ينكشف أولاً من حيث محوه، أو تشويهه.
وكذلك يجب ان نشير إلى تلك العمليات الغزيرة التي وضعها فرويد تحت عنوان نوعي كبير هو (عمل الحلم) وتعمل هذه العمليات عملاً ميكانيكياً بوصفها إزاحة أو تكثيفاً أو انحلالاً.... إلخ، وهي عمليات يجمعها فرويد تحت عنوان عام : Entstetellung كان قد ترجم بصيغة (تشوية) أو (تلويث) وفي الوقت نفسه، يمكن قراءة تفاعل القوى في نص نبذة الحلم مفهومة بوصفها نوعاً من الرق، أو اللغز، أو الكتابة الهيروغليفية لذلك يجب أن يفترض التحليل النفسي وجود منزلة ابستمولوجية أو معرفية خليطة تفرضها عليه هذه المفاهيم الهجينة جميعاً ما دامت هذه الصراعات العميقة تقاوم أي اختزال إلى عمليات لغوية، وأن كانت لا يمكن ان تقرأ إلا في نص الحلم أو النص الرمزي، مثل هذه الصياغة المفهومية لا تنم عن نقيصة في الصياغة المفهومية للتحليل النفسي، بل على العكس من ذلك تنم عن التعرف الدقيق على المكان الذي يحصل فيه خطابه، عند نقطة تمازج القوة والمعنى، والدافع والخطاب وعلم الطاقة وعلم الدلالة.
تتيح لنا هذه المناقشة الوجيزة للتحليل النفسي أن نضع يدنا على سبب عدم عبور الرمز إلى أرض الاستعارة فالاستعارة تحصل في عالم اللوغوس الخاص تماماً بينما يتردد الرمز على الخط الفاصل بين الحياة واللوغوس فهو يتحقق في نقطة التجذر الأولى للخطاب في الحياة لأنه يولد حيث يتطابق القوة والشكل.
والأكثر صعوبة أن نحدد ما الذي يجعل اللغة الشعرية لغة (مقيدة) وهي في حقيقة الأمر، وكما تظهر لدى أول اقتراب منها، لغة غير مقيدة أو متحررة، القت عن كاهلها بعض القيود المعجمية والنحوية والأسلوبية، بل تحررت قبل كل شيء من الاحالات المقصودة في كل من اللغة اليومية واللغة العلمية، اللتين يمكن الزعم عن طريق المقارنة، أنهما مقيدتان بالوقائع والموضوعات التجريبية والضوابط المنطقية السائدة في طرق التفكير الراسخة لدينا ولكن أليس بوسعنا أن نقول ومرة أخرى عن طريق المقارنة: إن العالم الشعري هو فضاء لا يقل افتراضاً عن النسق الرياضي في علاقته بأي عالم متعين يعمل الشاعر، بوجيز العبارة، عن طريق اللغة في عالم افتراضي بل نستطيع القول بصيغة متطرفة إن المشروع الشعري هو مشروع تدمير للعالم كما نسلم به اعتيادياً ويومياً، تماماً كما جعل هوسرل تدمير عالمنا أساس الاختزال الظاهرياتي (الفينومينولوجي).
أو نستطيع القول دون المبالغة، أو الايغال في البعد، متابعين نورثروب فراي، إن اللغة الشعرية، بوصفها قلباً للغة اليومية، لا تتجه للخارج بل تتجه إلى الداخل نحو الباطن الذي لا يتمثل إلا في الحالة التي تنشئها وتعبر عنها القصيدة، هنا تصير القصيدة أشبه بعمل موسيقي يتماثل امتداده مع امتداد النسق الداخلي لحالة الرموز التي تصوغها لغته.
بهذا المعنى يتحرر الشعر من العالم، ولكنه إن تحرر بهذا المعنى، فقد تقيد بمعنى آخر، تقيد تماماً إلى حد أنه تحرر تماماً.
وما قلناه قبل قليل عن الحالة التي يتسارق امتدادها مع النسق الرمزي للقصيدة، يبين أن القصيدة ليست شكلاً من أشكال اللعب المجاني بالألفاظ، بل تتقيد القصيدة بما تخلفه إذا كان تعطيل الخطاب اليومي وقصدها التعليمي يفترضان خاصية فورية للشاعر، هذا لأن اختزال قيم الإحالة إلى الخارج في الخطاب اليومي هو الشرط السلبي الذي يسمح بتصورات جديدة تعبر عن معنى الواقع الذي يراد نقله إلى اللغة، ومن خلال هذه التصورات الجديدة تنقل إلى اللغة أيضاً طرق جديدة للوجود في العالم والعيش فيه واشتراع إمكاناتنا الداخلية عليه، لذلك ليس بالشيء الكثير أن نحدد أنفسنا بالقول: إن القصيدة تنشىء وتعبر عن حالة ولكن ما هي الحالة، إن لم تكن نمطاً معيناً من الوجود في العالم، وربط المرء نفسه به، وفهمه وتأويله ؟ ما يوثق الخطاب الشعري إذاً هو نقل انماط الوجود التي تعمي عليها الرؤية اليومية، بل حتى تكبتها وبهذا المعنى فالشاعر أكثر الناس تحرراً بل يمكننا أن نقول: إن كلام الشاعر متحرر من الرؤية اليومية للعالم، فقط لأنه يطلق نفسه على الوجود الجديد الذي يريد نقله إلى اللغة.
وأخيراً فإن رمزية المقدس، كما درسها مرسيا إلياد على سبيل المثال، مناسبة تماماً لتأملنا في تجذر الخطاب في النسق اللا – دلالي بل قبل إلياد ركز رودولف أوتو في كتابه (فكرة المقدس) تركيزاً بالغاً على مظهر المقدس بوصفه قوة وسطوة وفاعلية.
ومهما طرحنا من اعتراضات على وصفه للمقدس فإنه يظل قيماً في كونه يساعدنا على أن نظل في منجى من جميع محاولات اختزال الأساطير لغوياً، وقد تم تحذيرنا سلفاً بأننا هنا نعبر عتبة تجربة لا تبيح نفسها تماماً لمقولات اللوغوس ودعاواه في النقل أو التأويل.
وليس العنصر الروحي الخارق بقضية لغوية وإن قدر له أن يصاغ لغوياً، لأن الكلام عن القوة يعني الكلام عن شيء آخر غير الكلام حتى وان كان يتضمن قوة الكلام وهذه القوة من حيث هي فاعلية متميزة هي ما لا ينتقل بالكامل إلى صياغة المعنى.
صحيح أن فكرة القدسي التي يتخذها الياد بديلاً عن فكرة الروح الخارقة على سعتها، تتضمن أن لتجليات المقدس بنية أو شكلاً، ولكن حتى حينئذ لا يمنح الكلام أية أفضلية خاصة، فقد يتجلى المقدس أيضاً في الأحجار أو الأشجار من حيث هي حوامل للفاعلية، وتشهد على الخاصة ما قبل اللفظية لمثل هذه التجربة التعديلات التي تجرى على الزمان والمكان، من حيث هما زمان مقدس ومكان مقدس وهي تعديلات تتعدى حدود اللغة على المستوى الجمالي للتجربة بالمعنى الكانطي للتعبير.
وتشهد الرابطة بين الأسطورة والطقس بطريقة أخرى على البعد اللا – لغوي في المقدس فهي تعمل بوصفها منطق المطابقات التي تسم عالم المقدس وتشير إلى خصوصية رؤية الإنسان الديني للعالم، تحدث هذه الروابط على مستوى عناصر العالم الطبيعي نفسه كالسماء والأرض والهواء والماء وتجعل هذه الرمزية السماوية نفسها الظهورات المتعددة تتواصل فيما بينها، في حين أنها تحيل في القوت نفسه إلى العنصر السماوي الكامن في التجليات القدسية للحياة هكذا يكون مقابل تعالي السماء امتلاء أرضي وشيك، يتمثل في ازدياد أعداد القطعان واخصاب رحم الأم.
لا وجود لمخلوقات حية في داخل العالم المقدس هنا أو هناك، لكن الحياة مبثوته في كل مكان من حيث هي قداسة تتخلل كل شيء ويمكن رؤيتها في حركة النجوم وفي عودة حياة النبات كل عام، وفي تبادل الموت والميلاد، بهذا المعنى تكون الرموز مقيدة في عالم المقدس، فلا تأتي الرموز للغة إلا بمقدار ما تصير عناصر العالم نفسها شفافة هذه الخاصية المقيدة للرموز هي التي تختصر اختلاف الرمز عن الاستعارة فالاستعارة ابتكار خطابي متحرر، والرمز مقيد بالكون هنا نلمس عنصراً غير قابل للاختزال عنصراً أكثر صعوبة على الاختزال من العنصر الذي تشف عنه التجربة الشعرية، تتأسس القدرة على الكلام في عالم المقدس على قدرة الكونيات على الإشارة إلى الإشارة ولذلك ينبع منطق المعنى من بنية عالم المقدس نفسها وقانونه هو قانون المطابقات، المطابقات بين ما حصل في زمن الآلهة in illo tempore وبين النسق الحالي للمظاهر الطبيعية والفعاليات الإنسانية، وهذا هو السبب في أن المعبد، مثلاً يتوافق دائماً مع نموذج سماوي، وهو أيضاً السبب في ان الزواج المقدس بين السماء والأرض يتطابق مع وحدة الذكر والأنثى كمطابقة بين العالم الكبير والعالم الصغير، وكذلك الحال هناك مطابقة بين التربة المحروثة والعضو الأنثوي بين خصوبة الأرض ورحم المرأة بين الشمس وأعيننا ، بين المني والبذور، بين الدفن وبذار الحنطة، والميلاد وعودة الربيع.
هناك مطابقة ثلاثية بين الجسم والبيوت والكون تجعل أعمدة المعبد وأعمدتنا الفقرة يرمز كل منها للآخر تماماً مثلما هناك مطابقات بين السقف والجمجمة والانفاس والريح.... إلخ، وهذه المطابقة الثلاثية هي أيضاً السبب في أن العتبات والأبواب والجسور والممرات الضيقة التي يختصرها فعل السكنى في فضاء ما والمكث فيه تتطابق مع أنواع متماثلة من العبور تساعدنا طقوس التكريس فيها على عبور اللحظات الحاسمة من رحلتنا في الحياة: لحظات مثل الميلاد ، والبلوغ، والزواج، والموت.
هذا هو منطق المطابقات الذي يوثق الخطاب في عالم المقدس ويمكننا القول: إنه بفضل الخطاب دائماً يكشف هذا المنطق عن نفسه، إذ لو لم تجد أسطورة تروى عن كيفية مجيء الأشياء للوجود أو لم توجد طقوس تعيد تفعيل هذه العملية لبقي المقدس بلا تجل يكشف عنه وفيما يتعلق بالطقس الذي هو إحدى كيفيات العمل أو الفعل فعل شيء ما تميزه القوة، فإن مما يفتقر إلى القوة أن ننظم الزمان والمكان دون عون من كلمة مؤسسة أو خطاب يخبرنا كيف يستجيب المرء لتجلي القوة، أما فيما يتعلق بالرمزية الدائرة بين عناصر العالم، فهي أيضاً تفعل عمل اللغة بأكملها بل إن الرمزية لا تعمل إلا حين يتم تأويل بنيتها بهذا المعنى لابد من تأويلية في حدها الادنى لتشغيل أية رمزية لكن هذه الصياغة اللغوية لا تقمع ما سميته بالتصاق الرمزية المميز بالعالم المقدس، بل هي تفترضه أصلاً، ولا يمكن لتأويل الرمزية أن يكون مهيمناً ما لم يحظ عمل تأمله بالشرعية عن طريق علاقة غير مباشرة بين المظهر والمعنى في تجلي المقدس المقصود وتكشف قداسة الطبيعة عن نفسها بقولها ذاتها رمزياً والكشف هو الذي ينشىء القول لا العكس.
إذا جمعنا الآن التحليلات السابقة، فإنني أميل إلى القول إن ما يراد نقله إلى اللغة في الرموز ولكنه لا يجتاز حدود اللغة أبداً، هو دائماً شيء ما قوي، فاعل ذو سطوة، ويبدو أن الإنسان هنا متشخص كقوة وجود منفصل على نحو غير مباشر عن الأعالي، والأسافل والجانبين فقوة الدوافع التي تنتاب تخيلاتنا وأنماط الوجود المتخيلة التي تلهب الكلمة الشعرية، وكل ما يعترينا ويتوعدنا من عنف حين نشعر بعدم حب الآخرين لنا، في كل هذه الحالات، وربما في غيرها أيضاً، يحدث جدل القوة والشكل، الذي يضمن أن تمسك اللغة وحدها بالزبد على سطح الحياة.
الدرجات الوسطى بين الرمز والاستعارة
ترد ملاحظاتي السابقة – مهما غامرت بها وغامرت بي – مشروع إضاءة الرموز كله في ضوء نظرية الاستعارة عبثاً لا طائل منه، إذا لم يغر وصف الرموز بدوره بتطورات جديدة في نظرية الاستعارة.
تدعونا إقامة نظرية الرموز على نظرية الاستعارة إلى ان نتأمل أولاً في عمل الاستعارات كسلسلة أو شبكة، وفي التحليل الذي اقترحناه فيما سبق تظل الاستعارات وقائع، وعلى نحو ما مجرد أماكن في الخطاب، وتميل مقارنة الاستعارة بلغز أو أحجية إلى حصر التحليل بما تطرحه رياح الخطاب من استعارات فردية.
وبالتالي إلى الاكتفاء بالجانب الزائل من اللغة، وفي الحقيقة فإننا حين نجعل الاستعارة ابتداعاً دلالياً فإننا نؤكد على كونها لا توجد إلا في لحظة الابتكار، وحين يتم تجريد الاستعارة من منزلتها في اللغة الراسخة فإنها تكون مجرد واقعة خطابية، بكل ما للكلمة من معنى قوي، والنتيجة ان الاستعارة حين تتداولها الجماعة اللغوية وتقر بها تختلط بامتداد لا حصر له من الكلمات المتعددة المعاني، في البداية، تبتذل الكلمة ثم تتحول إلى استعارة ميته، وفي المقابل، لأن الرموز تمد جذورها في أصقاع الحياة والشعور والعالم المتينة، ولأن لها ثباتاً استثنائياً فإنها تفضي بنا إلى التفكير بأن الرمز لا يموت، بل يتحول فقط، من هنا إذا تشبثنا بمعيار الاستعارة فلابد أن تكون الرموز استعارات ميتة، ولكن ما الفرق إن لم نتشبث به ؟
لعل عمل الاستعارة لا يكتمل ولا يتناسب على الاطلاق كوسيلة للتعبير عن الزمانية المختلفة للرموز، أو ما يمكن لنا أن نسميه، اصرارها على البقاء إذا لم تنفذ الاستعارات أنفسها من الاضمحلال التام عن طريق رص صفوفها لتحقيق تبادل التأثير بين الاشارات، كل استعارة تستدعي الأخرى، وكل واحدة تبقى حية بالحفاظ على قدرتها في استحثاث الشبكة بأسرها، هكذا يطلق على الله في التراث العبري اسم الملك، والأب، والزوج، والمولى، والراعي، والقاضي، كما يطلق عليه الصخرة والحصن والمخلص والعبد المعذب فتولد الشبكة ما يمكننا أن نسميه باستعارات الجذور root metaphors الاستعارات التي لديها القوة من جهة لجمع الاستعارات الجزئية المستمدة من مختلف ميادين تجربتنا وتضفي عليها بالتالي نوعاً من التوازن، ومن جهة أخرى لديها قدرة على توليد غزارة مفهومية أعني عدداً غير محدود من التأويلات الضمنية على المستوى المفهومي، فاستعارات الجذور تجمع وتفرق تجمع الصور التابعة معاً وتفرق المفاهيم على مستوى أعلى إنها الاستعارات المهيمنة القادرة على توليد وتنظيم شبكة نافعة كنقطة اتصال بين المستوى الرمزي بارتقائه البطيء والمستوى الاستعاري السريع الزوال.
وهناك جانب ثانٍ من العمل الاستعاري يميل إلى تقريبه من الرموز، فمجموعة الاستعارات بصرف النظر عن تأسيسها للشبكة الاستعارية، تقدم تأسيساً متدرجاً أصيلاً، كما أكد على ذلك فيليب ولرايت في كتابيه النبع الملتهب والاستعارة والواقع والأخير
التفسير والفهم
الثنائية لا توغل في البعد بحيث تقضي على الجدل الأولي في معنى الناطق ومعنى النطق، وكما رأينا في المقالين الثاني والثالث، يظل هذا الجدل تتوسطه عناصر وسطى كثيرة، لكنه لا يلغى أبداً، وعلى النحو نفسه، لا ينبغي معاملة الاستقطاب بين التفسير والفهم في القراءة بمصطلحات ثنائية، بل بوصفه جدلاً بالغ التعقيد وكثير الوساطات، وبالتالي فإن مصطلح التأويل لا ينبغي أن ينطبق على حالة فهم جزئية منفردة، أعني التعبيرات الحياتية المكتوبة، بل على كامل العملية التي تحيط بالتفسير والفهم، والتأويل بصفته جدل التفسير والفهم أو الاستيعاب يمكن إرجاعه إلى المراحل الابتدائية من السلوك التأويلي الذي يعمل في المناقشة أصلاً، وفي حين يصح أن الكتابة والتأليف الأدبي وحدهما يقدمان تطويراً كاملاً لهذا الجدل، فلا ينبغي الإحالة إلى التأويل بوصفه إقليماً من أقاليم الفهم، فهو لا يتحدد بنوع من الموضوع ـ أعني العلامات “المسطورة” بأكثر معاني الكلمة عموماً ـ بل بنوع من العملية: ألا وهي حركية القراءة التأويلية.
ومن أجل تقديم عرض تعليمي لجدل التفسير والفهم، كمرحلتين من عملية فريدة، اقترح وصف الجدل أولاً كنقلة من الفهم إلى التفسير، ثم كنقلة من التفسير إلى الاستيعاب، في المرة الأولى، سيكون الاستيعاب نمطاً معقداً من الفهم، تدعمه إجراءات تفسيرية، في البداية، الفهم مجرد تخمين، وفي النهاية، يرضي الفهم مفهوم التملك الذي وصفناه في المقال الثالث بكونه إعادة الوصل بنوع من التمييز المرتبط بعملية موضعة النص ككل، سيبدو التفسير، إذاً بوصفه وساطة بين مرحلتين من الفهم، فإذا عزل عن هذه العملية العينية فسيكون مجرد تجريد، أو مجرد صنيع للمنهجية.
من التخمين إلى التصديق
لماذا ينبغي أن يتخذ أول فعل من أفعال الفهم شكل تخمين؟ وما الذي يجب تخمينه في النص؟
قد يمكن ربط الضرورة التي تقضي بتخمين معنى نص ما بنوع من الاستقلال الدلالي الذي عزوته للمعنى النصي في مقالتي الثانية.
مع الكتابة، لا يتوافق المعنى اللفظي للنص مع المعنى العقلي أو قصد النص، فهذا القصد يحققه النص ويُلغيه معاً، لأنه لم يعد يحمل صوت شخص حاضر، النص أخرس، لا صوت له، هنا تحصل علاقة غير متناسبة بين النص والقارىء، يتحدث فيها أحد الشريكين على لسان كليهما، النص أشبه بقطعة موسيقية، والقارىء أشبه بعازف الأوركسترا الذي يطيع تعليمات التنغيم، وبالتالي، فليس الفهم مجرد تكرار للواقعة الكلامية في واقعة شبيهة، بل توليد واقعة جديدة تبدأ من النص الذي تموضعت فيه الواقعة الأولى.
بعبارة أخرى، علينا أن نخمن معنى النص لأن قصد المؤلف بعيد عن متناول أيدينا، ولعل اعتراضي على التأويلية الرومانسية هنا يتضاعف ويزداد قوة، وكلنا يعرف القاعدة العامة ـ السابقة في حقيقتها على الرومانسيين، ما دام كانط يعرفها وقد استشهد بها ـ القائلة بفهم المؤلف بأفضل مما نفسه، وحتى لو اكتسبت هذه القاعدة العامة تأويلات مختلفة الآن، وحتى لو تم استردادها مع تعديلات مناسبة “كما سأحاول أن أبين فيما بعد” فإنها قد ساقت التأويلية قدماً بحيث عبرت عن فكرة المجانسة congeniality أو الاشتراك من “جنس” إلى “جنس” في التأويل، لقد تغاضت أشكال التأويل الرومانسية عن الوضعية الخاصة التي خلقها انفصال المعنى اللفظي للنص عن القصد العقلي للمؤلف، والحقيقة أن المؤلف لا يستطيع “إنقاذ” عمله، إذا استذكرنا الصورة الأثيرة لدى أفلاطون، التي ناقشناها في المقالة الثانية، وغالباً ما يكون قصده مجهولاً لدينا، قد يكون زائداً عن الحاجة، وقد يكون عديم الفائدة، بل قد يكون مضراً فيما يتعلق بتأويل المعنى اللفظي لعمله، وفي أحسن الأحوال يجب أخذه بالاعتبار في ضوء النص نفسه.
وبالنتيجة، ليس السبب في مشكلة التأويل هو عدم إمكان نقل التجربة النفسية للمؤلف، بل يكمن السبب في طبيعة القصد اللفظي للنص، ويدل تخطي المعنى للقصد على أن الفهم يحدث في فضاء غير نفسي، بل دلالي، نحت فيه النص نفسه منفصلاً عن القصد العقلي لمؤلفه.
هنا يبدأ جدل التفسير erklaren والفهم verstehen فإذا كان المعنى الموضوعي شيئاً آخر غير القصد الذاتي للمؤلف فقد يمكن تشكيله بطرق مختلفة، وسوء الفهم ممكن، بل لا يمكن تحاشيه.
ولا يكون بالمستطاع حل مشكلة الفهم الصحيح عن طريق عودة بسيطة إلى موقف المؤلف المزعوم، ولا مصدر آخر سوى هذا لمفهوم التخمين، لأن ترجمة المعنى إلى معنى لفظي للنص هو التخمين بعينه، ولكن كما سنرى فيما بعد، إذا كنا نفتقر إلى وجود قواعد للقيام بتخمينات صحيحة، فإن هناك مناهج للتصديق على تلك التخمينات التي نقوم بها، وكلا الطرفين مطلوب في هذا الجدل الجديد، إذ يتطابق التخمين مع ما يسميه شلير ماخر بـ “التكهني”، بينما يتطابق التصديق مع ما يسميه بـ “القواعدي”، وكلاهما ضروري لعملية قراءة النص.
يحتمي الانتقال من التخمين إلى التفسير ببحث موضوع التخمين المتعين، وقد أجبنا عن سؤالنا الأول، لماذا ينبغي لنا أن نخمن لكي نفهم؟ وما زال علينا أن نقرر ما الذي يجب على الفهم تخمينه.
أولاً، إن تفسير المعنى اللفظي للنص يعني تفسيره ككل، ونحن هنا نعتمد على تحليل النص بصفته عملاً أكثر مما نعتمد على تحليل الخطاب بصفته مكتوباً، وعمل الخطاب أكثر من مجرد تتابع خطي للجمل، بل هو عملية تراكمية، كلية.
وما دامت هذه البنية المتعينة للعمل لا يمكن استمدادها من بنية الجمل المفردة، فإن للنص بذاته نوعاً من التعدد اللفظي plurivocity، الذي هو غير تعدد المعاني في الألفاظ المفردة، وغير غموض الجمل المفردة، وهذا التعدد النصي سمة نموذجية تسم أعمال الخطاب المعقدة، وتنفتح بها على تعدد الأبنية، والعلاقة بين الكل والأجزاء ـ كما في عمل فني أو لدى الحيوان ـ تتطلب نوعاً معيناً من (الحكم) هو الذي أضفى عليه كانط نظريته في كتابه(نقد ملكة الحكم) من الناحية الملموسة، يبدو الكل وكأنه تدرج من الموضوعات، من الموضوعات الأولية والتابعة، ليست على درجة واحدة من الارتفاع، حتى تعطي للنص بنية مجسامية ولذلك تتخذ اعادة بناء معمار النص شكل عملية دائرية، بمعنى أن مسلمات من نوع ما عن الكل تضمن عند التعرف على الأجزاء والعكس صحيح أيضاً، فعند تفسير التفاصيل نفسر الكل فلاضرورة، ولادليل على الخوض في أيها مهم وأيها غير مهم إذ إن الحكم بالأهمية هو نفسه تخمين.
ثانياً، إن تفسير نص ما يعني تفسيره منفرداً وكما رأينا في المقالة الثانية، إذا كان العمل منتجاً على وفق قوانين نوعية (ونشوئية) فإنه منتج أيضاً بوصفه وجوداً فريداً يقول أرسطو: إن التفنية وحدها تولد الأفراد، في حين تمسك المعرفة بالأنواع ويؤكد كانط من وجهة نظر أخرى هذا الموقف، فحكم الذوق هو وحده ما يدور حول الأفراد فعمل الخطاب، من حيث هو هذا العمل الفريد، لايمكن أن تصله سوى عملية تضييق نطاق المفاهيم النوعية، التي تتضمن الأنواع الأدبية، وفئة النصوص التي ينتمي إليها هذا النص، وأنماط الشفرات والبنى التي تتفاعل في هذا النص وهذا التخصيص والتفريد للنص الفريد هو أيضاً تخمين.
يمكن مقارنة النص بصفته كلاً وبصفته كلاً مفرداً بموضوع تمكن رؤيته من جوانب متعددة، ولكن لاتمكن رؤيته من جميع الجوانب دفعة واحدة ولذلك فلإعادة بناء الكل ناحية منظورية مشابهة للناحية المنظورية في الموضوع المدرك يمكن دائماً أن نربط الجملة نفسها بطرق مختلفة بهذه الجملة أو تلك باعتبارها حجر الزاوية في النص ينطوي فعلى القراءة، إذاً على نوع معين من الواحدية وهذه الواحدية هي التي تضفي على التخمين سمة التأويل.
ثالثاً، أن تتضمن النصوص الأدبية آفاق معنى ضمنية، يمكن تحقيقها بطرق مختلفة وترتبط هذه السمة ارتباطاً مباشراً بدور المعاني الاستعارية والرمزية الموصوفة في المقالة الثالثة أكثر مما ترتبط بنظرية الكتابة التي طورناها في المقال الثاني وقبل سنوات قليلة، كنت معتاداً على ربط مهمة التأويلية ربطاً أساسياً بفك مغاليق طبقات متعددة من المعنى في اللغة الاستعارية والرمزية.
أما اليوم فأرى أن اللغة الاستعارية والرمزية ليست نموذجاً إرشادياً لنظرية عامة في التأويلية إذ ينبغي لهذه النظرية أن تغطي مشكلة الخطاب فأرى أن اللغة الاستعارية والرمزية ليست نموذجاً إرشادياً لنظرية عامة في التأويلية إذ ينبغي لهذه النظرية أن تغطي مشكلة الخطاب بأسرها، بما فيها الكتابة والتأليف الأدبي ولكن حتى هنا، يمكن وصف نظرية الاستعارة ونظرية التعبيرات الرمزية لتقديم امتداد حاسم لميدان التعبيرات ذات المعنى، باضافة إشكالية المعنى المتعدد لإشكالية المعنى عموماً فالأدب يتأثر بهذا الامتداد إلى درجة أنه يمكن تعريفه بمصطلحات دلالية من خلال العلاقة بين المعاني الأولية والمعاني الثانوية فيه والمعاني الثانوية، كما في حالة الأفق، تحيط بالموضوع، وتفتح العمل على قراءات متعددة بل يمكن القول: إن هذه القراءات محكومة بتوجيهات المعنى الذي ينتمي لهوامش المعنى الضمني المحيط بالنواة الدلالية للعمل لكن هذه التوجيهات أيضاً يجب أن تخمن قبل أن تحكم عمل التأويل.
أتفق، فيما يتعلق باجراءات التصديق التي نمتحن بها تخميناتنا، مع إ.د.هيرش أنها أقرب إلى منطق الاحتمال منها إلى منطق التحقيق التجريبي وبيان قوة ترجيح تأويل ما في ضوء مانعرفه هو شيء آخر غير بيان صحة شيء ما وبالتالي ليس التصديق هو التحقق.
بل هو مبحث استدلالي تمكن مقارنته بالاجراءات التشريعية المستعملة في تأويل القانون وهو منطق اللايقين والاحتمال الكيفي ويستتبع هذا الفهم للتصديق أننا قد نضفي مغزى مقبولاً على المقابلة بين علوم الطبيعة Naturwissenschaften وعلم الروح Geistwissenschaften دون أن نسلم مع العقيدة الرومانسية المزعومة بعصمة الفرد ومنهج خلط المؤشرات، الذي يسم منطق الاحتمال الذاتي، يوفر لنا أساساً ثابتاً لقيام علم الفرد، الذي يمكننا أن نطلق عليه اسم العلم بحق ومادام النص شبه فردي، فإن التصديق على تأويل منطبق عليه قد يعطينا معرفة علمية بالنص.
هذا هو الميزان بين نوع التخمين والطبيعة العلمية للتصديق، التي تشكل استحضاراً حديثاُ للجدل بين الفهم verstehen والتفسير erklaren ونحن قادرون في الوقت نفسه على اعطاء معنى مقبول للمفهوم الشهير عن الدائرة التأويلية فبمعنى من المعاني، يرتبط التخمين والتصديق ارتباطاً دائرياً بوصفها مقاربتين ذاتية وموضوعية من النص لكن هذه الدائرة ليست حلقة مفرغة سنسقط في الحلقة المفرغة إذا لم نكن قادرين على الافلات من نوع من التوافق الذاتي الذي يهدد، فيما يرى هيرش، العلاقة بين التخمين والتصديق ولكن تنتمي إلى اجراءات التصديق أيضاً اجراءات الابطال invalidation المشابهة لمعايير اثبات التزييف falsiftability التي اقترحها كارل بوبر في كتابه (منطق الكشف) ويلعب الصراع بين التأويلات المتنافسة هنا دور إثبات التزييف ولاينبغي للتأويل أن يكون محتملاً فقط، بل يجب أن يكون أكثر ترجيحاً من سواه وهناك معايير للأفضلية النسبية لحل هذا النزاع، الذي يمكن استمداده بسهولة من منطق الاحتمال الذاتي.
وختاماً لهذا المقطع، إذا صح القول دائماً بوجود أكثر من طريقة لتفسير النص، فلا يصح القول بأن التأويلات متساوية، فالنص يقدم ميداناً محدوداً من الأبنية الممكنة ويتيح لنا منطق التصديق أن نتحرك بين حدي الدوغمائية والشكية بل يمكن دائماً الوقوف مع أو ضد تأويل معين، والمواجهة بين التأويلات، والفصل بينهما، والبحث عن اتفاق، حتى لو كان هذا الاتفاق بعيداً عن متناول أيدينا.
من التفسير إلى الاستيعاب
كان الوصف السابق للجدل بين الفهم تخميناً، والتفسير تصديقاً نظيراً للجدل بين الواقعة والمعنى، أما التقديم التالي لهذا الجدل نفسه، ولكن على نسق معكوس، فيرتبط باستقطاب آخر في بنية الخطاب، ألا وهو جدل المغزى والإحالة وكما قلت عن تخارج الخطاب التام بقدر مالايتوقف المعنى عند الموضوع المثالي الذي يقصده الناطق فقط، بل الواقع الفعلي الذي يهدف إليه المنطق ولكن من وجهة نظر أخرى، يضيق الاستقطاب بين المغزى والاحالة حتى ليستحق معالجة متميزة، تكشف عن مصيره في الكتابة، وقبل كل شيء، في بعض الاستعمالات الأدبية للخطاب وتصح هذه النقاط نفسها مع نظائر نظرية النص في نظرية القراءة.
رأينا سابقاً أن الوظيفة المرجعية للنصوص المكتوبة تتأثر تأثراً عميقاً عند غياب موقف مشترك بين الكاتب والقارىء فهي تتجاوز الدلالة الظاهرية لأفق الواقع المحيط بالموقف الحواري بالطبع تحتفظ الجمل المكتوبة باستعمال الوسائل الظاهرية، لكن هذه الوسائل الظاهرية لن تقوى على توضيح مايحال إليه ولتغيير الدلالة الظاهرية هذا مضامين ايجابية وسلبية فمن ناحية يتضمن توسيعاً لما يحال به على الواقع وقد صار للغة الآن عالم بكامله، لامجرد موقف ولكن بقدر ما يبقى هذا العالم غير مستكشف بعد، بل أشير إليه وحسب، فإن التجريد الكامل للواقع المحيط به يصير ممكناً وهذا مايحصل مع بعض أعمال الخطاب، وفي الحقيقة مع أكثر الأعمال الأدبية، التي يتم فيها تعليق القصد المرجعي، أو في الأقل تلك الأعمال التي يتم فيها تعليق الإحالة إلى الموضوعات الأليفة للخطاب اليومي، فضلاً عن زمن نوع من الاحالة إلى بعض الجوانب ذات الجذور أو الأبعاد الأعمق لوجودنا في العالم.
الجدل الجديد بين التفسير والاستيعاب هو النظير لهذه المغامرات في الوظيفة المرجعية للنص في نظرية القراءة ويتسبب التجريد في العالم المحيط الذي تجعله الكتابة ممكناً ويحققه الأدب، في وجود موقفين متعارضين فإما أن نبقى كقراء في نوع من حالة التعليق فيما يخص أي نوع من المحال به إلى الواقع، أو نحقق خيالياً الاحالات غير الظاهرية الضمنية للنص في موقف جديد، وهو موقف القارىء في الحالة الأولى نعامل النص ككيان لا واقع له.. يتضمنه فعل القراءة وهاتان الامكانيتان موقوفتان معاً على فعل القراءة المفهوم بوصفه تفاعلهما الجدلي.
لقد أوضحت مختلف المدارس البنيوية في النقد الأدبي اليوم الطريقة الأولى في القراءة ومقاربتها ليست فقط ممكنة بل مشروعة فهي تنبع من الاعتراف بما أسميته بتعليق الاحالة الظاهرية أو كبتها.
يحصر النص بعد(العالم) في الخطاب – أي العلاقة بعالم يمكن الكشف عنه – على نحو ما يقطع ارتباط الخطاب بالقصد الذاتي للمؤلف وتعني القراءة، بهذه الطريقة، إطالة تعليق الاحالة الظاهرية، نقل الذات إلى المكان الذي يقف فيه النص، في إطار هذا الانحباس في مكان لاعالم فيه ووفقاً لهذا الاختيار لايعود للنص خارج ما، بل باطن فقط ونكرر أن تشكيل النص نفسه من حيث هو نص، ونظام النصوص من حيث هو أدب، يسوغ هذا القلب للموضوع الأدبي إلى نظام مغلق من العلامات، مشابه لنوع من النظام المغلق الذي اكتشفته الفنلولوجيا(علم النظام الصوتي) أساساً يستند إليه كل خطاب، وهو ماسماه سوسير باللغة langue
واستناداً إلى افتراض العمل هذا يصير الأدب نظيراً للغة بما هي لسان.
على أساس هذا التجريد، يمكن توسيع نوع جديد من الموقف التفسيري للموضوع الأدبي وليس هذا الموقف الجديد بمستعار من منطقة معرفة غريبة عن اللغة، بل يأتي من الحقل نفسه، ألا وهو الحقل السيميائي ومن هنا يمكن معالجة النصوص استناداً إلى القواعد التفسيرية التي أفلح علم اللغة في تطبيقها على الأنظمة الأولية للعلامات التي تشكل أساس استعمال اللغة وقد تعلمنا من مدرسة جنيف ومدرسة براغ، والمدرسة الدنمركية في علم اللغة أن من الممكن دائماً تجريد أنظمة من العمليات، وربط هذه الأنظمة، سواء أكانت صوتية أم معجمية أم نحوية، بوحدات كان قد تم تعريفها من خلال المقابلة مع وحدات أخرى من النظام نفسه وهذا التفاعل بين الكيانات المتميزة في داخل مجموعات محدودة من هذه الوحدات، كما رأينا في المقالة الأولى، يحدد فكرة النظام أو البنية في علم اللغة الحديث.
هذا النموذج البنيوي، إذاً هو الذي يطبق الآن على النصوص، أي على متواليات من العلامات أطول من الجملة التي هي آخر نوع من الوحدات يوليه علم اللغة اهتمامه.
وتوسيع النموذج البنيوي على النصوص مسعى جرئ دون شك ألا يقف النص إلى جانب الكلام أكثر مما يقف إلى جانب اللغة؟ أليس تتابعاً من المنطوقات، وبالتالي وفي التحليل الأخير، تتابعاً من الجمل؟ ألم نبين في مقالنا الأول المقابلة بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة، كما يحتوي عليهما مفهوم الخطاب الذي قابلناه باللغة؟ تشير مثل هذه الأسئلة في الأقل إلى أن توسيع النموذج البنيوي إلى النصوص لايستنفد حقل المواقف الممكنة فيما يتعلق بالنص لذلك ينبغي لنا أن نحد من هذا التوسيع للنموذج اللغوي حتى يصير مجرد مقاربة ممكنة واحدة لفكرة النصوص المؤولة مع ذلك دعونا نتأمل أولاً في مثال على هذه المقاربة ممكنة واحدة بقليل من التفصيل قبل الانتقال للتأمل في تصور ثانٍ ممكن عن التأويل.
يصوغ ليفي – شتراوس في مقالته عن(الدراسة البنيوية للأسطورة) افتراض العمل للتحليل البنيوي فيما يتعلق بإحدى فئات النصوص، ألا وهي فئة الاساطير يقول: (تتكون الأسطورة كسائر اللغة، من وحدات مكونة وتفترض هذه الوحدات المكونة قبلاً الوحدات المكونة الحاضرة في اللغة حين يتم تحليلها على مستويات أخرى – وهي تحديداً الفونيمات والمورفيمات والسيميمات – لكنها تختلف عن هذه الوحدات بطريقة ما، مثلما تختلف هذه الوحدات عن بعضها، فهي تنتمي إلى نسق أعلى وأكثر تعقيداً لهذا السبب سندعوها(الوحدات المكونة الاجمالية).
باستعمال هذا الافتراض، سيمكن للوحدات الكبرى، التي لا يختلف حجمها في الأقل عن حجم الجملة، والتي تشكل حين توضع إلى جوار بعضها السرد الخاص بالأسطورة، أن تعامل استناداً إلى القوانين التي تنطبق على الوحدات الصغرى التي يعرفها علم اللغة وتأكيداً على هذه المماثلة يدعوها ليفي – شتراوس بـ(الميثيمات) تماماً مثلما نتكلم عن الفونيمات والمورفيمات والواحدات ذات المستوى الأدنى، فإن تحليل النصوص لابد له أن يؤدي النوع نفسه من التجريد الذي يقوم به عالم الأصوات وليس الفونيم، عند عالم الأصوات، بصوت عياني ملموس، بالمعنى المطلق، بل هو خاصية سمعية ليس الفونيم جوهراً، إذا تحدثنا عن طريقة سوسير، بل شكل فقط، أي تفاعل عدد من العلاقات.
وعلى غرار ذلك، ليس الميثيم جملة من جمل الأسطورة، بل هو قيمة المقابلة المستخلصة من مختلف الجمل المفردة، التي تشكل حزمة من العلاقات ولايمكن لهذه العلاقات أن تستعمل وتجمع مع بعضها لتوليد معنى إلا من حيث هي حزمة وليس ما يسمى بالمعنى هنا هو ماتعنيه الأسطورة على الاطلاق بمعنى محتواها أو قصدها الفلسفي أو الوجودي، بل هو بالأحرى طريقة ترتيب الميثيمات وعرضها، أي بوجيز العبارة، بنية الأسطورة.
أود أن نستذكر هنا بإيجاز التحليل الذي يقدمه ليفي – شتراوس لأسطورة أوديب استناداً إلى هذا المنهج يقسم ليفي – شتراوس في البداية جمل الأسطورة في أربعة أعمدة يضع في العمود الأول جميع تلك الجمل التي تبالغ في تقدير علاقة القربى: على سبيل المثال، أو ديب يتزوج من جوكاستا، أمه، أنتيغونة تدفن بولينيس، أخاها، برغم الأمر الذي تلقته بعدم فعل ذلك ونجد في العمود الثاني هذه العلاقات نفسها ولكن مقلوبة بحيث تصير المبالغة في تقدير علاقات القربى اهمالاً لها: أوديب يقتل أباه، لايوس، إيتوكليس يقتل أخاه، بولينيس ويعنى العمود الثالث بالوحوش والقضاء عليها بينما يضم العمود الرابع جميع أسماء الأعلام التي توحي معانيها بصعوبة السير السوي: الأعرج، الأخرق، ذو القدم المتورمة.
تكشف المقارنة بين هذه الأعمدة الأربعة عن وجود ارتباط بين العمودين واحد واثنين، لدينا علاقات قربى بولغ في تقديرها، وأخرى بولغ في تجاهلها وبين العمودين ثلاثة وأربعة هناك نفي وتأكيد معاً لاستقلال الانسان الذاتي ويستتبع ذلك أن العمود الرابع يقوم بالنسبة إلى العمود الثالث بما يقوم به العمود الأول بالنسبة إلى الثاني.. وبعلاقات ارتباط من هذا النوع يمثل الافراط في تقدير علاقات الدم من التفريط في علاقات الدم ماتمثله محاولة الافلات من الاستقلال الذاتي من استحالة النجاح فيها) هكذا تبدو الأسطورة نوعاً من الأداة المنطقية التي تجمع بين التناقضات لتتغلب عليها(ويتغلب على ربط نوعين من العلاقات أو بالأحرى يحل محله التأكيد على أن العلاقات المتناقضة هي علاقات متطابقة بقدر ماهي متناقضة مع ذاتها على نحو مشابه) وفي حقيقة الأمر، نستطيع القول: إننا فسرنا الأسطورة هنا، لكننا لم نؤولها لقد عرضنا من خلال وسائل التحليل البنيوي، لمنطق العمليات التي تربط الحزم الأربع من العلاقات ببعضها ويشكل هذا المنطق القانون البنيوي للأسطورة موضوع التأمل ولكن لا يصح أن نغفل أن هذا القانون هو موضوع قراءة على نحو بارز، لا قوة الأسطورة في موقف معين وهنا يكون النص مجرد نص، ولا تقيم فيه القراءة إلا من حيث هو نص، بفضل تعليق معناه عنا، وتأجيل تحققه خلال الخطاب المعاصر.
لقد استشهدت بمثال من حقل الأساطير وأستطيع أن أستشهد بمثال آخر من حقل مجاور له، أعني من سرد الحكاية الشعبية لقد استكشف هذا الحقل الشكليون الروس من مدرسة بورب، كما استكشفه المختصون الفرنسيون بالتحليل البنيوي من طراز رولان بارت وغريماس ويستعمل هؤلاء الكتاب المسلمات نفسها التي استعملها ليفي – شتراوس تتألف الوحدات التي فوق الجملة على نحو ما تتألف الوحدات التي تحتها ومعنى عنصر ماهو قدرته على الاندراج في علاقة مع بقية العناصر ومع العمل ككل وهذه المسلمات تحدد خاتمة السرد لذلك تكمن مهمة التحليل البنيوي في تقسيم العمل إلى أجزاء وهذا هو المحور الأفقي ثم دمج الأجزاء في كل على مستويات مختلفة وهذا هو المحور التراتبي لكن وحدات الفعل التي تقسم ثم تنظم بهذه الطريقة، لاعلاقة لها بالسمات النفسية التي يمكن أن تكون قد عيشت، أو بالتقسيم السلوكي الذي يمكن أن يندرج تحت علم النفس السلوكي وقصارى ماتصبو إليه هذه المتواليات أن تكون نقاطاً تحكم في السرد، بحيث إذا تغير عنصر من هذه العناصر، اختلفت بقية العناصر الأخرى أيضاً وهنا نلحظ انتقال المنهج التراكمي من المستوى الصوتي إلى مستوى الوحدات السردية يكمن منطق الفعل، إذاً، في ربط نويات الفعل، التي تشكل معاً الاتصال البنيوي للسرد ويفضي تطبيق هذه التقنية إلى نزع العنصر الزمني عن السرد، بغية إيضاح المنطق السردي الكامن تحت الزمن السردي وبالتالي يتم اختزال السرد إلى تركيبة من الوحدات الدرامية القليلة مثل الوعد والخديعة والمنع والمساعدة.. إلخ التي يمكن بالتالي أن تكون نماذج ارشادية للفعل المتوالية هي تتابع نويات الأفعال، التي ينهي كل منها البديل الذي افتتحه الفعل السابق عليه وتتناسب الوحدات الأولية، بدورها، مع الوحدات الكبرى على سبيل المثال، تضم المواجهة أفعالاً أولية مثل الاقتراب والدعوة والتحية.. إلخ وتفسير السرد يعني التمسك بهذه البنية السيمفونية في تقسيم الأفعال.
تقابل سلسلة الأفعال علاقات مشابهة بين الفاعلين actors في السرد وليس المقصود بالفاعلين هنا الذوات النفسية، بل الأدوار ذات الصيغة الشكلية المرتبطة بالأفعال ذات الصيغة الشكلية ولا يتحدد الفاعلون إلا بصيغ إسناد الأفعال لهم عن طريق المحاور الدلالية للجملة والسرد من يقوم بالأفعال من يتلقى الأفعال، من تؤدي الأفعال معه.. إلخ من يعد، من يتلقى الوعد، المعطي، المتلقي..إلخ وهكذا يستخرج التحليل البنيوي تراتباً من الفاعلين مرتبطاً بتراتب الأفعال الخطوة الأخرى هي جمع أجزاء السرد لتشكيل كل منها، وإعادته إلى الاتصال السردي هو إذاً خطاب يوجه راو إلى متلق.
لكن لاينبغي البحث عن هذين المتحدثين، في رأي التحليل السردي، في أي مكان عدا النص فالراوي يتحدد بالعلامات السردية، التي تنتمي هي نفسها إلى تكوين السرد فليس هناك ما يتخطى المستويات الثلاثة في الأفعال والفاعلين السرد، وتناله والمقاربة السيميائية خلف المستوى الأخير لايوجد سوى عالم مستعملي السرد، الذي يعق هو نفسه تحت طائلة المباحث السيميائية التي تعنى بالأنظمة الاجتماعية أو الاقتصادية أوالايديولوجية.
هذا التحويل للنموذج اللغوي إلى نظرية السرد يعزز تماماً ملاحظتي الأولى بخصوص الفهم المعاصر للتفسير و اليوم لم يعد مفهوم التفسير مستعاراً من العلوم الطبيعية ومنقولاً إلى حقل آخر، هو حقل الوثائق المكتوبة فهو ينبع من عالم اللغة المشترك بفضل الانتقال بالمماثلة من الوحدات الصغرى للغة(الفونيمات واللكسيمات) إلى الوحدات الكبرى التي تتعدى حدود الجملة، بما فيها السرد والحكاية الشعبية والأسطورة وهذا هو ماتعنيه المدارس البنيوية بالتفسير بالمعنى الدقيق للكلمة.
أريد الآن أن أبين كيف يتطلب التفسير الفهم وكيف يولد الفهم بطريقة جديدة الجدل الداخلي الذي يكون التأويل ككل في واقع الأمر، ما من أحد يتوقف عند تصور الأساطير والمرويات بوصفها صيغاً شكلية لا تختلف عن الصيغ الجبرية في الوحدات المكونة ويمكن بيان ذلك بعدد من الطرق في البداية تحمل الوحدات، حتى في أكثر صيغ تقديم الأساطير شكلية، كما اقترحها ليفي – شتراوس، وسماها بالميثيمات، معنى وإحالة، ويعبر عنها بوصفها جملاً هل يستطيع أحد الزعم بأن معناها حيادي حين تدخل في حزمة من العلاقات، التي يحيطها وحدها منطق الأسطورة بنظر الاعتبار؟ حتى حزمة العلاقات هذه لابد من كتابتها على شكل جملة في حالة أسطورة أوديب، مثلاً يعني التغير من الإفراط في علاقات القربى إلى التفريط في علاقات القربى شيئاً له مضامينه الوجودية العميقة وأخيراً فإن نوع اللعبة اللغوية القائمة على أن النسق الكلي للمقابلات والتركيبات التي تجسدها سيفتقر إلى أية دلالة، إذا لم تكن المقابلات نفسها، التي يميل ليفي – شتراوس إلى توسيطها في تقديمه للأسطورة، مقابلات ذات معنى بخصوص الموت والميلاد، العمى والاستبصار، الجنس والحقيقة ومن دون هذه الصراعات الوجودية لن تكون هناك تناقضات يمكن التغلب عليها، ولا وظيفة منطقية للأسطورة كمحاولة لحل هذه التناقضات.
لايستبعد التحليل البنيوي، بل يفترض مقدماً، الفرضية المقابلة بخصوص الأسطورة، أي كونها تحمل معنى بوصفها رواية للأصول والتحليل البنيوي يكبت هذه الوظيفة فقط لكنه لايستطيع إيقافها. بل لاتستطيع الأسطورة أن تؤدي وظيفتها كعامل منطقي, مالم تكن القضايا التي تركبها تشير باتجاه مواقف حدودية. والتحليل البنيوي, بصرف النظر عن تجنبه الخوض في مثل هذه التساؤلات الجذرية, يستعيدها على مستوى أعلى من الجذرية.
إذا صح هذا, أفلا يمكننا القول: إن وظيفة التحليل البنيوي هو أن يقودنا من علم دلالة السطوح, الخاص بالأسطورة المرورية, إلى علم دلالة الأعماق, الخاص بالمواقف الحدودية, التي تكون “المرجع” النهائي للأسطورة؟
أعتقد أنه إذا لم يصح ذلك, فإن التحليل البنيوي سيرتد إلى مجرد لعبة عقيمة, أو جبر سجالي, بل إن الأسطورة نفسها ستُحرم من الوظيفة التي يسندها ليفي- شتراوس نفسه لها, أعني جعل الناس واعين ببعض الأضداد واستمالتهم نحو الوساطة التطورية. وإقصاء الإحالة على التباسات الوجود التي ينجذب إليها الفكر الأسطوري سيكون اختزالاً لنظرية الأسطورة إلى سجل وفيات لخطابات الإنسانية الخالية من المعنى.
أما إذا اعتبرنا التحليل البنيوي, على العكس من ذلك, مرحلة واحدة- وإن كانت مرحلة ضرورية- بين التأويل الساذج والتأويل النقدي, بين تأويل السطوح وتأويل الأعماق, إذاً, فسيمكن وضع التفسير والفهم على مرحلتين مختلفتين من القوس التأويلي الفريد.
وإذا أخذنا علم دلالة الأعماق دليل هدي لنا, فسنستطيع أن نعود الآن إلى مشكلتنا الأولى عن إحالة النص. وفي وسعنا الآن إعطاء اسم لهذه الإحالة اللا- ظاهرية. فهي نوع العالم الذي تنفتح عليه دلاليات الأعماق في النص, أي الانكشاف, الذي ينطوي على نتائج مطمورة بخصوص مايسمى في العادة بمغزى النص. وليس مغزى النص شيئاً وراء النص, بل هو أمامه. ليس بالشيء الخفي, بل هو شيء مفضوح. وماينبغي أن يُفهم ليس الموقف الأولي للخطاب, بل مايشير إلى عالم ممكن, بفضل الإحالة غير الظاهرية للنص. وهنا تكون علاقة الفهم بالمؤلف والسياق أقل مما هي عليه في العادة.
لأنه يريد الإمساك بقضايا العالم التي تنفتح عليها إحالة النص. وفهم النص يعني متابعة حركته من المغزى إلى الإحالة, ومما يقوله إلى مايتحدث عنه. وفي هذه العملية, يشكل الدور الوسيط الذي يلعبه التحليل البنيوي تسويغاً للمقاربة الموضوعية, وتصحيحاً للمقاربة الذاتية للنص معاً. ونحن محظور علينا تحديداً أن نطابق الفهم مع نوع من الإمساك الحدسي بالقصد الذي يتبطن النص. وماقلناه عن دلاليات الأعماق التي يمنحها لنا التحليل البنيوي يدعونا بالأحرى إلى التفكير بأن مغزى النص هذا هو مايقضي به النص, كطريقة جديدة لرؤية الأشياء, وهو قضاء التفكير على نحو ما أيضاً.
هذه هي الإحالة التي تحملها دلاليات الأعماق. يتكلم النص عن عالم ممكن وعن طريقة ممكنة يوجه بها المرء ذاته فيه. وأبعاد هذا العالم يفتحها ويفضحها معاً النص نفسه. والخطاب هو المكافئ للغة المكتوبة في الإحالة الظاهرية بالنسبة إلى اللغة المنطوقة وهو يتعدى مجرد وظيفة التأشير والكشف عما يوجد أصلاً, وبهذا المعنى, يتعالى على وظيفة الإحالة الظاهرية المرتبطة باللغة المنطوقة. وهنا يكون الكشف في الوقت نفسه خلقاً لنمط جديد من الوجود.
تعليقات