التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3
التصوير الفني في القرآن
سيـــد قطـــب
إهداء
إليك يا أماه، أرفع هذا الكتاب.
لطالما تسمَّعتِ من وراء “الشيش” في القرية، للقراء يرتلون في دارنا القرآن، طوال شهر رمضان. وأنا معك ـ أحاول أن ألغو كالأطفال ـ فتردني منك إشارة حازمة، وهمسة حاسمة،فأنصت معك إلى الترتيل، وتشرب نفسي موسيقاه. وإن لم أفهم بعد معناه.
وحينما نشأت بين يديك ، بعثت بي إلى المدرسة الأولية في القرية، وأولى أمانيك أن يفتح الله عليَّ ، فأحفظ القرآن ، وأن يرزقني الصوت الرخيم، فأرتله لك كل آنٍ . ثم عدلت بي عن هذا الطريق في النهاية إلى الطريق الجديد الذي أسلكه الآن، بعد ما تحقق لك شطر من أمانيك، فحفظت القرآن.
ولقد رحلت عنا ـ يا أماه ـ وآخر صورك الشاخصة في خيالي، جلستك في الدار أمام المذياع، تستمعين للترتيل الجميل، ويبدو في قسمات وجهك النبيل أنك تدركين ـ بقلبك الكبير، وحسك البصير ـ مراميه وخفاياه.
فإليك يا أماه..ثمرة توجيهك الطويل. لطفلك الصغير. ولفتاك الكبير. ولئن كان قد فاته جمال الترتيل ، فعسى ألا يكون قد فاته جمال التأويل. والله يرعاك عنده ويرعاه.
ابنك سيد
لقد وجدت القرآن!
لهذا الكتاب في نفسي قصة
ولقد كان من حقي أن احتفظ بهذه القصة لنفسي، ما ظل هذا الكتاب خاطراً في ضميري. أما وقد أخذ طريقه إلى المطبعة، فإن قصته لم تعد ملكاً لي ، ولا خاصة بي.
لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير، لا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه . ولكنني كنت أجد في نفسي منه شيئاً.
لقد كان خيالي الساذج الصغير، يجسم لي بعض الصور من خلال تعبير القرآن. وإنها لصور ساذجة، ولكنها كانت تشوق نفسي وتلذ حسي، فأظل فترة غير قصيرة أتملاها، وأنا بها فرح، ولها نشيط.
من الصور الساذجة التي كانت ترتسم في خيالي إذ ذاك صورة كانت تتمثل لي كلما قرأت هذه الآية:
{ ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة}.
ولا يضحك أحد ، حينما أطلعه على هذه الصورة في خيالي:
لقد كان يشخص في مخيلتي رجل قائم على حافة مكان مرتفع: مصطبة ـ فقد كنت في القرية ـ أو قمة تل ضيقة ـ فقد رأيت التل المجاور للوادي ـ وهو قائم يصلي ، ولكنه لا يملك موقفه، فهو يتأرجح في كل حركة، ويهم بالسقوط وأنا بإزائه، أتتبع حركاته ، في لذة وشغف عجيبين!
ومن تلك الصور الساذجة صورة كانت تتمثل لي كلما قرأت هذه الآية:
{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه. فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ،أو تتركه يلهث}.
لم أكن أدرك من معاني هذه الآية شيئاً ولا من مراميها. ولكن صورة كانت تشخص في مخيلتي .صورة رجل ، فاغر الفم، متدلي اللسان، يلهث ويلهث في غير انقطاع، وأنا بإزائه ، لا أحول نظري عنه ، ولا أفهم لم يلهث، ولا أجرؤ على الدنو منه.
وصور من هذه شتى ، كانت ترتسم لخيالي الصغير، وكنت ألتذ التأمل فيها، وأشتاق قراءة القرآن من أجلها، وأبحث عنها ـ كلما قرأت ـ في ثناياه..
تلك أيام...ولقد مضت بذكرياتها الحلوة، وبخيالاتها الساذجة.
ثم تلتها أيام ، ودخلت المعاهد العلمية، فقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة . ولكنني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل، الذي كنت أجده في الطفولة والصبا.
وا أسفاه! لقد طُمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذة والتشويق.تُرى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب الميسر المشوق، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزق؟ أم إنها جناية الطريقة المتبعة في التفسير؟.
وعدت إلى القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير. وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة. إنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك.لقد تغير فهمي لها، فعدت الآن أجد مراميها وأغراضها، وأعرف أنها مثل يضرب، لا حادث يقع.
ولكن سحرها ما يزال وجاذبيتها ما تزال.
الحمد لله لقد وجدت القرآن!
وخطر لي أن أعرض للناس بعض النماذج مما أجده في القرآن من صور، ففعلت ، ونشرت بحثاً في مجلة المقتطف عام 1939م تحت عنوان:« التصوير الفني في القرآن» تناولت فيه عدة صور فأثبتها، وكشفت عما فيها من جمال فني ، وبينت القدرة القادرة التي تصور بالألفاظ المجردة، ما تعجز عن تصويره الريشة الملونة، والعدسة المشخصة. وقلت: إن هذا البحث يصلح أن يكون موضوعاً لرسالة جامعية.
ومرت السنوات، وصور القرآن تخايل لي، وتتراءى فيها آثار الإعجاز الفني . وكلما عدت إليها قوي في نفسي أن أتولى البحث الذي تركته فلم يحاوله أحد، وأن أكمله وأتوسع فيه. وظللت أعكف على القرآن بين الحين والحين ، أتملى صوره الفريدة،فتزداد فكرة البحث في نفسي رسوخاً، ثم تشغلني عنه الشواغل ،فيرتد أمنية في الضمير،ورغبة في الشعور. إلى أن شاء الله أن أتوفر عليه في هذا العام.
لقد بدأت البحث ومرجعي الأول فيه هو المصحف، لأجمع الصور الفنية في القرآن ، واستعرضها، وأبين طريقة التصوير فيها، والتناسق الفني في إخراجها ـ إذ كان همي كله موجهاً إلى الجانب الفني الخاص، دون التعرض للمباحث اللغوية أو الكلامية أو الفقهية أو سواها من مباحث القرآن المطروقة.
ولكن ماذا أرى؟
إن حقيقة جديدة تبرز لي .إن الصور في القرآن ليست جزءاً منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض ـ فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال ـ فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب. ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز.
ذلك توفيق لم أكن أتطلع إليه،حتى التقيت به!وعلى هذا الأساس قام البحث، وكل ما فيه إنما هو عرض لهذه القاعدة ، وتشريح لظواهرها، وكشف عن هذه الخاصية التي لم يتعرض أحد من قبل لها.
وحين انتهيت من التحضير للبحث، وجدتني أشهد في نفسي مولد القرآن من جديد. لقد وجدته كما لم أعهده من قبل أبداً. لقد كان القرآن جميلاً في نفسي .نعم , ولكن جماله كان أجزاء وتفاريق.أما اليوم فهو عندي جملة موحدة، تقوم على قاعدة خاصة، وما لا أظن أحداً تصوره.
فلئن كنت قد وفقت في نقل هذه الصورة كما أراها في نفسي، وفي إبرازها للناس كما أحسها في ضميري،فليكونن هذا ـ بلا شك ـ نجاحاً كاملاً لهذا الكتاب.
التصوير الفني
التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني،والحالة النفسية ، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة.فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات ، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات ، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس المضمرة.
إنها الحياة هنا ،وليست حكاية الحياة.
فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المرويّ، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن.
والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله،حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها، حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد ، أو حالة نفسية ، أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني، أو حادثة واقعة، أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد القيامة، أو حالة من حالات النعيم والعذاب، أو حيثما أراد أن يضرب مثلاً في جدل أو محاجة، بل حيثما أراد هذا الجدل إطلاقاً، واعتمد فيه على الواقع المحسوس، والمتخيل المنظور.
وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا: (( إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن)) فليس هو حلية أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخصيصة شاملة ، وطريقة معينة، يفتن في استخدامها بطرائق شتى، وفي أوضاع مختلفة، ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة: قاعدة التصوير.
ويجب أن نتوسع في معنى التصوير، حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيراً ما يشترك الوصف ، والحوار، وجرس الكلمات ، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان.
وهو تصوير حيّ منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة ، تصوير تقاس الأبعاد فيه و المسافات ، بالمشاعر والوجدانات ، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.
والآن نأخذ في ضرب الأمثال:
ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية:
1ـ يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله، ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل.
هذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة ، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية:
{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمّ الخياط}.
ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم “الجمل” خاصة في هذا المقام، ويدع للحس أن يتأثر معنى القبول ومعنى الاستحالة، في أعماق النفس، وقد وردا إليها من طريق العين والحس ـ تخييلاً ـ وعبرا إليها من منافذ شتى ، في هينة وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
2ـ ويريد أن يبين أن الله سيضيع أعمال الذين كفروا كأن لم تكن قبل شيئاً ، وستضيع إلى غير عودة فلا يملكون لها رداً، فيقدم هذا المعنى مصوراً في قوله:
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ، فجعلناه هباءً منثورا}.
ويدعك تتخيل صورة الهباء المنثور، فتعطيك معنى أوضح وأكد، للضياع الحاسم المؤكد.
3ـ أو يرسم هذه الصورة المطولة بعض الشيء لهذا المعنى نفسه:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يومٍ عاصفٍ، لا يقدرون على شيء مما كسبوا}.
فتزيد الصورة حركة وحياة، بحركة الريح في يوم عاصف،تذرو الرماد وتذهب به بدداً، إلى حيث لا يتجمع أبداً.
4ـ ويريد أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء، والتي يتبعها المن والأذى، لا تثمر شيئاً ولا تبقى, فينقل إليهم هذا المعنى المجرد ، في صورة حسية متخيلة على النحو التالي:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب. فأصابه وابل فتركه صلداً}.
ويدعهم يتملون هيئة البحر الصلب المستوي، غطته طبقة خفيفة من التراب، فظُنت فيه الخصوبة، فإذا وابل من المطر يصيبه ، وبدلاً من أن يهيئه للخصب والنماء ـ كما هي شيمة الأرض حين تجودها السماءـ إذا به ـ كما هو المنظور ـ بتركه صلداً، وتذهب تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تستره، وتخيل فيه الخير والخصوبة.
ثم يمضي في التصوير لإبراز المعنى المقابل لمعنى الرياء، ومعنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى:
{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة، أًصابها وابلٌ، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل}.
فهنا الوجه الثاني للصورة، والصفحة المقابلة للصفحة الأولى ، فهذه الصدقات التي تُنفق ابتغاء مرضاة الله، هي في هذه المرة كالجنة، لا كحفنة من تراب، وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان،فالجنة هنا فوق ربوة، وهذا هو الوابل مشتركاً بين الحالتين، ولكنه في الحالة الأولى يمحو ويمحق ، وفي الحالة الثانية يربي ويخصب. في الحالة الأولى يصيب الصفوان، فيكشف عن وجه كالح كالأذى، وفي الحالة الثانية يصيب الجنة، فيمتزج بالتربة ويخرج “أكلاً”. ولو أن هذا الوابل لم يصبها، فإن فيها من الخصب والاستعداد للإنبات، ما يجعل القليل من المطر يهزها ويحييها!{فإن لم يصبها وابل فطل}.
ولا أريد أن أتعرض هنا لذلك التناسق العجيب في جو الصورة، وفي تماثل جزئياتها،وفي توزيع هذه الجزئيات على الرقعة فيها.
حيث يكون الصفوان تغشيه طبقة خفيفة من التراب، مثلاً للنفس المؤذية تغشيها الصدقة تبذل رياء (والرياء ستار رقيق يخفي القلب الغليظ) وحيث توضع الجنة فوق ربوة، في مقابل الحفنة من التراب فوق الصفوان..
فهذا التقسيم والتوزيع، وهذا التقابل والتنسيق، متروك كله إلى فصل سيجيء من فصول هذا الكتاب.
5ـ ثم يعود إلى ذلك المعنى مرة أخرى فيقول:
{ مثل ماينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ,أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته}.
فيرسم صورة الحرث تأخذه الريح فيها برد يضرب الزرع والثمار فيهلكها ,فلا ينال صاحب الحرث منه ما كان يرجو بعد الجهد فيه , كالذي ينفق ماله وهو كافر , ويرجو الخير فيما أنفق ,فيذهب الكفر بما كان يرجوه.
ولا يفوتنا ما في جرس كلمة (صر) من تصوير لمدلولها , وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه , وذلك لون من التناسق ,سنعرض له كذلك في فصله الخاص.
6ـ ويريد أن يبرز معنى : أن الله وحده يستجيب لمن يدعوه , وينيله مايرجوه , وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لاتملك لهم شيئاً , ولا تنيلهم خيراً ,ولو كان الخير قريباً , فيرسم لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة:
{ له دعوة الحق ,والذين يدعون من دونه لايستجيبون لهم بشيء , إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ,وما هو ببالغه ,وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}..
وهي صورة تلح على الحس والوجدان ,وتجتذب إليها الا لتفات , فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة ,وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ: شخص حي شاخص , باسط كفيه إلى الماء ,والماء منه قريب ,يريد أن يبلغه فاه ,ولكنه لا يستطيع ولو مد مدة فربما استطاع!
7ـ ويبين أن الآلهة الذين يعبدون من دون الله ,لايسمعون ولايجيبون ,لأنهم لا يعون ولايتبينون ,وأن دعاء عبادهم لهم عبث لا طائل وراءه , فيختار صورة تبين هذا المعنى , وجسم هذه الحالة , وتلمس الحس والنفس بأقوى مما تلمسهما العبارات العادية , عن المعاني الذهنية.
{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} .
هكذا ينعق الكفار بما لا يسمع , وينادون ما لايفهم ,فلا يصل إليه من أصواتهم إلا دعاء مبهم ,ونداء لا يفهم فهؤلاء الآلهة لا يميزون بين الأصوات ولا يفهمون مراميها , وهذا مثل ,ولكنه صورة شاخصة , صورة جماعة يدعون آلهة تصل إليها أصواتهم مبهمة , فلا تفهم مما وراءها شيئاً , وفيها تتجلى غفلة الداعين وعبث دعوتهم , بجانب غفلة المدعوين واستحالة إجابتهم.
8ـ ويريد أن يجسم ضعف هؤلاء الآلهة , أو الأولياء من دون الله عامة ,ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه عبادهم حين يحتمون بحمايتهم ,فيرسم لهذا كله صورة مزدوجة:
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء, كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ,لو كانوا يعلمون} .
فهم عناكب ضئيلة واهنة تأوي من حمى هؤلاء الآلهة أو الأولياء إلى بيت كبيوت العنكبوت أوهن وأضال , {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} ولكنهم لايعلمون حتى هذه البديهية المنظورة ,فهم يضيفون إلى الضعف والوهن , جهلاً وغفلة , حتى ليعجزون عن إدراك البديهي المنظور.
9ـ ويريد أن يبين أن الذي يشرك بالله , لا منبت له ولا جذور ,ولابقاء له ولا استقرار , فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات , عنيفة الحركات:
{ومن يشرك بالله ,فكأنما خر من السماء ,فتخطفه الطير , أو تهوي به الريح في مكان سحيق}..
هكذا في ومضة بخرُّ من السماء من حيث لايدري أحد ,فلا يستقر على الأرض لحظة أن الطير لتخطفه ,أو أن الريح لتهوي به.. وتهوي به في مكان سحيق! حيث لا يدري أحد كذلك ذلك هو المقصود.
10ـ ويريد أن يثبت معنى الحرمان والإهمال في الآخرة لهؤلاء الذين أعطاهم الله الكتاب من قبل الإسلام فأهملوه ,وعاهدهم على الإيمان فعاهدوه , ثم أخلفوه , ابتغاء نفع مادي قليل,شأن من لا عهد له , ولا احترام لكلمته ,فيرسم لهذا الإهمال المعنوي صورة حسية:
{ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً , أولئك لاخلاق ,لهم في الآخرة ,ولا يكلمهم الله ,ولا ينظر إليهم يوم القيامة , ولايزكيهم ولهم عذاب أليم}.
فيوضح معنى الإهمال لا بألفاظ الإهمال , ولكن برسم الحركات الدالة عليه: لا كلام ,ولا نظر , ولا تزكية , وإنما عذاب أليم.
وكما يصور المعاني المجردة بصور الحالات النفسية والمعنوية:
1ـ يريد أن يبرز الحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد , ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد والآلهة المتعددين , ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال فيرسم هذه الصورة المحسة المتخيلة:
{قل : أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا , ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله ,كالذي استهوته الشياطين في الأرض ,حيران ,له أصحاب يدعونه إلى الهدى .. ائتنا...}
فتبرز صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوته الشياطين في الأرض (ولفظ الاستهواء لفظ مصور لمدلولة) ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه , فتكون له راحة ذي القصد الموحد ـ ولو كان في طريق الضلال ـ ولكن هناك من الجانب الآخر ,إخوان له يدعونه إلى الهدى , وينادونه (ائتنا) وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء (حيران) موزع القلب ,لايدري أي الفريقين يجيب ,ولا أي الطريقين يسلك ,فهو قائم هناك شاخص متلفت.
2ـ ويريد أن يكشف عن حال أولئك الذين يهيئ الله لهم المعرفة , فيفرون منها كأن لم تهيأ لهم أبداً , ثم يعيشون بعد ذلك هابطين ,تطاردهم أنفسهم وأهواؤهم , بما علموا وبما جهلوا,فلا هم استراحوا بالغفلة ,ولا هم استراحوا بالمعرفة ,فيرسم لهم هذه الهيئة:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ,فانسلخ منها , فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين, ولو شئنا لرفعناه بها ,ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ,فمثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}..
وفي الصورة تحقير وتقذير ـ وذلك غرض ديني لا شأن لنا به هنا ـ ولكنها من الوجهة الفنية صورة شاخصة فيها الحركة الدائبة , وهي صورة معهودة ,فهي في تثبيت المعنى المراد بها أشد وأقوى , وهكذا يلتقي الغرض الديني بالغرض الفني ,كالشأن في جميع الصور التي يرسمها القرآن.
3ـ ويريد أن يوضح حالة تزعزع العقيدة , حيث لايستقر الإنسان على يقين ,ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ , ولا يجعل عقيدته في معزل عن ملابسات حياة ,بعيدة عن ميزان الربح والخسارة , فيرسم لهذا التزعزع صورة تهتز وتترنح وتوشك أن تنهار:
{ ومن الناس من يعبد الله على حرف ,فإن أصابه خير اطمأن به ,وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ,خسر الدنيا والآخرة}.
إن الخيال ليكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس ,وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم ,وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب ,وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع ,لأنها تنطبع في الحس ,وتتصل منه بالنفس.
وإني لاذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي ,وأنا طفل اقرأ القرآن في المدرسة الأولية , حين وصلت إلى هذه الآية.. ترى يبعد تصوري الآن كثيراً عن هذه الصورة الساذجة؟ لا أظن! فالاختلاف الذي طرأ هو مجرد إدراكي اليوم أن هذا مثل يضرب , لا حقيقة تشهد , وذلك إعجاز التعبير الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك ,وتصل في كل حالة إلى صورة حية , مع اختلاف الأفهام.
4ـ ومما هو بسبيل من ذلك في غرض آخر غير هذا الغرض ,تلك الصورة التي رسمها للمسلمين قبل أن يسلموا ,يوم أن كانوا معرضين لجهنم بما هم فيه من الكفر , فقال:
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ,واذكروا نعمة الله عليكم ,إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً ,وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها}.
هكذا {كنتم على شفا حفرة من النار} موشكين على الوقوع , تكاد أقدامكم تزل فتهوون ,وليس المهم لدينا ـ في هذا المجال ـ دقة التشبيه وصدقه , إنما المهم أولاً هو هذه الصورة -القلقة المتحركة الموشكة في الخيال على الزوال ولو استطاعت ريشة مصور بالألوان أن تبرز هذه الحركة المتخيلة في صورة صامته لكانت براعة تحسب في عالم التصوير ,والمصور يملك الريشة واللوحة والألوان وهنا ألفاظ فحسب يصور بها القرآن.
ثم ننظر إلى جمال التعبير من زاوية أخرى: إذ يرسم هذه الصورة ,ثم يجعل هذه الحفرة من النار ,ويجعلهم على شفا منها ,فيطوي الحياة الدنيا كلها ـ وهي الفاصل بينهم وبين النار ويجعلهم ـ وهم بعد أحياء ,وهم بعد في الدنيا ـ واقفين هذه الوقفة ,على شفا حفرة من النار ,حينما كانوا من الكفار!
5ـ وشبيهة بهذه الصورة صورة أخرى ,لمن يقيم بنيانه على غير التقوى:
{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ,فانهار به في نار جهنم}.
فهنا قد أكمل الحركة الأخيرة ,التي كانت متوقعة هناك: {فانهار به في نار جهنم} وبذلك طوى الحياة الدنيا كلها ,دون أن يذكر ولو كلمة (ثم) في موضع (الفاء) فانهار لأن هذا المدى الطويل ,قصير قصير , حتى لاضرورة لهذا (التراخي) القصير! (وهذا فن من جمال العرض سيأتي تفصيله في فصل خاص).
ومن بين الحالات النفسية التي يصورها القرآن ,مايرسم (نموذجاً) إنساناً واضحاً للعيان:
مثال ذلك {من يعبد الله على حرف} وقد تحدثنا عنها هناك ,فنزيد عليها هذه الأمثال:
1ـ يريد أن يشخص حالة العناد السخيف ,والمكابرة العمياء, التي لايجدي معها حجة ولا برهان فيبرز (نموذجاً إنسانياً) في هذه الكلمات:
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء ,فظلوا فيه يعرجون لقالوا: إنما سكرت أبصارنا ,بل نحن قوم مسحورون}.
أو يقول:
{ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ,فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين}.
2ـ ويريد أن يبين أن الإنسان لايعرف ربه إلا في ساعة الضيق , حتى إذا جاءه الفرج نسي الله الذي فرج عنه ,ولكنه لا يقولها في مثل هذا النسق الذهني إنما يرسم صورة حافلة بالحركة المتجددة , والمشاهد المتتابعة , ويرسم في خلالها (نموذجاً إنسانياً) كثير التكرار في بنى الإنسان:
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر ,حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة ,وفرحوا بها ,جاءتها ريح عاصف ,وجاءهم الموج من كل مكان ,وظنوا أنهم أحيط بهم ,دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ,فلما انجاهم ,إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق}.
وهكذا تحيا الصورة وتتحرك ,وتموج وتضطرب , وترتفع الأنفاس مع تماوج السفينة وتنخفض ,ثم تؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد ,ابلغ أداء وأوفاه.
3ـ ويريد أن يبرز حالة (نموذج) من الناس ظاهرهم يغري وباطنهم يؤذي ,فيرسم لهم صورة كما يأتي:
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ,ويشهد الله على ما في قلبه ,وهو ألد الخصام ,وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ,والله لا يحب الفساد}.
فيستعيض من الوصف الحركة والتصرف , ويبرز المفارقة بين الظاهر والباطن , في نسق من الصور المتحركة في النفس والخيال.
4ـ وفريق من الناس ضعيف العقيدة , ضعيف العزيمة , مستور الحال , لايتبين ضعفه في فترة الرخاء ,فإذا جد الجد , وجاء الشد ,ظهر هذا الضعف على ائمة.. هؤلاء يصورهم نموذجاً واضحاً في هذه الكلمات:
{ ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ,رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت}.
ومنظر المغشي عليه من الموت معهود ,فما هو إلا أن يذكر التعبير , حتى تبرز صورتهم في الضمير ,مصحوبة بالسخرية والتحقير.
5ـ وقد يبرز هذا (النموذج) في حادثة مرورية فيتجاوز الحادثة الخاصة ويخلد نموذجاً عاماً:
{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى , إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلا تقاتلوا؟ قالو: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ,وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم}.
وفي هذا المثال يزيد على الضعف ,تلك اللجاجة في أيام السلم ,وإظهار الشجاعة والاستبسال ,ثم الخور والجبن عندما تحين ساعة النضال.
وليست هذه حادثة تقع مرة وتمضي ,ولكنه نموذج مكرر في بني الإنسان ,لا يتقيد بالزمان والمكان.
وإلى هنا قصرنا الأمثلة على المعاني الذهنية ,والحالات النفسية ,والنماذج الإنسانية يخرجها التعبير القرآني صوراً شاخصة أو متحركة ويعدل بها عن التعبير المجرد إلى الرسم المصور , فلنأخذ الآن في ضرب الأمثلة على التصوير المشخص ,لمشاهد الحوادث الواقعة , والأمثال المضروبة , والقصص المروية , فالطريقة فيها واحدة والشبه بينها قريب:
1ـ ها هو ذا يتحدث عن (الهزيمة) فيرسم لها مشهداً كاملاً تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة , وتلتقي فيه الصورة الحية بالصورة النفسية , وكأنما الحادث معروض من جديد , دون أن يغفل منه قليل أو كثير:
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ,إذ جاءتكم جنود , فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها , وكان الله بما تعملون بصيراً , إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم, وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ,وتظنون بالله الظنون ,هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً , وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً , وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة ,وماهي بعورة.. إن يريدون إلا فراراً}.
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة , وأية سمة ظاهرة أو مضمرة من سمات الموقف ,لم يبرزها هذا الشريط الدقيق المتحرك , المساوق في حركته لحركة الموقف كله؟
هؤلاء هم الأعداء يأتون المؤمنين من كل مكان وهذه هي الأبصار زائغة والنفوس ضائقة وهؤلاء هم المؤمنون يزلزلون زلزالاً شديداً وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل , يقولون: { ما عدنا الله ورسوله إلا غروراً} ويقولون لأهل المدينة: لا بقاء لكم هنا ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون: إن بيوتنا مكشوفة , وليست في حقيقتها مكشوفة { إن يريدون إلا فراراً}.
وهكذا لاتفلت في الموقف حركة ولا سمة ,إلا وهي مسجلة ظاهرة , كأنها شاخصة حاضرة.. تلك حادثة وقعت بالفعل ,ولكن صورتها ترسم (الهزيمة) مطلقة من كل ملابسة,وما يزيد عليها أو ينقص منها إلا جزئيات في الواقع ! أما الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان ,حيثما التقى جمعان ,وتعرض أحدهما للخذلان.
2ـ وقريب من هذه الصورة صورة أخرى للهزيمة أيضاً ,هي كذلك صورة باقية , لا حادثة مفردة وذلك حيث يقول:
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ,وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم ليبتليكم! ولقد عفا عنكم ,والله ذو فضل على المؤمنين , إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ,والرسول يدعوكم في اخراكم فأثابكم غماً بغم لكي لاتحزنوا على مافاتكم ولا ما اصابكم والله خبير بما تعملون , ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون : هل لنا من الأمر من شيء قل: أن الأمر كله لله ,يخفون في أنفسهم ما لايبدون لك ,يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا}.
ليخيل لي أنني أشهد المنظر اللحظة بكل من فيه وكل ما فيه!
ثم نأخذ في عرض نماذج من الأمثال القصصية التي تضرب في القرآن:
1ـ ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة ـ جنة الدنيا لا جنة الآخرة ـ وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً , لقد كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة , ولكن الورثة لا يشاؤون ، إنهم ليريدون أن يستأثروا بها وحدهم ,وأن يحرموا أولئك المساكين حظهم , فلننظر كيف يصنعون:
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة , إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين ,ولايستثنون}.
لقد قرَّ رأيهم على أن ، يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر , دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين فلندعهم على قرارهم ,ولننظر ماذا يقع الآن في بهمة الليل , حيث يختفون هم ,ويخلو منهم المسرح فماذا يرى النظارة؟ هناك مفاجأة ثم خلسة , وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون , فأصبحت كالصريم} وهم لا يشعرون.
والآن ها هم أولاء يتصايحون مبكرين وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام: { فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم أن كنتم صارمين , فانطلقوا وهم يتخافتون إلا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}!
ليمسك النظارة ألسنتهم فلا ينبهوا أصحاب الجنة إلى ما أصاب جنتهم ,وليكتموا ضحكات السخرية التي تكاد تنبعث منهم ,وهم يشاهدون أصحاب الجنة المخدوعين ,يتنادون متخافتين , خشية أن يدخلها عليهم مسكين ! ليكتموا ضحكات السخرية! بل ليطلقوا فها هي ذي السخرية العظمى {وغدوا على حرد قادرين} أجل إنهم لقادرون الآن , على المنع والحرمان ,حرمان أنفسهم على الأقل!
وها هم أولا: يفاجأون فليضحك النظارة كما يشاءون: { فلما رأوها قالوا: إنا لضالون} ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار فقد ضللنا إليها الطريق!.. فلتتأكدوا يا جماعة ...{بل نحن محرومون} وهذا هو الخبر اليقين.
والآن قد سقط في أيديهم :{ قال أوسطهم: ألم أقل لكم: لولا تسبحون} أي والله هلا سبحتم الله واتقيتموه؟ قالوا: سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) الآن وبعد فوات الأوان!
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة , ويتوجه باللوم إلى الآخرين , ها هم أولاء يصنعون: {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون}.
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة , عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران , ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى { قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين , عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها , إنا إلى ربنا راغبون}
2ـ والآن فإلى صاحب جنة أخرى , بل صاحب جنتين أكبر من الأولى , إن له لقصة مع صاحب له ,ليس من ذوي الجنان , ولكن من ذوي الإيمان , وكلاهما (نموذج إنساني) لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ,تذهله الثروة وتبطره النعمة , فينسى القوى الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة , ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفني , فلن تخذله القوة ولا الجاه , وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه , الذاكر لربه , يرى النعمة دليلاً على المنعم , موجبة لحمده وذكره , لا لجحوده وكفره:
{واضرب لهم مثلاً رجلين: جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب , وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً , كلتا الجنتين أتت أكلها , ولم تظلم منه شيئاً , وفجرنا خلالهما نهراً , وكان له ثمر}.
وبهذا ترتسم صورة الجنتين مكتملة , في ازدهار وفخامة , وهذا هو المشهد الأول فلننظر إلى المشهد الثاني:
{ فقال لصاحبه ـ وهو يحاوره ـ أنا أكثر منك مالاً واعز نفراً}.
ويبدو أنه قال قولته هذه وهما في الطريق إلى الجنتين , أو وهما على الباب إذ جاء بعده:
{ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً , وما أظن الساعة قائمة ! ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً}.
فها هو ذا في أوج زهوه وبطره , وتعاليه وازدهائه فماذا ترى يكون أثر هذا كله في نفس صاحبه الفقير , الذي لاجنة له ولا مال ,ولا عصبة له ولا نفر؟ إن صاحبه لمؤمن ,فما تشعره كل هذه المظاهر بالهوان ,وما تنسيه عزة ربه الديان , وما تغفله عن واجبه الصحيح ,في رد صاحبه البطر إلى جادة الطريق , ولو استدعى ذلك أن يجيهه بالتقريع وأن يذكره بمنشئه الصغير من التراب المهين:
{ قال له صاحبه ـ وهو يحاوره ـ أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة , ثم سواك رجلاً ، لكن هو الله ربي ولا اشرك بربي أحداً ,ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله , إن ترني أنا اُقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يوتين خيراً من جنتك , ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً , أو يصبح ماؤها غوراً , فلن تستطيع له طلباً}..
وهنا ينتهي هذا المشهد بين الصاحبين : أحدهما منتفش كالديك , ازدهاه في جنته من ازدهار والآخر موقن بالله , مستعز بالإيمان , يذكر صاحبه ويؤنبه ويبصره بما كان يجب أن يصنع إذ رأى جنته , ويبدو أن صاحبه لم يستمع إليه ـ وهذا طبيعي في هذا الموقف ـ فهو يقسو عليه قسوة الغاضب لدينه ,ويدعو على جنته أن يرسل الله عليها الصواعق ,فتصبح جرداء ملساء , تزل فيها القدم وتزلق ,أو أن يصبح ماؤها غائراً لايستطيع أن يطلبه فضلاً على أن يستخرجه.. ثم يفترق الصاحبان وهما متغاضبان فلننظر بعد ماذا يكون؟
{ وأحيط بثمره ,فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول : ياليتني لم اشرك بربي أحداً } .
لقد استجاب الله دعوة الرجل المؤمن المتحدي بلا ضرورة فلنشهد صاحبنا شاخصاً يقلب كفيه على ما انفق فيها ,وهي خاوية على عروشها ,ولندعه يندم: { ياليتني لم أشرك بربي أحداً} ولنسدل الستار على منظر الدمار والاستغفار.
والآن فلنعرض شطراً من قصص حقيقية، بعدما عرضنا قصص الأمثال.
1ـ لنعرض مشهداً من قصة إبراهيم، وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل، وكأنما نحن نشهدهما يبنيان ويدعوان الآن، لا قبل اليوم بأجيال وأزمان.
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم }.
لقد انتهى الدعاء، وانتهى المشهد، وأسدل الستار.
هنا حركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء، هي التي أحيت المشهد وردته حاضراً، فالخبر: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } كان كأنما هو الإشارة برفع الستار ليظهر المشهد: البيت، وإبراهيم وإسماعيل، يدعوان هذا الدعاء الطويل.
وكم في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز، يزيد وضوحاً لو فرضت استمرار الحكاية، ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا.. الخ، إنها في هذه الصورة حكاية، وفي الصورة القرآنية حياة، وهذا هو الفارق الكبير، إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة، وسر الحركة كله في حذف لفظة واحدة.. وذلك هو الإعجاز.
2ـ ثم لنعرض مشهداً من قصة الطوفان: {وهي تجري بهم في موج كالجبال}، وفي هذه اللحظة الرهيبة، تتنبه في نوح عاطفة الأبوة، فإن هناك ابناً له لم يؤمن، وإنه ليعلم أنه مغرق مع المغرقين.
ولكن ها هو ذا الموج يطغى، فيتغلب “الإنسان” في نفس نوح على “النبي”، ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه جاهزا: { ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني أركب معنا، ولا تكن مع الكافرين }، ولكن النبوة العاقة لا تحفل هذه الضراعة، والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها: { قال: سآوي إلى جبل يعصمنيِ من الماء }، ثم ها هي ذي الأبوة الملهوفة ترسل النداء الأخير: { قال: لا عاصم اليوم من امر الله إلا من رحم}، وفي لحظة تتغير صفحة الموقف، فها هي ذي الموجة العاتية تبتلع كل شيء { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار، {وهي تجري بهم في موج كالجبال} ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة القوية العاتية، تحسم الموقف في لحظة سريعة خاطفة، وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية ـ بين الوالد والمولود ـ كما يقاس بمداه في الطبيعة ـ حيث يطغى الموج على الذرى والوديان.. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامتة، وفي نفس الإنسان.
ثم لننتقل إلى مشاهد القيامة، وإلى صور النعيم والعذاب. فقد كان لها من التصوير الفني أوفى نصيب:
1ـ {يوم يدع الداع إلى شيء نكر، خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مهطعين إلى الداع، يقول الكافرون: هذا يوم عسر}.
فهذا مشهد من مشاهد الحشر، مختصر سريع، ولكنه شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات، هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة، كأنها جراد منتشر “ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المنظر العجيب” وهذه الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي، دون أن تعرف لم يدعوها، فهو يدعوها { إلى شيء نكر}، لا تدريه، {خشعاً أبصارهم} وهذا يكمل الصورة، ويمنحها السمة الأخيرة، وفي أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع {يقول الكافرون هذا يوم عسر}، فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار؟ وإن السامعين ليتخيلون اليوم النكر، فإذا هو حشد من الصور، صورهم هم ـ السامعين ليتخيلون اليوم النكر، فإذا هو حشد من الصور، صورهم هم ـ وإنهم لمن المبعوثين ـ يتجلى فيها الهول الحي، الذي يؤثر في نفس كل حي!
2ـ وهذا مشهد آخر من مشاهد الإسراع والخشوع، أشد في النفس هولاً وأكمد في التصوير لوناً:
{ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار: مهطعين، مقنعي رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء}.
أربع صور متتابعة متواكبة، أو أربعة مشاهد لرواية واحدة، يتلو بعضها بعضاً في الاستعراض، فتتم بها صورة شاخصة في الخيال، وهي صورة فريدة للفزع والخجل والرهبة والاستسلام، يجللها ظل كئيب ساهم، يكمد الأنفاس، وهي صورة ترسم كذلك في وسط حي: هؤلاء آدميون، بينهم وبين المستمعين صلة الجنس المشترك، والحس المتشابه، فهي ترتسم في نفوسهم حية، ويصل الشعور بها من هؤلاء إلى هؤلاء بالمشاركة الوجدانية وبالتخيل المحسوس، فإذا قرأها القارىء تمشت رعدة الهول في حناياه، كأنما يلقاه.
3ـ ثم تأتي صورة الهول العظمى، التي لا تغني الألفاظ عنها، فلننقلها لتعبر عن نفسها:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمل أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد}.
مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عمل أرضعت، تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي، وبكل حامل تسقط حملها، للهول المروع ينتابها، وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة، مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن بوقعه في النفوس الآدمية: المرضعات الذاهلات عما أرضعن، والحوامل الملقيات حملهن، والسكارى وما هم بسكارى “ولكن عذاب الله شديد”.
4ـ وإذا كانت الصور الثلاثة الماضية ترسم الهول ظاهراً للعيان، فهناك صور لا يدركها إلا الوجدان:
{ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}، {ولا يسأل حميم حميماً}.
إنه لا يوجد أخصر من هذا ولا أدق في تصوير اشتغال القلب والفكر بالهم الحاضر القاهر، حتى لا موضع لسواه، ولا تلفت ولا انتباه.
5ـ وهذا موقف آخر من مواقف البعث مفصل بعض الشيء، ومؤلف من عدة مشاهد، بين كل منها والآخر فجوة يملؤها الخيال: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم، وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون}.
فهذه هي الصيحة الأولى أخذتهم وهم يتجادلون ويتخاصمون، فلم يستطيعوا حتى التوصية، لأنها عجلت بهم إلى القبور... ثم: {ونفخ في الصور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا: يا ويلنا، من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد الرحمن، وصدق المرسلون}.
وهذه هي الصيحة الثانية، وها هم أولاء يسرعون من القبور إلى ربهم، وهم في ذعر ودهش، يتساءلون: {من بعثنا من مرقدنا} ثم يفركون عيونهم فيتحققون: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}... ثم:
{ إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئاً، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}، وهذه هي الصيحة الأخيرة: {فإذا هم جميع لدينا محضرون}.
ولقد حضروا فعلاً، وارتسم المشهد، وها هم أولاء يتلقون الخطاب، على مرأى ومسمع ممن يقرأون الآن هذا الكتاب!:
{فاليوم لا تظلم نفس شيئاً، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}.
6ـ وإذ تم الحشر، وابتداء العرض، فها نحن أولاء أمام مشهد لجماعة كانت في الدنيا متوادة متحابة، وهي اليوم متناكرة متدابرة، كان بعضهم يملي لبعض في الضلال، وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين، ويهزأ من دعواهم في نعيم الآخرة.
ما هم أولاء يقتحمون النار فوجاً بعد فوج، هذا هو الفوج الأول، ينقل إليه نبأ اقتحام الفوج الثاني: {هذا فوج مقتحم معكم} فماذا يكون الجواب؟ يكون: {لا مرحباً بهم، إنهم صالوا النار}! فهل يسكت المشتومون؟ كلا فها هم أولاء يردون: {قالوا: بل أنتم لا مرحباً بكم، أنتم قدمتموه لنا، فبئس القرار!}، وإذا دعوة جامعة: {قالوا: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار}!.
ثم ماذا؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا ويظنون بهم شراً، فلا يرونهم معهم مقتحمين:
{وقالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار؟ اتخذناهم سخرياً، أم زاغت عنهم الأبصار؟} .... { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار}، وإننا لنشهد اليوم هذا التخاصم كما لو كان حاضراً في العيان! وإن كل نفس آدمية لتحس في حناياها وقع هذا المشهد وتتقيه، وتحاذر ـ لو ينفع الحذر ـ أن تقع فيه!
تلك مشاهد للبعث والحشر، وما يقع فيها من حوار بين الشركاء، وتناكر بين الأصفياء، فلنعرض صوراً من النعيم والعذاب، بعد الحوار والعتاب:
1ـ {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم، يتلون عليكم آيات ربكم، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى! ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس مثوى المتكبرين}.
{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها، وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا: الحمدلله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين}.
وتكملة المشهد:
{وترى الملائكة حافين من حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمدلله رب العالمين}.
ونحسب أن المشهد بارز واضح، منسق الخطوات، متقابل الجزئيات، لا يحتاج منا إلى توضيح أو بيان، فلنتابع خطوات الفريقين إلى ما خلف الجدران!.
2ـ { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم : ذق، إنك أنت العزيز الكريم ! إن هذا ماكنتم به تمترون }
{إن المتقين في مقام أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين، كذلك وزوجناهم بحور عين، يدعون فيها بكل فاكهة آمنين، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ووقاهم عذاب الجحيم}.
3 - ونختم مشاهد القيامة هنا، بهذا المشهد المتعدد المناظر، المتنوع المشاهد، المتفرد في طريقة العرض والحوار :
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار، أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ قالوا : نعم !فأذن مؤذن : أن لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة كافرون}.
{ وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم. ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}.
{ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم : لا ينالهم الله برحمة . ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، قالوا : إن الله حرمهما على الكافرين} .
فها نحن أولاء أمام مشاهد يتلو بعضها بعضاً.
هانحن أولاء أمام المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار. ينادي الأولون الآخرين :{ قد وجدنا ماوعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً } – وفي هذا السؤال من التهكم المر مافيه – فيجيء الجواب من هناك “ نعم” ! حيث لا مجال لنكران أو محال . وعندئذ يؤذن بينهما مؤذن : { أن لعنة الله على الظالمين}.
ثم نحن أولاء أمام الأعراف – الفاصلة بين الجنة والنار – وعليها رجال يعرفون هؤلاء وهؤلاء، فهم يتوجهون إلى أصحاب الجنة بالترحيب والسلام، ويتوجهون إلى أصحاب النار بالتبكيت والإيلام : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } انظروا أين هم الآن. إنهم في الجنة يتلقون التكريم!
وأخيراً هاهم أولاء أصحاب النار يستغيثون، طالبين من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله، فلديهم من كل شيء فيض غزير، فليفيضوا منه على الملهوفين. ولكن الجواب هو المعذرة والتذكير : { إن الله حرمهما على الكافرين}. تلك من صور القيامة، ومن صور الحوار فيها والخصام، ومن صور النعيم فيها والعذاب. فهل كان القارىء في أثناء استعراضها يحس أن هذا كله آت في المستقبل البعيد؟ أم يحس أنه واقع في الحاضر المشهود ؟
أما أنا فقد نسيت نفسي، ونسيت أن أستعرض هذه المشاهد في ثوبها الفني، وحسبتني أشهدها في الواقع لا في الخيال. وذلك أثر الإعجاز في العرض والتشخيص، وهو إعجاز يزيد قيمته أنه – كما قلت مراراً – يعتمد على الألفاظ وحدها في هذا التصوير.
وبعد، فقد كان من حق هذا الفصل أن ينتهي إلى هذا الحد.
ولكن هناك غرضاً من أغراض القرآن يبدو بطبيعته بعيداً عن الأسلوب التصويري، لأنه منطق وجدل ودعوة إلى الدين، كان يتبادر إلى الفهم أن يكون الأسلوب الذهني هو الذي يتبع فيه، فاستخدام الأسلوب التصويري- حتى في هذا الغرض- له دلالته الخاصة على أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن – وهذه هي القضية التي نعرضها في هذا الفصل – فلا عجب أن نلم بهذه الظاهرة الأخيرة، ونضرب من الجدل التصويري بعض الأمثال. وان كان لهذا الجدل فصل خاص سيجيء في أواخر الكتاب.
1 - هذه هي الصورة الأولى : مشهد من مشاهد الطبيعة الصامتة الخالدة، يلفت النظر إليه دليلاً على قدرة الله:
{ الذي خلق سبع سماوات طباقاً . ماترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر، هل ترى من فطور ؟ ثم ارجع البصر كرتين، ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}.
هذه لوحة طبيعية منسقة يوجه إليها البصر، لينقل البصر ما يراه إلى النفس، ليقع في النفس مايقع من الأثر. لتؤمن بقدرة الله “ الذي خلق سبع سماوات طباقا” وهي لوحة معروضة في كل حين. ولكنك تقرأ هذه الآيات ، فتلتفت إليها كأنما تعرض أول مرة في هذا الوجود. وتلك طريقة القرآن في كل مايوجه إليه النظر من مشاهد الطبيعة، ومشاهد الحياة في جميع المناسبات.
2 - وهذه صورة من مشاهد الطبيعة الصامتة كذلك، ولكنها في هذه المرة معروضة في الأرض لا في السماء :{ وفي الأرض قطع متجاورات. وجنات من أعناب, وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل}.
فهذا المشهد قديم مكرور، تمر عليه العيون في غفلة والنفوس، ولكنه يعرض هنا كأنه جديد، وإنه لكفيل حين تتملاه العين أن يوقع في النفس تأثراً وجدانياً خاصاً. فهذه القطع المتجاورات من الأرض مختلفة في النبات. لا بل إن النوع الواحد من النبات ليختلف في الأشكال، فمزدوج ومنفرد، وجميعه يسقى بماء واحد، ولكن تختلف طعومه في الأكل.. وأياً ما كانت هذه الملاحظات، فمردها الأول إلى المشاهدة: مشاهدة هذه اللوحة الطبيعية التي يوجه إليها الأنظار، لتراها بالبداهة الملهمة والحس البصير، بعد أن تتملأها الأبصار.
3 - وهذا منظر من مناظر الطبيعة المتحركة في الجو، يعرضه خطوة خطوة، وفي كل خطوة مشهد :{ الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير} .
هكذا لوحة بعد لوحة: إرسال الرياح. إثارة السحاب. بسطه في السماء. جعله متراكماً . خروج المطر من خلاله. نزول المطر. استبشار من يصيبهم بعد أن كانوا يائسين. إحياء الأرض بعد موتها.
لينتقل من هذه المشاهد المتتابعة، استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل، إلى : { إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير} ، فيجيء هذا التقرير، في أنسب الأوقات للتقرير.
4 - ولئن كان المشهد الثالث في الجواء، فالمشهد الرابع في الأرضين، وهو من ذلك المشهد بسبيل :
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً. إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب}.
فهذا مشهد من مشاهد الأرض كذلك متعدد الخطوات، وهو يعرض في بطء وتفصيل، وتترك كل خطوة للعين مدة كافية للتأثر، هذا هو الماء ينزل من السماء، فيسلك ينابيع للري. ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه. ثم يهيج هذا الزرع وينضج فتراه مصفراً. ثم ييبس فيصير حطاماً. و” ثم” في كل مرة تعطي هذه “ المهلة” للعين والنفس، لتملي المشهد المعروض قبل طيه، وعرض المشهد التالي “ وذلك فن من تناسق العرض سيأتي تفصيله في الفصل الخاص به”.
5 - وفي الجو مشاهد أخرى حية. فهناك الطير التي تطير باسطة أجنحتها، صافة أقدامها، ثم تقبض أجنحتها كذلك عند الهبوط:
{ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن، ما يمسكهن إلا الرحمن}.
إنه مشهد واحد ذو منظرين : منظر الطير باسطات أجنحتها صافات أرجلها، ومنظرها كذلك قابضات. وهي صورة حية متحركة، يراها الناس كل لحظة، فيمرون بها غافلين، فهو يلفت إليها أنظارهم، ليروها بالحس الشاعر المتأثر، دليلاً على قدرته ورحمته.
6- وفي الأرض مشهد آخر متكرر، يمر به الناس غافلين كذلك، وفي تأمله وتتبع حركته الوئيدة التي تكاد تتم في الخيال – وإن كانت معروضة في العيان – مايلمس النفس، ويؤثر في الوجدان، ويتيح الفرصة لألوان شتى من التأملات. ذلك منظر الظل الذي تلقيه الأجرام فيبدو ساكناً، وهو يتحرك ببطء لطيف: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكناً، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً}.
وفي هذا المشهد جمال طبيعي يغري الخيال بالجولان، ويملي للخواطر في الهيمان. وكم في المشاهد المألوفة المكرورة مايبدو جديداً، كأنما تتملاه العين أول مرة، حين تتجه إليه بالحس الشاعر المتفتح، والعين المتيقظة للألوان.
7 - وفي الأرض مشاهد أخرى لعل من أشدها أثراً في الحس والنفس تلك الرسوم الدوارس، والربوع الخوالي، وما تخيله للحس من صور الحياة الغابرة، ومن أشباح الأحياء الداثرة. فهي مشاهد للعين في الظاهر، وللنفس في الضمير. والقرآن يوجه إليها النظر، ثم يرد الخيال إلى الحياة الغابرة فيها، الدائرة منها :
{أولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
التصوير في الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان، وهو الطريقة التي يتناول بها جميع الأغراض، وهو الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء وهذا الفصل هو مصداق هذا الكلام.
حينما نقول: إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن, والقاعدة الأولى فيه للبيان, لاتكون قد انتهينا من الحديث عن هذه الظاهرة الشاملة. فإن وراء ذلك بقية تستحق أن نفرد لها هذا الفصل الخاص.
فعلى أية قاعدة يقوم هذا التصوير؟
لقد ألمعنا إلى شيء من ذلك في مفتتح الفصل السابق, حينما قلنا: (إنه يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية, وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية, كما يعبر بها عن الحادث المحسوس, والمشهد المنظور, ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها, فيمنحها الحياة الشاخصة, أو الحركة المتجددة, فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة, وإذا الحالة النفسية لوحة أو مهد, وإذا النموذج الإنساني شاخص حي. فأما الحوادث والمشاهد, والقصص والمناظر, فيردها شاخصة حاضرة, فيها الحياة , وفيها الحركة, فإذا أضاف إليها الحوار, فقد استوت لها كل عناصر التخييل).
وكل ما تقدم من الأمثلة في الفصل السابق يصلح برهاناً على هذه الظاهرة, وإن تكن سياقته في ذلك الفصل كانت سريعة لمجرد البرهنة على أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. ولكننا في هذا الفصل لانكتفي بالإحالة على تلك الأمثلة, فالقرآن بين أيدينا حافل بالأمثلة الجديدة ونحن نختار منها هنا بعض ماله دلالة خاصة على هذه الطريقة المعينة: ظاهرة التخييل الحسي والتجسيم في ذلك التصوير.
قليل من صور القرآن هو الذي يعرض صامتاً ساكناً – لغرض فني يقتضي الصمت والسكون – أما اغلب الصور ففيه حركة مضمرة أو ظاهرة, حركة يرتفع بها نبض الحياة, وتعلو بها حرارتها وهذه الحركة ليست مقصورة على مشاهد القصص والحوادث, ولا على مشاهد القيامة, ولاصور النعيم والعذاب, أو صور البرهنة والجدل, بل إنها لتلحظ كذلك في مواضع أخرى لاينتظر أن تلحظ فيها.
ويجب أن ننبه إلى نوع هذه الحركة, فهي حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان, أو الحياة المضمرة في الوجدان هذه الحركة هي التي نسميها (التخييل الحسي) وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور, مع اختلاف الشيات والألوان.
وظاهر أخرى تتضح في تصوير القرآن وهي (التجسيم): تجسيم المعنويات المجردة, وإبرازها أجساماً أو محسوسات على العموم وإنه ليصل في هذا إلى مدى بعيد, حتى ليعبر به في مواضيع حساسة جد الحساسية, يحرص الدين الإسلامي على تجريدها كل التجريد, كالذات الإلهية وصفاتها, ولهذا دلالته الحاسمة, أكثر من كل دلالة أخرى, على أن طريقة (التجسيم) هي الأسلوب المفضل في تصوير القرآن, مع الاحتراس والتنبيه إلى خطورة التجسيم في الأوهام والآن نأخذ في ضرب الأمثال.
1 – لون من ألوان (التخييل) يمكن أن نسميه (التشخيص) يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة, والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية, تشمل المواد والظواهر والانفعالات, وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية, وخلجات إنسانية, تشارك بها الآدميين, وتأخذ منهم وتعطي, وتتبدي لهم في شتى الملابسات, وتجعلهم يحسون الحياة في كل شيء تقع عليه العين, أو يتلبس به الحس, فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه, في توفز وحساسية وإرهاف. هذا هو الصبح يتنفس: {والصبح إذا تنفس} فيخيل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تنفرج عنها ثناياه, وهو يتنفس, فتتنفس معه الحياة, ويدب النشاط في الأحياء, على وجه الأرض والسماء.
وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار, فلا يستطيع له دركاً: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاًُ} ويدور الخيال مع هذه الدورة الدائبة, التي لانهاية لها ولا ابتداء.
أو هذا هو الليل يسرى: { والليل إذا يسر} فتحس سريانه في هذا الكون العريض, وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد! وهاتان هما الأرض والسماء عاقلتين, يوجه إليهما الخطاب, فتسرعان بالجواب:
{ثم استوى إلى السماء وهي دخان, فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا: أتينا طائعين}.
والخيال شاخص إلى الأرض والسماء, تدعيان وتجيبان الدعاء.وهذه هي الشمس والقمر والليل والنهار في سباق دائم ولكن: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر, ولا الليل سابق النهار}.
وإنه لسباق جبار, لايني أو يفتر في ليل أو نهار.
وهذه هي الأرض (هامدة) مرة و(خاشعة) مرة, ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا:
{وترى الأرض هامدة, فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت , وأنبتت من كل زوج بهيج}.
{ومن اياته أنك ترى الأرض خاشعة, فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}
وهكذا تستحيل الأرض الجامدة, كائنا حياً بلمسة واحدة في لفظة واحدة.
وهذه جهنم جهنم النهمة المتغيظة التي لايفلت منها أحد, ولاتشبع بأحد! جهنم التي تدعو من كانوا يدعون إلى الهدى ويدبرون, وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون! جنهم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيظ وتفور!:
{يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد}.
{وإذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيراً}. {وإذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ}.
{ إنها لظى, نزاعة للشوى, تدعو من أدبر وتولى, وجمع فأوعى}.وهذا هو الظل الذي يلجأ إليه المجرمون: {وظل من يحموم لا بارد ولاكريم} ففي نفسه كزازة وضيق, لايحسن استقبالهم, ولايهش لهم هشاشة الكريم, فهو ليس (لابارد) فقط,ولكن كذلك (ولاكريم)!.
وهذه هي الرياح لواقح: {وأرسلنا الرياح لواقح} بما تحمل من ماء ولكن التعبير عنها أكسبها حياة, تلقح وتنتج!.
وهذا هو الغضب, أوهذا هو الروع, أو هذه هي البشرى, تهيج وتسكن, وتوحي وتسكت, وتجيء وتذهب:
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} {ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط}.
2 – ولون من ألوان (التخييل) يتمثل في تلك الصور المتحركة التي يعبر بها عن حالة من الحالات أو معنى من المعاني فصورة الذي يعبد الله على حرف (فإن إصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) وصورة المسلمين قبل أن يسلموا, وهم {على شفا حفرة من النار} وصورة الذي { أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} كلها صور تخيل للحس حركة متوقعة في كل لحظة, وتم هذه الحركة في الصورة الأخيرة, كما قلنا في فصل (التصوير الفني).
وقريب من هذه الصور في التخييل صورة ولوج الجمل في سم الخياط الموعد المضروب لدخول الكافرين الجنة بعد عمر طويل, فالخيال يظل عاكفاً على تمثل هذه الحركة العجيبة, التي لاتم ولاتقف ماتابعها الخيال! والصورة التي تخيلها الآية:
{قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}.
فالخيال يظل يتصور تلك الحركة الدائبة: حركة الامتداد بماء البحر لكتابة كلمات الله, في غير ما توقف ولا انتهاء, إلا أن ينتهي البحر بالنفاد!.
وشبيه بهذه الصورة ماتخيله للحس هذه الآية:
{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}
والآية: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر}.
فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركتها المعهودة {وهذا فن خاص سيأتي عنه الكلام} وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار, ماثلاً للخيال والأبصار!
3 – ولون من الوان (التخييل) يتمثل في الحركة المتخيلة, التي تلقيها في النفس بعض التعبيرات مثل: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل , فجعلناه هباء منثوراً} وقد سجلنا منها في فصل (التصوير الفني) صورة الهباء المنثور, التي هي صورة حسية لإضاعة الأعمال فالآن تلفتنا فيها لفظة (فقدمنا) ذلك أنها تخيل للحس حركة القدوم التي سبقت نثر العمل كالهباء, وهذا التخييل يتوارى بكل تأكيد لو قيل: وجعلنا عملهم هباء منثوراً حيث كانت تنفرد حركة النثر وصورة الهباء, دون الحركة التي تسبقها: حركة القدوم.
ومثلها: {قل: أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولايضرنا ونرد على أعقابنا} فكلمات {نرد على أعقابنا} تخيل حركة حسية للارتداد في موضع الارتداد المعنوي, وتمنح الصورة حياة محسوسة.
ومن هذا القبيل: {ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} في موضع: لاتطيعوا الشيطان فإن كلمتي: تتبعوا, وخطوات, تخيلان حركة خاصة, هي حركة الشيطان يخطو والناس وراءه يتبعون خطواته, وهي صورة حين تجسم هكذا تبدو عجيبة من الآدميين, وبينهم وبين الشيطان الذي يسيرون وراءه, ما أخرج أباهم من الجنة!
وكذلك: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان} باختلاف يسير, وهو أن الشيطان في هذه المرة هو الذي تبع هذا الضال ليغويه: {فكان من الغاوين}.
ومن هذا الوادي: {ولاتقف ماليس لك به علم} فحركة الاقتفاء تهيأ للذهن, ويتمثلها الخيال, بالجسم والأقدام, لا بمجرد الذهن والجنان.
4 – ولون من ألوان (التخييل) يتمثل في تلك الحركات السريعة المتتابعة التي عرضنها منها مثالاً في الفصل السابق, صورة الذي يشرك بالله {فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير, أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
وشبيه بها في سرعتها وتعدد مناظرها تلك الحركة المتخيلة في قوله: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة, فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع, فلينظر: هل يذهبن كيده ما يغيظ}.
وتلك صورة عجيبة, فمن يئس من نصرة الله لنبيه, وضاق صدره , وبلغ حنقه على هذه الحال مبلغاً لايطيقه, فليحاول أن يغير من هذه الحال ما استطاع, مادام لايصبر, ولاينتظر وعد الله بالنصر.. ليمدد إلى السماء بحبل يتعلق به ليصعد عليه, فإذا لم يجده هذا , فيقطع هذا الحبل الممدود, ثم لينظر: هل أفلح تدبيره هذا في إذهاب مايغيظه! لينظر, إن كان قد بقي فيه شيء ينظر, بعد قطع حبله الممدود, وبعد السقطة التي يترقبها الخيال! ومن هذا القبيل – مع شيء من التحوير والتلطيف يناسب المخاطب هنا, وهو النبي > – وقد عز عليه إعراض المشركين, وتمنى لو يستطيع هدايتهم للحق, وإتيانهم بالمعجرة التي يطلبون:
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء, فتأتيهم بآية }.
5 - ولون من (التخييل) يتمثل في الحركة الممنوحة لما من شأنه السكون كقوله: {واشتعل الراس شيباً} فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الرأس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم, فيها حياة وجمال, كما أسلفنا.
وأما (التجسيم) فقد وردت له أمثلة كثيرة في فصل (التصوير الفني) كذلك ومنه كل التشبيهات التي جيء بها لإحالة المعاني والحالات صوراً وهيئات. نذكر منها:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} و{ ياأيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولايؤمن بالله واليوم الآخر , فمثله كمثل صفوان عليه تراب} و{مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاه مرضاة الله, وتثبيتاً من أنفسهم, كمثل جنة بربوة..} .. الخ.
ومن هذا النوع:
{ ألم ترك كيف ضرب الله مثلاً كملة طيبة كشجرة طيبة, أصلها ثابت وفرعها في السماء , تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, ويضرب الله الأمثال.. ومثل كملة خبيثة كشجرة خبيثة, اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار}.
ولكن الذي نعنيه هنا بالتجسيم , ليس هو التشبيه بمحسوس, فهذا كثير معتاد, إنما نعني لوناً جديداً هو تجسيم المعنويات, لا على وجه التشبيه والتمثيل, بل على وجه التصيير والتحويل.
1 – يقول:
{يوم تجد كل نفس ماعملت من خير محضراً, وماعملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً} أو {ووجدوا ماعملوا حاضراً, ولايظلم ربك أحداً} أو {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عندالله}.
فيجعل كأن هذا العمل المعنوي مادة محسوسة تحضر (على وجه التجسيم) أو تحضر هي (على وجه التشخيص) أو توجد عند الله كأنها وديعة تسلم هنا فتتسلم هناك.
وقريب من هذا تجسيم الذنوب كأنها أحمال (تحمل على الظهور زيادة في التجسيم) : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}.
{ ولاتزر وازرة وزر أخرى}.
ومن تجسيم المعنويات أمثال: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فالتقوى زاد أو {صبغة الله . ومن أحسن من الله صبغة} فدين الله صبغة معلمة, أو {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} فالسلم مما يدخل فيه أو {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} فالإثم مما له ظاهر وباطن إلى آخر هذا النحو من الاستعارات.
2 – ويحدث عن حالة نفسية معنوية هي حالة التضايق والضجر والحرج, فيجسمها كحركة جثمانية:
{..وعلى الثلاثة الذين خلفوا, حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت, وضاقت عليهم أنفسهم, وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}
فالأرض تضيق عليهم , ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض, ويستحيل الضيق المعنوي في هذا التصوير ضيقاً حسياً أوضح وأوقع, وتتجسم حالة هؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو مع الرسول, فأحسوا بهذا الضيق الخانق, وندموا على تخلفهم ذلك الندم المحرج, حتى لا يجدون لهم ملجأ ولامفراً, ولايطيقون راحة, إلى أن قبل الله توبتهم.
ومثله: {وأنذرهم يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين, ما للظالمين من حميم ولاشفيع يطاع}
فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر حقاً من شدة الضيق.
ومنه: { فلولا إذا بلغت الحلقوم, وأنتم حينئذ تنظرون}.
كأنما الروح شيء مجسم, يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة. ومنه: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق, أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم}.
أي ضاقت صدورهم من الحيرة والحرج, بين أن يقاتلوكم انتصاراً لقومهم, أو يقاتلوا قومهم انتصاراً لكم.
3 – ويصف حالة عقلية أو معنوية, وهي حالة عدم الإستفادة مما يسمعه بعضهم من الهدى, وكأنهم لم يسمعوا به, أو يتصلوا اتصالاً ما فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينهم وبينه مثل:
{إنهم عن السمع لمعزولون} أو {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً}. أو {افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. أو {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً, ومن خلفهم سداً, فأغشيناهم فهم لايبصرون} أو {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم, وعلى أبصارهم غشاوة}. أو {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري}.
وكلها تجسم هذه الحواجز المعنوية, كأنما هي موانع حسية, لأنه في هذه الصورة أوقع وأظهر.
4 – ويكون الوصف حسياً بطبيعته, فيختار عن الوصف هيئة تجسمه. كقوله: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} في مكان: يأتيهم من كل جانب, أو يحيط بهم. لأن هيئة الغشيان من فوق ومن تحت أدخل في الحسية من الوصف بالإحاطة ومثله: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} و {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}..
ومن هذا النوع: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} فهذا السواد الذي أصاب وجوههم ليس لوناً ولا صبغة, وإنما هو قطعة من الليل المظلم غشيت بها وجوههم!.
5 – ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس: كوصف العذاب بأنه غليظ {ومن ورائهم عذاب غليظ} واليوم بأنه ثقيل {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً}.
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك, وينتقل اليوم من زمن لايمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن!
6 – وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس, كقوله: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الإنساني لا يتسع لاتجاهين. ومثل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها – من بعد قوة – أنكاثاً} لبيان العبث في نقض العهد بعد المعاهدة. ومثل: {ولايغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} لتفظيع الغيبة, حتى لكأنما يأكل الأخ لحم أخيه الميت!.
7 – ثم لما كان هذا التجسيم خطة عامة, صور الحساب في الآخرة كما لو كان وزناً مجسماً للحسنات والسيئات: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} {فأما من ثقلت موازينه.. وأما من خفت موازينه} { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها} {ولايظلمون فتيلاً} {ولايظلمون نقيراً} .
وكل ذلك تمشياً مع تجسيم الميزان.
وكثيراً ما يجتمع التخييل والتجسيم في المثال الواحد من القرآن فيصور المعنوي المجرد جسماً محسوساً, ويخيل حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير, وفي الأمثلة السابقة نماذج من هذا ولكنا نعرض هذه الظاهرة في أمثلة جديدة, فلدينا وفر من الأمثلة على كل قاعدة!.
مــــن ذلــك:
{ بل نقذف بالحق على الباطل. فيدمغه, فإذا هو زاهق} {وقذف في قلوبهم الرعب} {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}..
فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه وكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها, وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة, تلقى بينهم, فتبقى إلى يوم القيامة, وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين. وكأنما للذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين.
وفي كل مثال من هذه يجتمع التجسيم – بإحالة المعنى جسماً – مع التخييل بحركة هذا الجسم المفروضة.
2 – ومن ذلك: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} و{ ألا في الفتنة سقطوا} فبعد أن تصبح الخطيئة شيئاً مادياً, تتحرك حركة الإحاطة, وبعد أن تصبح الفتنة لجة, يتحركون هم بالسقوط فيها.
3 -ومنه: { ولاتلبسوا الحق بالباطل} { فاصدع بما تؤمر} ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى, وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع, دلالة على القوة والنفاذ.
4 – ومنه:
{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور, والذين كفروا أولياءهم الطاغوت: يخرجونهم من النور إلى الظلمات} {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله, فقد استمسك بالعروة الوثقى}.
ففي المثال الأول يستحيل الهدى والضلال نوراً وظلمة, ثم تبدأ عملية الإخراج المتخيلة, وفي المثال الثاني يصبح الإيمان عروة, ثم تبدأ الحركة المتخيلة في الاستمساك بها, فتؤدي هذه الصور المجسمة المتحركة إلى تمثل أوضح وأرسخ للمعنى الخيالي المجرد.
بهذه الطريقة المفضلة في التعبير عن المعاني المجردة, سار الأسلوب القرآني في أخص شأن يوجب فيه التجريد المطلق, والتنزيه الكامل: فقال:
{يد الله فوق أيديهم} {وكان عرشه على الماء} {وسع كرسيه السماوات والأرض} {ثم استوى على العرش} {ثم استوى إلى السماء وهذ دخان} {والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} {وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى} {والله يقبض ويبسط} {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} {قالت اليهود: يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا, بل يداه مبسوطتان} {إني متوفيك ورافعك إلي}.. الخ.
وثار ما ثار من الجدل حول هذه الكلمات , حينما أصبح الجدل صناعة, والكلام زينة, وإن هي إلا جارية على نسق متبع في التعبير, يرمى إلى توضيح المعاني المجردة وتثبيتها, ويجري على سنن مطرد, لاتخلف فيه ولاعوج. سنن التخييل الحسي والتجسيم في كل عمل من أعمال التصوير.
ولكن اتباع هذا السنن في هذا الموضع بالذات, قاطع في الدلالة – كما قلنا – على ان هذه الطريقة في القرآن اساسية في التصوير, كما أن (التصوير هو القاعدة الأولى في التعبير).
التناسق الفني
حينما نقول : إن التصوير هو القاعدة الأساسية في أسلوب القرآن ، وإن التخييل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير، لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية بصفة عامة، ولا خصائص التصوير القرآني بصفة خاصة. ووراء هذا وذاك آفاق أخرى يبلغ إليها النسق القرآني، وبها تقويمه الصحيح من ناحية الأداء الفني.
هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.
والتناسق ألوان ودرجات. ومن هذه الألوان ماتنبه إليه بعض الباحثين في بلاغة القرآن، ومنها مالم يمسسه أحد منهم حتى الآن.
1 - منها ذلك التنسيق في تأليف العبارات، بتخير الألفاظ، ثم نظمها في نسق خاص، يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها. وقد أكثروا من القول في هذا اللون، وبلغوا غاية مداه، بل تجاوزوا الصحيح منه، إلى التمحل الذي لا ضرورة له !.
2 - ومنها ذلك الإيقاع الموسيقي الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها في نسق خاص. ومع أن هذه الظاهرة واضحة جد الوضوح في القرآن، وعميقة كل العمق في بنائه الفني، فإن حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري، ولم يرتق إلى إدراك التعدد في الأساليب الموسيقية، وتناسق ذلك كله مع الجو الذي تطلق فيه هذه الموسيقى، ووظيفتها التي تؤديها في كل سياق.
3 - ومنها تلك النكت البلاغية التي تنبه لها الكثيرون، من التعقيبات المتفقة مع السياق، كأن تجيء الفاصلة : { وهو على كل شيء قدير} بعد كلام يثبت القدرة، والفاصلة : { إن الله عليم بذات الصدور} بعد كلام في وادي العلم المستور.. وكأن يعبر بالإسم الموصول لتكون جملة الصلة بياناً لعله الجزاء، مثل : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}.. وكأن يعبر بلفظ “الرب” في مواضع التربية والتعليم مثل : “اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرام. الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم” بينما يعبر بلفظ “الله” في مواضع التالية والتعظيم مثل : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الأرحام}.. وكما يظهر اسم الجلالة أو يضمر لغرض يقتضيه السياق. وكما يقدم أو يؤخر، ويصل أو يفصل، ويطلق أو يقصر، ويستفهم أو يقرر.. إلى آخر المباحث البلاغية المعروفة.. وفيهم من يعد هذا أقصى مظاهر البلاغة في تعبير القرآن !
4- ومنها ذلك التسلل المعنوي بين الأغراض في سياق الآيات، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض. وبعضهم يتمحل لهذا التناسق تمحلاً لا ضرورة له، حتى ليصل إلى حد من التكلف، ليس القرآن في حاجة إلى شيء منه.
5 - ولعل أعلى نوع من التناسق تنبهوا إليه هو هذا التناسق النفسي بين الخطوات المتدرجة في بعض النصوص، والخطوات النفسية التي تصاحبها، كالمثل الذي أخذناه من “الزمخشري” عن الفاتحة، في فصل “ كيف فهم القرآن”.
ومع أن الخصائص التي طرقوها حقيقية وقيمة، فإنها لا تزال أولى مظاهر التناسق التي يلمحها الباحث في القرآن، ووراءها آفاق أخرى لم يتعرضوا لها أصلاً، فيما عدا ظاهرة الإيقاع الموسيقي، فهي أحد هذه الآفاق العالية. ولكنهم كما قلت، وقفوا عند مظاهرها الخارجية.
ولما كان التصوير في القرآن مسألة لم يعرضوا لها قط، بوصفها أساساً للتعبير القرآني جملة، فقد بقي التناسق الفني في هذا “التصوير” بعيداً عن آفاق بحثهم بطبيعة الحال.
وإذ كان قصدنا من هذا الكتاب، هو أن نستعرض الآفاق الجديدة، لا أن نكرر الاتجاهات التي اهتدى إليها الباحثون، فإننا سنترك تفصيل القول في هذه الاتجاهات- مع اعتقادنا أن كل ماكتب فيها قابل للعرض في ضوء جديد، للتقدم فيه خطوات بعيدة بعد آخر خطوة وقف عندها الأسلاف.
وسنكتفي في هذا الصدد بالنموذج الذي عرضناه للتناسق الداخلي بين المعاني والأهداف في “سورة العلق” – السورة الأولى – في فصل “منبع السحر في القرآن” فهذا النموذج صورة مما يتجه إليه البحث المجدد في التسلسل الفكري والتناسق النفسي، بين سياق القرآن.
ثم نشير مجرد إشارة إلى التناسق المعنوي والنفسي بين القصص التي يعرضها القرآن والسياق الذي يعرضها فيه، وانسجام عرضها في هذا السياق مع الغرض الديني والمظهر الفني سواء بسواء ( والمثال على هذا اللون من التناسق سيأتي في فصل “القصة في القرآن”) ومثل القصص في هذا اللون من التناسق سائر ما يعرض من مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، والصور التي تساق في معرض الجدال، فهو يعرض منسجماً مع الوسط الذي يعرض فيه، ويؤدي الغرض النفسي الذي يرمي إليه.
ولكن هذا كله إنما ينتهي إلى تناسق المعاني والأغراض. والبحث في هذا النطاق مهما دق وارتفع يبقى في معزل عن أجمل وأبدع وسائل القرآن في التعبير، وهو التصوير.
ولما كانت نقلة بعيدة أن نقفز من هذه السطوح المستوية إلى تلك القمم الشامخة، فإننا سنختار أن نرقى إلى هذه الآفاق خطوة بعد أخرى، حتى نتطلع إلى قمتها البعيدة.
1- هناك المواضع التي يتناسق فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها، فيساعد على إكمال معالم الصورة الحسية أو المعنوية.
وهذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير، والتعبير للتصوير، فهي مفرق الطريق بين السطوح المستوية والقمم المتدرجة !
مثال ذلك : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} فإن “ الدواب” تطلق عادة على الحيوان – وإن كانت تشمل الإنسان فيما تشمل لأنه يدب على الأرض – ولكن شمولها هذا للإنسان، ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن، لأن للعادة حكمها في الاستعمال. فاختيار كلمة “ الدواب” هنا ، تم تجسيم الحالة التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم “ الصم البكم” كلاهما يكمل صورة الغفلة والحيوانية، التي يريد أن يرسمها لهؤلاء الذين لا يؤمنون لأنهم “ لا يعقلون”.
ومن هذا النحو : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم} فقد رسم لهم بهذا التشبيه صورة دقيقة : إنهم يأكلون ويتمتعون غافلين عن الجزاء الذي ينتظرهم، كما تأكل الأنعام وتمرح، غافلة عن شفرة القصاب، أو غافلة عما سوى الطعام والشراب.
ومثال ذلك : { نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم }. وفي هذا التعبير ألوان من التناسق الظاهر والمضمر، ومن لطف الكناية عن ملابسات دقيقة، وأدق ما فيه هو ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص.
وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث، وذلك النبت الذي تخرجه الزوج، ومافي كليهما من تكثير وعمران وفلاح. وكل هذه الصور تنطوي تحت استعارة في بضع كلمات.
2 - وقد يستقل لفظ واحد- لاعبارة كاملة- برسم صورة شاخصة- لابمجرد المساعدة على إكمال معالم صورة-. وهذه خطوة أخرى في تناسق التصوير, أبعد من الخطوة الأولى, وأقرب إلى قمة جديدة في التناسق. خطوة يزيد من قيمتها أن لفظاً مفرداً هو الذي يرسم الصورة, تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن, وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال, وتارة بالجرس والظل جميعاً.
تسمع الأذن كلمة(اثّاقلتم) في قوله:{ ياأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل, يرفعه الرافعون في جهد, فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة”طناً” عل
عن الجمهورية نت
سيـــد قطـــب
إهداء
إليك يا أماه، أرفع هذا الكتاب.
لطالما تسمَّعتِ من وراء “الشيش” في القرية، للقراء يرتلون في دارنا القرآن، طوال شهر رمضان. وأنا معك ـ أحاول أن ألغو كالأطفال ـ فتردني منك إشارة حازمة، وهمسة حاسمة،فأنصت معك إلى الترتيل، وتشرب نفسي موسيقاه. وإن لم أفهم بعد معناه.
وحينما نشأت بين يديك ، بعثت بي إلى المدرسة الأولية في القرية، وأولى أمانيك أن يفتح الله عليَّ ، فأحفظ القرآن ، وأن يرزقني الصوت الرخيم، فأرتله لك كل آنٍ . ثم عدلت بي عن هذا الطريق في النهاية إلى الطريق الجديد الذي أسلكه الآن، بعد ما تحقق لك شطر من أمانيك، فحفظت القرآن.
ولقد رحلت عنا ـ يا أماه ـ وآخر صورك الشاخصة في خيالي، جلستك في الدار أمام المذياع، تستمعين للترتيل الجميل، ويبدو في قسمات وجهك النبيل أنك تدركين ـ بقلبك الكبير، وحسك البصير ـ مراميه وخفاياه.
فإليك يا أماه..ثمرة توجيهك الطويل. لطفلك الصغير. ولفتاك الكبير. ولئن كان قد فاته جمال الترتيل ، فعسى ألا يكون قد فاته جمال التأويل. والله يرعاك عنده ويرعاه.
ابنك سيد
لقد وجدت القرآن!
لهذا الكتاب في نفسي قصة
ولقد كان من حقي أن احتفظ بهذه القصة لنفسي، ما ظل هذا الكتاب خاطراً في ضميري. أما وقد أخذ طريقه إلى المطبعة، فإن قصته لم تعد ملكاً لي ، ولا خاصة بي.
لقد قرأت القرآن وأنا طفل صغير، لا ترقى مداركي إلى آفاق معانيه، ولا يحيط فهمي بجليل أغراضه . ولكنني كنت أجد في نفسي منه شيئاً.
لقد كان خيالي الساذج الصغير، يجسم لي بعض الصور من خلال تعبير القرآن. وإنها لصور ساذجة، ولكنها كانت تشوق نفسي وتلذ حسي، فأظل فترة غير قصيرة أتملاها، وأنا بها فرح، ولها نشيط.
من الصور الساذجة التي كانت ترتسم في خيالي إذ ذاك صورة كانت تتمثل لي كلما قرأت هذه الآية:
{ ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة}.
ولا يضحك أحد ، حينما أطلعه على هذه الصورة في خيالي:
لقد كان يشخص في مخيلتي رجل قائم على حافة مكان مرتفع: مصطبة ـ فقد كنت في القرية ـ أو قمة تل ضيقة ـ فقد رأيت التل المجاور للوادي ـ وهو قائم يصلي ، ولكنه لا يملك موقفه، فهو يتأرجح في كل حركة، ويهم بالسقوط وأنا بإزائه، أتتبع حركاته ، في لذة وشغف عجيبين!
ومن تلك الصور الساذجة صورة كانت تتمثل لي كلما قرأت هذه الآية:
{ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان، فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه. فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث ،أو تتركه يلهث}.
لم أكن أدرك من معاني هذه الآية شيئاً ولا من مراميها. ولكن صورة كانت تشخص في مخيلتي .صورة رجل ، فاغر الفم، متدلي اللسان، يلهث ويلهث في غير انقطاع، وأنا بإزائه ، لا أحول نظري عنه ، ولا أفهم لم يلهث، ولا أجرؤ على الدنو منه.
وصور من هذه شتى ، كانت ترتسم لخيالي الصغير، وكنت ألتذ التأمل فيها، وأشتاق قراءة القرآن من أجلها، وأبحث عنها ـ كلما قرأت ـ في ثناياه..
تلك أيام...ولقد مضت بذكرياتها الحلوة، وبخيالاتها الساذجة.
ثم تلتها أيام ، ودخلت المعاهد العلمية، فقرأت تفسير القرآن في كتب التفسير، وسمعت تفسيره من الأساتذة . ولكنني لم أجد فيما أقرأ أو أسمع ذلك القرآن اللذيذ الجميل، الذي كنت أجده في الطفولة والصبا.
وا أسفاه! لقد طُمست كل معالم الجمال فيه، وخلا من اللذة والتشويق.تُرى هما قرآنان؟ قرآن الطفولة العذب الميسر المشوق، وقرآن الشباب العسر المعقد الممزق؟ أم إنها جناية الطريقة المتبعة في التفسير؟.
وعدت إلى القرآن أقرؤه في المصحف لا في كتب التفسير. وعدت أجد قرآني الجميل الحبيب، وأجد صوري المشوقة اللذيذة. إنها ليست في سذاجتها التي كانت هناك.لقد تغير فهمي لها، فعدت الآن أجد مراميها وأغراضها، وأعرف أنها مثل يضرب، لا حادث يقع.
ولكن سحرها ما يزال وجاذبيتها ما تزال.
الحمد لله لقد وجدت القرآن!
وخطر لي أن أعرض للناس بعض النماذج مما أجده في القرآن من صور، ففعلت ، ونشرت بحثاً في مجلة المقتطف عام 1939م تحت عنوان:« التصوير الفني في القرآن» تناولت فيه عدة صور فأثبتها، وكشفت عما فيها من جمال فني ، وبينت القدرة القادرة التي تصور بالألفاظ المجردة، ما تعجز عن تصويره الريشة الملونة، والعدسة المشخصة. وقلت: إن هذا البحث يصلح أن يكون موضوعاً لرسالة جامعية.
ومرت السنوات، وصور القرآن تخايل لي، وتتراءى فيها آثار الإعجاز الفني . وكلما عدت إليها قوي في نفسي أن أتولى البحث الذي تركته فلم يحاوله أحد، وأن أكمله وأتوسع فيه. وظللت أعكف على القرآن بين الحين والحين ، أتملى صوره الفريدة،فتزداد فكرة البحث في نفسي رسوخاً، ثم تشغلني عنه الشواغل ،فيرتد أمنية في الضمير،ورغبة في الشعور. إلى أن شاء الله أن أتوفر عليه في هذا العام.
لقد بدأت البحث ومرجعي الأول فيه هو المصحف، لأجمع الصور الفنية في القرآن ، واستعرضها، وأبين طريقة التصوير فيها، والتناسق الفني في إخراجها ـ إذ كان همي كله موجهاً إلى الجانب الفني الخاص، دون التعرض للمباحث اللغوية أو الكلامية أو الفقهية أو سواها من مباحث القرآن المطروقة.
ولكن ماذا أرى؟
إن حقيقة جديدة تبرز لي .إن الصور في القرآن ليست جزءاً منه يختلف عن سائره. إن التصوير هو قاعدة التعبير في هذا الكتاب الجميل، القاعدة الأساسية المتبعة في جميع الأغراض ـ فيما عدا غرض التشريع بطبيعة الحال ـ فليس البحث إذن عن صور تجمع وترتب. ولكن عن قاعدة تكشف وتبرز.
ذلك توفيق لم أكن أتطلع إليه،حتى التقيت به!وعلى هذا الأساس قام البحث، وكل ما فيه إنما هو عرض لهذه القاعدة ، وتشريح لظواهرها، وكشف عن هذه الخاصية التي لم يتعرض أحد من قبل لها.
وحين انتهيت من التحضير للبحث، وجدتني أشهد في نفسي مولد القرآن من جديد. لقد وجدته كما لم أعهده من قبل أبداً. لقد كان القرآن جميلاً في نفسي .نعم , ولكن جماله كان أجزاء وتفاريق.أما اليوم فهو عندي جملة موحدة، تقوم على قاعدة خاصة، وما لا أظن أحداً تصوره.
فلئن كنت قد وفقت في نقل هذه الصورة كما أراها في نفسي، وفي إبرازها للناس كما أحسها في ضميري،فليكونن هذا ـ بلا شك ـ نجاحاً كاملاً لهذا الكتاب.
التصوير الفني
التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن ، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني،والحالة النفسية ، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية. ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة.فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج الإنساني شاخص حيّ، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة، فيها الحياة، وفيها الحركة ، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوت لها كل عناصر التخييل. فما يكاد يبدأ العرض حتى يحيل المستمعين نظارة، وحتى ينقلهم نقلاً إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، وتتجدد الحركات ، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات ، المنبعثة من الموقف، المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة ، فتنم عن الأحاسيس المضمرة.
إنها الحياة هنا ،وليست حكاية الحياة.
فإذا ما ذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المرويّ، إنما هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن.
والأمثلة على هذا الذي نقول هي القرآن كله،حيثما تعرض لغرض من الأغراض التي ذكرناها، حيثما شاء أن يعبر عن معنى مجرد ، أو حالة نفسية ، أو صفة معنوية، أو نموذج إنساني، أو حادثة واقعة، أو قصة ماضية، أو مشهد من مشاهد القيامة، أو حالة من حالات النعيم والعذاب، أو حيثما أراد أن يضرب مثلاً في جدل أو محاجة، بل حيثما أراد هذا الجدل إطلاقاً، واعتمد فيه على الواقع المحسوس، والمتخيل المنظور.
وهذا هو الذي عنيناه حينما قلنا: (( إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن)) فليس هو حلية أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق. إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخصيصة شاملة ، وطريقة معينة، يفتن في استخدامها بطرائق شتى، وفي أوضاع مختلفة، ولكنها ترجع في النهاية إلى هذه القاعدة الكبيرة: قاعدة التصوير.
ويجب أن نتوسع في معنى التصوير، حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن. فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكثيراً ما يشترك الوصف ، والحوار، وجرس الكلمات ، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين والأذن، والحس والخيال، والفكر والوجدان.
وهو تصوير حيّ منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة ، تصوير تقاس الأبعاد فيه و المسافات ، بالمشاعر والوجدانات ، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.
والآن نأخذ في ضرب الأمثال:
ونبدأ بالمعاني الذهنية التي تخرج في صورة حسية:
1ـ يريد أن يبين أن الذين كفروا لن ينالوا القبول عند الله، ولن يدخلوا الجنة إطلاقاً، وأن القبول أو الدخول أمر مستحيل.
هذه هي الطريقة الذهنية للتعبير عن هذه المعاني المجردة ، ولكن أسلوب التصوير يعرضها في الصورة الآتية:
{إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمّ الخياط}.
ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ في سم الخياط، ويختار من أسماء الحبل الغليظ اسم “الجمل” خاصة في هذا المقام، ويدع للحس أن يتأثر معنى القبول ومعنى الاستحالة، في أعماق النفس، وقد وردا إليها من طريق العين والحس ـ تخييلاً ـ وعبرا إليها من منافذ شتى ، في هينة وتؤدة، لا من منفذ الذهن وحده، في سرعة الذهن التجريدية.
2ـ ويريد أن يبين أن الله سيضيع أعمال الذين كفروا كأن لم تكن قبل شيئاً ، وستضيع إلى غير عودة فلا يملكون لها رداً، فيقدم هذا المعنى مصوراً في قوله:
{ وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ، فجعلناه هباءً منثورا}.
ويدعك تتخيل صورة الهباء المنثور، فتعطيك معنى أوضح وأكد، للضياع الحاسم المؤكد.
3ـ أو يرسم هذه الصورة المطولة بعض الشيء لهذا المعنى نفسه:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يومٍ عاصفٍ، لا يقدرون على شيء مما كسبوا}.
فتزيد الصورة حركة وحياة، بحركة الريح في يوم عاصف،تذرو الرماد وتذهب به بدداً، إلى حيث لا يتجمع أبداً.
4ـ ويريد أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء، والتي يتبعها المن والأذى، لا تثمر شيئاً ولا تبقى, فينقل إليهم هذا المعنى المجرد ، في صورة حسية متخيلة على النحو التالي:
{ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوانٍ عليه تراب. فأصابه وابل فتركه صلداً}.
ويدعهم يتملون هيئة البحر الصلب المستوي، غطته طبقة خفيفة من التراب، فظُنت فيه الخصوبة، فإذا وابل من المطر يصيبه ، وبدلاً من أن يهيئه للخصب والنماء ـ كما هي شيمة الأرض حين تجودها السماءـ إذا به ـ كما هو المنظور ـ بتركه صلداً، وتذهب تلك الطبقة الخفيفة التي كانت تستره، وتخيل فيه الخير والخصوبة.
ثم يمضي في التصوير لإبراز المعنى المقابل لمعنى الرياء، ومعنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى:
{ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة، أًصابها وابلٌ، فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل}.
فهنا الوجه الثاني للصورة، والصفحة المقابلة للصفحة الأولى ، فهذه الصدقات التي تُنفق ابتغاء مرضاة الله، هي في هذه المرة كالجنة، لا كحفنة من تراب، وإذا كانت حفنة التراب هناك على وجه صفوان،فالجنة هنا فوق ربوة، وهذا هو الوابل مشتركاً بين الحالتين، ولكنه في الحالة الأولى يمحو ويمحق ، وفي الحالة الثانية يربي ويخصب. في الحالة الأولى يصيب الصفوان، فيكشف عن وجه كالح كالأذى، وفي الحالة الثانية يصيب الجنة، فيمتزج بالتربة ويخرج “أكلاً”. ولو أن هذا الوابل لم يصبها، فإن فيها من الخصب والاستعداد للإنبات، ما يجعل القليل من المطر يهزها ويحييها!{فإن لم يصبها وابل فطل}.
ولا أريد أن أتعرض هنا لذلك التناسق العجيب في جو الصورة، وفي تماثل جزئياتها،وفي توزيع هذه الجزئيات على الرقعة فيها.
حيث يكون الصفوان تغشيه طبقة خفيفة من التراب، مثلاً للنفس المؤذية تغشيها الصدقة تبذل رياء (والرياء ستار رقيق يخفي القلب الغليظ) وحيث توضع الجنة فوق ربوة، في مقابل الحفنة من التراب فوق الصفوان..
فهذا التقسيم والتوزيع، وهذا التقابل والتنسيق، متروك كله إلى فصل سيجيء من فصول هذا الكتاب.
5ـ ثم يعود إلى ذلك المعنى مرة أخرى فيقول:
{ مثل ماينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر ,أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته}.
فيرسم صورة الحرث تأخذه الريح فيها برد يضرب الزرع والثمار فيهلكها ,فلا ينال صاحب الحرث منه ما كان يرجو بعد الجهد فيه , كالذي ينفق ماله وهو كافر , ويرجو الخير فيما أنفق ,فيذهب الكفر بما كان يرجوه.
ولا يفوتنا ما في جرس كلمة (صر) من تصوير لمدلولها , وكأنما هو قذائف صغيرة تنطلق على الحرث فتهلكه , وذلك لون من التناسق ,سنعرض له كذلك في فصله الخاص.
6ـ ويريد أن يبرز معنى : أن الله وحده يستجيب لمن يدعوه , وينيله مايرجوه , وأن الآلهة التي يدعونها مع الله لاتملك لهم شيئاً , ولا تنيلهم خيراً ,ولو كان الخير قريباً , فيرسم لهذا المعنى هذه الصورة العجيبة:
{ له دعوة الحق ,والذين يدعون من دونه لايستجيبون لهم بشيء , إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ,وما هو ببالغه ,وما دعاء الكافرين إلا في ضلال}..
وهي صورة تلح على الحس والوجدان ,وتجتذب إليها الا لتفات , فلا يستطيع أن يتحول عنها إلا بجهد ومشقة ,وهي من أعجب الصور التي تستطيع أن ترسمها الألفاظ: شخص حي شاخص , باسط كفيه إلى الماء ,والماء منه قريب ,يريد أن يبلغه فاه ,ولكنه لا يستطيع ولو مد مدة فربما استطاع!
7ـ ويبين أن الآلهة الذين يعبدون من دون الله ,لايسمعون ولايجيبون ,لأنهم لا يعون ولايتبينون ,وأن دعاء عبادهم لهم عبث لا طائل وراءه , فيختار صورة تبين هذا المعنى , وجسم هذه الحالة , وتلمس الحس والنفس بأقوى مما تلمسهما العبارات العادية , عن المعاني الذهنية.
{ ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لايسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} .
هكذا ينعق الكفار بما لا يسمع , وينادون ما لايفهم ,فلا يصل إليه من أصواتهم إلا دعاء مبهم ,ونداء لا يفهم فهؤلاء الآلهة لا يميزون بين الأصوات ولا يفهمون مراميها , وهذا مثل ,ولكنه صورة شاخصة , صورة جماعة يدعون آلهة تصل إليها أصواتهم مبهمة , فلا تفهم مما وراءها شيئاً , وفيها تتجلى غفلة الداعين وعبث دعوتهم , بجانب غفلة المدعوين واستحالة إجابتهم.
8ـ ويريد أن يجسم ضعف هؤلاء الآلهة , أو الأولياء من دون الله عامة ,ووهن الملجأ الذي يلجأ إليه عبادهم حين يحتمون بحمايتهم ,فيرسم لهذا كله صورة مزدوجة:
{ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء, كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً , وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ,لو كانوا يعلمون} .
فهم عناكب ضئيلة واهنة تأوي من حمى هؤلاء الآلهة أو الأولياء إلى بيت كبيوت العنكبوت أوهن وأضال , {وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت} ولكنهم لايعلمون حتى هذه البديهية المنظورة ,فهم يضيفون إلى الضعف والوهن , جهلاً وغفلة , حتى ليعجزون عن إدراك البديهي المنظور.
9ـ ويريد أن يبين أن الذي يشرك بالله , لا منبت له ولا جذور ,ولابقاء له ولا استقرار , فيمثل لهذا المعنى بصورة سريعة الخطوات , عنيفة الحركات:
{ومن يشرك بالله ,فكأنما خر من السماء ,فتخطفه الطير , أو تهوي به الريح في مكان سحيق}..
هكذا في ومضة بخرُّ من السماء من حيث لايدري أحد ,فلا يستقر على الأرض لحظة أن الطير لتخطفه ,أو أن الريح لتهوي به.. وتهوي به في مكان سحيق! حيث لا يدري أحد كذلك ذلك هو المقصود.
10ـ ويريد أن يثبت معنى الحرمان والإهمال في الآخرة لهؤلاء الذين أعطاهم الله الكتاب من قبل الإسلام فأهملوه ,وعاهدهم على الإيمان فعاهدوه , ثم أخلفوه , ابتغاء نفع مادي قليل,شأن من لا عهد له , ولا احترام لكلمته ,فيرسم لهذا الإهمال المعنوي صورة حسية:
{ إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً , أولئك لاخلاق ,لهم في الآخرة ,ولا يكلمهم الله ,ولا ينظر إليهم يوم القيامة , ولايزكيهم ولهم عذاب أليم}.
فيوضح معنى الإهمال لا بألفاظ الإهمال , ولكن برسم الحركات الدالة عليه: لا كلام ,ولا نظر , ولا تزكية , وإنما عذاب أليم.
وكما يصور المعاني المجردة بصور الحالات النفسية والمعنوية:
1ـ يريد أن يبرز الحيرة التي تنتاب من يشرك بعد التوحيد , ومن يتوزع قلبه بين الإله الواحد والآلهة المتعددين , ويتفرق إحساسه بين الهدى والضلال فيرسم هذه الصورة المحسة المتخيلة:
{قل : أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا , ونرد على اعقابنا بعد إذ هدانا الله ,كالذي استهوته الشياطين في الأرض ,حيران ,له أصحاب يدعونه إلى الهدى .. ائتنا...}
فتبرز صورة هذا المخلوق التعيس الذي استهوته الشياطين في الأرض (ولفظ الاستهواء لفظ مصور لمدلولة) ويا ليته يتبع هذا الاستهواء في اتجاهه , فتكون له راحة ذي القصد الموحد ـ ولو كان في طريق الضلال ـ ولكن هناك من الجانب الآخر ,إخوان له يدعونه إلى الهدى , وينادونه (ائتنا) وهو بين هذا الاستهواء وهذا الدعاء (حيران) موزع القلب ,لايدري أي الفريقين يجيب ,ولا أي الطريقين يسلك ,فهو قائم هناك شاخص متلفت.
2ـ ويريد أن يكشف عن حال أولئك الذين يهيئ الله لهم المعرفة , فيفرون منها كأن لم تهيأ لهم أبداً , ثم يعيشون بعد ذلك هابطين ,تطاردهم أنفسهم وأهواؤهم , بما علموا وبما جهلوا,فلا هم استراحوا بالغفلة ,ولا هم استراحوا بالمعرفة ,فيرسم لهم هذه الهيئة:
{واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا ,فانسلخ منها , فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين, ولو شئنا لرفعناه بها ,ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه ,فمثله كمثل الكلب: إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث}..
وفي الصورة تحقير وتقذير ـ وذلك غرض ديني لا شأن لنا به هنا ـ ولكنها من الوجهة الفنية صورة شاخصة فيها الحركة الدائبة , وهي صورة معهودة ,فهي في تثبيت المعنى المراد بها أشد وأقوى , وهكذا يلتقي الغرض الديني بالغرض الفني ,كالشأن في جميع الصور التي يرسمها القرآن.
3ـ ويريد أن يوضح حالة تزعزع العقيدة , حيث لايستقر الإنسان على يقين ,ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ , ولا يجعل عقيدته في معزل عن ملابسات حياة ,بعيدة عن ميزان الربح والخسارة , فيرسم لهذا التزعزع صورة تهتز وتترنح وتوشك أن تنهار:
{ ومن الناس من يعبد الله على حرف ,فإن أصابه خير اطمأن به ,وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ,خسر الدنيا والآخرة}.
إن الخيال ليكاد يجسم هذا (الحرف) الذي يعبد الله عليه هذا البعض من الناس ,وإنه ليكاد يتخيل الاضطراب الحسي في وقفتهم ,وهم يتأرجحون بين الثبات والانقلاب ,وإن هذه الصورة لترسم حالة التزعزع بأوضح مما يؤديه وصف التزعزع ,لأنها تنطبع في الحس ,وتتصل منه بالنفس.
وإني لاذكر الآن تلك الصورة التي ارتسمت في خيالي ,وأنا طفل اقرأ القرآن في المدرسة الأولية , حين وصلت إلى هذه الآية.. ترى يبعد تصوري الآن كثيراً عن هذه الصورة الساذجة؟ لا أظن! فالاختلاف الذي طرأ هو مجرد إدراكي اليوم أن هذا مثل يضرب , لا حقيقة تشهد , وذلك إعجاز التعبير الذي تتقارب في إدراكه شتى المدارك ,وتصل في كل حالة إلى صورة حية , مع اختلاف الأفهام.
4ـ ومما هو بسبيل من ذلك في غرض آخر غير هذا الغرض ,تلك الصورة التي رسمها للمسلمين قبل أن يسلموا ,يوم أن كانوا معرضين لجهنم بما هم فيه من الكفر , فقال:
{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ,واذكروا نعمة الله عليكم ,إذ كنتم اعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته اخواناً ,وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها}.
هكذا {كنتم على شفا حفرة من النار} موشكين على الوقوع , تكاد أقدامكم تزل فتهوون ,وليس المهم لدينا ـ في هذا المجال ـ دقة التشبيه وصدقه , إنما المهم أولاً هو هذه الصورة -القلقة المتحركة الموشكة في الخيال على الزوال ولو استطاعت ريشة مصور بالألوان أن تبرز هذه الحركة المتخيلة في صورة صامته لكانت براعة تحسب في عالم التصوير ,والمصور يملك الريشة واللوحة والألوان وهنا ألفاظ فحسب يصور بها القرآن.
ثم ننظر إلى جمال التعبير من زاوية أخرى: إذ يرسم هذه الصورة ,ثم يجعل هذه الحفرة من النار ,ويجعلهم على شفا منها ,فيطوي الحياة الدنيا كلها ـ وهي الفاصل بينهم وبين النار ويجعلهم ـ وهم بعد أحياء ,وهم بعد في الدنيا ـ واقفين هذه الوقفة ,على شفا حفرة من النار ,حينما كانوا من الكفار!
5ـ وشبيهة بهذه الصورة صورة أخرى ,لمن يقيم بنيانه على غير التقوى:
{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير؟ أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار ,فانهار به في نار جهنم}.
فهنا قد أكمل الحركة الأخيرة ,التي كانت متوقعة هناك: {فانهار به في نار جهنم} وبذلك طوى الحياة الدنيا كلها ,دون أن يذكر ولو كلمة (ثم) في موضع (الفاء) فانهار لأن هذا المدى الطويل ,قصير قصير , حتى لاضرورة لهذا (التراخي) القصير! (وهذا فن من جمال العرض سيأتي تفصيله في فصل خاص).
ومن بين الحالات النفسية التي يصورها القرآن ,مايرسم (نموذجاً) إنساناً واضحاً للعيان:
مثال ذلك {من يعبد الله على حرف} وقد تحدثنا عنها هناك ,فنزيد عليها هذه الأمثال:
1ـ يريد أن يشخص حالة العناد السخيف ,والمكابرة العمياء, التي لايجدي معها حجة ولا برهان فيبرز (نموذجاً إنسانياً) في هذه الكلمات:
{ولو فتحنا عليهم باباً من السماء ,فظلوا فيه يعرجون لقالوا: إنما سكرت أبصارنا ,بل نحن قوم مسحورون}.
أو يقول:
{ ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس ,فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين}.
2ـ ويريد أن يبين أن الإنسان لايعرف ربه إلا في ساعة الضيق , حتى إذا جاءه الفرج نسي الله الذي فرج عنه ,ولكنه لا يقولها في مثل هذا النسق الذهني إنما يرسم صورة حافلة بالحركة المتجددة , والمشاهد المتتابعة , ويرسم في خلالها (نموذجاً إنسانياً) كثير التكرار في بنى الإنسان:
{ هو الذي يسيركم في البر والبحر ,حتى إذا كنتم في الفلك , وجرين بهم بريح طيبة ,وفرحوا بها ,جاءتها ريح عاصف ,وجاءهم الموج من كل مكان ,وظنوا أنهم أحيط بهم ,دعوا الله مخلصين له الدين: لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين ,فلما انجاهم ,إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق}.
وهكذا تحيا الصورة وتتحرك ,وتموج وتضطرب , وترتفع الأنفاس مع تماوج السفينة وتنخفض ,ثم تؤدي في النهاية ذلك المعنى المراد ,ابلغ أداء وأوفاه.
3ـ ويريد أن يبرز حالة (نموذج) من الناس ظاهرهم يغري وباطنهم يؤذي ,فيرسم لهم صورة كما يأتي:
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ,ويشهد الله على ما في قلبه ,وهو ألد الخصام ,وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ,والله لا يحب الفساد}.
فيستعيض من الوصف الحركة والتصرف , ويبرز المفارقة بين الظاهر والباطن , في نسق من الصور المتحركة في النفس والخيال.
4ـ وفريق من الناس ضعيف العقيدة , ضعيف العزيمة , مستور الحال , لايتبين ضعفه في فترة الرخاء ,فإذا جد الجد , وجاء الشد ,ظهر هذا الضعف على ائمة.. هؤلاء يصورهم نموذجاً واضحاً في هذه الكلمات:
{ ويقول الذين آمنوا : لولا نزلت سورة! فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ,رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت}.
ومنظر المغشي عليه من الموت معهود ,فما هو إلا أن يذكر التعبير , حتى تبرز صورتهم في الضمير ,مصحوبة بالسخرية والتحقير.
5ـ وقد يبرز هذا (النموذج) في حادثة مرورية فيتجاوز الحادثة الخاصة ويخلد نموذجاً عاماً:
{ ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى , إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال: هل عسيتم أن كتب عليكم القتال إلا تقاتلوا؟ قالو: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله ,وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا؟ فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم}.
وفي هذا المثال يزيد على الضعف ,تلك اللجاجة في أيام السلم ,وإظهار الشجاعة والاستبسال ,ثم الخور والجبن عندما تحين ساعة النضال.
وليست هذه حادثة تقع مرة وتمضي ,ولكنه نموذج مكرر في بني الإنسان ,لا يتقيد بالزمان والمكان.
وإلى هنا قصرنا الأمثلة على المعاني الذهنية ,والحالات النفسية ,والنماذج الإنسانية يخرجها التعبير القرآني صوراً شاخصة أو متحركة ويعدل بها عن التعبير المجرد إلى الرسم المصور , فلنأخذ الآن في ضرب الأمثلة على التصوير المشخص ,لمشاهد الحوادث الواقعة , والأمثال المضروبة , والقصص المروية , فالطريقة فيها واحدة والشبه بينها قريب:
1ـ ها هو ذا يتحدث عن (الهزيمة) فيرسم لها مشهداً كاملاً تبرز فيه الحركات الظاهرة والانفعالات المضمرة , وتلتقي فيه الصورة الحية بالصورة النفسية , وكأنما الحادث معروض من جديد , دون أن يغفل منه قليل أو كثير:
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم ,إذ جاءتكم جنود , فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها , وكان الله بما تعملون بصيراً , إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم, وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ,وتظنون بالله الظنون ,هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً , وإذا يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً , وإذ قالت طائفة منهم: يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة ,وماهي بعورة.. إن يريدون إلا فراراً}.
فأية حركة نفسية أو حسية من حركات الهزيمة , وأية سمة ظاهرة أو مضمرة من سمات الموقف ,لم يبرزها هذا الشريط الدقيق المتحرك , المساوق في حركته لحركة الموقف كله؟
هؤلاء هم الأعداء يأتون المؤمنين من كل مكان وهذه هي الأبصار زائغة والنفوس ضائقة وهؤلاء هم المؤمنون يزلزلون زلزالاً شديداً وهؤلاء هم المنافقون ينبعثون بالفتنة والتخذيل , يقولون: { ما عدنا الله ورسوله إلا غروراً} ويقولون لأهل المدينة: لا بقاء لكم هنا ارجعوا إلى بيوتكم فهي في خطر وهؤلاء هم جماعة من ضعاف القلوب يقولون: إن بيوتنا مكشوفة , وليست في حقيقتها مكشوفة { إن يريدون إلا فراراً}.
وهكذا لاتفلت في الموقف حركة ولا سمة ,إلا وهي مسجلة ظاهرة , كأنها شاخصة حاضرة.. تلك حادثة وقعت بالفعل ,ولكن صورتها ترسم (الهزيمة) مطلقة من كل ملابسة,وما يزيد عليها أو ينقص منها إلا جزئيات في الواقع ! أما الصورة النفسية فخالدة تتكرر في كل زمان ,حيثما التقى جمعان ,وتعرض أحدهما للخذلان.
2ـ وقريب من هذه الصورة صورة أخرى للهزيمة أيضاً ,هي كذلك صورة باقية , لا حادثة مفردة وذلك حيث يقول:
{ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ,وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة , ثم صرفكم عنهم ليبتليكم! ولقد عفا عنكم ,والله ذو فضل على المؤمنين , إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ,والرسول يدعوكم في اخراكم فأثابكم غماً بغم لكي لاتحزنوا على مافاتكم ولا ما اصابكم والله خبير بما تعملون , ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم , وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية , يقولون : هل لنا من الأمر من شيء قل: أن الأمر كله لله ,يخفون في أنفسهم ما لايبدون لك ,يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا}.
ليخيل لي أنني أشهد المنظر اللحظة بكل من فيه وكل ما فيه!
ثم نأخذ في عرض نماذج من الأمثال القصصية التي تضرب في القرآن:
1ـ ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة ـ جنة الدنيا لا جنة الآخرة ـ وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمراً , لقد كان للفقراء حظ من ثمر هذه الجنة , ولكن الورثة لا يشاؤون ، إنهم ليريدون أن يستأثروا بها وحدهم ,وأن يحرموا أولئك المساكين حظهم , فلننظر كيف يصنعون:
{إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة , إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين ,ولايستثنون}.
لقد قرَّ رأيهم على أن ، يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر , دون أن يستثنوا منه شيئاً للمساكين فلندعهم على قرارهم ,ولننظر ماذا يقع الآن في بهمة الليل , حيث يختفون هم ,ويخلو منهم المسرح فماذا يرى النظارة؟ هناك مفاجأة ثم خلسة , وحركة خفية كحركة الأشباح في الظلام ! { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون , فأصبحت كالصريم} وهم لا يشعرون.
والآن ها هم أولاء يتصايحون مبكرين وهم لا يدرون ماذا أصاب جنتهم في الظلام: { فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم أن كنتم صارمين , فانطلقوا وهم يتخافتون إلا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}!
ليمسك النظارة ألسنتهم فلا ينبهوا أصحاب الجنة إلى ما أصاب جنتهم ,وليكتموا ضحكات السخرية التي تكاد تنبعث منهم ,وهم يشاهدون أصحاب الجنة المخدوعين ,يتنادون متخافتين , خشية أن يدخلها عليهم مسكين ! ليكتموا ضحكات السخرية! بل ليطلقوا فها هي ذي السخرية العظمى {وغدوا على حرد قادرين} أجل إنهم لقادرون الآن , على المنع والحرمان ,حرمان أنفسهم على الأقل!
وها هم أولا: يفاجأون فليضحك النظارة كما يشاءون: { فلما رأوها قالوا: إنا لضالون} ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار فقد ضللنا إليها الطريق!.. فلتتأكدوا يا جماعة ...{بل نحن محرومون} وهذا هو الخبر اليقين.
والآن قد سقط في أيديهم :{ قال أوسطهم: ألم أقل لكم: لولا تسبحون} أي والله هلا سبحتم الله واتقيتموه؟ قالوا: سبحان ربنا إنا كنا ظالمين) الآن وبعد فوات الأوان!
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عندما تسوء العاقبة , ويتوجه باللوم إلى الآخرين , ها هم أولاء يصنعون: {فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون}.
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعاً بالخطيئة , عسى أن يفيدهم الاعتراف الغفران , ويعوضهم من الجنة الضائعة جنة أخرى { قالوا : يا ويلنا إنا كنا طاغين , عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها , إنا إلى ربنا راغبون}
2ـ والآن فإلى صاحب جنة أخرى , بل صاحب جنتين أكبر من الأولى , إن له لقصة مع صاحب له ,ليس من ذوي الجنان , ولكن من ذوي الإيمان , وكلاهما (نموذج إنساني) لطائفة من الناس: صاحب الجنتين نموذج للرجل الثري ,تذهله الثروة وتبطره النعمة , فينسى القوى الكبرى التي تسيطر على أقدار الناس والحياة , ويحسب هذه النعمة خالدة لا تفني , فلن تخذله القوة ولا الجاه , وصاحبه نموذج للرجل المؤمن المعتز بإيمانه , الذاكر لربه , يرى النعمة دليلاً على المنعم , موجبة لحمده وذكره , لا لجحوده وكفره:
{واضرب لهم مثلاً رجلين: جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب , وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً , كلتا الجنتين أتت أكلها , ولم تظلم منه شيئاً , وفجرنا خلالهما نهراً , وكان له ثمر}.
وبهذا ترتسم صورة الجنتين مكتملة , في ازدهار وفخامة , وهذا هو المشهد الأول فلننظر إلى المشهد الثاني:
{ فقال لصاحبه ـ وهو يحاوره ـ أنا أكثر منك مالاً واعز نفراً}.
ويبدو أنه قال قولته هذه وهما في الطريق إلى الجنتين , أو وهما على الباب إذ جاء بعده:
{ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال: ما أظن أن تبيد هذه أبداً , وما أظن الساعة قائمة ! ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً}.
فها هو ذا في أوج زهوه وبطره , وتعاليه وازدهائه فماذا ترى يكون أثر هذا كله في نفس صاحبه الفقير , الذي لاجنة له ولا مال ,ولا عصبة له ولا نفر؟ إن صاحبه لمؤمن ,فما تشعره كل هذه المظاهر بالهوان ,وما تنسيه عزة ربه الديان , وما تغفله عن واجبه الصحيح ,في رد صاحبه البطر إلى جادة الطريق , ولو استدعى ذلك أن يجيهه بالتقريع وأن يذكره بمنشئه الصغير من التراب المهين:
{ قال له صاحبه ـ وهو يحاوره ـ أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة , ثم سواك رجلاً ، لكن هو الله ربي ولا اشرك بربي أحداً ,ولولا إذ دخلت جنتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله , إن ترني أنا اُقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يوتين خيراً من جنتك , ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً , أو يصبح ماؤها غوراً , فلن تستطيع له طلباً}..
وهنا ينتهي هذا المشهد بين الصاحبين : أحدهما منتفش كالديك , ازدهاه في جنته من ازدهار والآخر موقن بالله , مستعز بالإيمان , يذكر صاحبه ويؤنبه ويبصره بما كان يجب أن يصنع إذ رأى جنته , ويبدو أن صاحبه لم يستمع إليه ـ وهذا طبيعي في هذا الموقف ـ فهو يقسو عليه قسوة الغاضب لدينه ,ويدعو على جنته أن يرسل الله عليها الصواعق ,فتصبح جرداء ملساء , تزل فيها القدم وتزلق ,أو أن يصبح ماؤها غائراً لايستطيع أن يطلبه فضلاً على أن يستخرجه.. ثم يفترق الصاحبان وهما متغاضبان فلننظر بعد ماذا يكون؟
{ وأحيط بثمره ,فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول : ياليتني لم اشرك بربي أحداً } .
لقد استجاب الله دعوة الرجل المؤمن المتحدي بلا ضرورة فلنشهد صاحبنا شاخصاً يقلب كفيه على ما انفق فيها ,وهي خاوية على عروشها ,ولندعه يندم: { ياليتني لم أشرك بربي أحداً} ولنسدل الستار على منظر الدمار والاستغفار.
والآن فلنعرض شطراً من قصص حقيقية، بعدما عرضنا قصص الأمثال.
1ـ لنعرض مشهداً من قصة إبراهيم، وهو يبني الكعبة مع ابنه إسماعيل، وكأنما نحن نشهدهما يبنيان ويدعوان الآن، لا قبل اليوم بأجيال وأزمان.
{ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا، إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم }.
لقد انتهى الدعاء، وانتهى المشهد، وأسدل الستار.
هنا حركة عجيبة في الانتقال من الخبر إلى الدعاء، هي التي أحيت المشهد وردته حاضراً، فالخبر: { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } كان كأنما هو الإشارة برفع الستار ليظهر المشهد: البيت، وإبراهيم وإسماعيل، يدعوان هذا الدعاء الطويل.
وكم في الانتقال هنا من الحكاية إلى الدعاء من إعجاز فني بارز، يزيد وضوحاً لو فرضت استمرار الحكاية، ورأيت كم كانت الصورة تنقص لو قيل: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا.. الخ، إنها في هذه الصورة حكاية، وفي الصورة القرآنية حياة، وهذا هو الفارق الكبير، إن الحياة في النص لتثب متحركة حاضرة، وسر الحركة كله في حذف لفظة واحدة.. وذلك هو الإعجاز.
2ـ ثم لنعرض مشهداً من قصة الطوفان: {وهي تجري بهم في موج كالجبال}، وفي هذه اللحظة الرهيبة، تتنبه في نوح عاطفة الأبوة، فإن هناك ابناً له لم يؤمن، وإنه ليعلم أنه مغرق مع المغرقين.
ولكن ها هو ذا الموج يطغى، فيتغلب “الإنسان” في نفس نوح على “النبي”، ويروح في لهفة وضراعة ينادي ابنه جاهزا: { ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني أركب معنا، ولا تكن مع الكافرين }، ولكن النبوة العاقة لا تحفل هذه الضراعة، والفتوة العاتية لا ترى الخلاص إلا في فتوتها: { قال: سآوي إلى جبل يعصمنيِ من الماء }، ثم ها هي ذي الأبوة الملهوفة ترسل النداء الأخير: { قال: لا عاصم اليوم من امر الله إلا من رحم}، وفي لحظة تتغير صفحة الموقف، فها هي ذي الموجة العاتية تبتلع كل شيء { وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}.
إن السامع ليمسك أنفاسه في هذه اللحظات القصار، {وهي تجري بهم في موج كالجبال} ونوح الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور، يأبى إجابة الدعاء، والموجة القوية العاتية، تحسم الموقف في لحظة سريعة خاطفة، وإن الهول هنا ليقاس بمداه في النفس الحية ـ بين الوالد والمولود ـ كما يقاس بمداه في الطبيعة ـ حيث يطغى الموج على الذرى والوديان.. وإنهما لمتكافئان، في الطبيعة الصامتة، وفي نفس الإنسان.
ثم لننتقل إلى مشاهد القيامة، وإلى صور النعيم والعذاب. فقد كان لها من التصوير الفني أوفى نصيب:
1ـ {يوم يدع الداع إلى شيء نكر، خشعاً أبصارهم، يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر، مهطعين إلى الداع، يقول الكافرون: هذا يوم عسر}.
فهذا مشهد من مشاهد الحشر، مختصر سريع، ولكنه شاخص متحرك، مكتمل السمات والحركات، هذه جموع خارجة من الأجداث في لحظة واحدة، كأنها جراد منتشر “ومشهد الجراد المعهود يساعد على تصور هذا المنظر العجيب” وهذه الجموع تسرع في سيرها نحو الداعي، دون أن تعرف لم يدعوها، فهو يدعوها { إلى شيء نكر}، لا تدريه، {خشعاً أبصارهم} وهذا يكمل الصورة، ويمنحها السمة الأخيرة، وفي أثناء هذا التجمع والإسراع والخشوع {يقول الكافرون هذا يوم عسر}، فماذا بقي من المشهد لم يشخص بعد هذه الفقرات القصار؟ وإن السامعين ليتخيلون اليوم النكر، فإذا هو حشد من الصور، صورهم هم ـ السامعين ليتخيلون اليوم النكر، فإذا هو حشد من الصور، صورهم هم ـ وإنهم لمن المبعوثين ـ يتجلى فيها الهول الحي، الذي يؤثر في نفس كل حي!
2ـ وهذا مشهد آخر من مشاهد الإسراع والخشوع، أشد في النفس هولاً وأكمد في التصوير لوناً:
{ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار: مهطعين، مقنعي رؤوسهم، لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء}.
أربع صور متتابعة متواكبة، أو أربعة مشاهد لرواية واحدة، يتلو بعضها بعضاً في الاستعراض، فتتم بها صورة شاخصة في الخيال، وهي صورة فريدة للفزع والخجل والرهبة والاستسلام، يجللها ظل كئيب ساهم، يكمد الأنفاس، وهي صورة ترسم كذلك في وسط حي: هؤلاء آدميون، بينهم وبين المستمعين صلة الجنس المشترك، والحس المتشابه، فهي ترتسم في نفوسهم حية، ويصل الشعور بها من هؤلاء إلى هؤلاء بالمشاركة الوجدانية وبالتخيل المحسوس، فإذا قرأها القارىء تمشت رعدة الهول في حناياه، كأنما يلقاه.
3ـ ثم تأتي صورة الهول العظمى، التي لا تغني الألفاظ عنها، فلننقلها لتعبر عن نفسها:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمل أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد}.
مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عمل أرضعت، تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي، وبكل حامل تسقط حملها، للهول المروع ينتابها، وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة، مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره بينما الخيال يتملاه، والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه، وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن بوقعه في النفوس الآدمية: المرضعات الذاهلات عما أرضعن، والحوامل الملقيات حملهن، والسكارى وما هم بسكارى “ولكن عذاب الله شديد”.
4ـ وإذا كانت الصور الثلاثة الماضية ترسم الهول ظاهراً للعيان، فهناك صور لا يدركها إلا الوجدان:
{ لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه}، {ولا يسأل حميم حميماً}.
إنه لا يوجد أخصر من هذا ولا أدق في تصوير اشتغال القلب والفكر بالهم الحاضر القاهر، حتى لا موضع لسواه، ولا تلفت ولا انتباه.
5ـ وهذا موقف آخر من مواقف البعث مفصل بعض الشيء، ومؤلف من عدة مشاهد، بين كل منها والآخر فجوة يملؤها الخيال: {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم، وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية، ولا إلى أهلهم يرجعون}.
فهذه هي الصيحة الأولى أخذتهم وهم يتجادلون ويتخاصمون، فلم يستطيعوا حتى التوصية، لأنها عجلت بهم إلى القبور... ثم: {ونفخ في الصور، فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا: يا ويلنا، من بعثنا من مرقدنا؟ هذا ما وعد الرحمن، وصدق المرسلون}.
وهذه هي الصيحة الثانية، وها هم أولاء يسرعون من القبور إلى ربهم، وهم في ذعر ودهش، يتساءلون: {من بعثنا من مرقدنا} ثم يفركون عيونهم فيتحققون: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون}... ثم:
{ إن كانت إلا صيحة واحدة، فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئاً، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}، وهذه هي الصيحة الأخيرة: {فإذا هم جميع لدينا محضرون}.
ولقد حضروا فعلاً، وارتسم المشهد، وها هم أولاء يتلقون الخطاب، على مرأى ومسمع ممن يقرأون الآن هذا الكتاب!:
{فاليوم لا تظلم نفس شيئاً، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون}.
6ـ وإذ تم الحشر، وابتداء العرض، فها نحن أولاء أمام مشهد لجماعة كانت في الدنيا متوادة متحابة، وهي اليوم متناكرة متدابرة، كان بعضهم يملي لبعض في الضلال، وكان بعضهم يتعالى على المؤمنين، ويهزأ من دعواهم في نعيم الآخرة.
ما هم أولاء يقتحمون النار فوجاً بعد فوج، هذا هو الفوج الأول، ينقل إليه نبأ اقتحام الفوج الثاني: {هذا فوج مقتحم معكم} فماذا يكون الجواب؟ يكون: {لا مرحباً بهم، إنهم صالوا النار}! فهل يسكت المشتومون؟ كلا فها هم أولاء يردون: {قالوا: بل أنتم لا مرحباً بكم، أنتم قدمتموه لنا، فبئس القرار!}، وإذا دعوة جامعة: {قالوا: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً في النار}!.
ثم ماذا؟ ثم ها هم أولاء يفتقدون المؤمنين، الذين كانوا يتعالون عليهم في الدنيا ويظنون بهم شراً، فلا يرونهم معهم مقتحمين:
{وقالوا: ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار؟ اتخذناهم سخرياً، أم زاغت عنهم الأبصار؟} .... { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار}، وإننا لنشهد اليوم هذا التخاصم كما لو كان حاضراً في العيان! وإن كل نفس آدمية لتحس في حناياها وقع هذا المشهد وتتقيه، وتحاذر ـ لو ينفع الحذر ـ أن تقع فيه!
تلك مشاهد للبعث والحشر، وما يقع فيها من حوار بين الشركاء، وتناكر بين الأصفياء، فلنعرض صوراً من النعيم والعذاب، بعد الحوار والعتاب:
1ـ {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً، حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها، وقال لهم خزنتها: ألم يأتكم رسل منكم، يتلون عليكم آيات ربكم، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ قالوا: بلى! ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين، قيل: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها، فبئس مثوى المتكبرين}.
{وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً، حتى إذا جاءوها، وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها: سلام عليكم، طبتم فادخلوها خالدين، وقالوا: الحمدلله الذي صدقنا وعده، وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين}.
وتكملة المشهد:
{وترى الملائكة حافين من حول العرش، يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمدلله رب العالمين}.
ونحسب أن المشهد بارز واضح، منسق الخطوات، متقابل الجزئيات، لا يحتاج منا إلى توضيح أو بيان، فلنتابع خطوات الفريقين إلى ما خلف الجدران!.
2ـ { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، كالمهل يغلي في البطون، كغلي الحميم. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم : ذق، إنك أنت العزيز الكريم ! إن هذا ماكنتم به تمترون }
{إن المتقين في مقام أمين. في جنات وعيون. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين، كذلك وزوجناهم بحور عين، يدعون فيها بكل فاكهة آمنين، لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، ووقاهم عذاب الجحيم}.
3 - ونختم مشاهد القيامة هنا، بهذا المشهد المتعدد المناظر، المتنوع المشاهد، المتفرد في طريقة العرض والحوار :
{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار، أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ قالوا : نعم !فأذن مؤذن : أن لعنة الله على الظالمين، الذين يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة كافرون}.
{ وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم. ونادوا أصحاب الجنة : أن سلام عليكم، لم يدخلوها وهم يطمعون. وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}.
{ ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم، قالوا : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون. أهؤلاء الذين أقسمتم : لا ينالهم الله برحمة . ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، قالوا : إن الله حرمهما على الكافرين} .
فها نحن أولاء أمام مشاهد يتلو بعضها بعضاً.
هانحن أولاء أمام المؤمنين في الجنة، والكافرين في النار. ينادي الأولون الآخرين :{ قد وجدنا ماوعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً } – وفي هذا السؤال من التهكم المر مافيه – فيجيء الجواب من هناك “ نعم” ! حيث لا مجال لنكران أو محال . وعندئذ يؤذن بينهما مؤذن : { أن لعنة الله على الظالمين}.
ثم نحن أولاء أمام الأعراف – الفاصلة بين الجنة والنار – وعليها رجال يعرفون هؤلاء وهؤلاء، فهم يتوجهون إلى أصحاب الجنة بالترحيب والسلام، ويتوجهون إلى أصحاب النار بالتبكيت والإيلام : { أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة } انظروا أين هم الآن. إنهم في الجنة يتلقون التكريم!
وأخيراً هاهم أولاء أصحاب النار يستغيثون، طالبين من أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله، فلديهم من كل شيء فيض غزير، فليفيضوا منه على الملهوفين. ولكن الجواب هو المعذرة والتذكير : { إن الله حرمهما على الكافرين}. تلك من صور القيامة، ومن صور الحوار فيها والخصام، ومن صور النعيم فيها والعذاب. فهل كان القارىء في أثناء استعراضها يحس أن هذا كله آت في المستقبل البعيد؟ أم يحس أنه واقع في الحاضر المشهود ؟
أما أنا فقد نسيت نفسي، ونسيت أن أستعرض هذه المشاهد في ثوبها الفني، وحسبتني أشهدها في الواقع لا في الخيال. وذلك أثر الإعجاز في العرض والتشخيص، وهو إعجاز يزيد قيمته أنه – كما قلت مراراً – يعتمد على الألفاظ وحدها في هذا التصوير.
وبعد، فقد كان من حق هذا الفصل أن ينتهي إلى هذا الحد.
ولكن هناك غرضاً من أغراض القرآن يبدو بطبيعته بعيداً عن الأسلوب التصويري، لأنه منطق وجدل ودعوة إلى الدين، كان يتبادر إلى الفهم أن يكون الأسلوب الذهني هو الذي يتبع فيه، فاستخدام الأسلوب التصويري- حتى في هذا الغرض- له دلالته الخاصة على أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن – وهذه هي القضية التي نعرضها في هذا الفصل – فلا عجب أن نلم بهذه الظاهرة الأخيرة، ونضرب من الجدل التصويري بعض الأمثال. وان كان لهذا الجدل فصل خاص سيجيء في أواخر الكتاب.
1 - هذه هي الصورة الأولى : مشهد من مشاهد الطبيعة الصامتة الخالدة، يلفت النظر إليه دليلاً على قدرة الله:
{ الذي خلق سبع سماوات طباقاً . ماترى في خلق الرحمن من تفاوت. فارجع البصر، هل ترى من فطور ؟ ثم ارجع البصر كرتين، ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير}.
هذه لوحة طبيعية منسقة يوجه إليها البصر، لينقل البصر ما يراه إلى النفس، ليقع في النفس مايقع من الأثر. لتؤمن بقدرة الله “ الذي خلق سبع سماوات طباقا” وهي لوحة معروضة في كل حين. ولكنك تقرأ هذه الآيات ، فتلتفت إليها كأنما تعرض أول مرة في هذا الوجود. وتلك طريقة القرآن في كل مايوجه إليه النظر من مشاهد الطبيعة، ومشاهد الحياة في جميع المناسبات.
2 - وهذه صورة من مشاهد الطبيعة الصامتة كذلك، ولكنها في هذه المرة معروضة في الأرض لا في السماء :{ وفي الأرض قطع متجاورات. وجنات من أعناب, وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل}.
فهذا المشهد قديم مكرور، تمر عليه العيون في غفلة والنفوس، ولكنه يعرض هنا كأنه جديد، وإنه لكفيل حين تتملاه العين أن يوقع في النفس تأثراً وجدانياً خاصاً. فهذه القطع المتجاورات من الأرض مختلفة في النبات. لا بل إن النوع الواحد من النبات ليختلف في الأشكال، فمزدوج ومنفرد، وجميعه يسقى بماء واحد، ولكن تختلف طعومه في الأكل.. وأياً ما كانت هذه الملاحظات، فمردها الأول إلى المشاهدة: مشاهدة هذه اللوحة الطبيعية التي يوجه إليها الأنظار، لتراها بالبداهة الملهمة والحس البصير، بعد أن تتملأها الأبصار.
3 - وهذا منظر من مناظر الطبيعة المتحركة في الجو، يعرضه خطوة خطوة، وفي كل خطوة مشهد :{ الله الذي يرسل الرياح، فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله، فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون، وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين. فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها. إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير} .
هكذا لوحة بعد لوحة: إرسال الرياح. إثارة السحاب. بسطه في السماء. جعله متراكماً . خروج المطر من خلاله. نزول المطر. استبشار من يصيبهم بعد أن كانوا يائسين. إحياء الأرض بعد موتها.
لينتقل من هذه المشاهد المتتابعة، استعراضها للعين والخيال، وبعد تركها تؤثر في النفس على مهل، إلى : { إن ذلك لمحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير} ، فيجيء هذا التقرير، في أنسب الأوقات للتقرير.
4 - ولئن كان المشهد الثالث في الجواء، فالمشهد الرابع في الأرضين، وهو من ذلك المشهد بسبيل :
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً. إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب}.
فهذا مشهد من مشاهد الأرض كذلك متعدد الخطوات، وهو يعرض في بطء وتفصيل، وتترك كل خطوة للعين مدة كافية للتأثر، هذا هو الماء ينزل من السماء، فيسلك ينابيع للري. ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه. ثم يهيج هذا الزرع وينضج فتراه مصفراً. ثم ييبس فيصير حطاماً. و” ثم” في كل مرة تعطي هذه “ المهلة” للعين والنفس، لتملي المشهد المعروض قبل طيه، وعرض المشهد التالي “ وذلك فن من تناسق العرض سيأتي تفصيله في الفصل الخاص به”.
5 - وفي الجو مشاهد أخرى حية. فهناك الطير التي تطير باسطة أجنحتها، صافة أقدامها، ثم تقبض أجنحتها كذلك عند الهبوط:
{ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن، ما يمسكهن إلا الرحمن}.
إنه مشهد واحد ذو منظرين : منظر الطير باسطات أجنحتها صافات أرجلها، ومنظرها كذلك قابضات. وهي صورة حية متحركة، يراها الناس كل لحظة، فيمرون بها غافلين، فهو يلفت إليها أنظارهم، ليروها بالحس الشاعر المتأثر، دليلاً على قدرته ورحمته.
6- وفي الأرض مشهد آخر متكرر، يمر به الناس غافلين كذلك، وفي تأمله وتتبع حركته الوئيدة التي تكاد تتم في الخيال – وإن كانت معروضة في العيان – مايلمس النفس، ويؤثر في الوجدان، ويتيح الفرصة لألوان شتى من التأملات. ذلك منظر الظل الذي تلقيه الأجرام فيبدو ساكناً، وهو يتحرك ببطء لطيف: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكناً، ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً، ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً}.
وفي هذا المشهد جمال طبيعي يغري الخيال بالجولان، ويملي للخواطر في الهيمان. وكم في المشاهد المألوفة المكرورة مايبدو جديداً، كأنما تتملاه العين أول مرة، حين تتجه إليه بالحس الشاعر المتفتح، والعين المتيقظة للألوان.
7 - وفي الأرض مشاهد أخرى لعل من أشدها أثراً في الحس والنفس تلك الرسوم الدوارس، والربوع الخوالي، وما تخيله للحس من صور الحياة الغابرة، ومن أشباح الأحياء الداثرة. فهي مشاهد للعين في الظاهر، وللنفس في الضمير. والقرآن يوجه إليها النظر، ثم يرد الخيال إلى الحياة الغابرة فيها، الدائرة منها :
{أولم يسيروا في الأرض، فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم؟ كانوا أشد منهم قوة، وأثاروا الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها، وجاءتهم رسلهم بالبينات، فما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
التصوير في الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، وهو القاعدة الأولى فيه للبيان، وهو الطريقة التي يتناول بها جميع الأغراض، وهو الخصيصة التي لا يخطئها الباحث في جميع الأجزاء وهذا الفصل هو مصداق هذا الكلام.
حينما نقول: إن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن, والقاعدة الأولى فيه للبيان, لاتكون قد انتهينا من الحديث عن هذه الظاهرة الشاملة. فإن وراء ذلك بقية تستحق أن نفرد لها هذا الفصل الخاص.
فعلى أية قاعدة يقوم هذا التصوير؟
لقد ألمعنا إلى شيء من ذلك في مفتتح الفصل السابق, حينما قلنا: (إنه يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني والحالة النفسية, وعن النموذج الإنساني والطبيعة البشرية, كما يعبر بها عن الحادث المحسوس, والمشهد المنظور, ثم يرتقي بالصورة التي يرسمها, فيمنحها الحياة الشاخصة, أو الحركة المتجددة, فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة, وإذا الحالة النفسية لوحة أو مهد, وإذا النموذج الإنساني شاخص حي. فأما الحوادث والمشاهد, والقصص والمناظر, فيردها شاخصة حاضرة, فيها الحياة , وفيها الحركة, فإذا أضاف إليها الحوار, فقد استوت لها كل عناصر التخييل).
وكل ما تقدم من الأمثلة في الفصل السابق يصلح برهاناً على هذه الظاهرة, وإن تكن سياقته في ذلك الفصل كانت سريعة لمجرد البرهنة على أن التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن. ولكننا في هذا الفصل لانكتفي بالإحالة على تلك الأمثلة, فالقرآن بين أيدينا حافل بالأمثلة الجديدة ونحن نختار منها هنا بعض ماله دلالة خاصة على هذه الطريقة المعينة: ظاهرة التخييل الحسي والتجسيم في ذلك التصوير.
قليل من صور القرآن هو الذي يعرض صامتاً ساكناً – لغرض فني يقتضي الصمت والسكون – أما اغلب الصور ففيه حركة مضمرة أو ظاهرة, حركة يرتفع بها نبض الحياة, وتعلو بها حرارتها وهذه الحركة ليست مقصورة على مشاهد القصص والحوادث, ولا على مشاهد القيامة, ولاصور النعيم والعذاب, أو صور البرهنة والجدل, بل إنها لتلحظ كذلك في مواضع أخرى لاينتظر أن تلحظ فيها.
ويجب أن ننبه إلى نوع هذه الحركة, فهي حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان, أو الحياة المضمرة في الوجدان هذه الحركة هي التي نسميها (التخييل الحسي) وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور, مع اختلاف الشيات والألوان.
وظاهر أخرى تتضح في تصوير القرآن وهي (التجسيم): تجسيم المعنويات المجردة, وإبرازها أجساماً أو محسوسات على العموم وإنه ليصل في هذا إلى مدى بعيد, حتى ليعبر به في مواضيع حساسة جد الحساسية, يحرص الدين الإسلامي على تجريدها كل التجريد, كالذات الإلهية وصفاتها, ولهذا دلالته الحاسمة, أكثر من كل دلالة أخرى, على أن طريقة (التجسيم) هي الأسلوب المفضل في تصوير القرآن, مع الاحتراس والتنبيه إلى خطورة التجسيم في الأوهام والآن نأخذ في ضرب الأمثال.
1 – لون من ألوان (التخييل) يمكن أن نسميه (التشخيص) يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة, والظواهر الطبيعية والانفعالات الوجدانية هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية, تشمل المواد والظواهر والانفعالات, وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية, وخلجات إنسانية, تشارك بها الآدميين, وتأخذ منهم وتعطي, وتتبدي لهم في شتى الملابسات, وتجعلهم يحسون الحياة في كل شيء تقع عليه العين, أو يتلبس به الحس, فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه, في توفز وحساسية وإرهاف. هذا هو الصبح يتنفس: {والصبح إذا تنفس} فيخيل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تنفرج عنها ثناياه, وهو يتنفس, فتتنفس معه الحياة, ويدب النشاط في الأحياء, على وجه الأرض والسماء.
وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار, فلا يستطيع له دركاً: {يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاًُ} ويدور الخيال مع هذه الدورة الدائبة, التي لانهاية لها ولا ابتداء.
أو هذا هو الليل يسرى: { والليل إذا يسر} فتحس سريانه في هذا الكون العريض, وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد! وهاتان هما الأرض والسماء عاقلتين, يوجه إليهما الخطاب, فتسرعان بالجواب:
{ثم استوى إلى السماء وهي دخان, فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا: أتينا طائعين}.
والخيال شاخص إلى الأرض والسماء, تدعيان وتجيبان الدعاء.وهذه هي الشمس والقمر والليل والنهار في سباق دائم ولكن: {لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر, ولا الليل سابق النهار}.
وإنه لسباق جبار, لايني أو يفتر في ليل أو نهار.
وهذه هي الأرض (هامدة) مرة و(خاشعة) مرة, ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا:
{وترى الأرض هامدة, فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت , وأنبتت من كل زوج بهيج}.
{ومن اياته أنك ترى الأرض خاشعة, فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت}
وهكذا تستحيل الأرض الجامدة, كائنا حياً بلمسة واحدة في لفظة واحدة.
وهذه جهنم جهنم النهمة المتغيظة التي لايفلت منها أحد, ولاتشبع بأحد! جهنم التي تدعو من كانوا يدعون إلى الهدى ويدبرون, وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون! جنهم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيظ وتفور!:
{يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد}.
{وإذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيراً}. {وإذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور تكاد تميز من الغيظ}.
{ إنها لظى, نزاعة للشوى, تدعو من أدبر وتولى, وجمع فأوعى}.وهذا هو الظل الذي يلجأ إليه المجرمون: {وظل من يحموم لا بارد ولاكريم} ففي نفسه كزازة وضيق, لايحسن استقبالهم, ولايهش لهم هشاشة الكريم, فهو ليس (لابارد) فقط,ولكن كذلك (ولاكريم)!.
وهذه هي الرياح لواقح: {وأرسلنا الرياح لواقح} بما تحمل من ماء ولكن التعبير عنها أكسبها حياة, تلقح وتنتج!.
وهذا هو الغضب, أوهذا هو الروع, أو هذه هي البشرى, تهيج وتسكن, وتوحي وتسكت, وتجيء وتذهب:
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح} {ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط}.
2 – ولون من ألوان (التخييل) يتمثل في تلك الصور المتحركة التي يعبر بها عن حالة من الحالات أو معنى من المعاني فصورة الذي يعبد الله على حرف (فإن إصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) وصورة المسلمين قبل أن يسلموا, وهم {على شفا حفرة من النار} وصورة الذي { أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم} كلها صور تخيل للحس حركة متوقعة في كل لحظة, وتم هذه الحركة في الصورة الأخيرة, كما قلنا في فصل (التصوير الفني).
وقريب من هذه الصور في التخييل صورة ولوج الجمل في سم الخياط الموعد المضروب لدخول الكافرين الجنة بعد عمر طويل, فالخيال يظل عاكفاً على تمثل هذه الحركة العجيبة, التي لاتم ولاتقف ماتابعها الخيال! والصورة التي تخيلها الآية:
{قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً}.
فالخيال يظل يتصور تلك الحركة الدائبة: حركة الامتداد بماء البحر لكتابة كلمات الله, في غير ما توقف ولا انتهاء, إلا أن ينتهي البحر بالنفاد!.
وشبيه بهذه الصورة ماتخيله للحس هذه الآية:
{فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}
والآية: {وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر}.
فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركتها المعهودة {وهذا فن خاص سيأتي عنه الكلام} وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار, ماثلاً للخيال والأبصار!
3 – ولون من الوان (التخييل) يتمثل في الحركة المتخيلة, التي تلقيها في النفس بعض التعبيرات مثل: { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل , فجعلناه هباء منثوراً} وقد سجلنا منها في فصل (التصوير الفني) صورة الهباء المنثور, التي هي صورة حسية لإضاعة الأعمال فالآن تلفتنا فيها لفظة (فقدمنا) ذلك أنها تخيل للحس حركة القدوم التي سبقت نثر العمل كالهباء, وهذا التخييل يتوارى بكل تأكيد لو قيل: وجعلنا عملهم هباء منثوراً حيث كانت تنفرد حركة النثر وصورة الهباء, دون الحركة التي تسبقها: حركة القدوم.
ومثلها: {قل: أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولايضرنا ونرد على أعقابنا} فكلمات {نرد على أعقابنا} تخيل حركة حسية للارتداد في موضع الارتداد المعنوي, وتمنح الصورة حياة محسوسة.
ومن هذا القبيل: {ولاتتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} في موضع: لاتطيعوا الشيطان فإن كلمتي: تتبعوا, وخطوات, تخيلان حركة خاصة, هي حركة الشيطان يخطو والناس وراءه يتبعون خطواته, وهي صورة حين تجسم هكذا تبدو عجيبة من الآدميين, وبينهم وبين الشيطان الذي يسيرون وراءه, ما أخرج أباهم من الجنة!
وكذلك: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان} باختلاف يسير, وهو أن الشيطان في هذه المرة هو الذي تبع هذا الضال ليغويه: {فكان من الغاوين}.
ومن هذا الوادي: {ولاتقف ماليس لك به علم} فحركة الاقتفاء تهيأ للذهن, ويتمثلها الخيال, بالجسم والأقدام, لا بمجرد الذهن والجنان.
4 – ولون من ألوان (التخييل) يتمثل في تلك الحركات السريعة المتتابعة التي عرضنها منها مثالاً في الفصل السابق, صورة الذي يشرك بالله {فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير, أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
وشبيه بها في سرعتها وتعدد مناظرها تلك الحركة المتخيلة في قوله: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة, فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع, فلينظر: هل يذهبن كيده ما يغيظ}.
وتلك صورة عجيبة, فمن يئس من نصرة الله لنبيه, وضاق صدره , وبلغ حنقه على هذه الحال مبلغاً لايطيقه, فليحاول أن يغير من هذه الحال ما استطاع, مادام لايصبر, ولاينتظر وعد الله بالنصر.. ليمدد إلى السماء بحبل يتعلق به ليصعد عليه, فإذا لم يجده هذا , فيقطع هذا الحبل الممدود, ثم لينظر: هل أفلح تدبيره هذا في إذهاب مايغيظه! لينظر, إن كان قد بقي فيه شيء ينظر, بعد قطع حبله الممدود, وبعد السقطة التي يترقبها الخيال! ومن هذا القبيل – مع شيء من التحوير والتلطيف يناسب المخاطب هنا, وهو النبي > – وقد عز عليه إعراض المشركين, وتمنى لو يستطيع هدايتهم للحق, وإتيانهم بالمعجرة التي يطلبون:
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء, فتأتيهم بآية }.
5 - ولون من (التخييل) يتمثل في الحركة الممنوحة لما من شأنه السكون كقوله: {واشتعل الراس شيباً} فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الرأس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم, فيها حياة وجمال, كما أسلفنا.
وأما (التجسيم) فقد وردت له أمثلة كثيرة في فصل (التصوير الفني) كذلك ومنه كل التشبيهات التي جيء بها لإحالة المعاني والحالات صوراً وهيئات. نذكر منها:
{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف} و{ ياأيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولايؤمن بالله واليوم الآخر , فمثله كمثل صفوان عليه تراب} و{مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاه مرضاة الله, وتثبيتاً من أنفسهم, كمثل جنة بربوة..} .. الخ.
ومن هذا النوع:
{ ألم ترك كيف ضرب الله مثلاً كملة طيبة كشجرة طيبة, أصلها ثابت وفرعها في السماء , تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها, ويضرب الله الأمثال.. ومثل كملة خبيثة كشجرة خبيثة, اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار}.
ولكن الذي نعنيه هنا بالتجسيم , ليس هو التشبيه بمحسوس, فهذا كثير معتاد, إنما نعني لوناً جديداً هو تجسيم المعنويات, لا على وجه التشبيه والتمثيل, بل على وجه التصيير والتحويل.
1 – يقول:
{يوم تجد كل نفس ماعملت من خير محضراً, وماعملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً} أو {ووجدوا ماعملوا حاضراً, ولايظلم ربك أحداً} أو {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عندالله}.
فيجعل كأن هذا العمل المعنوي مادة محسوسة تحضر (على وجه التجسيم) أو تحضر هي (على وجه التشخيص) أو توجد عند الله كأنها وديعة تسلم هنا فتتسلم هناك.
وقريب من هذا تجسيم الذنوب كأنها أحمال (تحمل على الظهور زيادة في التجسيم) : { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم}.
{ ولاتزر وازرة وزر أخرى}.
ومن تجسيم المعنويات أمثال: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} فالتقوى زاد أو {صبغة الله . ومن أحسن من الله صبغة} فدين الله صبغة معلمة, أو {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة} فالسلم مما يدخل فيه أو {وذروا ظاهر الإثم وباطنه} فالإثم مما له ظاهر وباطن إلى آخر هذا النحو من الاستعارات.
2 – ويحدث عن حالة نفسية معنوية هي حالة التضايق والضجر والحرج, فيجسمها كحركة جثمانية:
{..وعلى الثلاثة الذين خلفوا, حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت, وضاقت عليهم أنفسهم, وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه}
فالأرض تضيق عليهم , ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض, ويستحيل الضيق المعنوي في هذا التصوير ضيقاً حسياً أوضح وأوقع, وتتجسم حالة هؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو مع الرسول, فأحسوا بهذا الضيق الخانق, وندموا على تخلفهم ذلك الندم المحرج, حتى لا يجدون لهم ملجأ ولامفراً, ولايطيقون راحة, إلى أن قبل الله توبتهم.
ومثله: {وأنذرهم يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين, ما للظالمين من حميم ولاشفيع يطاع}
فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر حقاً من شدة الضيق.
ومنه: { فلولا إذا بلغت الحلقوم, وأنتم حينئذ تنظرون}.
كأنما الروح شيء مجسم, يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة. ومنه: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق, أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم}.
أي ضاقت صدورهم من الحيرة والحرج, بين أن يقاتلوكم انتصاراً لقومهم, أو يقاتلوا قومهم انتصاراً لكم.
3 – ويصف حالة عقلية أو معنوية, وهي حالة عدم الإستفادة مما يسمعه بعضهم من الهدى, وكأنهم لم يسمعوا به, أو يتصلوا اتصالاً ما فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينهم وبينه مثل:
{إنهم عن السمع لمعزولون} أو {وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً}. أو {افلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. أو {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً, ومن خلفهم سداً, فأغشيناهم فهم لايبصرون} أو {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم, وعلى أبصارهم غشاوة}. أو {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري}.
وكلها تجسم هذه الحواجز المعنوية, كأنما هي موانع حسية, لأنه في هذه الصورة أوقع وأظهر.
4 – ويكون الوصف حسياً بطبيعته, فيختار عن الوصف هيئة تجسمه. كقوله: {يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم} في مكان: يأتيهم من كل جانب, أو يحيط بهم. لأن هيئة الغشيان من فوق ومن تحت أدخل في الحسية من الوصف بالإحاطة ومثله: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم} و {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم}..
ومن هذا النوع: {كأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً} فهذا السواد الذي أصاب وجوههم ليس لوناً ولا صبغة, وإنما هو قطعة من الليل المظلم غشيت بها وجوههم!.
5 – ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس: كوصف العذاب بأنه غليظ {ومن ورائهم عذاب غليظ} واليوم بأنه ثقيل {ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً}.
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك, وينتقل اليوم من زمن لايمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن!
6 – وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس, كقوله: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الإنساني لا يتسع لاتجاهين. ومثل: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها – من بعد قوة – أنكاثاً} لبيان العبث في نقض العهد بعد المعاهدة. ومثل: {ولايغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} لتفظيع الغيبة, حتى لكأنما يأكل الأخ لحم أخيه الميت!.
7 – ثم لما كان هذا التجسيم خطة عامة, صور الحساب في الآخرة كما لو كان وزناً مجسماً للحسنات والسيئات: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} {فأما من ثقلت موازينه.. وأما من خفت موازينه} { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها} {ولايظلمون فتيلاً} {ولايظلمون نقيراً} .
وكل ذلك تمشياً مع تجسيم الميزان.
وكثيراً ما يجتمع التخييل والتجسيم في المثال الواحد من القرآن فيصور المعنوي المجرد جسماً محسوساً, ويخيل حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير, وفي الأمثلة السابقة نماذج من هذا ولكنا نعرض هذه الظاهرة في أمثلة جديدة, فلدينا وفر من الأمثلة على كل قاعدة!.
مــــن ذلــك:
{ بل نقذف بالحق على الباطل. فيدمغه, فإذا هو زاهق} {وقذف في قلوبهم الرعب} {وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة} {ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين} {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة}..
فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه وكأنما الرعب قذيفة سريعة تنفذ في القلوب لفورها, وكأنما العداوة والبغضاء مادة ثقيلة, تلقى بينهم, فتبقى إلى يوم القيامة, وكأنما السكينة مادة مثبتة تنزل على رسول الله وعلى المؤمنين. وكأنما للذل جناح يخفض من الرحمة بالوالدين.
وفي كل مثال من هذه يجتمع التجسيم – بإحالة المعنى جسماً – مع التخييل بحركة هذا الجسم المفروضة.
2 – ومن ذلك: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته} و{ ألا في الفتنة سقطوا} فبعد أن تصبح الخطيئة شيئاً مادياً, تتحرك حركة الإحاطة, وبعد أن تصبح الفتنة لجة, يتحركون هم بالسقوط فيها.
3 -ومنه: { ولاتلبسوا الحق بالباطل} { فاصدع بما تؤمر} ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى, وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع, دلالة على القوة والنفاذ.
4 – ومنه:
{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور, والذين كفروا أولياءهم الطاغوت: يخرجونهم من النور إلى الظلمات} {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله, فقد استمسك بالعروة الوثقى}.
ففي المثال الأول يستحيل الهدى والضلال نوراً وظلمة, ثم تبدأ عملية الإخراج المتخيلة, وفي المثال الثاني يصبح الإيمان عروة, ثم تبدأ الحركة المتخيلة في الاستمساك بها, فتؤدي هذه الصور المجسمة المتحركة إلى تمثل أوضح وأرسخ للمعنى الخيالي المجرد.
بهذه الطريقة المفضلة في التعبير عن المعاني المجردة, سار الأسلوب القرآني في أخص شأن يوجب فيه التجريد المطلق, والتنزيه الكامل: فقال:
{يد الله فوق أيديهم} {وكان عرشه على الماء} {وسع كرسيه السماوات والأرض} {ثم استوى على العرش} {ثم استوى إلى السماء وهذ دخان} {والارض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه} {وما رميت إذا رميت ولكن الله رمى} {والله يقبض ويبسط} {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} {قالت اليهود: يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا, بل يداه مبسوطتان} {إني متوفيك ورافعك إلي}.. الخ.
وثار ما ثار من الجدل حول هذه الكلمات , حينما أصبح الجدل صناعة, والكلام زينة, وإن هي إلا جارية على نسق متبع في التعبير, يرمى إلى توضيح المعاني المجردة وتثبيتها, ويجري على سنن مطرد, لاتخلف فيه ولاعوج. سنن التخييل الحسي والتجسيم في كل عمل من أعمال التصوير.
ولكن اتباع هذا السنن في هذا الموضع بالذات, قاطع في الدلالة – كما قلنا – على ان هذه الطريقة في القرآن اساسية في التصوير, كما أن (التصوير هو القاعدة الأولى في التعبير).
التناسق الفني
حينما نقول : إن التصوير هو القاعدة الأساسية في أسلوب القرآن ، وإن التخييل والتجسيم هما الظاهرتان البارزتان في هذا التصوير، لا نكون قد بلغنا المدى في بيان الخصائص القرآنية بصفة عامة، ولا خصائص التصوير القرآني بصفة خاصة. ووراء هذا وذاك آفاق أخرى يبلغ إليها النسق القرآني، وبها تقويمه الصحيح من ناحية الأداء الفني.
هنالك التناسق الذي يبلغ الذروة في تصوير القرآن.
والتناسق ألوان ودرجات. ومن هذه الألوان ماتنبه إليه بعض الباحثين في بلاغة القرآن، ومنها مالم يمسسه أحد منهم حتى الآن.
1 - منها ذلك التنسيق في تأليف العبارات، بتخير الألفاظ، ثم نظمها في نسق خاص، يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها. وقد أكثروا من القول في هذا اللون، وبلغوا غاية مداه، بل تجاوزوا الصحيح منه، إلى التمحل الذي لا ضرورة له !.
2 - ومنها ذلك الإيقاع الموسيقي الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها في نسق خاص. ومع أن هذه الظاهرة واضحة جد الوضوح في القرآن، وعميقة كل العمق في بنائه الفني، فإن حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري، ولم يرتق إلى إدراك التعدد في الأساليب الموسيقية، وتناسق ذلك كله مع الجو الذي تطلق فيه هذه الموسيقى، ووظيفتها التي تؤديها في كل سياق.
3 - ومنها تلك النكت البلاغية التي تنبه لها الكثيرون، من التعقيبات المتفقة مع السياق، كأن تجيء الفاصلة : { وهو على كل شيء قدير} بعد كلام يثبت القدرة، والفاصلة : { إن الله عليم بذات الصدور} بعد كلام في وادي العلم المستور.. وكأن يعبر بالإسم الموصول لتكون جملة الصلة بياناً لعله الجزاء، مثل : { إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط}.. وكأن يعبر بلفظ “الرب” في مواضع التربية والتعليم مثل : “اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرام. الذي علم بالقلم. علم الإنسان مالم يعلم” بينما يعبر بلفظ “الله” في مواضع التالية والتعظيم مثل : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم مافي الأرحام}.. وكما يظهر اسم الجلالة أو يضمر لغرض يقتضيه السياق. وكما يقدم أو يؤخر، ويصل أو يفصل، ويطلق أو يقصر، ويستفهم أو يقرر.. إلى آخر المباحث البلاغية المعروفة.. وفيهم من يعد هذا أقصى مظاهر البلاغة في تعبير القرآن !
4- ومنها ذلك التسلل المعنوي بين الأغراض في سياق الآيات، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض. وبعضهم يتمحل لهذا التناسق تمحلاً لا ضرورة له، حتى ليصل إلى حد من التكلف، ليس القرآن في حاجة إلى شيء منه.
5 - ولعل أعلى نوع من التناسق تنبهوا إليه هو هذا التناسق النفسي بين الخطوات المتدرجة في بعض النصوص، والخطوات النفسية التي تصاحبها، كالمثل الذي أخذناه من “الزمخشري” عن الفاتحة، في فصل “ كيف فهم القرآن”.
ومع أن الخصائص التي طرقوها حقيقية وقيمة، فإنها لا تزال أولى مظاهر التناسق التي يلمحها الباحث في القرآن، ووراءها آفاق أخرى لم يتعرضوا لها أصلاً، فيما عدا ظاهرة الإيقاع الموسيقي، فهي أحد هذه الآفاق العالية. ولكنهم كما قلت، وقفوا عند مظاهرها الخارجية.
ولما كان التصوير في القرآن مسألة لم يعرضوا لها قط، بوصفها أساساً للتعبير القرآني جملة، فقد بقي التناسق الفني في هذا “التصوير” بعيداً عن آفاق بحثهم بطبيعة الحال.
وإذ كان قصدنا من هذا الكتاب، هو أن نستعرض الآفاق الجديدة، لا أن نكرر الاتجاهات التي اهتدى إليها الباحثون، فإننا سنترك تفصيل القول في هذه الاتجاهات- مع اعتقادنا أن كل ماكتب فيها قابل للعرض في ضوء جديد، للتقدم فيه خطوات بعيدة بعد آخر خطوة وقف عندها الأسلاف.
وسنكتفي في هذا الصدد بالنموذج الذي عرضناه للتناسق الداخلي بين المعاني والأهداف في “سورة العلق” – السورة الأولى – في فصل “منبع السحر في القرآن” فهذا النموذج صورة مما يتجه إليه البحث المجدد في التسلسل الفكري والتناسق النفسي، بين سياق القرآن.
ثم نشير مجرد إشارة إلى التناسق المعنوي والنفسي بين القصص التي يعرضها القرآن والسياق الذي يعرضها فيه، وانسجام عرضها في هذا السياق مع الغرض الديني والمظهر الفني سواء بسواء ( والمثال على هذا اللون من التناسق سيأتي في فصل “القصة في القرآن”) ومثل القصص في هذا اللون من التناسق سائر ما يعرض من مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، والصور التي تساق في معرض الجدال، فهو يعرض منسجماً مع الوسط الذي يعرض فيه، ويؤدي الغرض النفسي الذي يرمي إليه.
ولكن هذا كله إنما ينتهي إلى تناسق المعاني والأغراض. والبحث في هذا النطاق مهما دق وارتفع يبقى في معزل عن أجمل وأبدع وسائل القرآن في التعبير، وهو التصوير.
ولما كانت نقلة بعيدة أن نقفز من هذه السطوح المستوية إلى تلك القمم الشامخة، فإننا سنختار أن نرقى إلى هذه الآفاق خطوة بعد أخرى، حتى نتطلع إلى قمتها البعيدة.
1- هناك المواضع التي يتناسق فيها التعبير مع الحالة المراد تصويرها، فيساعد على إكمال معالم الصورة الحسية أو المعنوية.
وهذه خطوة مشتركة بين التعبير للتعبير، والتعبير للتصوير، فهي مفرق الطريق بين السطوح المستوية والقمم المتدرجة !
مثال ذلك : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} فإن “ الدواب” تطلق عادة على الحيوان – وإن كانت تشمل الإنسان فيما تشمل لأنه يدب على الأرض – ولكن شمولها هذا للإنسان، ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن، لأن للعادة حكمها في الاستعمال. فاختيار كلمة “ الدواب” هنا ، تم تجسيم الحالة التي تمنعهم من الانتفاع بالهدى بوصفهم “ الصم البكم” كلاهما يكمل صورة الغفلة والحيوانية، التي يريد أن يرسمها لهؤلاء الذين لا يؤمنون لأنهم “ لا يعقلون”.
ومن هذا النحو : { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، والنار مثوى لهم} فقد رسم لهم بهذا التشبيه صورة دقيقة : إنهم يأكلون ويتمتعون غافلين عن الجزاء الذي ينتظرهم، كما تأكل الأنعام وتمرح، غافلة عن شفرة القصاب، أو غافلة عما سوى الطعام والشراب.
ومثال ذلك : { نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم }. وفي هذا التعبير ألوان من التناسق الظاهر والمضمر، ومن لطف الكناية عن ملابسات دقيقة، وأدق ما فيه هو ذلك التشابه بين صلة الزارع بحرثه وصلة الزوج بزوجه في هذا المجال الخاص.
وبين ذلك النبت الذي يخرجه الحرث، وذلك النبت الذي تخرجه الزوج، ومافي كليهما من تكثير وعمران وفلاح. وكل هذه الصور تنطوي تحت استعارة في بضع كلمات.
2 - وقد يستقل لفظ واحد- لاعبارة كاملة- برسم صورة شاخصة- لابمجرد المساعدة على إكمال معالم صورة-. وهذه خطوة أخرى في تناسق التصوير, أبعد من الخطوة الأولى, وأقرب إلى قمة جديدة في التناسق. خطوة يزيد من قيمتها أن لفظاً مفرداً هو الذي يرسم الصورة, تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن, وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال, وتارة بالجرس والظل جميعاً.
تسمع الأذن كلمة(اثّاقلتم) في قوله:{ ياأيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض} فيتصور الخيال ذلك الجسم المثاقل, يرفعه الرافعون في جهد, فيسقط من أيديهم في ثقل. إن في هذه الكلمة”طناً” عل
عن الجمهورية نت
تعليقات