التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 3ـــ3

4ـ وهناك قصص متناهية في القصر:


فقصة زكريا تذكر عند مولد يحيى ,وعند كفالته لمريم.

وقصة أيوب تذكر عند مس الضر له ,ثم استغاثته بالله وشفائه ورد أهله إليه ,وقصة يونس تذكر عند ابتلاع الحوت له ثم نبذه بالعراء , ورسالته لقومه وإيمانهم به.

5ـ وقصص يشار إليها ولا يذكر شيء عنها ـ إلا وصفاً خاطفاً لأصحابها: كقصص ادريس واليسع وذي الكفل ,وطائفة أخرى لا تذكر إلا اسماؤهم في صدد استعراض سجل الأنبياء.

6ـ فأما القصص الأخرى المتفرقة كقصة أصحاب الأخدود , وأهل الكهف , وابني آدم , وصاحب الجنتين , وأصحاب الجنة.. وسد مأرب والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.. وهي القصص الوعظية البحته فتعرض بالقدر الذي يبلغ العظة , وقد استعرضنا بعضها سلفاً , وسنستعرض البعض الآخر لاحقاً , فنكتفي هنا بهذا البيان عنها إنما نريد أن نبين أن القصة القرآنية تعرض بالقدر الذي يتفق مع الغرض الديني منها ,وقد بلغنا من ذلك ما أردنا.

( ج ) وكان من أثر خضوع القصة للغرض الديني أن تمزج التوجيهات الدينية بسياق القصة, قبلها وبعدها وفي ثناياها كذلك ,فأما ما يذكر من التوجيهات قبلها فقد ذكرنا منه مثالين فيما مضى أولاً : التنبيه إلى دلالة القصص على الوحي بها ,كما في قصة يوسف وقصة آدم , وثانياً : مجيء القصص مصدقة للانباء مثل:{نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم , وأن عذابي هو العذاب الأليم} ثم سرد القصص التي تدل على الرحمة والتي تدل على العذاب ,وأما ما يذكر منه بعدها , فقد ذكرنا منه كذلك مثالين فيما مضى: أولاً التنبيه إلى دلالة القصص على الوحي بها , كما في اعقاب قصة موسى في سورة القصص , وما في أعقاب قصة نوح في سورة هود , وثانياً : التنبيه إلى أن عقاب الله عادل وأنه لا يأخذ القوم إلا بعد الإنذار , كالذي ورد في سورة العنكبوت عقب قصص الأنبياء مجتمعه:

(فكلا اخذنا بذنبه ,فنهم من أرسلنا عليه حاصباً , ومنهم من أخذته الصيحة ,ومنهم من خسفنا به الأرض ,ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ,ولكن كانوا أنفسهم يظلمون).

والذي يتتبع قصص القرآن يجد عقب كل قصة تعقيباً دينياً يناسب العبرة فيها.

وأما ما يذكر من التوجيهات في ثناياها , فنضرب منه الأمثال هنا:

1ـ (... أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها , قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ فأماته الله مئة عام , ثم بعثه قال: كم لبثت؟ قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال: بل لبثت مئة عام , فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه , وانظر إلى حمارك ـ ولنجعلك آية للناس ـ وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال : أعلم أن الله على كل شيء قدير).

فيضع في سياق القصة: {ولنجعلك آية للناس} وفي نهايتها: قال( أعلم أن الله على كل شيء قدير).

2ـ وفي قصة سليمان مع بلقيس يقول الهدهد:

{ إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء , ولها عرش عظيم , وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله , وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون ,الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم}.

كل هذا يقوله هدهد في ثنايا القصة , ليهتدي الآدميون بهداه فيما يقول.

3ـ وفي قصة يوسف مع خادمي الملك يفسر لهما الرؤيا ثم يقول:

{ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لايؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون , واتبعت ملة آبائي ابراهيم وإسحاق ويعقوب ,ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء , ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ,ولكن أكثر الناس لايشكرون}.

وهكذا لا يسير سياق القصة إلا وفي ثناياه تلك التوجيهات,زيادة على المغزى الذي تؤدي إليه بحوادثها دون توجيهاتها.

والقارىء لقصص القرآن يجد هذه التوجيهات منثورة في ثناياها على هذا النحو أو نحو سواه , ولكنه يجدها بكثرة ووفرة تدل على الغرض الأساسي من سياق القصة ,وهو الغرض الديني أولاً وقبل جميع الإغراض.

قلنا : إن خضوع القصة للغرض الديني ، لم يمنع بروز الخصائص الفنية في عرضها. فالآن نقول : إنه كان من أثر هذا الخضوع بروز خصائص فنية بعينها تحسب في الرصيد الفني للقصة في عالم الفنون الطليق، وتصدق ماقلناه في أول هذا الفصل من أن القرآن “يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني، فيخاطب حاسة الوجدان الدينية، بلغة الجمال الفنية”.

ونحن نستعرض فيما يلي هذه الخصائص الفنية التي نسميها “مظاهر التنسيق الفني في القصة”..

( أ ) كان من أغراض القصة في القرآن إثبات وحدة الإله، ووحدة الدين، ووحدة الرسل، ووحدة طرائق الدعوة، ووحدة المصير الذي يلقاه المكذبون. على نحو ما بينا في أول هذا الفصل.

فنشأ عن خضوع القصة لهذه الأغراض أن يعرض شريط الأنبياء والرسل الداعين إلى الإيمان بدين واحد، والإنسانية المكذبة بهذا الدين الواحد، مرات متعددة بتعدد هذه الأغراض، وان ينشىء هذا ظاهرة التكرار في بعض المواضع. ولكن هذا أنشأ جمالاً فنياً من ناحية أخرى، ذلك أن عرض هذا الشريط يخيل للمتأمل أنه نبي واحد، وأنها إنسانية واحدة، على تطاول الأزمان والآماد : كل نبي يمر وهو يقول كلمته الهادية، فتكذبه هذه الإنسانية الضالة، ثم يمضي، ويجيء تاليه فيقول الكلمة ذاتها ويمضي، وهكذا.. {لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه، فقال : ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم، قال الملأ من قومه : إنا لنراك في ضلال مبين، قال : ياقوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم، وأعلم من الله مالا تعلمون، أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم، ولتتقوا ولعلكم ترحمون؟

فكذبوه، فأنجيناه والذين معه في الفلك، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوماً عمين}.

{ وإلى عاد أخاهم هوداً. قال : ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره، أفلا تتقون؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه : إنا لنراك في سفاهة، وإنا لنظنك من الكاذبين. قال : ياقوم ليس بي سفاهة، ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربي، وأنا لكم ناصح أمين. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم؟ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخلق بسطة، فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون. قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده، ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال : قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب. أتجادلونني في أسماء سميتوها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان ؟ فانتظروا إني معكم من المنتظرين. فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا، وما كانوا مؤمنين}.

{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً. قال : ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ، قد جاءتكم بينة من ربكم : هذه ناقة الله لكم آية. فذروها تأكل في أرض الله، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم، واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد، وبوأكم في الأرض، تتخذون من سهولها قصوراً، وتنحتون الجبال بيوتاً فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين. قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا – لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا : إنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا : إنا بالذي آمنتم به كافرون. فعقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا : ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين. فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين} الخ..

وكلما تكرر هذا الاستعراض، كان هناك مجال لتملي هذا الشريط، الذي يقف مرة عند كل نبي، ثم يمضي في عرضه مطرداً.. حتى يقف محمد أمام كفار قريش، فإذا هو يقول تلك القولة الواحدة ، وإذا هم يردون ذلك الرد المكرر.. وفي تأمل الشريط على هذا النحو جمال فني أكيد.

( ب ) وكان من آثار خضوع القصة للغرض الديني أن تعرض منها الحلقات التي تقتضيها هذه الأغراض. وقد نشأ عن هذا مايشبه أن يكون نظاماً عاماً. ذلك أن آخر حلقة تعرض – بحسب ترتيب السور – تتفق مع أظهر غرض ديني صيغت القصة من أجله، وفي الوقت ذاته يتفق هذا الختام مع الأصول الفنية، ويبدو كأنه ختام فني لذاته، لا للغرض الديني من ورائه.

وقد لا حظنا من قبل في قصة موسى أن آخر ذكر لها يرد في سورة المائدة، والحلقة التي تعرض فيها هي حلقة التيه. لهؤلاء بنو إسرائيل قد أغدق الله عليهم نعمته، وأملى لهم في رحمته ، ثم هاهم أولاء في النهاية لا يحافظون على النعمة، ولا يدخلون الأرض المقدسة، وقد جهد موسى ماجهد لردهم إليها، فيكون تأديبهم على هذا المطال، تركهم في التيه لا مرشد لهم ولا معين، حتى يأتي الأجل المعلوم.

ذلك غرض ديني بحت.. ولكن ترى كان هناك ختام فني أجمل من مشهد التيه، في نهاية ذلك الجهد الجهيد، وبعد ذلك التردد الشديد ؟ إن مشهد التيه هو المشهد الفني الأنسب، لو كانت القصة مطلقة من جميع القيود.

فلنتتبع هذه الظاهرة في قصص أخرى.

1 - هذه قصة إبراهيم ترد في حوالي العشرين موضعاً، ثم يكون آخر موضع ترد فيه هو «سورة الحج» «103» فتعرض منها الحلقة التالية : {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً، وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}.

فهنا – من الوجهة الدينية – ربط بين شعائر الحج في الإسلام وشعائره في دين إبراهيم : وذلك غرض – كما قلنا – مقصود، وقد ورد في ختام السورة نفسها آخر ذكر لإبراهيم في قوله : {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}. ولكن لننظر من الوجهة الفنية البحتة، أكان هناك مشهد تختم به قصة إبراهيم، أليق من مشهده يؤذن في الناس للحج، وهو باني البيت، ومودع طفله إسماعيل هناك قبل البناء؟ إن أليق ختام فني بلا جدال، ولو لم يكن الغرض الديني هو الذي اقتضاه.

2 - وهذه قصة عيسى ابن مريم ترد وروداً أساسياً في ثمانية مواضع، وآخر حلقة منها تعرض في سورة المائدة «112» على النحو التالي :

وإذ قال الله :{ ياعيسى ابن مريم : أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ قال : سبحانك ما يكون لي أن أقول ماليس لي بحق . إن كنت قلته فقد علمته . تعلم مافي نفسي ولا أعلم مافي نفسك . إنك أنت علام الغيوب. ماقلت لهم إلا ماأمرتني به : أن اعبدوا الله ربي وربكم . وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد. إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}.

فهذا الختام هو ختام ديني وختام فني في آن واحد، لقصة كقصة عيسى مولده عجيب، وعن هذا المولد نِشأت شبهات تأليهه، وحول هذه النقطة المعقدة ثارت المشكلات فها هو ذا في اللحظة الأخيرة أمام خالقه يعترف بعبودته، ويشهد بما قاله لقومه، ويفوض الأمر فيهم إلى الله العزيز الحكيم.

الفن يقتضي هذا الختام، حين تساق القصة مساقها في القرآن.

3 - وقصة آدم، تختم في كل مرة بالهبوط، فإذا زادت فإنما تزيد استغفار آدم من ذنبه وقبوله عند ربه، ثم لاتزيد على ذلك شيئاً مما وقع له في الأرض بعدها – كما تزيد التوراة مثلاً – ذلك أن الهدف الديني يتم بهبوط آدم من الجنة جزاء لاتباعه مشورة عدوه القديم، ونسيانه لأمر ربه الكريم.

أما الفن فيجد في هذا الختام كل مايبغيه الفنان: الهبوط من الجنة، وترك القصة مفتوحة بعد هذا للخيال يتبع آدم المسكين وزوجه في الأرض غريبين لم يعرفا أقطارها، ولم يتعودا حياتها، وليس لهما من خبرة بالمعاش فيها.. إلى آخر ما يتملاه الخيال من مشاهد وفروض، يقضي على جمالها الفني كل إسهاب في القصة بعد هذا الختام.

4 - وقصة سليمان ترد في ثلاثة مواضع، وآخر سورة ترد فيها هي سورة الأنبياء (73) وتذكر منها الحلقة التالية:

{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان: وكلاً آتينا حكماً وعلماً، وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين، وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون}

{ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها، وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك، وكنا لهم حافظين}.

وهنا غرض ديني من أغراض ديني من أغراض قصة سليمان الكثيرة ولكن قد يبدو أن الختام الفني هنا لم يتفق مع الغرض الديني، وأن مشهد سليمان متكئاً على عصاه بعد موته قد يكون هو الختام الفني المطلوب.

وهذا المشهد يصلح ولاشك، ولكن مشهد الحكم والحكمة هنا له قيمته الفنية أيضاً في حياة سليمان فهو(سليمان الحكيم) كما يلقب، وهو (سليمان الملك) وفي هذا الحكم المبكر شاهد بالحكمة الموهوبة، وإرهاص للملك العريض ثم هي طريقة من طرق العرض، أن تنتهي قصة البطل بمشهد من مشاهد طفولته أو صباه، ذي علاقة وثيقة بمحور قصته من البدء للختام.

5 - وحتى القصص المشتركة بين عدد الأنبياء – وأغراضها الدينية معلومة – قد اتسق آخر عرض لها مع الخاتمة الفنية في اختصار:

{وإن يكذبوك، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكذب موسى، فأمليت للكافرين ثم أخذتهم، فكيف كان نكير}.

وذلك ختام واقعي، وختام ديني، وختام فني في آن.

6 - أما قصة يوسف فكان فيها توافق في الختام من نوع خاص يتفق مع القصة في الابتداء فقد بدأت القصة برؤيا يوسف فختمت بتحقيق هذه الرؤيا، وسجود اخوته له وأبويه ولم يخط خطوة وراء هذا كما فعلت التوراة، لأن الغرض الديني قد تحقق، وتحقق معه للقصة أجمل ختام.

( ج ) وكان من مقتضى الأغراض الدينية للقصة أن تتساوق مع الوسط الذي تعرض فيه فأنشأ التساوق نوعاً من التناسق الفني الذي عرضنا له في فصل خاص، تناولنا فيه سائر ألوان التصوير في القرآن.

أما مظهره في سياق القصة، فقد ذكرنا نموذجاً منه آنفاً عند ذكر أغراض القصة ذلك في مثال: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأن عذابي هو العذاب الأليم} ثم التعقيب على هذا بقصص تصدق هذا الإنباء.

فالآن نذكر له نماذج أخرى، يتفق فيها الغرض الديني، والتناسق الفني تمام الاتفاق:

1 - في سورة الأعراف عرض قصة آدم على النحو التالي:

{ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين قال: منعك ألا تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين قال: فاهبط منها، فما يكون لك أن تتكبر فيها، فاخرج إنك من الصاغرين قال: انظرني إلى يوم يبعثون قال: إنك من المنظرين قال: فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم! ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولاتجد أكثرهم شاكرين قال: اخرج منها مذؤوماً مدحوراً لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين وياآدم أسكن أنت وزوجك الجنة، فكلا من حيث شئتما، ولاتقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ماووري عنهما من سوآتهما، وقال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكم لمن الناصحين، فدلالهما بغرور، فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، وأقل لكما: إن الشيطان لكما عدو مبين؟ قال: ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين قال: اهبطوا، بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين قال: فيها تحيون، وفيها تموتون، ومنها تخرجون}.

ثم يستمر السياق، فيدعو بني آدم بعد هذه القصة أن يحذروا الشيطان: {يابني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} وأن يتمتعوا في الحدود المباحة، وألا يحرموا كذلك ما أحل الله، وأن يطيعوا الرسل الذين يأتونهم من عند الله: {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لايؤمنون} ثم يستطرد إلى يوم القيامة حيث يستعرض موقف المؤمنين الذين اتبعوا هدى الله وموقف الكافرين الذين اتبعوا غواية الشيطان، حتى ينتهي الاستعراض إلى دخول هؤلاء النار ودخول أولئك الجنة، حيث يناديهم(رجال الأعراف).

على النحو الذي ذكرناه في فصل التصويـــر الفنـي هناك: {ادخلوا الجنة لاخوف عليكم ولا أنتم تحزنون} وحيث ينادون من الملأ الأعلى: (عودة المهاجرين وأوبة المغتربين) عن دار النعيم وكأنما استحقوا الإياب وأورثوا الجنة، لأنهم عصوا الشيطان، بعد أن كان اتباعه سبب الخروج.

وفي هذه الأوبة تناسق في العرض مع ذلك الخروج كان مكانه هناك في فصل التناسق فهو بلاشك من مستوى ذلك الطراز.

ومثل هذا التناسق ملحوظ في القصص، نكتفي منه بهذا المثال، ليقرأ القارئون على هداه سائر القصص في القرآن.

ثم نعرض بعد ذلك للخصائص الفنية العامة، التي تحقق الغرض الديني للقصة عن طريق الجمال الفني إذ إن هذا الجمال يجعل ورودها إلى النفس أيسر، ووقعها في الوجدان أعمق والبحث على هذا النحو يتناول أربع ظواهر فنية لها حساب معلوم في الدراسة الفنية للقصة الحرة في عالم الفنون.

( أ‌ ) أولى هذه الخصائص الفنية تنوع طريقة العرض.. وقد لاحظنا في قصص القرآن أربع طرائق مختلفة للابتداء في عرض القصة، على النحو التالي:

1 - مرة يذكر ملخصاً للقصة يسبقها، ثم يعرض التفصيلات بعد ذلك من بدئها إلى نهايتها وذلك كطريقة قصة(أهل الكهف) فهي تبدأ هكذا:

{أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً؟ إذ أوى الفتية إلى الكهف، فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً، فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً}.

ذلك ملخص للقصة، ثم تتبعه تفصيلات تشاورهم قبل دخولهم الكهف وحالتهم بعد دخوله، ونومهم ويقظتهم وإرسالهم واحداً منهم ليشتري لهم طعاماً، وكشفه في المدينة، وعودته، وموتهم، وبناء المعبد عليهم، واختلاف القوم في أمرهم.. إلخ فكأن هذا التلخيص كان مقدمة مشوقة للتفصيلات.

2 - ومرة تذكر عاقبة القصة ومغزاها، ثم تبدأ القصة بعد ذلك من أولها وتسير بتفصيل خطواتها وذلك كقصة موسى في سورة القصص وهي تبدأ هكذا:

{تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض، وجعل أهلها شيعاً: يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض، ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ماكانوا يحذرون}.

ثم يمضي في تفصيلات قصة موسى: مولده ونشأته ورضاعه وكبره وقتله المصري وخروجه.. كما فصلنا من قبل فكأن هذه المقدمة، التي تكشف الغاية من القصة كانت تمهيداً مشوقاً لمعرفة الطريق التي تتحقق بها هذه الغاية المرسومة المعلومة.

وقريــب من هذا النحو قصة يوسف، فهي تبدأ بالرؤيا يقصها يوسف على أبيه فينبئه أبوه بأن سيكون له شأن عظيـــم ، هكذا: {إذ قال يوسف لأبيه: ياأبت إني رأيت أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر ، رأيتهم لي ساجدين قال: يابنـــي لاتقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيداً، إن الشيــطـــان للإنسان عدو مبين وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأول الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب، كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم}.

ثم تسير القصة بعد ذلك، وكأنما هي تأويل للرؤيا، ولما توقعه يعقوب من ورائها، حتى إذا تحققت أنهى القصة، ولم يسر فيها كما سارت التوراة بعد هذا الختام الفني الدقيق.

3 - ومرة تذكر القصة مباشرة بلامقدمة ولاتلخيص، ويكون في مفاجآتهم الخاصة ما يغني مثل ذلك قصة مريم عند مولد عيسى، ومفاجآتها معروفة، وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة آتية وكذلك قصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس وسنعرضها أيضاً.

4 - ومرة يحيل القصة تمثيلية فيذكر فقط من الألفاظ ما ينبه إلى ابتداء العرض، ثم يدع القصة تتحدث عن نفسها بوساطة أبطالها وذلك كالمشهد الذي عرضناه من قصة إبراهيم وإسماعيل في فصل التصوير:

{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} هذه إشارة البدء أما مايلي ذلك فمتروك لإبراهيم وإسماعيل: {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم} إلى نهاية المشهد الطويل ولهذا نظائره في كثير من قصص القرآن.

( ب‌ ) وثانية هذه الخصائص تنوع طريقة المفاجأة.

1 - فمرة يكتم سر المفاجأة عن البطل وعن النظارة، حتى يكشف لهم معاً في آن واحد مثال ذلك قصة موسى مع العبد الصالح العالم في سورة الكهف فهي تجري هكذا:

{ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا، فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا فلما جاوزا قال لفتاه: آتنا غدانا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً! قال: ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً، فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا، وعلمناه من لدنا علماً قال له موسى: هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟ قال: ستجدني – إن شاء الله – صابراً، ولا أعصي لك أمراً..قال: فإن اتبعتن فلاتسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئاً امرا، قال: ألم أقل: إنك لن تستطيع معي صبرا؟ قال: لاتؤاخذني بما نسيت، ولاترهقني من أمري عسراً}.

{فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله، قال: أقتلت نفساً زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئاً نكرا، قال: ألم أقل لك: أنك لن تستطع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا}.

{فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه، قال: لوشئت لأتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل مالم تستطيع عليه صبراً}

فإلى هنا نحن أمام مفاجآت متوالية، لا نعلم لها سراً، وموقفنا منها كموقف بطلها موسى بل نحن لانعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة ولاينبئنا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا وماقيمة اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الكونية العليا، التي لاترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظرة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة، فعدم ذكر اسمه يتفق مع هذه الشخصية المعنوية التي يمثلها وأن القوى المجهولة لتتحكم في القصة منذ نشأتها، فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود، فيمضي في طريقه ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا، فيجد هذا الرجل هناك، وكان لقاؤه يفوتهما لوسارا في وجهتهما، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى.. كل الجو غامض مجهول، وكذلك اسم الرجل الغامض مجهول.

ثم يأخذ السر في التجلي، فيعلمه النظارة حين يعلمه موسى:

{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً، فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً، وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحاً، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما، رحمة من ربك، وما فعلته عن أمري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً}.

وفي دهشة السر المكشوف يختفي الرجل كما بدا لقد يخطر للأذهان الدهشة بعد أن تصحو أن تسأل: من هذا؟ ولكنها لن تتلقى جواباً لقد مضى في المجهول، كما خرج من المجهول، فالقصة تمثل الحكمة الكبرى، وهذه الحكمة لاتكشف عن نفسها إلا بمقدار، ثم تبقى مجهولة أبداً.

ذلك أفق من آفاق التناسق كذلك كان موضعه في فصل التناسق هنالك فليرده القارىء بنفسه إلى تلك الآفاق!

2 - ومرة يكشف السر للنظارة، ويترك أبطال القصة عنه في عماية، وهؤلاء يتصرفون وهم جاهلون بالسر، وأولئك يشاهدون تصرفاتهم عالمين وأغلب مايكون ذلك في معرض السخرية، ليشترك النظارة فيها، منذ أول لحظة، حيث تتاح لهم السخرية من تصرفات الممثلين!

وقد شاهدنا مثلاً من ذلك في قصة أصحاب الجنة:

{ إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولايستثنون، فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم}.

وبينما نحن نعلم هذا، كان أصحاب الجنة يجهلونه:

{ فتنادوا مصبحين: أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين، فانطلقوا وهم يتخافتون: ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حردٍ قادرين}.

وقد ظللنا نحن النظارة نسخر منهم، وهم يتنادون ويتخافتون، والجنة خاوية كالصريم، حتى انكشف لهم السر أخيراً بعد أن شبعنا تهكماً وسخراً: { قالوا: إنا لضالون بل نحن محرومون}.

وذلك جزاء من يحرم المساكين!

فهذا لون من التناسق كذلك، يضاف إلى نظائره هنالك.

3 - ومرة يكشف بعض السر للنظارة، وهو خاف على البطل في موضع، وخاف على النظارة وعن البطل في موضع آخر، في القصة الواحدة مثال ذلك قصة عرش بلقيس الذي جيء به في غمضة، وعرفنا نحن أنه بين يدي سليمان، في حين أن بلقيس ظلت تجهل مانعلم: فلما جاءت قيل: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو ! فهذه مفاجأة عرفنا نحن سرها سلفاً ولكن مفاجأة الصرح الممرد من قوارير، ظلت خافية علينا وعليها حتى فوجئنا بسرها معها، حينما {قيل لها: ادخلي الصرح، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال: إنه صرح ممرد من قوارير!} وسنذكر القصة بالتفصيل بعد قليل.

4 - ومرة لايكون هناك سر، بل تواجه المفاجأة البطل والنظارة في آن واحد، ويعلمان سرها في الوقت ذاته: وذلك كمفاجآت قصة مريم، حين تتخذ من دون أهلها حجاباً، فتفاجأ هناك بالروح الأمين في هيئة رجل، فتقول: {إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا} نعم إننا عرفنا قبلها بلحظة أنه الروح ولكن الموقف لم يطل فقد أخبرها: {قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً!} وقد فوجئنا كذلك معها إذ أجاءها المخاض إلى جذع النخلة{قالت: ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً، فناداه من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سرياً}.. إلخ.

( ج ) وثالثة الخصائص الفنية في عرض القصة: تلك الفجوات بين المشهد والمشهد، التي يتركها تقسيم المشاهد و«قص» المناظر، مما يؤديه في المسرح الحديث إنزال الستار، وفي السينما الحديثة انتقال الحلقة، بحيث تترك بين كل مشهدين أو حلقتين فجوة يملؤها الخيال، ويستمتع بإقامة القنطرة بين المشهد السابق والمشهد اللاحق.

وهذه طريقة متبعة في جميع القصص القرآني على وجه التقريب، ويمكن أن تلحظ فيما عرضناه من القصص قبلاً أما في هذه المناسبة فنضرب عليها مثلاً من قصة يوسف: فالقصة قد قسمت ثمانية وعشرين مشهداً، فلنعرض بعض مشاهدها:

لقد قدم إخوة يوسف وهو على خزائن الأرض، في سنوات الجدب، يطلبون القمح، فطلب إليهم أن يحضروا أخاهم الآخر – شقيقه – فأحضروه – على كره من أبيه – ثم وضع صواع الملك في رحله وأخذ به رهينة، باسم أنه سارق، ليبقيه يوسف عنده!

ثم هاهم أولاء اخوته ينتحون جانباً ليتشاوروا في أمرهم، وقد أبى عليهم يوسف ان يأخذ أحدهم مكانه:

{فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً . قال كبيرهم: ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله، ومن قبل ما فرطتم في يوسف؟ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي، وهو خير الحاكمين ارجعوا إلى أبيكم، فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق، وماشهدنا إلا بماعلمنا، وماكنا للغيب حافظين، واسأل القرية التي كنا فيها، والعير التي أقبلنا فيها، وإنا لصادقون}

وهنا يسدل الستار، لنلتقي بهم في مشهد آخر لافي مصر ولا في الطريق، ولكن أمام أبيهم، وقد قالوا ماوصاهم به أخوهم دون أن نسمعهم يقولونه إنما يرفع الستار مرة أخرى لنجد أباهم يخاطبهم:

{قال: بل سولت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميل، عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً، إنه هوالعليم الحكيم} ويسدل الستار.

وهنا نرى مشهداً آخر بين يعقوب وبنيه، نراه قد أبيضت عيناه من الحزن، وهو دائم الحسرة على يوسف، وأبناؤه يستنكرون عليه هذا كله:

{وتولى عنهم، وقال: يا أسفا على يوسف، وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا: تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً أو تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله مالاتعلمون يابني أذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}.

وهنا يسدل الستار، ويطوون الطريق لا نعلم عنهم فيه شيئاً، إنما يرفع الستار فنجدهم في مصر أمام يوسف:

{فلما دخلوا عليه قالوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين} وهكذا.

وتسير قصص أهل الكهف ومريم وسليمان على النسق نفسه، وسنعرضها بالتفصيل في الفقرة التالية.

وأخيراً نخصص هذا العنوان للخصيصة الرابعة، أبرز الخصائص الفنية في القصة، وأشدها اتصالاً بموضوع هذا الكتاب(التصوير الفني في القرآن) فلقد سبق أن قلنا: إن التعبير القرآني يتناول القصة بريشة التصوير المبدعة التي يتناول بها جميع المشاهد والمناظر التي يعرضها، فتستحيل القصة حادثاً يقع ومشهداً يجري، لاقصة تروى ولاحادثاً قد مضى.

فالآن نقول: إن هذا التصوير في مشاهد القصة ألوان: لون يبدو في قوة العرض والاحياء ولون يبدو في تخييل العواطف والانفعالات ولون يبدو في رسم الشخصيات وليست هذه الألوان منفصلة، ولكن أحدها يبرز في بعض المواقف ويظهر على اللونين الآخرين، فيسمى باسمه.. أما الحق فإن هذه اللمسات الفنية كلها تبدو في مشاهد القصص جميعاً.. وهنا يوضح المثال، مالايوضحه المقال.

استعرضنا من قبل قصة أصحاب الجنة ومشهد إبراهيم وإسماعيل أمام الكعبة ومشهد نوح وابنه في الطوفان وكلها أمثلة لقوة العرض والاحياء، حتى ليظن القارئ أن المشهد حاضر يحس ويرى على نحو مابينا أما الآن فنضيف مثلاً جديداً.

ها نحن أولاء نشهد أهل الكهف يتشاورون في أمرهم بعدما اهتدوا إلى الله بين قوم مشركين:

{نحن نقص عليك نبأهم بالحق: إنهم فتية آمنوا بربهم، وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم، إذ قاموا، فقالوا: ربنا رب السماوات والأرض، لن ندعو من دونه إلهاً، لقد قلنا إذن شططاً هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بين! فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً؟ وإذ اعتزلتموهم ومايعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف، ينشر لكم ربكم من رحمته، ويهيئ لكم من أمركم مرفقاً}.

بهذا ينتهي المشهد، ويسدل الستار، أو تنقطع الحلقة على أحدث الطرق التي اهتدى إليها المسرح والسينما في القرن العشرين.

فإذا رفع الستار مرة أخرى، وجدناهم قد نفذوا ما استقر عليه رأيهم، فهاهم أولاء في الكهف هاهم أولاء نراهم رأي العين فما يدع التعبير هنا شكاً في أننا نراهم يقيناً:

{وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه}.

أنقول: إحياء المشهد؟ إن المسرح الحديث بكل مافيه من طرق الاضاءة ليكاد يعجز عن تصوير هذه الحركة المتماوجة، حركة الشمس وهي (تزاور) عن الكهف عند مطلعها فلا تضيئه، «واللفظة ذاتها تصور مدلولها» وتجاوزهم عند مغيبها فلا تقع عليهم ولقد تستطيع السينما بجهد أن تصور هذه الحركة العجيبة التي تصورها الألفاظ في سهولة غريبة.

ثم لننظرهم {وهم في فجوة منه} إن الألفاظ لتقوم بالمعجزة مرة أخرى، فتنقل هيئتهم وحركتهم كأنما تشخص وتتحرك على التوالي:

{وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لواطلعت عليهم لوليت منهم فراراً، ولملئت منهم رعباً}

وهكذا تضطلع الألفاظ بالتصوير وبالحركة في كل هذه السهولة وفجأة تدب فيهم الحياة، فلننظر ولنسمع:

{وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم، قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم، قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم، فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فلينظر إيها أزكى طعاماً، فليأتكم برزقٍ منه، وليتلطف، ولايشعرن بكم أحداً، إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ولن تفلحوا إذن أبداً}

وهذا هو المشهد الثالث – أو بقية المشهد الثاني – فهم قد استيقظوا، فكان أول مايسألون عنه: كم لبثتم؟ فيكون الجواب لبثنا يوماً أو بعض يوم وإنا لنعلم أنهم لبثوا أطول من ذلك جداً، فقد عرفنا ملخص قصتهم قبل تفصيلها أما هم فجائعون معجلون عن التحقق، ثم إنهم مؤمنون، فليكن مظهر إيمانهم أن يقولوا: {ربكم أعلم بما لبثتم} وهم متخوفون أن ينفضح أمرهم، فهم يوصون رسولهم أن يتلطف ولايشعرن بهم أحداً، لئلا يعرف القوم مقرهم فيرجموهم أو يعيدوهم في ملتهم، أما نحن فنعرف أن لا أحد هناك يرجمهم أو يردهم عن دينهم ولكن لنتتبع هذا الرسول في المشهد الثالث:

أين هو هذا المشهد؟ هنا فجوة متروكة للخيال فنحن لانجد إلا أن أمرهم كشف وعثر الناس عليهم وإن كان الناس يومئذ مؤمنين لا كافرين:

{وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وأن الساعة لاريب فيها}

وهنا يبرز الغرض الديني من القصة، ولكن النصيب الفني كذلك قد استوفي، فللخيال أن يتصور ماذا حدث عندما ذهب رسولهم وعندما كشف أمره أيضاً.

وهنا كذلك فجوة أخرى فهم قد ماتوا فيما يظهر بل ماتوا فعلاً والقوم خارج الكهف يتنازعون ويتشاورون في شأنهم، على أي دين كانوا؟

{إذ يتنازعون بينهم أمرهم، فقالوا: ابنوا عليهم بنياناً، ربهم أعلم بهم، قال الذين غلبوا على أمرهم: لنتخذن عليهم مسجداً}

وهنا فجوة ثالثة فليتخذ الخيال هذا المسجد عليهم.. أما الناس بعد أن انتهى الأمر، فهاهم أولاء – كعادة الناس – يتناقلون أخبارهم، ويتجادلون في عددهم، وعدد السنين التي انقضت عليهم:

{سيقولون: ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون: خمسة سادسهم كلبهم – رجماً بالغيب – ويقولون: سبعة وثامنهم كلبهم}

لقد طواهم المجهول بعد أن تمت الحكمة الدينية من بعثهم، فليوكل سرهم إلى المجهول أيضاً:

{قل ربي أعلم بعدتهم، مايعلمهم إلا قليل، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً، ولاتستفت فيهم منهم أحداً}

ثم تتهيأ المناسبة للتوجيهات الدينية المعهودة، فنحن في أعقاب قصة البعث والقدرة الالهية والاستئثار بالغيب، فهنا يقول:

{ ولاتقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله، وأذكر ربك إذ نسيت، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشداً}

(ويذكر لهذا التوجيه سبب خاص بمحمد (>) ولكن تفصيل هذا السبب لايعنينا هنا، إنما هو مظهر عام من التوجيه الديني في ثنايا القصص وأعقابها، وفي اللحظة النفسية المناسبة: وهاهنا مناسبة كبرى) وفي النهاية خير محقق عن مدى لبثهم، وهو المهم في القصة، أما عددهم فليبق سراً معهم: {ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً} وهذا الخبر فرصة أخرى للتوجيه الديني.

{قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولايشرك في حكمه أحداً, واتل ماأوحي إليك من كتاب ربك لامبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحداً}.

لقد استطردنا في تتبع جميع خصائص القصة التي عرضت هنا. ولكن مما لاشك فيه أن«قوة العرض والإحياء» هي السمة البارزة في مشاهد القصة جميعاً. وأن هذا اللون هو الذي يطبعها, ويغلب فيها على الألوان الأخرى.

والآن إلى اللون الثاني من ألوان التصوير في القصة: تصوير العواطف والانفعالات وإبرازها.

لقد عرضنا من قبل قصة صاحب الجنتين وصاحبه الذي يحاوره, وقصة موسى مع رجل{من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا} وكلتاهما تصور العواطف المختلفة وتبرزها بجانب رسم الشخصيات وإحياء المشاهد. فالآن نضيف إليهما قصة أخرى تفصيلاً. نضيف إليهما قصة مريم عند ميلاد عيسى:

{واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً}.

فهاهي ذي في خلوتها, مطمئنة إلى انفرادها, يسيطر على وجدانها مايسيطر على الفتاة في حمامها! ولكن هاهي ذي تفاجأ مفاجأة عنيفة تنقل تصوراتها نقلة بعيدة, ولكنها بسبب مما هي فيه أيضاً:{فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً. قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً} إنها انتفاضة العذراء المذعورة يفاجئوها رجل في خلوتها, فتلجأ إلى استثارة التقوى في نفسه:

{إن كنت تقياً}!

ولئن كنا نحن نعلم أنه”الروح الأمين” فإنها هي لاتعلم إلا أنه رجل. وهنا يتمثل الخيال في تلك الفتاة الطيبة البريئة, ذات التقاليد العائلية الصالحة, وقد تربت تربية دينية وكفلها”زكريا” بعد أن نذرت لله جنيناً.. هذه هي الهزة الأولى.

{قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً}.

ثم ليتمثل الخيال مرة أخرى مقدار الفزع والخجل, وهذا الرجل الغريب- الذي لم تثق بعد بأنه رسول ربها, فقد تكون حيلة فاتك يستغل طيبتها- يصارحها بما يخدش سمع الفتاة الخجول, وهو أنه يريد أن يهب لها غلاماً وهما في خلوة وحدهما.

وهذه هي الهزة الثانية.

ثم تدركها شجاعة الأنثى تدافع عن عرضها:

{قالت: أنى يكون لي غلامٌ ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً}.

هكذا صراحة وبالألفاظ المكشوفة فهي والرجل في خلوة, والغرض من مباغتته لها قد صار مكشوفاً- فما تعرف هي بعد كيف يهب لها غلاماً, ومايخفف من روع الموقف أن يقول لها:{إنما أنا رسول ربك} فقد تكون هذه خدعة فاتك كما قلنا- فالحياء إذن ليس يجدي, والصراحة هنا أولى.

{قال كذلك قال ربك هو عليّ هين ولنجعله آية للناس ورحمةً منا وكان أمراً مقضياً}.

ثم ماذا؟

هنا نجد فجوة من فجوات القصة, فجوة فنية كبرى, تترك للخيال يتصورها كما يهوى, ثم تمضي القصة في طريقها, لنرى هذه العذراء المسكينة في موقف آخر أشد هولاً:

{ فحملت فانتبذت به مكاناً قصياً. فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً}.

وهذه هي الهزة الثالثة.

فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق بينها وبين نفسها, فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة, ثم هي تواجه آلاماً جسدية بجانب الآلام النفسية. تواجه الألم الجسمي الحاد الذي”أجاءها” إجاءة إلى جذع النخلة, وهي وحيدة فريدة, تعاني حيرة العذراء في أول مخاض, ولاعلم لها بشيء, ولامعين لها في شيء. فإذا هي قالت:{ياليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً} فإننا لنكاد نرى ملامحها, ونحس اضطراب خواطرها, ونلمس مواقع الألم فيها:

{فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا. وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباً جنياً. فكلي واشربي وقري عيناً فإما ترين من البشر أحداً, فقولي إني نذرت للرحمن صوماً, فلن أكلم اليوم إنسياً}.

وهذه هي الهزة الرابعة والمفاجأة العظمى وإنا لنكاد نحن – لامريم – نهب على الأقدام وثباً، روعة من هذه الهزة وعجباً: طفل ولد للحظة، يناديها من تحتها، ويمهد لها مصاعبها، ويهيئ لها طعامها، إلا إنها الهزة الكبرى!

ونحسبها قد دهشت طويلاً، وبهتت طويلاً، قبل أن تمد يدها إلى جذع النخلة تهزه ليساقط عليها رطباً جنياً – لتتأكد على الأقل، ويطمئن قلبها لما تواجه به أهلها – ولكن هنا فجوة تترك للخيال أن يقيم عندها قنطرة، ويعبرها.

{فأتت به قومها تحمله}!

فلتطمئن الآن مريم، لتنتقل الهزات النفسية إلى سواها {قالوا: يامريم لقد جئت شيئاً فريا يا أخت هارون! ما كان أبوك امرأ سوء، وماكانت أمك بغياً!}.

إن الهزة لتطلق ألسنتهم بالسخر والتهكم على أخت هارون! وفي تذكيرها بهذه الأخوة مافيه من مفارقة، فهذه حادثة في هذا البيت لاسابقة لها.

{ماكان أبوك امرأ سوء، و ماكانت أمك بغياً}

{فأشارت إليه} ويبدو أنها كانت مطمئنة لتكرار المعجزة هنا، أما هم فماعسى أن نقول في العجب الذي يساورهم، والسخرية التي تجيش بها نفوسهم، وهم يرون عذراء تواجههم بطفل، ثم تتبجح فتشير إليه ليسألوه عن سرها: {قالوا: كيف نكلم من كان في المهد صبياً؟}.

ولكن هاهي ذي المعجزة المرتقبة:

{قال: إني عبدالله، آتاني الكتاب، وجعلني نبياً، وجعلني مباركاً أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حياً، وبراً بوالدتي، ولم يجعلني جباراً شقياً، والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت، ويوم أبعث حياً}

لولا أننا قد جربنا من قبل، لوثبنا على أقدامنا فزعاً، أو لسمرنا في مواضعنا دهشاً، أو لفغرنا أفواهنا عجباً، ولكننا جربنا فلتفض أعيننا بالدمع من التأثر، ولترتفع أكفنا بالتصفيق من الاعجاب وفي هذه اللحظة يسدل الستار، والأعين تدمع للانتصار، والأيدي تدوي بالتصفيق وفي هذه اللحظة نسمع في لهجة التقرير، وفي أنسب فرصة للإقناع والاقتناع:

{ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ماكان لله أن يتخذ من ولد سبحانه! إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم}

لقد برز الغرض الديني هنا، وبرزت مشاهد القصة ولكن ما لاشك فيه أن قوة إبراز العواطف والانفعالات هي الغالبة، وأن هذا اللون هو الذي يطبعها، ويغلب فيها على الألوان الأخرى.



والآن نتحدث عن اللون الثالث من ألوان التصوير في القصة، ولكننا نفرده عنها، وإن كان واحداً منها، ذلك هو رسم الشخصيات وإبرازها.

لقد عرضنا من قبل صاحب الجنتين وصاحبه، وقصة موسى وأستاذه وفي كل منهما نموذجان بارزان والأمثلة على هذا اللون من التصوير هي القصص القرآني كله، فتلك سمة بارزة في هذا القصص، وهي سمة فنية محضة – وهي بذاتها غرض للقصص الفني الطليق – وها هو ذا القصص القرآني، ووجهته الأولى هي الدعوة الدينية، يلم في الطريق بهذه السمة أيضاً، فتبرز في قصصه جميعاً، ويرسم بضع(نماذج انسانية) من هذه الشخصيات، تتجاوز حدود الشخصيات المعنية إلى الشخصية النموذجية فلنستعرض بعض القصص على وجه الاجمال ولنعرض بعضها على وجه التفصيل.

1 - لنأخذ موسى إنه نموذج للزعيم المندفع العصبي المزاج فها هو ذا قد ربي في قصر فرعون، وتحت سمعه وبصره، وأصبح فتى قوياً.

{ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان: هذا من شيعته وهذا من عدوه، فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه، فوكزه موسى، فقضى عليه}.

وهنا يبدو التعصب القومي، كما يبدو الانفعال العصبي وسرعان ماتذهب هذه الدفعة العصبية، فيثوب إلى نفسه شأن العصبيين:

{قال: هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال: رب إني ظلمت نفسي، فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال: رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين}.

{فأصبح في المدينة خائفاً يترقب} وهو تعبير مصور لهيئة معروفة: هيئة المتفزع المتلفت المتوقع للشر في كل حركة وتلك سمة العصبيين أيضاً.

ومع هذا ومع أنه قد وعد بأنه لن يكون ظهيراً للمجرمين فلننظر ما يصنع إنه ينظر{فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه} مرة أخرى على رجل آخر، {قال له موسى: إنك لغوي مبين) ولكنه يهم بالرجل الآخر كما هم بالأمس، وينسيه التعصب والاندفاع استغفاره وندمه وخوفه وترقبه، لولا أن يذكره من يهم به بفعلته، فيتذكر ويخشى:

{فلما أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما، قال: ياموسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض، وماتريد أن تكون من المصلحين}.

وحينئذ ينصح له بالرحيل رجل جاء من أقصى المدينة يسعى فيرحل عنها كما علمنا.

فلندعه هنا لنلتقي به في فترة ثانية من حياته بعد عشر سنوات، فلعله قد هدأ وصار رجلاً هادىء الطبع حليم النفس.

كلا! فهاهو ذا ينادي من جانب الطور الأيمن: أن ألق عصاك، فألقاها فإذ هي حية تسعى ومايكاد يراها حتى يثب جرياً، لايعقب ولايلوي إنه الفتى العصبي نفسه ولو أنه قد صار رجلاً، فغيره كان يخاف نعم، ولكن لعله كان يبتعد منها، ويقف ليتأمل هذه العجيبة الكبرى.

ثم لندعه فترة أخرى، لنرى ماذا يصنع الزمن في أعصابه لقد انتصر على السحرة، وقد استخلص بني إسرائيل وعبر بهم البحر ثم ذهب إلى ميعاد ربه على الطور وإنه لنبي ولكن ها هو ذا يسأل ربه سؤالاً عجيباً {قال رب أرني أنظر إليك}.

وقال : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) ثم حدث ما لا تحتمله أية أعصاب إنسانية – بله أعصاب موسى.

{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقاً فلما آفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين}.

عودة العصبي في سرعة واندفاع

ثم ها هو ذا يعود، فيجد قومه قد اتخذوا لهم عجلاً إلهاً وفي يديه الألواح التي اوحاها الله إليه، فما يتريث وما يني والقى الألواح واخذ برأس أخيه يجره إليه، وإنه ليمضي منفعلاً يشد رأس أخيه ولحيته ولا يسمع له قولاً.

{قال : يا ابن آم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي}.

وحين يعلم أن (السامري) هو الذي فعل الفعلة يلتفت إليه مغضباً ويسأله مستنكراً حتى إذا علم سر العجل:

{قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعداً لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً}.

هكذا في حنق ظاهر وحركة متوترة.

فلندعه سنوات أخرى

لقد ذهب قومه في التيه ونحسبه قد صار كهلاً حينما افترق عنهم، ولقي الرجل الذي طلب إليه ان يصحبه ليعلمه مما آتاه الله علماً.

ونحن نعلم أنه لم يستطع أن يصبر حتى ينبئه بسر ما يصنع مرة ومرة ومرة فافترقا.

تلك الشخصية موحدة بارزة ونموذج إنساني واضح في كل مرحلة من مراحل القصة جميعاً.

2 - تقابل شخصية موسى شخصية إبراهيم انه نموذج الهدوء، والتسامح والحلم، إن إبراهيم لحليم أواه منيب.

فها هو ذا في صباه يخلو إلى تأملاته يبحث عن إلهه:

{فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال: لا أحب الآفلين ، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.

فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما افلت: قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما انا من المشركين وحاجه قومه قال اتحاجوني في الله وقد هدان ، ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كل شيء علماً أفلا تتذكرون}.

وما يكاد يصل إلى هذا اليقين حتى يحاول في بر وود ان يهدي إلى اباه في احب لفظ واحياه.

{يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ، يا ابت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك، فاتبعني أهدك صراطاً سوياً، يا ابت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا ابت إني اخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً}.

ولكن اباه ينكر قوله ويغلظ له في القول ويهدده تهديداً: {قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لا رجمنك وأهجرني ملياً}.

فلا يخرجه هذا العنف عن أدبه الجم، ولا عن طبيعته الودود، ولا يجعله ينفض يديه من أبيه.

{قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً واعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي، عسى إلا أكون بدعاء ربي شقياً}.

ثم هاهو ذا يحطم أصنامهم – ولعله العمل الوحيد العنيف الذي يقوم به – ولكنه إنما تدفعه إلى هذا رحمة أكبر عسى أن يؤمن قومه إذا رأوا آلهتم جذاذا وعلموا أنها لا تدفع عن نفسها الاذى، ولقد كادوا يؤمنون فعلاً {فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا : إنكم أنتم الظالمون} ولكنهم عادوا فهموا بإحراقه، وحينئذ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم.

ولقد اعتزلهم عهداً طويلاً مع النفر الذي آمن معه ومنهم ابن اخيه لوط.

وفي كبرته وهرمه يرزق الله بإسماعيل ولكن يقع له ما يحتم عليه أن يبعد ابنه وأمه عنه «والقرآن لا يتعرض لهذا الذي وقع».

فيغلبه الطبع الرضي على الحنو الابوي، ويدركه إيمانه بربه، فيدعهما بجوار بيته، وهناك ينادي ذلك النداء الخاشع المنيب:

{ربنا إني اسكنت من ذريتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون}.

ثم ما يكاد هذا الطفل يشب، ويصبح فتى، حتى يرى في المنام أنه يذبحه فيغلبه الإيمان الديني العميق، على الحب الأبوي العميق، ويهم بإطاعة الإشارة لولا أن يرفق به ربه، فيفديه بذبح عظيم.

وهكذا تتكشف الوقائع، في القصة والمحاورات عن شخصية مميزة الملامح واضحة السمات، إن إبراهيم لحليم آواه منيب).

3 - ويوسف : إنه نموذج الرجل الواعي الحصيف، فها هو ذا يلقى العنت من مراودة امرأة العزيز له فيأبى إنه في بيت رجل يؤويه، فليحذر مواضع الحرج جميعاً ومع ذلك يكاد يضعف {ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه}.

وهنا تبرز (المرأة) في حالة من أنكر حالاتها وفي دفعة من دفعات غريزتها {واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر} وتقع المفاجأة التي يحذرها {والفيا سيدها لدى الباب} وهنا تدرك المرأة غريزتها أيضاً، فنجد الجواب حاضراً، إنها تتهم الفتى : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا ، ولكنها امرأة تعشق، فهي تخشى عليه الردى فتشير بالعقاب المأمون {إلا أن يسجن أو عذاب أليم}.

وغير يوسف كانت تناله (اللخمة) ولكن يوسف الواعي يجيب صادقاً ، { هي راودتني عن نفسي} ويستشهد بقميصه المقدود من الخلف، ويجد من يؤيده، في استشهاده من أهل المرأة ذاتها.

{وشهد شاهد من أهلها، إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين} ...... فيوسف إذن بريء .

ويلغط نساء المدينة بالقصة – كعادة النساء في كل مكان وزمان – وإنها لقصة تجد لديهن اهتماماً ورواجاً فتبرز (المرأة) في زوج العزيز مرة أخرى، إنها تدعوهن إلى حفلة وبينما هن منهمكات في تناول الطعام والسكاكين في أيديهن، فقد كانت مصر متحضرة يأكل أهلها في الصحاف ويستخدمون السكاكين – تخرج عليهن يوسف، فيبهتن ويؤخذن، ويجرحن أيديهن تجريحاً شديداً {فلما رأينه أكبرته وقطعن أيديهن، وقلن حاش لله ، ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}... إنهن لنساء وإنها لامرأة وإنها لتعرف كيف تفحم النساء !

{ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجنه حتى حين}

فلن يسكت اللغط وفي المدينة نسوة.

وها هو ذا يفسر الرؤيا لصاحبي الملك في السجن، فإذا عرف أن أحدهما سينجو وأنه سيعود إلى خدمة سيده، لم ينس يوسف الواعي أن يطلب إليه ذكره عند ربه :

{وقال للذي ظن أنه ناج منهما ، اذكرني عند ربك}.

ولكن الساقي ينسى {فلبث في السجن بضع سنين} حتى يرى الملك رؤياه ويعجز عن تفسيرها المفسرون، فيذكر الساقي يوسف، ويأتي إليه ليفسر الرؤيا، فيجد لها تفسيراً فيطلبه الملك ليراه.

وهنا يظهر الرجل الحصيف، لقد دخل السجن ظلماً، وإن حوله للغطاً وإنه لن يأمن إذا خرج أن يرد إلى السجن كما دخل إليه أول مرة، فهو ينتهز الفرصة المناسبة للحصول على الضمان والبراءة {قال : ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن ايديهن ؟ إن ربي بكيدهن عليم} ويسألهن الملك فيجبن بالحقيقة وترى امرأة العزيزة أن تبرئه أيضاً، فالظاهر أنها كانت قد أسنت إذ نحن نرجح أنها فعلت فعلتها هي في الاربعين او فوقها فهي فعلة امرأة مكتملة في نهاية المرحلة، فإذا اضفنا إلى سنها (بضع سنين) كانت في الخمسين أو قرب الخمسين فلا ضير حينئذ من كشف الماضي الدفين، قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين.

وفي تعقيب يوسف على هذا يبدو الرجل الحصيف المقتصد في التعبير الذي لا يبالغ في شيء إنما يضع الاحتمالات والاحتياطات لكل حالة :

{ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين، وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء}.

فإذا رأى انس الملك به وارتياحه لتأويله, وسمع منه قوله: {إنك اليوم لدينا مكين أمين} لم يدع الفرصة تذهب بل {قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} فيجاب إلى طلبه في أنسب الظروف.

ويدل تصرف يوسف في سني الخصب والجذب على مهارة واضحة في الإدارة والاقتصادي, فقد أشرف على المالية والتموين أربع عشرة سنة, لا على تموين مصر وحدها, بل على تموين البلاد القريبة المجاورة, التي أجدبت كذلك, وجاءت مصر تستجدي الخبز والحياة سبع سنين.

ثم إذا جاء إخوته فعرفهم وهم له منكرون, جعل حصوله منهم على أخيه, ثمناً لحصولهم على القوت, فإذا جاءوه بأخيه وأراد احتجازه {جعل السقاية في رحل أخيه, ثم أذن مؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون} فإذا أنكروا السرقة, وطلبوا تفتيشهم, وأخذ من تظهر الكأس في أمتعته ثمناً للكأس, تبدت الحصافة {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} وتركهم يعودون بدونه, ثم يرتدون بأوعيتهم إليه, فيكشف لهم في هذه المرة عن نفسه, بعد أن يلقي عليهم هذا الدرس, وبعد أن يحملهم تلك المشقة!

وهذه كلها تصرفات الرجل الواعي الحصيف.

4 - وكنا نود أن نعرض شخصية آدم وشخصية إبليس هذا العرض المفصل, ولكننا نكتفي بالإجمال فيهما لأن لدينا قصة اخرى سنعرضها تفصيلاً.

إن شخصية آدم في قصص القرآن لنموذج (للإنسان) بكل مقوماته وخصائصه, ومن أظهر تلك المقومات والخصائص ذلك الضعف البشري الأكبر الذي يجمع كل نواحي الضعف الأخرى. فيها الضعف امام الرغبة في الخلود وقد لمس إبليس موضع الضعف هذا فاستجاب له آدم واستجابت له حواء{ قال هل أدلك على شجرة الخلد وملك لايبلى} فالإنسان الفاني حريص على الخلود أبداً, فلما لم ينله كما مناه الشيطان , ظل وسيظل يحاوله بمختلف الطرق, بالنسل وبالذكر وبالخيال فإن لم ينفعه هذه كله نفعه الدين الذي يضمن له البعث مرة أخرى, ويضمن له نوعاً من الخلود أيضاً!

أما شخصية إبليس فهي شخصية الشيطان وكفى...!

5 - والآن نعرض أشد القصص إبرازاً للسمات الشخصية فيما نرى , وأدخلها في الفن الخالص كذلك, مع وفاته نرى وأدخلها في الفن الخالص كذلك مع وفائها التام بالغرض الديني.

إنها قصة سليمان مع بلقيس وكلاهما شخصية واضحة فيها: شخصية (الرجل) وشخصية المرأة ثم شخصية الملك النبي) وشخصية الملكة فلننظر كيف يبرز أولئك جميعاً.

{وتفقد الطير فقال: ما لي لا أرى الهدهد ؟ أم كان من الغائبين ؟ لأعذبنه عذاباً شديداً أو لاذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين}.

فهذا هو المشهد الاول فيه (الملك الحازم) و(النبي العادل) و(الرجل الحكيم) إنه الملك يتفقد رعيته وإنه ليغضب لمخالفة النظام والتغيب بلا إذن ولكنه ليس سلطاناً جائراً فقد يكون للغائب عذره فإن كان فيها، وإلا فالفرصة لم تفت وليعذبنه عذاباً شديداً أو ليذبحنه.

{فمكث غير بعيد فقال : أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين : إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون الا يسجدون لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض، ويعلم ماتخفون وما تعلنون ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم}.

فهذا هو المشهد الثاني – عودة الغائب – وهو يعلم حزم الملك وشدة بطشه فهو يبدأ حديثه بمفاجأة يعدها لملك تبرر غيبته وافتتاحها يضمن اصغاء الملك إليه { احطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) فأي ملك لا يستمع وأحد رعيته الصغار يقوله له {احطت بما لم تحط به} ثم ها هو ذا الغائب يعرض النبأ مفصلاً وإنه ليحس اصغاء الملك له واهتمامه بنبئه فهو يطنب فيه، وهو يتفلسف فينكر على القوم {الا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض} وإنه حتى هذه اللحظة لفي موقف المذنب، فالملك لم يرد عليه بعد فهو يلمح بأن هناك الهاً (هو رب العرش العظيم) ليطامن الملك من عظمته الإنسانية أمام هذه العظمة الإلهية.

{قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين أذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، ثم تولى عنهم، فانظر ماذا يرجعون}.

فهذا هو المشهد الثاني في شطره الاخير، فيه الملك الحازم العادل، فالنبأ العظيم لم يستخف (الملك) وهذا العذر لم ينه قضية الجندي المخالف للنظام والفرصة مهيأة للتحقيق، كما يصنع (النبي >) العادل، والرجل، الحكيم.

ثم ها نحن أولاء – النظارة – لا نعلم شيئاً مما في الكتاب ، إن شيئاً منه لم يذع قبل وصوله إلى الملكة، فإذا وصل فهي التي تذيعه ويبدأ المشهد الثالث :

{قالت يا أيها الملأ أني القي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين}.

وها هي ذي الملكة تطوي الكتاب وتوجه إلى مستشاريها الحديث :

{قالت : يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة امراً حتى تشهدون}.

وكعادة العسكريين في كل زمان ومكان، لابد أن يظهروا استعدادهم العسكري في كل لحظة وإلا ابطلوا وظيفتهم مع تفويض الأمر للرياسة العليا كما يقتضي النظام والطاعة :

{قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد، والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين}.

وهنا تظهر (المرأة) من خلف (الملكة) المرأة التي تكره الحرب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل سلاح القوة والمخاشنة، والتي تتهيأ في صميمها لمواجهة (الرجل) بغير العداء والخصام.

{قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون، وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون}.

ويسدل الستار هنا ليرفع هناك عند سليمان :

(قلما جاء سليمان قال : أتمدونن بمال { فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأ تينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون}.

والآن لقد رد الرسل بهديتهم فلندعهم في الطريق قافلين إن سليمان النبي الملك، وإنه كذلك لرجل، وإن (الملك) ليدرك من تجاربه ان هذا الرد العنيف سينهي الأمر مع ملكة لا تريد العداء – كما يبدو من هديتها له – وأنها ستجيب دعوته على وجه الترجيح – بل التحقيق، وهنا يستيقظ (الرجل) الذي يريد أن يبهر (المرأة) بقوته وبسلطانه (وسليمان هو ابن داود صاحب التسع والتسعين نعجة الذي فتن في نعجة واحدة) فها هو ذا يريد أن يأتي بعرش الملكة قبل ان تجيء وأن يمهد لها الصرح من قوارير «وإن كانت القصة تبقي الصرح سراً – حتى عنا نحن النظارة لتفاجئنا به مع بلقيس في المشهد الأخير».

{قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن، أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين}.

ولكن الاهداف الدينية لا تريد أن يكون للجن قوة ولو كانوا من جن سليمان فها هو ذا الرجل من المؤمنين – عنده علم من الكتاب – تفوق قوته قوة ذلك العفريت.

{قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك من قبل أن يرتد إليك طرفك}.

وهنا فجوة كما تغمض العين، ثم تفتح :

{فلما رآه مستقراً عنده قال : هذا من فضل ربي ، ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم}.

لقد استيقظ (النبي) في نفس سليمان امام نعمة الله التي تتحقق على يدي عبد من عباد الله وهنا يستطرد سليمان في الشكر على النعمة بما يحقق الغرض الديني للقصة.

ثم ها هو ذا (الرجل) يستيقظ في سليمان مرة أخرى.

(قال نكروا لها عرشها، ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون).

وهنا يهيأ المسرح لاستقبال الملكة، ونمسك نحن أنفاسنا في ارتقاب مقدمها :

{فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ، قالت : كأنه هو}.

ثم ماذا ، إن الملكة لم تسلم بعد من هذه المفاجأة – فيما يبدو – {وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين}.

وهنا تتم المفاجأة الثانية للملكة ولنا معها :

{وقيل لها أدخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها، قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت : رب إني ظلمت نفسي واسلمت مع سليمان لله رب العالمين}.

وهكذا كانت بلقيس (امرأة) كاملة تتقي الحرب والتدمير، وتستخدم الحيلة والملاطفة بدل المجاهرة والمخاشنة ثم لا تسلم لأول وهلة، فالمفاجأة الأولى تمر فلا تسلم فإذا بهرتها المفاجأة الثانية، وأحست بغريزتها أن أعداد المفاجأة لها دليل على عناية (الرجل) بها القت السلاح والقت بنفسها إلى الرجل الذي بهرها، وابدى اهتمامه بها بعد الحذر الأصيل في طبيعة المرأة، والتردد الخالد في نفس حواء.

وهنا يسدل الستار فما في القصة من الوجهة الدينية، ولا من الوجهة الفنية زيادة المستزيد إلا أن يحاول عقداً أخرى فنية بحته، لا تتصل بالغرض الديني ولا تساوقه وانه لحسب قصة دينية وجهتها الدين وحده، ان تبرز هذه الانفعالات النفسية، وان ترسم هذه (النماذج الإنسانية) وأن تعرضها هذا العرض، وتنسقها ذلك التنسيق.

وبهذا البيان نختم فصل القصة في القرآن وفيها وراء ذلك متسع لمن شاء البيان.
 
عن الجمهورية نت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3