التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 2ـــ3
ثم نرقى إلى أفق آخر من آفاق التناسق الفني في القرآن فالتصور القرآني حين ينتهي من تناسق الألوان والأجزاء في الصورة أو المشهد، وحين يطلق حولها الموسيقى المكملة للجو، لا ينتهي عند هذه الآفاق في تناسق الإخراج، إن هناك خطوة وراء هذا كله، ضرورية للتناسق، وضرورية لتأثير المشهد، وللكمال الفني فيه، تلك هي المدة المقررة لبقاء المشهد معروضاً على الأنظار في الخيال، والتناسق القرآني يلحظ هذا ويؤديه أرفع أداء.
بعض المشاهد يمر سريعاً خاطفاً، يكاد يخطف البصر لسرعته، ويكاد الخيال نفسه لا يلاحقه، وبعض المشاهد يطول ويطول، حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول، وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة، وبعضها شاخص لايريم، وكل أولئك يتم تحقيقاً لغرض خاص في المشهد، يتسق مع الغرض العام للقرآن، ويتم به التناسق في الإخراج أبدع التمام.
وللقصر وسائل مختلفة، وللطول وسائل شتى، يؤدي كل منها الغرض، ويناسب جو المشهد، وهذه خطوة أخرى في ذلك الأفق الجديد..
والآن إلى النماذج، ففيها وحدها بلاغ.
1ـ يريد أن يصور للناس قصر هذه الحياة الدنيا التي تلهيهم عن الآخرة، فيخرج القصر في هذه الصورة:
{ وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا، كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيماً تذروه الرياح}.
وانتهى شريط الحياة كله في هذه الجمل القصار، وفي هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة:
{ ماء أنزلناه من السماء} فـ { اختلط به نبات الأرض} فـ { أصبح هشيماً تذروه الرياح}.
ألا ما أقصرها حياة!
ومع هذا فقد عرض أطوار النبات كلها لم ينقص منها شيئاً ـ إلا الأطوار الثانوية ـ عرض الماء الذي يسبقه، ويختلط بالأرض فتنبته ؛ وعرض نضجه ،وعرض تذريته، فماذا بقي من حياة النبات إلا الأطوار الثانوية؟
لقد اجتمعت لهذا التعبير كل عناصر الصدق والدقة والجمال:
الصدق في عرض أطوار النبات، فلم ينقص شيئاً منها لتحقيق الغرض الديني، والدقة لأنه حقق غرض الصورة كاملاً، والجمال لأن سرعتها الخاطفة مما ينشط له الخيال.
وقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشهد كما استخدمت وسائل العرض الفنية لهذا الغرض، فهذا “التعقيب” الذي تمثله هذه “ الفاء” في تتابع المراحل، يتفق مع طريقة العرض السريعة، ثم هذا الماء النازل لاتختلط به الأرض فتنبت ،بل يختلط به نبات الأرض مباشرة، وهذه حقيقة، ولكنها حقيقة تعرض
في الوضع الخاص الذي يحقق السرعة المطلوبة.
2ـ ومثل هذا النص نص آخر في المعنى والاتجاه؛ ولكنه يختلف في حلقة منه، ليؤدي غرضاً آخر مع هذا الغرض السابق:
{ أعلموا أنما الحياة الدنيا لعب، ولهو ، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يكون حطاماً}.
فالصورة المعروضة لقصر الحياة متحدة تقريباً مع الصورة الأولى، ولعل هذا يخيل للبعض أن هناك تكراراً كاملاً؛ولكن الواقع أن هناك اختلافاً دقيقاً، إنه أطال عرض شريط الحياة الدنيا ـ كما يراه الكفار ـ فهي لعب، ولهو،وزينة وتفاخر بينكم،وتكاثر في الأموال والأولاد، ليقول: إن هذا الذي تعجبون به كله، وهذا الذي تستطيلون أمده، إنما هو في حقيقته قصير زائل، كذلك الغيث الذي يعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفراً،ثم يكون حطاماً.
وذلك من دقائق الصور المكررة في القرآن، وفي كل تكرار صورة تختلف اختلافاً يسيراً أو كبيراً، وتنفي وهم التكرار بلا قصد إلا التكرار،وإن يكن للتكرار غرضه في صدد الدعوة.
ولكنه مع هذا يسير مع الجمال الفني بالتنويع الدقيق الملحوظ.
3ـ في المثالين السابقين كان الاختصار بحذف المراحل الثانوية، فهذا مثال آخر يعرض قصر الحياة على النحو نفسه، مع زيادة في الاختصار، فيمسك بطرفي الحياة ويجمعها في ومضة خاطفة،ولكنه في الوقت ذاته يخيل هيئة الطول فيما بين الطرفين:
{ ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر} فهذه الصورة: من جانب تصور قصر الحياة فما كادت تبدأ بالتكاثر، حتى انتهت بالمقابرـ وذلك أقصر ما تصور به فترة الحياة، في اللفظ والخيال ـ ولكنها من طرف خفي، قد عرضت امتداد اللهو طول الحياة من مبدئها إلى منتهاها، وساعدت كلمة “ حتى” على بروز الامتداد؛ فخيلت للنفس أن هؤلاء القوم لجوا في اللهو أمداً طويلاً، وذلك من عجائب التخييل، فغرض قصر الحياة، وغرض طول اللهو فيها، كلاهما مقصود من التعبير، وكلاهما تحقق في هذا النص القصير.
4ـ وفي هذا الاتجاه ـ مع تغيير في الغرض ـ يرد النص الآتي:
{كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم، ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون}؟
ففي أربعة مقاطع قصيرة لفقرة واحدة، عرض قصة الخلق من قبل ظهورها بمرحلة، إلى بعد انتهائها بمرحلة، الموت الذي سبق الحياة، فالحياة ،فالموت الذي تختم به الحياة، فالحياة بعد الوفاة.
والموت الذي سبق الحياة آزال، والحياة التي تلته آماد، والموت الذي يعقبها آباد.. تنطوي جميعاً في ألفاظ،ليعرض جانب السرعة؛ ولكن يمتد بها الخيال في الاستعراض، ليقول:إن هذه الآماد الطويلة كلها، قصيرة في يد القوة الكبرى.
إنه هنا يصور القدرة القادرة، التي تقول للشيء:«كن فيكون» والسرعة مما يزيد وضوح القدرة ـ ولا سيما إذا طوت هذه الآماد المتطاولة في غمضة ـ فكيف تكفرون بالله إذن ، وهو الذي يملك أموركم كلها من قبل ومن بعد “ ثم إليه ترجعون”.
وتكملة لهذه السرعة تأتي الآية التالية:
{هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء ،فسواهن سبع سموات}.
هكذا في ومضة “خلق لكم مافي الأرض جميعاً” وفي ومضة “استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات” وخلق مافي الأرض، أو شيء مما خلق في الأرض يستغرق في مواضع أخرى آيات طوالاً، حينما يريد التفصيل والتطويل.
5ـ وإلى هنا كان القصر باختصار المراحل أو إدماجها،فالآن نعرض مثالاً آخر يأتي القصر فيه من لمسات الريشة السريعة العنيفة اللمسات، هذه الريشة المعجزة التي تخط لمسة هنا ولمسة هناك، ثم تطوي اللوحة كلها، كأنها ما عرضت قط، فما يكاد الخيال يتلفت ليراها حتى يفتقدها فلا يلقاها:
{ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء * فتخطفه الطير * أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
أنظر: لقد خر من السماء ، أنظر: لقد خطفته الطير، أنظر: لقد هوت به الريح في مكان سحيق، أنظر: لقد اختفى المسرح ومن فيه!
ولم هذه السرعة الخاطفة؟ لئلا يتوهم أحد أن لمن يشرك بالله منبتاً، أو وجوداً ،أو قراراً، أو امتداداً ،مهما يبلغ من الحسب والقوة والجاه والبنين؛إنما يأتي في ومضة من المجهول، ليذهب في ومضة إلى المجهول!!!
والآن فإلى المشاهد المطولة:
1ـ لقد رأينا قصة الماء الذي ينزل من السماء فيختلط به نبات الأرض، فيصبح هشيماً تذروه الرياح، لقد عرضت هناك في ومضات خاطفات،فلننظر كيف يُعرض قسم منها على مهل وفي تؤدة:
{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}.
هكذا، القسم الأول وحده الخاص بوصول الماء إلى الأرض، يستغرق هذه الفقرات، ويعرض في هذه المراحل، فالرياح تثور، فتثير السحب في السماء ـ كما يشاء الله ـ فيتراكم هذا السحاب، فيخرج منه المطر، فينزل المطر من السماء، فيستبشر به من ينزل عليهم بعد أن كانوا يائسين.
فلننظر كيف يعرض القسم الثاني بعد وصول الماء:
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً}.
هكذا، في تراخ بـ «ثم»،وفي تمهل وبطء،فالماء ينزل فلا يختلط بالأرض ولا بنبات الأرض؛ إنما يسلك ينابيع« ثم» يخرج به زرعاً ـ وفي الوقت فسحة لتملي ألوان الزرع المختلفة الألوان ـ «ثم» «يهيج فتراه مصفراً» ـ وفي الوقت مهلة لتراه ـ « ثم» «يجعله حطاماً» كأنما يصبح بنفسه، أو يكون بلا مصير ولا فاعل! وهنا جعله “حطاماً” ثم بقي على هذه الهيئة، وهناك «تذروه الرياح»فلا يبقى له أثر!
إنه هنا في معرض بيان النعم الإلهية، فبطء عرضها، ولبث صورها، وتملي مشاهدها،أجدر بالموقف ؛ولهذا تستمتع بكل هذا الوقت الطويل!
2ـ وصورة أخرى للزرع يشبه به محمداً والذين معه:
{.. ذلك مثلهم في التوراة ،ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه ،فآزره ،فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}.
فماذا ترى في هذا الزرع؟ إنه لايصبح هشيماً مطلقاً، ولا تذروه الرياح أبداً، إنه ليخيل إليك أنه ثابت هنا في مكانه، قار في منبته، خالد في موضعه، ومدة العرض هنا دائمة،والمنظر ثابت، حتى تتحول عنه العين، ولايتحول هو عن العين، وذلك هو الهدف المقصود، وهذا الثبات طريقة من طرق التطويل.
ومن الدقائق اللطيفة هنا، أن الصورة العامة تسير على طريقة الإطالة ـ كما أسلفناـ ولكن الأجزاء الأولى منها تتم في سرعة متعاقبة:”كزرع أخرج شطأه: فـ«آزره» فـ «استغلظ» فـ«استوى على سوقه» قد تم الغلظ والاستواء في مدى قصير. ثم ثبت بعد ذلك وقر. إن الإسراع الأول مقصود كالاستقرار الأخير في تصوير حال المسلمين، يتم نموهم، ثم يستقر وضعهم أبداً.
3ـ والحياة هناك كانت تطوى في غمضة عين، من مبدئها إلى منتهاها، فلننظر كيف تطول هنا في معرض الإطالة.
إن مرحلة واحدة من مراحل حياة آدمية مفردة، من بين حيوات كثيرة، تستغرق مثل هذا الفراغ:
{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر،فتبارك الله أحسن الخالقين}.
مرحلة الجنين وحدها، من حياة آدمية لا الحياة كلها، تستغرق هذا الفراغ، وتعرض بهذا التفصيل، وتُذكر فيها جميع الخطوات..لأنها معروضة للعبرة، وللتأثير الوجداني، ولبيان دقة العلم الإلهي.فحينئذ يحسن ولا شك التطويل.
4ـ ومن بين المشاهد التي يطول عرضها ـ أحياناًـ مشاهد العذاب في يوم القيامة، فبعد تشخيص المشهد كأنه حاضر، وتنسيق أجزائه كأنه مشهود، يطول عرضه ليلمس الحس ويوقظ الخيال، ويتسرب الخوف والتأثر إلى أعماق النفس وقرارة الوجدان.
ولإطالة العرض هنا وسائل شتى نعرض منها بعض النماذج.
ومشاهد القيامة هي أكثر المشاهد تنوعاً في القرآن، حتى لهممت أن أفرد لها فصلاً خاصاً لولا تضخم الكتاب.
( أ ) مرة تكون الإطالة باللفظ المخيل للتكرار، مثل : {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}.
فالخيال هنا يظل يستعرض المشهد المروع، ويكرر العملية المفزعة، وكلما زاد فزعاً وارتياعاً، زاد إقبالاً على التكرار. ذلك أن الهول يشد إليه النفس ويوثقها، كلما همت منه بالفرار!
( ب ) ومرة تكون الإطالة بالنسق اللفظي، كالتفصيل بعد الإجمال، مع عرض الأجزاء بالتفصيل، مثل:
{ والذين يكنزون الذهب والفضة * ولا ينفقونها في سبيل الله * فبشرهم بعذاب أليم: يوم يحمى عليها في نار جهنم * فتكوى بها جباههم * وجنوبهم *وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
فهو ـ أولاً :
أجمل العذاب: { فبشرهم بعذاب أليم} وقطع السياق، ليستريح المشاهد، ويأخذ نفسه ويستعد للتفصيل. ثم أخذ في التفصيل.
وهو ـ ثانياً :
حينما بدأ التفصيل بعد الإجمال، بدأ العملية من أول مرحلة، وعلى مهل..فالذهب والفضة قد صارا جمعاً لا مثنى ، بالإلماع إلى قطعهما الكثيرة، وفي هذا تطويل بالكثرة: «يوم يحمى عليها »ـ لا عليهماـ ثم هاهي ذي “يحمى عليها” فلننتظر حتى تُصهر..لقد صُهرت، فلتبدأ العملية الرهيبة: هذه هي الجباه تكوى...لقد فرغوا من الكي في الجباه. فلتحرك الأجسام للجنُوب. هذه هي الجنوب تكوى.
لقد فرغوا من الكي في الجنوب. فلتحرك الأجسام للظهور...هذه هي الظهور تكوى.
تمهل فلم ينته العرض بعد..هناك التقريع والتأنيب، عند الانصراف المتخيل ليتناول العذاب جماعة أخرى من الصف الطويل:{ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
( ج ) ومرة تكون الإطالة بتفصيل الحركات وتعددها، وبالتكرار الذي تخيله الألفاظ معاً:
{ هذان خصمان اختصموا في ربهم. فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها ـ من غم ـ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق}.
فهذا مشهد عنيف صاخب، حافل بالحركة المتكررة.هذه ثياب من النار تقطع وتفصل، وهذا حميم يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود، وهذه مقامع من حديد. وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب «الذين كفروا» من الوهج والحميم، والضرب الأليم، يهمون بالخروج من هذا«الغم».
وهاهم أولاء يردون بعنف:{ذوقوا عذاب الحريق!}ويظل الخيال يكرر هذه الصورة من أولى حلقاتها إلى أخيرتها، حتى يصل إلى حلقة الخروج ثم الرد العنيف، ليبدأ العرض من جديد!
“د” ومرة تكون الإطالة بوقف حركة المشهد، وإخلائه من كل ما يشعر بالحركة، فهذا “ظالم” يقف يوم القيامة، وكأنما هو واقف وحده على المسرح، يبدي ويعيد في الندم، حتى لتهم بأن تقول له: كفى يا أخانا فلا فائدة!مع أن المدة التي يستغرقها قصيرة نسبياً، ولكن يخيل إليك أنها طويلة طويلة:
{ ويوم يعض الظالم على يديه، يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.
فهذا الندم الطويل، والتذكر لما مضى، مصحوباً بالنغمة الطويلة الممطوطة، والموسيقى المتموجة المديدة، يخيل إليك الطول، ولو أن اللفظ نسبياً قليل.
وإطالة موقف الندم تتسق مع التأثير الوجداني المطلوب.
وشبيه بموقف الندم، موقف الاعتراف فها هم أولاء جماعة من المجرمين يسألون “ما سلككن في سقر؟”فيكون الجواب:{ لم نك من المصلين.ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين}.
وكان حسبهم أن يقولوا، كنا كافرين أو مكذبين. ولكن هذا يحسن الاعتراف بالتفصيل.
( هـ ) وقد تشترك الوسائل الماضية كلها في إطالة عرض المشهد.
فيستخدم النسق اللفظي، وتذكر التفصيلات .ويوقف عرض المشهد في بعص حلقاته كما في هذا النموذج الفريد:{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملَكُ على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
{ فأما من أوتي كتابه بيمنيه ، فيقول هاؤم أقرأوا كتابية، إني ظننت أني ملاق حسابية. فهو في عيشة راضية، في جنة عالية قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}.
{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابية، يا ليتها كانت القاضية * ما أغني عني ماليه * هلك عني سلطانية * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم ها هنا حميم * ولا طعام إلى من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون}.
ففي هذا العرض إطالة في التفصيلات، وإطالة في التعبيرات، وإطالة في النغمات ، ووقف لبعض الحلقات . وتنسيقاً للجو كله تجيء السلسلة التي “ذرعها سبعون ذراعاً” فتكون إحدى طرائق التطويل بالتخييل!
5ـ ومن نماذج الإطالة المقصودة مواقف الموازنة بين صورتين متقابلتين: إحداهما في الحياة الدنيا، والأخرى في يوم القيامة على النحو التالي:
{ إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم؟ يشهده المقربون .
إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون،ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون}.
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون ـ وما أرسلوا عليهم حافظين}!
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}
إن هذا التطويل يتناول مشهدين: مشهد النعيم العظيم، الذي يتمتع به المقربون.
ومشهد السخرية التي كانت تنالهم من المجرمين.
وكلما زاد المشهدان طولاً ـ وهذا المشهد الأخير بصفة خاصة ـ كانت المفاجأة في النهاية أوقع، عندما يقول :{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}وهذا هو المقصود.
6ـ وتطول المواقف التي تعرض فيها قدوة في الإيمان، يؤثر طول عرضها في الوجدان، ويدعو المشاهدين إلى أن يشاركوا المؤمنين عبادتهم وصفاتهم المعروضة على الانظار، وذلك في القرآن كثير، نختار منه هذا المثال:
{ إن في خلق السماوات والأرض * واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم * ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك * فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته * وما للظالمين من أنصار* ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان :أن آمنوا بربكم * فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا * وتوفنا مع الأبرار* ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك * ولا تخزنا يوم القيامة * إنك لا تخلف الميعاد}
{ فاستجاب لهم ربهم: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى * بعضكم من بعض . فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي * وقاتلوا وقتلوا * لأكفرن عنهم سيئاتهم * ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار * ثوابً من عند الله * والله عنده حسن الثواب}.
فمن ذا الذي لا تحدثه نفسه في أثناء هذا المشهد الطويل الثابت، الفائض بالخشوع والخضوع، الحافل بالتأثر العميق، وفي أثناء هذا الرد العظيم المفصل لتضحيات المؤمنين، وللجزاء الذي ينتظرهم يوم الدين.
من ذا الذي لا تحدثه نفسه أن يسلك مع «أولي الألباب» هؤلاء ، يدعو دعاءهم، ويخشع خشوعهم ويستجيب له ربه معهم، فيناله مثل ما ينالهم؟
ومثل هذه الصورة الآدمية الحية كثير، حيثما قصد القرآن إلى التأثير بالقدوة في الوجدان والضمير.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق، من التناسق والاتساق: فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل .إلى لفظ معبر. إلى تعبير مصوّر، إلى تصوير مشخص. إلى تخييل مجسم. إلى موسيقى منغمة، إلا اتساق في الأجزاء. إلى تناسق في الإطار إلى توافق في الموسيقى.إلى افتنان في الإخراج.
وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقق الاعجاز.
القصة في القرآن ليست عملاً فنياً في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه – كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة, التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق – انما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية. والقرآن كتاب دعوة دينية قبل كل شيء , والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها.
شأنها في ذلك شأن الصور التي يرسمها للقيامة وللنعيم والعذاب, وشأن الأدلة التي يسوقها على البعث وعلى قدرة الله, وشأن الشرائع يفصلها والأمثال التي يضربها.. إلى آخر ماجاء في القرآن من موضاعات.
وقد خضعت القصة القرآنية في موضوعها, وفي طريقة عرضها, وإدارة حوادثها, لمقتضى الأغراض الدينية, وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات معينة سنعرض لها بعد قليل. ولكن هذا الخضوع الكامل للغرض الديني, ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء, لم يمنع بروز الخصائص الفنية في عرضها, ولاسيما خصيصة القرآن الكبرى في التعبير. وهي التصوير.
وقد لاحظنا من قبل أن التعبير القرآني يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني, فيما يعرضه من الصور والمشاهد. بل لاحظنا أنه يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني, فيخاطب حاسة الوجدان الدينية, بلغة الجمال الفنية, والفن والدين صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس وإدراك الجمال الفني دليل استعداد لتلقي التأثير الديني, حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع, وحين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال.
وقد أوردنا ف فصل (التصوير الفن) نموذجين من القصة عملت فيهما الريشة المعجزة عملها, وهي تعرضهما عرضاً أخاذاً وقد وعدنا هناك بتفصيل البحث في القصة فلنأخذ الآن في هذا التفصيل.
سيقت القصة في القرآن لتحقيق أغراض دينية بحتة كما أسلفنا, وقد تناولت من هذه الأغراض عدداً وفيراً من الصعب استقصاؤه, لأنه يكاد يتسرب إلى جميع الأغراض القرآنية, فإثبات الوحي والرسالة , وإثبات وحدانية الله, وتوحد الأديان في أساسها, والإنذار والتبشير, ومظاهر القدرة الإلهية, وعاقبة الخير والشر, والعجلة والتريث, والصبر والجزع, والشكر والبطر, وكثير غيرها من الأعراض الدينية, والمرامي الخلقية, قد تناولته القصة, وكانت أداة له وسبيلاً إليه.
فإذا نحن استعرضنا هنا أغراض القصة القرآنية, فإنما نثبت أهم هذه الأعراض وأوضحها, ونترك استقصاءها وتتبعها:
1 - كان من أغراض القصة إثبات الوحي والرسالة . فمحمد – > – لم يكن كاتباً ولاقارئاً, ولاعرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى, ثم جاءت هذه القصص في القرآن – وبعضها جاء في دقة وإسهاب – كقصص إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى فورودها في القرآن اتخذ دليلاً على وحي يوحى.. والقرآن ينص على هذا الغرض نصاً في مقدمات بعض القصص أو في ذيولها.
جاء في أول سورة (يوسف):
{ إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن * وإن كنت من قبله لمن الغافلين} .
وجاء في سورة (القصص) قبل عرض قصة موسى:
{ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون}.
وبعد انتهائها:
{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر * وماكنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر * وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا * ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذا نادينا * ولكن رحمة من ربك * لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } .
وجاء في سورة (ال عمران) في أثناء عرضه لقصة مريم:
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك * وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم * وماكنت لديهم إذ يختصمون } .
وجاء في سورة (ص) قبل عرض قصة آدم:
{ قل : هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ماكان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من طين.. }
وجاء في سورة (هود) بعد قصة نوح:
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك * ماكنت تعلمها أنت ولاقومك من قبل هذا} .
2 – وكان من أغراض القصة: بيان أن الدين كله من عند الله , من عهد نوح إلى عهد محمد. وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة, والله الواحد رب الجميع, وكثيراً ماورت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة , معروضة بطريقة خاصة, لتؤيد هذه الحقيقة. ولما كان هذا غرضاً أساسياً في الدعوة, فقد تكرر مجيء هذه القصص, على هذا النحو, مع اختلاف في التعبير, لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النفوس, نضرب لذلك مثلاً ماجاء في سورة (الأنبياء):
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين, الذين يخشون ربهم بالغيب, وهم من الساعة مشفقون. وهذا ذكر مبارك أنزلناه. أفأنتم له منكرون}
{ولقد اتينا إبراهيم رشده من قبل * وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه: ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين..} إلى قوله: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا * وأوحينا إليهم فعل الخيرات * وإقام الصلاة * وايتاء الزكاة, وكانوا لنا عابدين } .
{ ولوطاً اتيناه حكماً وعلماً * ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين } .
{ ونوحاً إذ نادى من قبل * فاستجبنا له * فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء * فاغرقناهم أجمعين } .
{ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث * إذ نفشت فيه غنم القوم * وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان * وكلاً اتينا حكماً وعلماً * وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير * وكنا فاعلين * وعلمناه صنعه لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم .. فهل أنتم شاكرون}.
{ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها * وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له * ويعملون عملاً دون ذلك, وكنا لهم حافظين } .
{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له * فكشفنا مابه من ضر, وآتيناه أهله * ومثلهم معهم, رحمة من عندنا * وذكرى للعابدين } .
{ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل * كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}.
{ وذا النون إذ ذهب مغاضباً * فظن أن لن نقدر عليه, فنادى في الظلمات * أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم * وكذلك ننجي المؤمنين}.
{ وزكريا إذ نادى ربه * رب لاتذرني فرداً * وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له * ووهبنا له يحيى, وأصلحنا له زوجه * إنهم كانوا يسارعون في الخيرات * ويدعوننا رغباً ورهباً * وكانوا لنا خاشعين} .
{ والتي أحصنت فرجها, فنفخنا فيها من روحنا, وجعلناها وابنها آية للعالمين } .
{ إن هذه أمتكم, أمة واحدة, وأنا ربكم فاعبدون } .. وهذا هو الغرض الأصيل, من هذا الاستعراض الطويل. وغيره من الأغراض الأخرى, يأتي عرضاً وفي ثناياه..
3 - وكان من أغراض القصة بيان أن الدين كله موحد الأساس فضلاً على أنه كله من عند إله واحد – وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة كذلك, مكررة فيها العقيدة الأساسية, وهي الإيمان بالله الواحدة على نحو ماجاء في سورة (الأعراف): { لقد ارسلنا نوحاً إلى قومه, فقال: ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. الخ
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال, ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ..الخ.
{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ..الخ.
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره } ..الخ.
فهذا التوحيد لأساس العقيد, يشترك فيه جميع الأنبياء في جميع الأديان, وترد قصصهم مجتعة في هذا السياق. لتأكيد ذلك الغرض الخاص.
4 – وكان من أغراض القصة بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة, وأن استقبال قومهم لهم متشابه – فضلاً على أن الدين من عند إله واحد, وأنه قائم على اساس واحد – وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة أيضاً, مكررة فيها طريقة الدعوة, على نحو ماجاء في سورة (هود):
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه: غني لكم نذير مبين * ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه * مانراك إلا بشراً مثلنا * ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي, وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين }.. إلى أن يقول{وياقوم لا اسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله} وإلى أن يقولوا له { يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا * فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}..الخ.
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره * إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لا أسالكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني * أفلا تعقلون * } .. إلى قوله: {قالوا: ياهود ماجئتنا ببينة * ومانحن بتاركي آلهتنا عن قولك * ومانحن لك بمؤمنين إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا اني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لاتنظرون } .. الخ.
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا, قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره * هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها * فاستغفروه ثم توبوا إليه * إن ربي قريب مجيب * قالوا: ياصالح, قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد مايعبد آباؤنا * وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}..الخ.
5 - وكان من أغراض القصة بيان الأصل المشترك بين دين محمد ودين إبراهيم بصفة خاصة, ثم أديان بني اسرائيل بصفة عامة, وابراز أن هذا الاتصال أشد من الاتصال العام بين جميع الأديان فتكررت الإشارة إلى هذا في قصص إبراهيم وموسى وعيسى:
{إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى} {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى الاتزر وازرة وزر اخرى} {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة, وهدى وموعظة للمتقين..} إلى ان يقول: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب, ومهيمناً عليه}.
6 - وكان من أغراض القصة بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك المكذبين, وذلك تثبيتاً لمحمد, وتأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك ،وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} وتبعاً لهذا الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة, مختومة بمصارع من كذبوهم. ويتكرر بهذا عرض القصص كما جاء في سورة (العنكبوت): {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماًً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون, فأنجيناه وأصحاب السفينة, وجعلناها آية للعالمين}.
{وإبراهيم إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه, ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} إلى أن يقول:{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}..الخ.
{ ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العلمين..} إلى أن يقول: { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون, ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}.
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال: ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر * ولاتعثوا في الأرض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة * فاصبحوا في دارهم جاثمين }.
{ وعاداً وثمود – وقد تبين لكم من مساكنهم – وزين لهم الشيطان أعمالهم, فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين} .
{وقارون وفرعون وهامان. ولقد جاءهم موسى بالبينات, فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين}
{فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً, ومنهم من أخذته الصيحة, ومنهم من خسفنا به الأرض, ومنهم من أغرقنا, وما كان الله ليظلمهم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
وتلك هي النهاية الواحدة للمكذبين.
7 – وكان من أغراض القصة تصديق التبشير والتحذير, وعرض نموذج واقع من هذا التصديق, كالذي جاء في سورة (الحجر): {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم, وأن عذابي هو العذاب الأليم..}.
فتصديقاً لهذا وذلك جاءت القصص على النحو التالي:
{ونبئهم عن ضيف إبراهيم, إذ دخلوا عليه, فقالوا: سلاماً. قال: إنا منكم وجلون. قالوا: لاتوجل. إنا نبشرك بغلام عليم}..الخ.
وفي هذه القصة تبدو (الرحمة)
ثم: {فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون. قالوا: بل جئناك بما كانوا فيه يمترون, وأتيناك بالحق وإنا لصادقون. فأسر بأهلك بقطع من الليل, واتبع أدبارهم, ولا يلتفت منكم أحد, وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمر: إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين..} الخ.
وفي هذه القصة تبدو (الرحمة) في جانب لوط, ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكين.
ثم: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين, واتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين, وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين, فأخذتهم الصيحة مصبحين, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}.
وفي هذه القصة يبدو (العذاب الأليم) للمكذبين. وهكذا يصدق الأنبياء, ويبدو صدقه في هذا القصص الواقع بهذا الترتيب.
8 – وكان من أغراض القصة بيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه, كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى, فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى, ويكون إبرازها هو الغرض الأول, وماسواه يأتي في هذا الموضع عرضاً.
9 – وكان من أغراض القصة, تنبيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان, وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم آدم, وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى, وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر, وإسنادها إلى هذا العدو الذي لايريد بالناس الخير!.
ولما كان هذا موضوعاً خالداً, فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى.
10 – وكان للقصة أغراض أخرى متفرقة. منها: بيان قدرة الله على الخوارق : كقصة خلق آدم. وقصة مولد عيسى وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءاً. وقصة {او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها }.
وقد أحياه الله بعد موته مئة عام.
وبيان عاقبة الطيبة والصلاح, وعاقبة الشر والإفساد, كقصة ابني آدم وقصة صاحب الجنتين وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم وقصة سد مأرب وقصة أصحاب الأخدود.
وبيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة, والحكمة الكونية البعيدة الآجلة كقصة موسى مع { عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً } وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة أخرى.
إلى آخر هذه الأغراض الوعظية, التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها.
آثار خضوع القصة للغرض الديني .
خضعت القصة في القرآن للغرض الديني - كما أسلفنا – فترك هذا الخضوع آثاراً واضحة في طريقة عرضها, بل في مادتها. ونحن نعرض فيما يلي, أوضح هذه الآثار:
( أ ) لقد كان أول أثر لهذا الخضوع أن ترد القصة الواحدة - في معظم الحالات – مكررة في مواضع شتى ولكن هذا التكرار لايتناول القصة كلها – غالباً- إنما هو تكرار لبعض حلقاتها, ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها, أما جسم القصة كله, فلا يكرر إلا نادراً ولمناسبات خاصة في السياق, كما ضربنا له مثلاً عند الكلام على أغراض القصة.
وحين يقرأ الإنسان هذه الحلقات المكررة ملاحظاً السياق الذي وردت فيه يجدها مناسبة لهذا السياق تماماً, في اختيار الحلقة التي تعرض هنا أو تعرض هناك, وفي طريقة عرضها كذلك ويجب أن نذكر دائماً أن القرآن كتاب دعوة دينية, وأن التناسق بين حلقة القصة التي تعرض والسياق الذي تعرض فيه هو الغرض المقدم وهذا يتوافر دائماً, ولايخل بالسمة الفنية إطلاقاً.
على ان هناك مايشبه أن يكون نظاماً مقرراً في عرض الحلقات المكررة من القصة الواحدة – يتضح حين تقرأ بحسب ترتيب نزولها - فمعظم القصص يبدأ بإشارة مقتضبة, ثم تطول هذه الإشارات شيئاً فشيئاً, ثم تعرض حلقات كبيرة تكون في مجموعها جسم القصة – وقد تستمر الإشارات المقتضبة فيما بين عرض هذه الحلقات الكبيرة عند المناسبات – حتى إذا استوفت القصة حلقاتها, عادت هذه الإشارات هي كل مايعرض منها.
ونضرب مثالاً على هذا النظام, قصة موسى إذ انها أشد القصص في القرآن تكراراً,فهي من هذه الوجهة تعطي فكرة كاملة عن هذا التكرار.
وردت هذه القصة في حوالي الثلاثين موضعاً, نذكر أهمها ونهمل بعض المواضع التي ورد فيها الاسم مجرداً فكيف جاءت في هذه المواضع؟ إنها تسير في المراحل التالية:
1 – في سورة الأعلى (السورة الثامنة في النزول) إشارة قصيرة: (إن هذا لفي الصحف الأولى, صحف إبراهيم وموسى) وإشارة قريبة منها في النجم (السورة 23)..
2ـ وفي الفجر (السورة العاشرة) إشارة إلى فرعون بدون ذكر موسى مع عاد وثمود: {... وفرعون ذي الأوتاد, الذين طغوا في البلاد ,فأكثروا فيها الفساد ,فصب عليهم ربك سوط عذاب} وإشارة قريبة منها في سورة البروج (السورة 27).
3ـ وفي سورة الأعراف (39) بدأ التفصيل الأول للقصة في معرض قصص مشترك مع نوح وهود ولوط وشعيب ,اتحدت فيه صيغة الدعوة وصيغة التكذيب ,والعقاب الذي أخذ المكذبين.
وقد بدأت القصة هنا برسالة موسى وهارون إلى فرعون وملئه (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا وسلطان مبين ,إلى فرعون وملئه...) ثم ذكرت معجزة العصا واليد البيضاء ,وجمع السحرة والمباراة بينهم وبين موسى , وغلبته عليهم ,وإيمانهم به وتعذيب فرعون لبني إسرائيل بعد ذلك ,وتسليط الجراد والقمل والضفادع والدم على فرعون وقومه , واستغاثتهم بموسى , وكف الأذى عنهم وعودتهم لتعذيب بني إسرائيل ثم خروج هؤلاء من مصر وبعد الخروج طلبهم من موسى أن يتخذ لهم إلهاً كما للمصريين آلهة,وتذكيره لهم بربهم ثم ميعاد موسى مع ربه بعد ثلاثين ليلة زيدت إلى أربعين وطلبه رؤية ربه ,ودك الجبل وانصعاق موسى وإفاقته ,وعودته إلى قومه حيث وجدهم قد اتخذوا لهم عجلاً إلهاً ,وغضبه على أخيه ثم اختيار سبعين رجلاً منهم لميقات ربه ,وغشيتهم بالجبل لما طلبوا رؤية الله جهرة وإفاقتهم ,ثم دعاؤهم بطلب الرحمة , فالرد عليهم بأن الرحمة قد كتبت للمؤمنين الذين يتبعون النبي الأمي...
4ـ ثم ترد إشارتان للرسالة والتكذيب وإهلاك المكذبين , في قصص مشترك إحداهما في الفرقان (42) والثانية في مريم (44).
5ـ وفي سورة طه (45) يبدأ تفصيل آخر يبدأ من حلقة أسبق من حلقة الرسالة التي ذكرت في (الأعراف) تلك هي رؤية موسى للنار من جانب الطور:
{وهل أتاك حديث موسى , إذ رأى ناراً فقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ,فلما أتاها نودي يا موسى , إني أنا ربك فاخلع نعليك, إنك بالوادي المقدس طوى , وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى...}
وبعد أن يكلف الذهاب إلى فرعون ,يحاور ربه ليرسل معه هارون , يشد أزره ويكون وزيراً له ,فيذكره الله بنعمته عليه في مولده , ورده إلى أمه ـ في إشارة سريعة ـ ثم تسير القصة كما سارت في الأعراف (مع حذف آيات الجراد والقمل والضفادع والدم , وعهد فرعون لبني إسرائيل ونكثه ,ومع زيادة حلقة ووهي أن السامري هو الذي صنع العجل ,وتفصيل قصة صنعه ,ويذكر الميعاد بسرعة ويغفل الميقات).
6ـ وفي سورة الشعراء (47) تبدأ القصة من حلقة الرسالة , وتسير في الخطوات التي سارت فيها إلى حلقة الخروج ,ولكنها تزيد هنا أمرين : الأول ذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين فهو يخشى أن يؤخذ به ,وتذكير فرعون له بأنه قد ربى فيهم وليداً وفعل هذه الفعلة ومضى , والثاني ذكر انفلاق البحر كالطود العظيم.. وهذا وذلك مع تنويع في الحوار بين فرعون وموسى ,وإثبات إلهه بصفاته وتنويع في الحوار مع السحرة كذلك.
7ـ ثم تذكر في سورة النمل (48) حلقة التكذيب والعقاب مجملة مع قصص مشترك.
8ـ وفي سورة القصص (49) تبدأ القصة من أول حلقة فيها: من مولد موسى في إبان اضطهاد قومه ,فوضعه في التابوت وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ,وتحريم المراضع عليه ,وقول أمه لأخته أن تقص أثره , ومعرفتها بأمره , وإشارتها على آل فرعون بمرضع للطفل هي أمه ,ثم كبره ثم قتله للمصري ,ومحاولته قتل آخر , وتهديده إياه بإفشاء سر القتلة الأولى , ونصح رجل له بالهرب وقد جاءه من أقصى المدينة يسعى , وخروجه إلى أرض مدين والتقائه ببني شعيب ,وسقيه لهما ,وإعجاب إحداهما به ,وحضها أبيها على استخدامه وعمله مع شعيب وزواجه بابنته حسب شرطه , ثم انفصاله عنه وذهابه بأهله ثم رؤيته النار (التي بدأ منها القصة في سورة طه) ثم تسير القصة كما سارت هناك بزيادة واحدة هي تهكم فرعون في قوله :{ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً ,لعلي أطلع إلى إله موسى } وتنتهي عند حلقة غرق فرعون ,بعد خروج موسى.
9ـ ثم في سورة الإسراء (50) إشارة سريعة إلى إغراق فرعون والتمكين لبني إسرائيل.
10ـ وفي سورة يونس (51) عرض قصير ـ في وسط قصص مشترك ـ لبيان عاقبة التكذيب ,وقد ذكرت فيه حلقة السحرة باختصار , وتجاوز بني إسرائيل البحر ,واتباع فرعون لهم وغرقه ,ولكن زاد في حلقة الغرق أن يقول: { حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} فكان الرد عليه: { الآن * وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك بيدنك لتكون لمن خلفك آية} وهي زيادة لا ترد إلا في هذا الوضع.
11ـ ثم في سورة هود (52) إشارة سريعة إلى الإهلاك بعد التكذيب في صدد قصص مشترك.
12ـ وفي سورة غافر ـ أو المؤمن ـ 60 تعرض حلقة الحوار بين فرعون وموسى ولكن يزيد هذا الحوار قول فرعون: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه) وظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ,يشير عليهم ألا يقتلوه , فقد يكون على صراط مستقيم وهي زيادة لا ترد في غير هذا الموضع.
13ـ وفي سورة فصلت (61) إشارة سريعة , وكذلك في سورة الزخرف (63) إشارتان سريعتان ,ولكن يزيد هنا أن فرعون يقول: { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي * أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
وهي زيادة لا ترد إلا في هذه السورة.
14ـ وفي سورة الذاريات (67) إشارة خاطفة إلى إرسال موسى إلى فرعون بسلطان مبين ,وتكذيبه وإهلاكه.
15ـ وفي الكهف (69) تعرض حلقة مقابلة موسى لعبد من عباد الله أوتي من لدنه رحمة وعلم علماً ,وقد طلب إليه موسى أن يصحبه ليستفيد من علمه ,فأخبره أنه لن يصبر معه ليعلمه ,فوعده موسى أن يصبر ,ثم لم يستطع معه صبراً ,لأن الرجل اخذ في تصرفات لا يدرك كنهها موسى , ولا يعرف لها مغزى فشرح له الرجل العالم سرها وافترقا , وهي حلقة تذكر مرة واحدة.
16ـ ثم في سورتي ابراهيم والأنبياء (72 ـ 73) إشارتان سريعتان المهم في ثانيتهما وصف التوراة بأنها (فرقان) على نحو ما سبق في هذا الفصل.
17ـ ويأتي تفصيل آخر في سورة البقرة (87) في معرض تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم ,ومقابلتهم هذه النعم بالمماطلة والجحود ـ وفي هذا المعرض تكرر بعض الحلقات التي سبقت في قصة موسى ـ ومن ذلك اعطاؤهم المن والسلوى ولكن يزيد هنا تبطرهم على هذه النعم , وطلبهم أطعمة منوعة بدل المن والسلوى , ثم حلقة البقرة التي أمرهم الله بذبحها فجعلوا يتلكأون ,ويسألون عن صفاتها ويتمحلون فيها حتى استنفدوا المعاذير { فذبحوها وما كادوا يفعلون } وهي ـ كما ترى ـ حلقة جديدة لم تذكر من قبل أصلاً.
18ـ وفي سورة النساء (92) إشارة إلى طلبهم أن يروا الله جهرة للتدليل على عنتهم ومحالهم.
19ـ وفي سورة المائدة (112) تذكر حلقة وقوفهم على أبواب الأرض المقدسة لا يدخلون:
{ قالوا : ياموسى إن فيها قوماً جبارين ,وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} ... إلى قوله {قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا ,إنا ها هنا قاعدون قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال :فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ,فلا تأس على القوم الفاسقين } .
ويتركهم هنالك في التيه فلا يأتي بعد ذلك ذكر لموسى ,ولا يذكر عن بني إسرائيل إلا تفرقهم وعداؤهم للمسيح والمسلمين .. هذه القصة أشد القصص تكراراً في القرآن وقد رأينا من هذا الاستعراض نوع التكرار , وأنه ـ فيما عدا ستة مواضع ـ إشارات وعظية إلى القصة اقتضاها السياق , أما الحلقات الأساسية فلم تكرر تقريباً , وإذا كررت حلقة منها جاءت بشيء جديد في تكرارها وهذه القصة نموذج للقصص الأخرى , وعلى ضوئها ندرك أن ليس في القصص القرآني ذلك التكرار المطلق الذي يخيل لبعض من يقرأون القرآن بلا تدقيق ولا إمعان.
( ب ) وكان من آثار خضوع القصة في القرآن للغرض الديني ـ غير التكرار ـ أن تعرض بالقدر الذي يكفي لأداء هذا الغرض , ومن الحلقة التي تتفق معه ,فمرة تعرض القصة من أولها ,ومرة من وسطها ,ومرة من آخرها , وتارة تعرض كاملة , وتارة يكتفي ببعض حلقاتها , وتارة تتوسط بين هذا وذاك ,حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك , ذلك أن الهدف التاريخي لم يكن من بين أهداف القرآن الأساسية كالهدف القصصي سواء , فسارت القصة وهدفها الأول هو الهدف الديني , على النحو التالي:
1ـ نجد قصصاً تعرض منذ الحلقة الأولى:
حلقة ميلاد بطلها ,لأن في مولده عظة بارزة , وذلك مثل:
قصة آدم (منذ خلقه) وفيها مظهر لقدرة الله وكمال علمه ,ونعمته على آدم وبنيه وفي حادثة إبليس معه بما فيها من أغراض دينية أشرنا من قبل إليها.
ومثل مولد عيسى ابن مريم: وهو يعرض بتفصيل كامل ,ذلك أن مولده هو الآية الكبرى في حياته , وحول هذا المولد قام الجدل كله ,وعنه تفرعت كل قضايا المسيحية قبل الإسلام وبعده.
وقصة مريم: فقد نذرت لله وهي في بطن أمها , وتولى كفالتها زكريا , ثم رزقت منذ مولدها رزقاً حسناً من عند الله ,فكانت {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال: يامريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله }..
ثم تطوى حلقاتها حتى تأتي حلقة ميلاد عيسى ,وهي الحلقة الهامة الثانية في حياتها.
وقصة موسى: لان لمولده في عهد اضطهاد بني إسرائيل , وتذبيح الذكور من أطفالهم ,ونجاته هو من ذلك مع وجوده بين آل فرعون أنفسهم.. قيمة خاصة في بيان رعاية الله له ,وإعداده إعداداً خاصاً للمهمة التي سينهض بها ثم تذكر من حياته حلقاتها ذات المغزى.
وإسماعيل وإسحاق تعرض حلقة مولدهما ,لأن في هذا المولد عبرة , فأولهما رزقه ابراهيم على الكبر ,وأسكنه ـ على الرغم منه ـ بجوار البيت المحرم , والثاني بشر به وامرأته عجوز وقد بلغ من الكبر عتيا.
كذلك يذكر مولد يحيى لزكريا ,بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً.
2ـ ونجد قصصاً أخرى تعرض من حلقة متأخرة نسبياً:
فيوسف تبدأ قصته صبياً فمن هذه الحلقة يرى الرؤيا التي تسير حياته كلها ,وتؤثر في مستقبله جميعاً ,إذ يرى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين , فيدرك ابوه مغزاها ويقربه إليه ,فيغار إخوته منه.. ثم تسير القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا.
وابراهيم تبدأ قصته فتى ينظر في السماء فيرى نجماً فيظنه إلهه , فإذا افل قال لا أحب الآفلين , ثم ينظر مرة أخرى فيرى القمر , فيظنه ربه ,ولكنه يأفل كذلك ,فيتركه ويمضي ثم ينظر إلى الشمس فيعجبه كبرها , ويظنها ـ ولا شك ـ إلهاً ,ولكنها تخلف ظنه هي الأخرى , فيفيء إلى ربه الذي لايرُى.. ويدعو اباه وقومه إلى هذا الإله الواحد فلا يجيبونه ,فيحطم اصنامهم في غفلة منهم حيث يقولون : سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم ويهمون بإحراقه ,فينجيه الله منهم : { قلنا : يانار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم}..
وتبدأ قصة داود وهو في مقتبل الشباب تبدأ بحلقة صراعه لجالوت ـ وهو فارس ضخم مشهور ـ فيغلب عليه داود ,لأن الله ينصره ,ومن هنا تبدأ قصته.
ولعل سليمان كان في مثل سن أبيه حينما جلس معه يحكم في قضية الحرث ,{ إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين}.
ولقد كان هذا الحكم المبكر دلالة على ما أعده الله سليمان من تدبير الملك الأكبر.
3ـ ثم نجد قصصاً لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جداً:
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وكثيرون غيرهم , لا تعرض قصصهم إلا عند حلقة الرسالة ,وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم , لأنها أهم حلقة منها ,والعبرة كامنة فيها.
هذا كله من ناحية الابتداء , وأما من ناحية الاطناب والايجاز فهما كذلك خاضعان لما في حلقات القصة من عظة وأهمية نضرب لذلك الأمثال فيما يلي:
1ـ قصة كقصة موسى تذكر بجميع حوادثها وتفصيلاتها , منذ مولده ـ بل قبل مولده ـ إلى وقوفه بقومه أمام الارض المقدسة , حيث كتب عليهم التيه أربعين سنة ,جزاء وفاقاً لأن في كل حلقة من حلقات القصة غرضاً دينياً يبرز , وله صلة بأهداف القرآن العليا.
وكذلك قصة عيسى ـ مع شيء من الاختصار في حلقاتها الوسطى ـ يذكر مولده بتفصيل كامل ,وتذكر معجزاته بتوفية وتذكر قصته مع الحواريين حين طلبوا المائدة فأنزلت إليه ,وتذكر حلقة تكذيبه ومحاولة صلبه ورفعه ,وتفرق قومه من بعده ويزداد عليها تصوير موقفه يوم القيامة يسأله الله: إن كان قد قال لقومه اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيتبرأ من ذلك إليه ,ويذكر أنه دعاهم لله وحده ,وأنه يدع أمرهم لله إن يشأ يرحمهم وأن يشأ يعذبهم.
ومنذ أن تبدأ قصة يوسف تسير مفصلة حتى تنتهي فما يقع له مع إخوته ,وما يحدث له في مصر بعد شرائه وتربيته ,ومراوده امرأة العزيز له , وسجنه ,وتعبيره رؤيا خادمي الملك ,ثم تعبيره رؤيا الملك ,وخروجه ,وولايته {على خزائن الأرض} (وزارتي المالية والتموين) ومجيء اخوته ودعوتهم ومجيء اخيه وعودة إخوته لابيهم بدونه , وكمال القصة بقدوم أبيه وأهله.. كلها تفصل تفصيلاً دقيقاً , لأن التفصيل مقصود , أولاً: لاثبات الوحي والرسالة كما أسلفنا , وثانياً: لأن لهذه التفصيلات قيمتها الدينية في القصة.
وقصة ابراهيم لا تعرض من أولها ,ولكن تعرض منها حلقات شتى : حلقة إيمانه التي اسلفنا ,ومحاورته لأبيه وقومه ,وتحطيم الأصنام ,واعتزاله أباه وقومه , وهبة اسماعيل واسحاق له ,ورؤياه أنه يذبح ابنه ,وافتداؤه وبناء الكعبة والتأذين في الناس للحج.
وطلبه من ربه برهاناً على احياء الموتى , لاليؤمن فقد آمن , ولكن ليطمئن قلبه ,حيث أمره الله أن يأخذ أربعة من الطير ,فيضمهن إليه , ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً , ثم يدعوهن فيأتين إليه سعياً... الخ.
ومن قصة سليمان تعرض كذلك حلقات مطولة: حكمه في الحرث وملكه وفتنته بالخيل الجياد ,واستغفاره الله من هذه الفتنة ,وتسخير الشياطين والرياح له ثم فتنته الأخرى التي لا يذكر القرآن سببها ـ وتذكر التوراه أنها المرأة ـ وقصته مع النملة ومع الهدهد ومع بلقيس ,وموته وهو متكئ على عصاه والشياطين لا تعلم.. وما في ذلك كله من مغازيّ مقصودة.
2ـ وهناك قصص متوسطة التفصيل:
فصة نوح تذكر منها تفصيلات رسالته ودعوته لقومه واستكبارهم عنها وحلقة صنع السفينة , وحلقة الطوفان , وغرق ابنه , ودعائه الله أن يحييه ,وعدم استجابته له ,لأنه ليس من أهله ولو كان ابنه ,لأنه عمل غير صالح!
وقصة آدم تفصل تفصيلاً في نشأته ,وخطيئته ,وهبوطه ,وتوبته , واستجابة الله له.
وقصة مريم يطنب فيها عند مولدها ,وعند مولد عيسى ,وقصة داود تنال شيئاً من التفصيل , لا يبلغ تفصيل قصة سليمان ,ولكنه يتناول حلقات كثيرة منها.
3ـ وهناك قصص قصيرة:
فقصص هود وصالح ولوط وشعيب ـ مع تكرارها ـ قصيرة لأنها تعرض عند حلقة الرسالة وحدها , فتضمن الرسالة والحوار مع قومهم , وتكذيب هؤلاء القوم ,ثم اهلاكهم جميعاً.
وقصة اسماعيل تذكر عند مولده , وعند افتدائه من الذبح ,وعند اشتراكه في بناء الكعبة مع أبيه ,في اختصار نسبي في هذه الحلقات جميعاً.
وقصة يعقوب تذكر في سياق قصة يوسف وتذكر مرة أخرى:
{إذ حضر يعقوب الموت ,إذ قال لبنيه : ماتعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك}..
وقد أفردت هذه الحلقة هنا لأهميتها في بيان التوحيد الذي أوصى به يعقوب.
عن الجمهورية نت
بعض المشاهد يمر سريعاً خاطفاً، يكاد يخطف البصر لسرعته، ويكاد الخيال نفسه لا يلاحقه، وبعض المشاهد يطول ويطول، حتى ليخيل للمرء في بعض الأحيان أنه لن يزول، وبعض هذه المشاهد الطويلة حافل بالحركة، وبعضها شاخص لايريم، وكل أولئك يتم تحقيقاً لغرض خاص في المشهد، يتسق مع الغرض العام للقرآن، ويتم به التناسق في الإخراج أبدع التمام.
وللقصر وسائل مختلفة، وللطول وسائل شتى، يؤدي كل منها الغرض، ويناسب جو المشهد، وهذه خطوة أخرى في ذلك الأفق الجديد..
والآن إلى النماذج، ففيها وحدها بلاغ.
1ـ يريد أن يصور للناس قصر هذه الحياة الدنيا التي تلهيهم عن الآخرة، فيخرج القصر في هذه الصورة:
{ وأضرب لهم مثل الحياة الدنيا، كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات الأرض، فأصبح هشيماً تذروه الرياح}.
وانتهى شريط الحياة كله في هذه الجمل القصار، وفي هذه المشاهد الثلاثة المتتابعة:
{ ماء أنزلناه من السماء} فـ { اختلط به نبات الأرض} فـ { أصبح هشيماً تذروه الرياح}.
ألا ما أقصرها حياة!
ومع هذا فقد عرض أطوار النبات كلها لم ينقص منها شيئاً ـ إلا الأطوار الثانوية ـ عرض الماء الذي يسبقه، ويختلط بالأرض فتنبته ؛ وعرض نضجه ،وعرض تذريته، فماذا بقي من حياة النبات إلا الأطوار الثانوية؟
لقد اجتمعت لهذا التعبير كل عناصر الصدق والدقة والجمال:
الصدق في عرض أطوار النبات، فلم ينقص شيئاً منها لتحقيق الغرض الديني، والدقة لأنه حقق غرض الصورة كاملاً، والجمال لأن سرعتها الخاطفة مما ينشط له الخيال.
وقد استخدم النسق اللفظي في تقصير عرض المشهد كما استخدمت وسائل العرض الفنية لهذا الغرض، فهذا “التعقيب” الذي تمثله هذه “ الفاء” في تتابع المراحل، يتفق مع طريقة العرض السريعة، ثم هذا الماء النازل لاتختلط به الأرض فتنبت ،بل يختلط به نبات الأرض مباشرة، وهذه حقيقة، ولكنها حقيقة تعرض
في الوضع الخاص الذي يحقق السرعة المطلوبة.
2ـ ومثل هذا النص نص آخر في المعنى والاتجاه؛ ولكنه يختلف في حلقة منه، ليؤدي غرضاً آخر مع هذا الغرض السابق:
{ أعلموا أنما الحياة الدنيا لعب، ولهو ، وزينة، وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يكون حطاماً}.
فالصورة المعروضة لقصر الحياة متحدة تقريباً مع الصورة الأولى، ولعل هذا يخيل للبعض أن هناك تكراراً كاملاً؛ولكن الواقع أن هناك اختلافاً دقيقاً، إنه أطال عرض شريط الحياة الدنيا ـ كما يراه الكفار ـ فهي لعب، ولهو،وزينة وتفاخر بينكم،وتكاثر في الأموال والأولاد، ليقول: إن هذا الذي تعجبون به كله، وهذا الذي تستطيلون أمده، إنما هو في حقيقته قصير زائل، كذلك الغيث الذي يعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفراً،ثم يكون حطاماً.
وذلك من دقائق الصور المكررة في القرآن، وفي كل تكرار صورة تختلف اختلافاً يسيراً أو كبيراً، وتنفي وهم التكرار بلا قصد إلا التكرار،وإن يكن للتكرار غرضه في صدد الدعوة.
ولكنه مع هذا يسير مع الجمال الفني بالتنويع الدقيق الملحوظ.
3ـ في المثالين السابقين كان الاختصار بحذف المراحل الثانوية، فهذا مثال آخر يعرض قصر الحياة على النحو نفسه، مع زيادة في الاختصار، فيمسك بطرفي الحياة ويجمعها في ومضة خاطفة،ولكنه في الوقت ذاته يخيل هيئة الطول فيما بين الطرفين:
{ ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر} فهذه الصورة: من جانب تصور قصر الحياة فما كادت تبدأ بالتكاثر، حتى انتهت بالمقابرـ وذلك أقصر ما تصور به فترة الحياة، في اللفظ والخيال ـ ولكنها من طرف خفي، قد عرضت امتداد اللهو طول الحياة من مبدئها إلى منتهاها، وساعدت كلمة “ حتى” على بروز الامتداد؛ فخيلت للنفس أن هؤلاء القوم لجوا في اللهو أمداً طويلاً، وذلك من عجائب التخييل، فغرض قصر الحياة، وغرض طول اللهو فيها، كلاهما مقصود من التعبير، وكلاهما تحقق في هذا النص القصير.
4ـ وفي هذا الاتجاه ـ مع تغيير في الغرض ـ يرد النص الآتي:
{كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم، ثم يحييكم، ثم إليه ترجعون}؟
ففي أربعة مقاطع قصيرة لفقرة واحدة، عرض قصة الخلق من قبل ظهورها بمرحلة، إلى بعد انتهائها بمرحلة، الموت الذي سبق الحياة، فالحياة ،فالموت الذي تختم به الحياة، فالحياة بعد الوفاة.
والموت الذي سبق الحياة آزال، والحياة التي تلته آماد، والموت الذي يعقبها آباد.. تنطوي جميعاً في ألفاظ،ليعرض جانب السرعة؛ ولكن يمتد بها الخيال في الاستعراض، ليقول:إن هذه الآماد الطويلة كلها، قصيرة في يد القوة الكبرى.
إنه هنا يصور القدرة القادرة، التي تقول للشيء:«كن فيكون» والسرعة مما يزيد وضوح القدرة ـ ولا سيما إذا طوت هذه الآماد المتطاولة في غمضة ـ فكيف تكفرون بالله إذن ، وهو الذي يملك أموركم كلها من قبل ومن بعد “ ثم إليه ترجعون”.
وتكملة لهذه السرعة تأتي الآية التالية:
{هو الذي خلق لكم مافي الأرض جميعاً، ثم استوى إلى السماء ،فسواهن سبع سموات}.
هكذا في ومضة “خلق لكم مافي الأرض جميعاً” وفي ومضة “استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات” وخلق مافي الأرض، أو شيء مما خلق في الأرض يستغرق في مواضع أخرى آيات طوالاً، حينما يريد التفصيل والتطويل.
5ـ وإلى هنا كان القصر باختصار المراحل أو إدماجها،فالآن نعرض مثالاً آخر يأتي القصر فيه من لمسات الريشة السريعة العنيفة اللمسات، هذه الريشة المعجزة التي تخط لمسة هنا ولمسة هناك، ثم تطوي اللوحة كلها، كأنها ما عرضت قط، فما يكاد الخيال يتلفت ليراها حتى يفتقدها فلا يلقاها:
{ ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء * فتخطفه الطير * أو تهوي به الريح في مكان سحيق}.
أنظر: لقد خر من السماء ، أنظر: لقد خطفته الطير، أنظر: لقد هوت به الريح في مكان سحيق، أنظر: لقد اختفى المسرح ومن فيه!
ولم هذه السرعة الخاطفة؟ لئلا يتوهم أحد أن لمن يشرك بالله منبتاً، أو وجوداً ،أو قراراً، أو امتداداً ،مهما يبلغ من الحسب والقوة والجاه والبنين؛إنما يأتي في ومضة من المجهول، ليذهب في ومضة إلى المجهول!!!
والآن فإلى المشاهد المطولة:
1ـ لقد رأينا قصة الماء الذي ينزل من السماء فيختلط به نبات الأرض، فيصبح هشيماً تذروه الرياح، لقد عرضت هناك في ومضات خاطفات،فلننظر كيف يُعرض قسم منها على مهل وفي تؤدة:
{ الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، فيبسطه في السماء كيف يشاء، ويجعله كسفاً، فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}.
هكذا، القسم الأول وحده الخاص بوصول الماء إلى الأرض، يستغرق هذه الفقرات، ويعرض في هذه المراحل، فالرياح تثور، فتثير السحب في السماء ـ كما يشاء الله ـ فيتراكم هذا السحاب، فيخرج منه المطر، فينزل المطر من السماء، فيستبشر به من ينزل عليهم بعد أن كانوا يائسين.
فلننظر كيف يعرض القسم الثاني بعد وصول الماء:
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء، فسلكه ينابيع في الأرض، ثم يخرج به زرعاً مختلفاً ألوانه، ثم يهيج فتراه مصفراً، ثم يجعله حطاماً}.
هكذا، في تراخ بـ «ثم»،وفي تمهل وبطء،فالماء ينزل فلا يختلط بالأرض ولا بنبات الأرض؛ إنما يسلك ينابيع« ثم» يخرج به زرعاً ـ وفي الوقت فسحة لتملي ألوان الزرع المختلفة الألوان ـ «ثم» «يهيج فتراه مصفراً» ـ وفي الوقت مهلة لتراه ـ « ثم» «يجعله حطاماً» كأنما يصبح بنفسه، أو يكون بلا مصير ولا فاعل! وهنا جعله “حطاماً” ثم بقي على هذه الهيئة، وهناك «تذروه الرياح»فلا يبقى له أثر!
إنه هنا في معرض بيان النعم الإلهية، فبطء عرضها، ولبث صورها، وتملي مشاهدها،أجدر بالموقف ؛ولهذا تستمتع بكل هذا الوقت الطويل!
2ـ وصورة أخرى للزرع يشبه به محمداً والذين معه:
{.. ذلك مثلهم في التوراة ،ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطاه ،فآزره ،فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}.
فماذا ترى في هذا الزرع؟ إنه لايصبح هشيماً مطلقاً، ولا تذروه الرياح أبداً، إنه ليخيل إليك أنه ثابت هنا في مكانه، قار في منبته، خالد في موضعه، ومدة العرض هنا دائمة،والمنظر ثابت، حتى تتحول عنه العين، ولايتحول هو عن العين، وذلك هو الهدف المقصود، وهذا الثبات طريقة من طرق التطويل.
ومن الدقائق اللطيفة هنا، أن الصورة العامة تسير على طريقة الإطالة ـ كما أسلفناـ ولكن الأجزاء الأولى منها تتم في سرعة متعاقبة:”كزرع أخرج شطأه: فـ«آزره» فـ «استغلظ» فـ«استوى على سوقه» قد تم الغلظ والاستواء في مدى قصير. ثم ثبت بعد ذلك وقر. إن الإسراع الأول مقصود كالاستقرار الأخير في تصوير حال المسلمين، يتم نموهم، ثم يستقر وضعهم أبداً.
3ـ والحياة هناك كانت تطوى في غمضة عين، من مبدئها إلى منتهاها، فلننظر كيف تطول هنا في معرض الإطالة.
إن مرحلة واحدة من مراحل حياة آدمية مفردة، من بين حيوات كثيرة، تستغرق مثل هذا الفراغ:
{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين، ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين، ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاماً، فكسونا العظام لحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر،فتبارك الله أحسن الخالقين}.
مرحلة الجنين وحدها، من حياة آدمية لا الحياة كلها، تستغرق هذا الفراغ، وتعرض بهذا التفصيل، وتُذكر فيها جميع الخطوات..لأنها معروضة للعبرة، وللتأثير الوجداني، ولبيان دقة العلم الإلهي.فحينئذ يحسن ولا شك التطويل.
4ـ ومن بين المشاهد التي يطول عرضها ـ أحياناًـ مشاهد العذاب في يوم القيامة، فبعد تشخيص المشهد كأنه حاضر، وتنسيق أجزائه كأنه مشهود، يطول عرضه ليلمس الحس ويوقظ الخيال، ويتسرب الخوف والتأثر إلى أعماق النفس وقرارة الوجدان.
ولإطالة العرض هنا وسائل شتى نعرض منها بعض النماذج.
ومشاهد القيامة هي أكثر المشاهد تنوعاً في القرآن، حتى لهممت أن أفرد لها فصلاً خاصاً لولا تضخم الكتاب.
( أ ) مرة تكون الإطالة باللفظ المخيل للتكرار، مثل : {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب}.
فالخيال هنا يظل يستعرض المشهد المروع، ويكرر العملية المفزعة، وكلما زاد فزعاً وارتياعاً، زاد إقبالاً على التكرار. ذلك أن الهول يشد إليه النفس ويوثقها، كلما همت منه بالفرار!
( ب ) ومرة تكون الإطالة بالنسق اللفظي، كالتفصيل بعد الإجمال، مع عرض الأجزاء بالتفصيل، مثل:
{ والذين يكنزون الذهب والفضة * ولا ينفقونها في سبيل الله * فبشرهم بعذاب أليم: يوم يحمى عليها في نار جهنم * فتكوى بها جباههم * وجنوبهم *وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
فهو ـ أولاً :
أجمل العذاب: { فبشرهم بعذاب أليم} وقطع السياق، ليستريح المشاهد، ويأخذ نفسه ويستعد للتفصيل. ثم أخذ في التفصيل.
وهو ـ ثانياً :
حينما بدأ التفصيل بعد الإجمال، بدأ العملية من أول مرحلة، وعلى مهل..فالذهب والفضة قد صارا جمعاً لا مثنى ، بالإلماع إلى قطعهما الكثيرة، وفي هذا تطويل بالكثرة: «يوم يحمى عليها »ـ لا عليهماـ ثم هاهي ذي “يحمى عليها” فلننتظر حتى تُصهر..لقد صُهرت، فلتبدأ العملية الرهيبة: هذه هي الجباه تكوى...لقد فرغوا من الكي في الجباه. فلتحرك الأجسام للجنُوب. هذه هي الجنوب تكوى.
لقد فرغوا من الكي في الجنوب. فلتحرك الأجسام للظهور...هذه هي الظهور تكوى.
تمهل فلم ينته العرض بعد..هناك التقريع والتأنيب، عند الانصراف المتخيل ليتناول العذاب جماعة أخرى من الصف الطويل:{ هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
( ج ) ومرة تكون الإطالة بتفصيل الحركات وتعددها، وبالتكرار الذي تخيله الألفاظ معاً:
{ هذان خصمان اختصموا في ربهم. فالذين كفروا قُطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها ـ من غم ـ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق}.
فهذا مشهد عنيف صاخب، حافل بالحركة المتكررة.هذه ثياب من النار تقطع وتفصل، وهذا حميم يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود، وهذه مقامع من حديد. وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب «الذين كفروا» من الوهج والحميم، والضرب الأليم، يهمون بالخروج من هذا«الغم».
وهاهم أولاء يردون بعنف:{ذوقوا عذاب الحريق!}ويظل الخيال يكرر هذه الصورة من أولى حلقاتها إلى أخيرتها، حتى يصل إلى حلقة الخروج ثم الرد العنيف، ليبدأ العرض من جديد!
“د” ومرة تكون الإطالة بوقف حركة المشهد، وإخلائه من كل ما يشعر بالحركة، فهذا “ظالم” يقف يوم القيامة، وكأنما هو واقف وحده على المسرح، يبدي ويعيد في الندم، حتى لتهم بأن تقول له: كفى يا أخانا فلا فائدة!مع أن المدة التي يستغرقها قصيرة نسبياً، ولكن يخيل إليك أنها طويلة طويلة:
{ ويوم يعض الظالم على يديه، يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ياويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطان للإنسان خذولاً}.
فهذا الندم الطويل، والتذكر لما مضى، مصحوباً بالنغمة الطويلة الممطوطة، والموسيقى المتموجة المديدة، يخيل إليك الطول، ولو أن اللفظ نسبياً قليل.
وإطالة موقف الندم تتسق مع التأثير الوجداني المطلوب.
وشبيه بموقف الندم، موقف الاعتراف فها هم أولاء جماعة من المجرمين يسألون “ما سلككن في سقر؟”فيكون الجواب:{ لم نك من المصلين.ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين. وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين}.
وكان حسبهم أن يقولوا، كنا كافرين أو مكذبين. ولكن هذا يحسن الاعتراف بالتفصيل.
( هـ ) وقد تشترك الوسائل الماضية كلها في إطالة عرض المشهد.
فيستخدم النسق اللفظي، وتذكر التفصيلات .ويوقف عرض المشهد في بعص حلقاته كما في هذا النموذج الفريد:{ فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة * وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة * فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملَكُ على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية}.
{ فأما من أوتي كتابه بيمنيه ، فيقول هاؤم أقرأوا كتابية، إني ظننت أني ملاق حسابية. فهو في عيشة راضية، في جنة عالية قطوفها دانية، كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية}.
{وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابية، يا ليتها كانت القاضية * ما أغني عني ماليه * هلك عني سلطانية * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه * إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين * فليس له اليوم ها هنا حميم * ولا طعام إلى من غسلين * لا يأكله إلا الخاطئون}.
ففي هذا العرض إطالة في التفصيلات، وإطالة في التعبيرات، وإطالة في النغمات ، ووقف لبعض الحلقات . وتنسيقاً للجو كله تجيء السلسلة التي “ذرعها سبعون ذراعاً” فتكون إحدى طرائق التطويل بالتخييل!
5ـ ومن نماذج الإطالة المقصودة مواقف الموازنة بين صورتين متقابلتين: إحداهما في الحياة الدنيا، والأخرى في يوم القيامة على النحو التالي:
{ إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم؟ يشهده المقربون .
إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون،ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون}.
{ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون ـ وما أرسلوا عليهم حافظين}!
{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}
إن هذا التطويل يتناول مشهدين: مشهد النعيم العظيم، الذي يتمتع به المقربون.
ومشهد السخرية التي كانت تنالهم من المجرمين.
وكلما زاد المشهدان طولاً ـ وهذا المشهد الأخير بصفة خاصة ـ كانت المفاجأة في النهاية أوقع، عندما يقول :{ فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون}وهذا هو المقصود.
6ـ وتطول المواقف التي تعرض فيها قدوة في الإيمان، يؤثر طول عرضها في الوجدان، ويدعو المشاهدين إلى أن يشاركوا المؤمنين عبادتهم وصفاتهم المعروضة على الانظار، وذلك في القرآن كثير، نختار منه هذا المثال:
{ إن في خلق السماوات والأرض * واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم * ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك * فقنا عذاب النار * ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته * وما للظالمين من أنصار* ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان :أن آمنوا بربكم * فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا * وتوفنا مع الأبرار* ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك * ولا تخزنا يوم القيامة * إنك لا تخلف الميعاد}
{ فاستجاب لهم ربهم: أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكرٍ أو أنثى * بعضكم من بعض . فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ، وأوذوا في سبيلي * وقاتلوا وقتلوا * لأكفرن عنهم سيئاتهم * ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار * ثوابً من عند الله * والله عنده حسن الثواب}.
فمن ذا الذي لا تحدثه نفسه في أثناء هذا المشهد الطويل الثابت، الفائض بالخشوع والخضوع، الحافل بالتأثر العميق، وفي أثناء هذا الرد العظيم المفصل لتضحيات المؤمنين، وللجزاء الذي ينتظرهم يوم الدين.
من ذا الذي لا تحدثه نفسه أن يسلك مع «أولي الألباب» هؤلاء ، يدعو دعاءهم، ويخشع خشوعهم ويستجيب له ربه معهم، فيناله مثل ما ينالهم؟
ومثل هذه الصورة الآدمية الحية كثير، حيثما قصد القرآن إلى التأثير بالقدوة في الوجدان والضمير.
وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق، من التناسق والاتساق: فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل .إلى لفظ معبر. إلى تعبير مصوّر، إلى تصوير مشخص. إلى تخييل مجسم. إلى موسيقى منغمة، إلا اتساق في الأجزاء. إلى تناسق في الإطار إلى توافق في الموسيقى.إلى افتنان في الإخراج.
وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقق الاعجاز.
القصة في القرآن ليست عملاً فنياً في موضوعه وطريقة عرضه وإدارة حوادثه – كما هو الشأن في القصة الفنية الحرة, التي ترمي إلى أداء غرض فني طليق – انما هي وسيلة من وسائل القرآن الكثيرة إلى أغراضه الدينية. والقرآن كتاب دعوة دينية قبل كل شيء , والقصة إحدى وسائله لإبلاغ هذه الدعوة وتثبيتها.
شأنها في ذلك شأن الصور التي يرسمها للقيامة وللنعيم والعذاب, وشأن الأدلة التي يسوقها على البعث وعلى قدرة الله, وشأن الشرائع يفصلها والأمثال التي يضربها.. إلى آخر ماجاء في القرآن من موضاعات.
وقد خضعت القصة القرآنية في موضوعها, وفي طريقة عرضها, وإدارة حوادثها, لمقتضى الأغراض الدينية, وظهرت آثار هذا الخضوع في سمات معينة سنعرض لها بعد قليل. ولكن هذا الخضوع الكامل للغرض الديني, ووفاءها بهذا الغرض تمام الوفاء, لم يمنع بروز الخصائص الفنية في عرضها, ولاسيما خصيصة القرآن الكبرى في التعبير. وهي التصوير.
وقد لاحظنا من قبل أن التعبير القرآني يؤلف بين الغرض الديني والغرض الفني, فيما يعرضه من الصور والمشاهد. بل لاحظنا أنه يجعل الجمال الفني أداة مقصودة للتأثير الوجداني, فيخاطب حاسة الوجدان الدينية, بلغة الجمال الفنية, والفن والدين صنوان في أعماق النفس وقرارة الحس وإدراك الجمال الفني دليل استعداد لتلقي التأثير الديني, حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع, وحين تصفو النفس لتلقي رسالة الجمال.
وقد أوردنا ف فصل (التصوير الفن) نموذجين من القصة عملت فيهما الريشة المعجزة عملها, وهي تعرضهما عرضاً أخاذاً وقد وعدنا هناك بتفصيل البحث في القصة فلنأخذ الآن في هذا التفصيل.
سيقت القصة في القرآن لتحقيق أغراض دينية بحتة كما أسلفنا, وقد تناولت من هذه الأغراض عدداً وفيراً من الصعب استقصاؤه, لأنه يكاد يتسرب إلى جميع الأغراض القرآنية, فإثبات الوحي والرسالة , وإثبات وحدانية الله, وتوحد الأديان في أساسها, والإنذار والتبشير, ومظاهر القدرة الإلهية, وعاقبة الخير والشر, والعجلة والتريث, والصبر والجزع, والشكر والبطر, وكثير غيرها من الأعراض الدينية, والمرامي الخلقية, قد تناولته القصة, وكانت أداة له وسبيلاً إليه.
فإذا نحن استعرضنا هنا أغراض القصة القرآنية, فإنما نثبت أهم هذه الأعراض وأوضحها, ونترك استقصاءها وتتبعها:
1 - كان من أغراض القصة إثبات الوحي والرسالة . فمحمد – > – لم يكن كاتباً ولاقارئاً, ولاعرف عنه أنه يجلس إلى أحبار اليهود والنصارى, ثم جاءت هذه القصص في القرآن – وبعضها جاء في دقة وإسهاب – كقصص إبراهيم ويوسف وموسى وعيسى فورودها في القرآن اتخذ دليلاً على وحي يوحى.. والقرآن ينص على هذا الغرض نصاً في مقدمات بعض القصص أو في ذيولها.
جاء في أول سورة (يوسف):
{ إنا أنزلناه قرآنا عربياً لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن * وإن كنت من قبله لمن الغافلين} .
وجاء في سورة (القصص) قبل عرض قصة موسى:
{ نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون}.
وبعد انتهائها:
{ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر * وماكنت من الشاهدين * ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر * وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا * ولكنا كنا مرسلين * وما كنت بجانب الطور إذا نادينا * ولكن رحمة من ربك * لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون } .
وجاء في سورة (ال عمران) في أثناء عرضه لقصة مريم:
{ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك * وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم * وماكنت لديهم إذ يختصمون } .
وجاء في سورة (ص) قبل عرض قصة آدم:
{ قل : هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ماكان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلى إلا أنما أنا نذير مبين إذ قال ربك للملائكة: إني خالق بشراً من طين.. }
وجاء في سورة (هود) بعد قصة نوح:
{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك * ماكنت تعلمها أنت ولاقومك من قبل هذا} .
2 – وكان من أغراض القصة: بيان أن الدين كله من عند الله , من عهد نوح إلى عهد محمد. وأن المؤمنين كلهم أمة واحدة, والله الواحد رب الجميع, وكثيراً ماورت قصص عدد من الأنبياء مجتمعة في سورة واحدة , معروضة بطريقة خاصة, لتؤيد هذه الحقيقة. ولما كان هذا غرضاً أساسياً في الدعوة, فقد تكرر مجيء هذه القصص, على هذا النحو, مع اختلاف في التعبير, لتثبيت هذه الحقيقة وتوكيدها في النفوس, نضرب لذلك مثلاً ماجاء في سورة (الأنبياء):
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين, الذين يخشون ربهم بالغيب, وهم من الساعة مشفقون. وهذا ذكر مبارك أنزلناه. أفأنتم له منكرون}
{ولقد اتينا إبراهيم رشده من قبل * وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه: ماهذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون * قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين..} إلى قوله: {وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين * ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين * ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين * وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا * وأوحينا إليهم فعل الخيرات * وإقام الصلاة * وايتاء الزكاة, وكانوا لنا عابدين } .
{ ولوطاً اتيناه حكماً وعلماً * ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين } .
{ ونوحاً إذ نادى من قبل * فاستجبنا له * فنجيناه وأهله من الكرب العظيم * ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء * فاغرقناهم أجمعين } .
{ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث * إذ نفشت فيه غنم القوم * وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان * وكلاً اتينا حكماً وعلماً * وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير * وكنا فاعلين * وعلمناه صنعه لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم .. فهل أنتم شاكرون}.
{ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها * وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له * ويعملون عملاً دون ذلك, وكنا لهم حافظين } .
{ وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له * فكشفنا مابه من ضر, وآتيناه أهله * ومثلهم معهم, رحمة من عندنا * وذكرى للعابدين } .
{ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل * كل من الصابرين وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين}.
{ وذا النون إذ ذهب مغاضباً * فظن أن لن نقدر عليه, فنادى في الظلمات * أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم * وكذلك ننجي المؤمنين}.
{ وزكريا إذ نادى ربه * رب لاتذرني فرداً * وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له * ووهبنا له يحيى, وأصلحنا له زوجه * إنهم كانوا يسارعون في الخيرات * ويدعوننا رغباً ورهباً * وكانوا لنا خاشعين} .
{ والتي أحصنت فرجها, فنفخنا فيها من روحنا, وجعلناها وابنها آية للعالمين } .
{ إن هذه أمتكم, أمة واحدة, وأنا ربكم فاعبدون } .. وهذا هو الغرض الأصيل, من هذا الاستعراض الطويل. وغيره من الأغراض الأخرى, يأتي عرضاً وفي ثناياه..
3 - وكان من أغراض القصة بيان أن الدين كله موحد الأساس فضلاً على أنه كله من عند إله واحد – وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة كذلك, مكررة فيها العقيدة الأساسية, وهي الإيمان بالله الواحدة على نحو ماجاء في سورة (الأعراف): { لقد ارسلنا نوحاً إلى قومه, فقال: ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. الخ
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال, ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ..الخ.
{ وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره } ..الخ.
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره } ..الخ.
فهذا التوحيد لأساس العقيد, يشترك فيه جميع الأنبياء في جميع الأديان, وترد قصصهم مجتعة في هذا السياق. لتأكيد ذلك الغرض الخاص.
4 – وكان من أغراض القصة بيان أن وسائل الأنبياء في الدعوة موحدة, وأن استقبال قومهم لهم متشابه – فضلاً على أن الدين من عند إله واحد, وأنه قائم على اساس واحد – وتبعاً لهذا كانت ترد قصص كثير من الأنبياء مجتمعة أيضاً, مكررة فيها طريقة الدعوة, على نحو ماجاء في سورة (هود):
{ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه: غني لكم نذير مبين * ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه * مانراك إلا بشراً مثلنا * ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي, وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين }.. إلى أن يقول{وياقوم لا اسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله} وإلى أن يقولوا له { يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا * فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين}..الخ.
{ وإلى عاد أخاهم هوداً قال: ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره * إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لا أسالكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني * أفلا تعقلون * } .. إلى قوله: {قالوا: ياهود ماجئتنا ببينة * ومانحن بتاركي آلهتنا عن قولك * ومانحن لك بمؤمنين إن نقول : إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا اني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لاتنظرون } .. الخ.
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا, قال ياقوم اعبدوا الله مالكم من اله غيره * هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها * فاستغفروه ثم توبوا إليه * إن ربي قريب مجيب * قالوا: ياصالح, قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد مايعبد آباؤنا * وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب}..الخ.
5 - وكان من أغراض القصة بيان الأصل المشترك بين دين محمد ودين إبراهيم بصفة خاصة, ثم أديان بني اسرائيل بصفة عامة, وابراز أن هذا الاتصال أشد من الاتصال العام بين جميع الأديان فتكررت الإشارة إلى هذا في قصص إبراهيم وموسى وعيسى:
{إن هذا لفي الصحف الأولى. صحف إبراهيم وموسى} {أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى الاتزر وازرة وزر اخرى} {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا} {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} {وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة, وهدى وموعظة للمتقين..} إلى ان يقول: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب, ومهيمناً عليه}.
6 - وكان من أغراض القصة بيان أن الله ينصر أنبياءه في النهاية ويهلك المكذبين, وذلك تثبيتاً لمحمد, وتأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل مانثبت به فؤادك ،وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين} وتبعاً لهذا الغرض كانت ترد قصص الأنبياء مجتمعة, مختومة بمصارع من كذبوهم. ويتكرر بهذا عرض القصص كما جاء في سورة (العنكبوت): {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم الف سنة إلا خمسين عاماًً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون, فأنجيناه وأصحاب السفينة, وجعلناها آية للعالمين}.
{وإبراهيم إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه, ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} إلى أن يقول:{فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون}..الخ.
{ ولوطاً إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ماسبقكم بها من أحد من العلمين..} إلى أن يقول: { إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون, ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون}.
{ وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال: ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر * ولاتعثوا في الأرض مفسدين * فكذبوه فأخذتهم الرجفة * فاصبحوا في دارهم جاثمين }.
{ وعاداً وثمود – وقد تبين لكم من مساكنهم – وزين لهم الشيطان أعمالهم, فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين} .
{وقارون وفرعون وهامان. ولقد جاءهم موسى بالبينات, فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين}
{فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً, ومنهم من أخذته الصيحة, ومنهم من خسفنا به الأرض, ومنهم من أغرقنا, وما كان الله ليظلمهم, ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}
وتلك هي النهاية الواحدة للمكذبين.
7 – وكان من أغراض القصة تصديق التبشير والتحذير, وعرض نموذج واقع من هذا التصديق, كالذي جاء في سورة (الحجر): {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم, وأن عذابي هو العذاب الأليم..}.
فتصديقاً لهذا وذلك جاءت القصص على النحو التالي:
{ونبئهم عن ضيف إبراهيم, إذ دخلوا عليه, فقالوا: سلاماً. قال: إنا منكم وجلون. قالوا: لاتوجل. إنا نبشرك بغلام عليم}..الخ.
وفي هذه القصة تبدو (الرحمة)
ثم: {فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون. قالوا: بل جئناك بما كانوا فيه يمترون, وأتيناك بالحق وإنا لصادقون. فأسر بأهلك بقطع من الليل, واتبع أدبارهم, ولا يلتفت منكم أحد, وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمر: إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين..} الخ.
وفي هذه القصة تبدو (الرحمة) في جانب لوط, ويبدو (العذاب الأليم) في جانب قومه المهلكين.
ثم: {ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين, واتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين, وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين, فأخذتهم الصيحة مصبحين, فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}.
وفي هذه القصة يبدو (العذاب الأليم) للمكذبين. وهكذا يصدق الأنبياء, ويبدو صدقه في هذا القصص الواقع بهذا الترتيب.
8 – وكان من أغراض القصة بيان نعمة الله على أنبيائه وأصفيائه, كقصص سليمان وداود وأيوب وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى, فكانت ترد حلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى, ويكون إبرازها هو الغرض الأول, وماسواه يأتي في هذا الموضع عرضاً.
9 – وكان من أغراض القصة, تنبيه أبناء آدم إلى غواية الشيطان, وإبراز العداوة الخالدة بينه وبينهم منذ أبيهم آدم, وإبراز هذه العداوة عن طريق القصة أروع وأقوى, وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر, وإسنادها إلى هذا العدو الذي لايريد بالناس الخير!.
ولما كان هذا موضوعاً خالداً, فقد تكررت قصة آدم في مواضع شتى.
10 – وكان للقصة أغراض أخرى متفرقة. منها: بيان قدرة الله على الخوارق : كقصة خلق آدم. وقصة مولد عيسى وقصة إبراهيم والطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل منه جزءاً. وقصة {او كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها }.
وقد أحياه الله بعد موته مئة عام.
وبيان عاقبة الطيبة والصلاح, وعاقبة الشر والإفساد, كقصة ابني آدم وقصة صاحب الجنتين وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم وقصة سد مأرب وقصة أصحاب الأخدود.
وبيان الفارق بين الحكمة الإنسانية القريبة العاجلة, والحكمة الكونية البعيدة الآجلة كقصة موسى مع { عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً } وسنعرضها بالتفصيل في مناسبة أخرى.
إلى آخر هذه الأغراض الوعظية, التي كانت تساق لها القصص فتفي بمغزاها.
آثار خضوع القصة للغرض الديني .
خضعت القصة في القرآن للغرض الديني - كما أسلفنا – فترك هذا الخضوع آثاراً واضحة في طريقة عرضها, بل في مادتها. ونحن نعرض فيما يلي, أوضح هذه الآثار:
( أ ) لقد كان أول أثر لهذا الخضوع أن ترد القصة الواحدة - في معظم الحالات – مكررة في مواضع شتى ولكن هذا التكرار لايتناول القصة كلها – غالباً- إنما هو تكرار لبعض حلقاتها, ومعظمه إشارات سريعة لموضع العبرة فيها, أما جسم القصة كله, فلا يكرر إلا نادراً ولمناسبات خاصة في السياق, كما ضربنا له مثلاً عند الكلام على أغراض القصة.
وحين يقرأ الإنسان هذه الحلقات المكررة ملاحظاً السياق الذي وردت فيه يجدها مناسبة لهذا السياق تماماً, في اختيار الحلقة التي تعرض هنا أو تعرض هناك, وفي طريقة عرضها كذلك ويجب أن نذكر دائماً أن القرآن كتاب دعوة دينية, وأن التناسق بين حلقة القصة التي تعرض والسياق الذي تعرض فيه هو الغرض المقدم وهذا يتوافر دائماً, ولايخل بالسمة الفنية إطلاقاً.
على ان هناك مايشبه أن يكون نظاماً مقرراً في عرض الحلقات المكررة من القصة الواحدة – يتضح حين تقرأ بحسب ترتيب نزولها - فمعظم القصص يبدأ بإشارة مقتضبة, ثم تطول هذه الإشارات شيئاً فشيئاً, ثم تعرض حلقات كبيرة تكون في مجموعها جسم القصة – وقد تستمر الإشارات المقتضبة فيما بين عرض هذه الحلقات الكبيرة عند المناسبات – حتى إذا استوفت القصة حلقاتها, عادت هذه الإشارات هي كل مايعرض منها.
ونضرب مثالاً على هذا النظام, قصة موسى إذ انها أشد القصص في القرآن تكراراً,فهي من هذه الوجهة تعطي فكرة كاملة عن هذا التكرار.
وردت هذه القصة في حوالي الثلاثين موضعاً, نذكر أهمها ونهمل بعض المواضع التي ورد فيها الاسم مجرداً فكيف جاءت في هذه المواضع؟ إنها تسير في المراحل التالية:
1 – في سورة الأعلى (السورة الثامنة في النزول) إشارة قصيرة: (إن هذا لفي الصحف الأولى, صحف إبراهيم وموسى) وإشارة قريبة منها في النجم (السورة 23)..
2ـ وفي الفجر (السورة العاشرة) إشارة إلى فرعون بدون ذكر موسى مع عاد وثمود: {... وفرعون ذي الأوتاد, الذين طغوا في البلاد ,فأكثروا فيها الفساد ,فصب عليهم ربك سوط عذاب} وإشارة قريبة منها في سورة البروج (السورة 27).
3ـ وفي سورة الأعراف (39) بدأ التفصيل الأول للقصة في معرض قصص مشترك مع نوح وهود ولوط وشعيب ,اتحدت فيه صيغة الدعوة وصيغة التكذيب ,والعقاب الذي أخذ المكذبين.
وقد بدأت القصة هنا برسالة موسى وهارون إلى فرعون وملئه (ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا وسلطان مبين ,إلى فرعون وملئه...) ثم ذكرت معجزة العصا واليد البيضاء ,وجمع السحرة والمباراة بينهم وبين موسى , وغلبته عليهم ,وإيمانهم به وتعذيب فرعون لبني إسرائيل بعد ذلك ,وتسليط الجراد والقمل والضفادع والدم على فرعون وقومه , واستغاثتهم بموسى , وكف الأذى عنهم وعودتهم لتعذيب بني إسرائيل ثم خروج هؤلاء من مصر وبعد الخروج طلبهم من موسى أن يتخذ لهم إلهاً كما للمصريين آلهة,وتذكيره لهم بربهم ثم ميعاد موسى مع ربه بعد ثلاثين ليلة زيدت إلى أربعين وطلبه رؤية ربه ,ودك الجبل وانصعاق موسى وإفاقته ,وعودته إلى قومه حيث وجدهم قد اتخذوا لهم عجلاً إلهاً ,وغضبه على أخيه ثم اختيار سبعين رجلاً منهم لميقات ربه ,وغشيتهم بالجبل لما طلبوا رؤية الله جهرة وإفاقتهم ,ثم دعاؤهم بطلب الرحمة , فالرد عليهم بأن الرحمة قد كتبت للمؤمنين الذين يتبعون النبي الأمي...
4ـ ثم ترد إشارتان للرسالة والتكذيب وإهلاك المكذبين , في قصص مشترك إحداهما في الفرقان (42) والثانية في مريم (44).
5ـ وفي سورة طه (45) يبدأ تفصيل آخر يبدأ من حلقة أسبق من حلقة الرسالة التي ذكرت في (الأعراف) تلك هي رؤية موسى للنار من جانب الطور:
{وهل أتاك حديث موسى , إذ رأى ناراً فقال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ,فلما أتاها نودي يا موسى , إني أنا ربك فاخلع نعليك, إنك بالوادي المقدس طوى , وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى...}
وبعد أن يكلف الذهاب إلى فرعون ,يحاور ربه ليرسل معه هارون , يشد أزره ويكون وزيراً له ,فيذكره الله بنعمته عليه في مولده , ورده إلى أمه ـ في إشارة سريعة ـ ثم تسير القصة كما سارت في الأعراف (مع حذف آيات الجراد والقمل والضفادع والدم , وعهد فرعون لبني إسرائيل ونكثه ,ومع زيادة حلقة ووهي أن السامري هو الذي صنع العجل ,وتفصيل قصة صنعه ,ويذكر الميعاد بسرعة ويغفل الميقات).
6ـ وفي سورة الشعراء (47) تبدأ القصة من حلقة الرسالة , وتسير في الخطوات التي سارت فيها إلى حلقة الخروج ,ولكنها تزيد هنا أمرين : الأول ذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين فهو يخشى أن يؤخذ به ,وتذكير فرعون له بأنه قد ربى فيهم وليداً وفعل هذه الفعلة ومضى , والثاني ذكر انفلاق البحر كالطود العظيم.. وهذا وذلك مع تنويع في الحوار بين فرعون وموسى ,وإثبات إلهه بصفاته وتنويع في الحوار مع السحرة كذلك.
7ـ ثم تذكر في سورة النمل (48) حلقة التكذيب والعقاب مجملة مع قصص مشترك.
8ـ وفي سورة القصص (49) تبدأ القصة من أول حلقة فيها: من مولد موسى في إبان اضطهاد قومه ,فوضعه في التابوت وإلقائه في البحر والتقاط آل فرعون له ,وتحريم المراضع عليه ,وقول أمه لأخته أن تقص أثره , ومعرفتها بأمره , وإشارتها على آل فرعون بمرضع للطفل هي أمه ,ثم كبره ثم قتله للمصري ,ومحاولته قتل آخر , وتهديده إياه بإفشاء سر القتلة الأولى , ونصح رجل له بالهرب وقد جاءه من أقصى المدينة يسعى , وخروجه إلى أرض مدين والتقائه ببني شعيب ,وسقيه لهما ,وإعجاب إحداهما به ,وحضها أبيها على استخدامه وعمله مع شعيب وزواجه بابنته حسب شرطه , ثم انفصاله عنه وذهابه بأهله ثم رؤيته النار (التي بدأ منها القصة في سورة طه) ثم تسير القصة كما سارت هناك بزيادة واحدة هي تهكم فرعون في قوله :{ فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً ,لعلي أطلع إلى إله موسى } وتنتهي عند حلقة غرق فرعون ,بعد خروج موسى.
9ـ ثم في سورة الإسراء (50) إشارة سريعة إلى إغراق فرعون والتمكين لبني إسرائيل.
10ـ وفي سورة يونس (51) عرض قصير ـ في وسط قصص مشترك ـ لبيان عاقبة التكذيب ,وقد ذكرت فيه حلقة السحرة باختصار , وتجاوز بني إسرائيل البحر ,واتباع فرعون لهم وغرقه ,ولكن زاد في حلقة الغرق أن يقول: { حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل} فكان الرد عليه: { الآن * وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك بيدنك لتكون لمن خلفك آية} وهي زيادة لا ترد إلا في هذا الوضع.
11ـ ثم في سورة هود (52) إشارة سريعة إلى الإهلاك بعد التكذيب في صدد قصص مشترك.
12ـ وفي سورة غافر ـ أو المؤمن ـ 60 تعرض حلقة الحوار بين فرعون وموسى ولكن يزيد هذا الحوار قول فرعون: (ذروني أقتل موسى وليدع ربه) وظهور رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ,يشير عليهم ألا يقتلوه , فقد يكون على صراط مستقيم وهي زيادة لا ترد في غير هذا الموضع.
13ـ وفي سورة فصلت (61) إشارة سريعة , وكذلك في سورة الزخرف (63) إشارتان سريعتان ,ولكن يزيد هنا أن فرعون يقول: { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي * أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
وهي زيادة لا ترد إلا في هذه السورة.
14ـ وفي سورة الذاريات (67) إشارة خاطفة إلى إرسال موسى إلى فرعون بسلطان مبين ,وتكذيبه وإهلاكه.
15ـ وفي الكهف (69) تعرض حلقة مقابلة موسى لعبد من عباد الله أوتي من لدنه رحمة وعلم علماً ,وقد طلب إليه موسى أن يصحبه ليستفيد من علمه ,فأخبره أنه لن يصبر معه ليعلمه ,فوعده موسى أن يصبر ,ثم لم يستطع معه صبراً ,لأن الرجل اخذ في تصرفات لا يدرك كنهها موسى , ولا يعرف لها مغزى فشرح له الرجل العالم سرها وافترقا , وهي حلقة تذكر مرة واحدة.
16ـ ثم في سورتي ابراهيم والأنبياء (72 ـ 73) إشارتان سريعتان المهم في ثانيتهما وصف التوراة بأنها (فرقان) على نحو ما سبق في هذا الفصل.
17ـ ويأتي تفصيل آخر في سورة البقرة (87) في معرض تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم ,ومقابلتهم هذه النعم بالمماطلة والجحود ـ وفي هذا المعرض تكرر بعض الحلقات التي سبقت في قصة موسى ـ ومن ذلك اعطاؤهم المن والسلوى ولكن يزيد هنا تبطرهم على هذه النعم , وطلبهم أطعمة منوعة بدل المن والسلوى , ثم حلقة البقرة التي أمرهم الله بذبحها فجعلوا يتلكأون ,ويسألون عن صفاتها ويتمحلون فيها حتى استنفدوا المعاذير { فذبحوها وما كادوا يفعلون } وهي ـ كما ترى ـ حلقة جديدة لم تذكر من قبل أصلاً.
18ـ وفي سورة النساء (92) إشارة إلى طلبهم أن يروا الله جهرة للتدليل على عنتهم ومحالهم.
19ـ وفي سورة المائدة (112) تذكر حلقة وقوفهم على أبواب الأرض المقدسة لا يدخلون:
{ قالوا : ياموسى إن فيها قوماً جبارين ,وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها , فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} ... إلى قوله {قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا ,إنا ها هنا قاعدون قال: رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال :فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ,فلا تأس على القوم الفاسقين } .
ويتركهم هنالك في التيه فلا يأتي بعد ذلك ذكر لموسى ,ولا يذكر عن بني إسرائيل إلا تفرقهم وعداؤهم للمسيح والمسلمين .. هذه القصة أشد القصص تكراراً في القرآن وقد رأينا من هذا الاستعراض نوع التكرار , وأنه ـ فيما عدا ستة مواضع ـ إشارات وعظية إلى القصة اقتضاها السياق , أما الحلقات الأساسية فلم تكرر تقريباً , وإذا كررت حلقة منها جاءت بشيء جديد في تكرارها وهذه القصة نموذج للقصص الأخرى , وعلى ضوئها ندرك أن ليس في القصص القرآني ذلك التكرار المطلق الذي يخيل لبعض من يقرأون القرآن بلا تدقيق ولا إمعان.
( ب ) وكان من آثار خضوع القصة في القرآن للغرض الديني ـ غير التكرار ـ أن تعرض بالقدر الذي يكفي لأداء هذا الغرض , ومن الحلقة التي تتفق معه ,فمرة تعرض القصة من أولها ,ومرة من وسطها ,ومرة من آخرها , وتارة تعرض كاملة , وتارة يكتفي ببعض حلقاتها , وتارة تتوسط بين هذا وذاك ,حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو ذاك , ذلك أن الهدف التاريخي لم يكن من بين أهداف القرآن الأساسية كالهدف القصصي سواء , فسارت القصة وهدفها الأول هو الهدف الديني , على النحو التالي:
1ـ نجد قصصاً تعرض منذ الحلقة الأولى:
حلقة ميلاد بطلها ,لأن في مولده عظة بارزة , وذلك مثل:
قصة آدم (منذ خلقه) وفيها مظهر لقدرة الله وكمال علمه ,ونعمته على آدم وبنيه وفي حادثة إبليس معه بما فيها من أغراض دينية أشرنا من قبل إليها.
ومثل مولد عيسى ابن مريم: وهو يعرض بتفصيل كامل ,ذلك أن مولده هو الآية الكبرى في حياته , وحول هذا المولد قام الجدل كله ,وعنه تفرعت كل قضايا المسيحية قبل الإسلام وبعده.
وقصة مريم: فقد نذرت لله وهي في بطن أمها , وتولى كفالتها زكريا , ثم رزقت منذ مولدها رزقاً حسناً من عند الله ,فكانت {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال: يامريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله }..
ثم تطوى حلقاتها حتى تأتي حلقة ميلاد عيسى ,وهي الحلقة الهامة الثانية في حياتها.
وقصة موسى: لان لمولده في عهد اضطهاد بني إسرائيل , وتذبيح الذكور من أطفالهم ,ونجاته هو من ذلك مع وجوده بين آل فرعون أنفسهم.. قيمة خاصة في بيان رعاية الله له ,وإعداده إعداداً خاصاً للمهمة التي سينهض بها ثم تذكر من حياته حلقاتها ذات المغزى.
وإسماعيل وإسحاق تعرض حلقة مولدهما ,لأن في هذا المولد عبرة , فأولهما رزقه ابراهيم على الكبر ,وأسكنه ـ على الرغم منه ـ بجوار البيت المحرم , والثاني بشر به وامرأته عجوز وقد بلغ من الكبر عتيا.
كذلك يذكر مولد يحيى لزكريا ,بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيباً.
2ـ ونجد قصصاً أخرى تعرض من حلقة متأخرة نسبياً:
فيوسف تبدأ قصته صبياً فمن هذه الحلقة يرى الرؤيا التي تسير حياته كلها ,وتؤثر في مستقبله جميعاً ,إذ يرى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين , فيدرك ابوه مغزاها ويقربه إليه ,فيغار إخوته منه.. ثم تسير القصة في طريقها المرسوم بعد هذه الرؤيا.
وابراهيم تبدأ قصته فتى ينظر في السماء فيرى نجماً فيظنه إلهه , فإذا افل قال لا أحب الآفلين , ثم ينظر مرة أخرى فيرى القمر , فيظنه ربه ,ولكنه يأفل كذلك ,فيتركه ويمضي ثم ينظر إلى الشمس فيعجبه كبرها , ويظنها ـ ولا شك ـ إلهاً ,ولكنها تخلف ظنه هي الأخرى , فيفيء إلى ربه الذي لايرُى.. ويدعو اباه وقومه إلى هذا الإله الواحد فلا يجيبونه ,فيحطم اصنامهم في غفلة منهم حيث يقولون : سمعنا فتى يذكرهم يقال له ابراهيم ويهمون بإحراقه ,فينجيه الله منهم : { قلنا : يانار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم}..
وتبدأ قصة داود وهو في مقتبل الشباب تبدأ بحلقة صراعه لجالوت ـ وهو فارس ضخم مشهور ـ فيغلب عليه داود ,لأن الله ينصره ,ومن هنا تبدأ قصته.
ولعل سليمان كان في مثل سن أبيه حينما جلس معه يحكم في قضية الحرث ,{ إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين}.
ولقد كان هذا الحكم المبكر دلالة على ما أعده الله سليمان من تدبير الملك الأكبر.
3ـ ثم نجد قصصاً لا تعرض إلا في حلقة متأخرة جداً:
فنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وكثيرون غيرهم , لا تعرض قصصهم إلا عند حلقة الرسالة ,وهي الحلقة الوحيدة التي تعرض من حياتهم , لأنها أهم حلقة منها ,والعبرة كامنة فيها.
هذا كله من ناحية الابتداء , وأما من ناحية الاطناب والايجاز فهما كذلك خاضعان لما في حلقات القصة من عظة وأهمية نضرب لذلك الأمثال فيما يلي:
1ـ قصة كقصة موسى تذكر بجميع حوادثها وتفصيلاتها , منذ مولده ـ بل قبل مولده ـ إلى وقوفه بقومه أمام الارض المقدسة , حيث كتب عليهم التيه أربعين سنة ,جزاء وفاقاً لأن في كل حلقة من حلقات القصة غرضاً دينياً يبرز , وله صلة بأهداف القرآن العليا.
وكذلك قصة عيسى ـ مع شيء من الاختصار في حلقاتها الوسطى ـ يذكر مولده بتفصيل كامل ,وتذكر معجزاته بتوفية وتذكر قصته مع الحواريين حين طلبوا المائدة فأنزلت إليه ,وتذكر حلقة تكذيبه ومحاولة صلبه ورفعه ,وتفرق قومه من بعده ويزداد عليها تصوير موقفه يوم القيامة يسأله الله: إن كان قد قال لقومه اتخذوني وأمي إلهين من دون الله فيتبرأ من ذلك إليه ,ويذكر أنه دعاهم لله وحده ,وأنه يدع أمرهم لله إن يشأ يرحمهم وأن يشأ يعذبهم.
ومنذ أن تبدأ قصة يوسف تسير مفصلة حتى تنتهي فما يقع له مع إخوته ,وما يحدث له في مصر بعد شرائه وتربيته ,ومراوده امرأة العزيز له , وسجنه ,وتعبيره رؤيا خادمي الملك ,ثم تعبيره رؤيا الملك ,وخروجه ,وولايته {على خزائن الأرض} (وزارتي المالية والتموين) ومجيء اخوته ودعوتهم ومجيء اخيه وعودة إخوته لابيهم بدونه , وكمال القصة بقدوم أبيه وأهله.. كلها تفصل تفصيلاً دقيقاً , لأن التفصيل مقصود , أولاً: لاثبات الوحي والرسالة كما أسلفنا , وثانياً: لأن لهذه التفصيلات قيمتها الدينية في القصة.
وقصة ابراهيم لا تعرض من أولها ,ولكن تعرض منها حلقات شتى : حلقة إيمانه التي اسلفنا ,ومحاورته لأبيه وقومه ,وتحطيم الأصنام ,واعتزاله أباه وقومه , وهبة اسماعيل واسحاق له ,ورؤياه أنه يذبح ابنه ,وافتداؤه وبناء الكعبة والتأذين في الناس للحج.
وطلبه من ربه برهاناً على احياء الموتى , لاليؤمن فقد آمن , ولكن ليطمئن قلبه ,حيث أمره الله أن يأخذ أربعة من الطير ,فيضمهن إليه , ثم يجعل على كل جبل منهن جزءاً , ثم يدعوهن فيأتين إليه سعياً... الخ.
ومن قصة سليمان تعرض كذلك حلقات مطولة: حكمه في الحرث وملكه وفتنته بالخيل الجياد ,واستغفاره الله من هذه الفتنة ,وتسخير الشياطين والرياح له ثم فتنته الأخرى التي لا يذكر القرآن سببها ـ وتذكر التوراه أنها المرأة ـ وقصته مع النملة ومع الهدهد ومع بلقيس ,وموته وهو متكئ على عصاه والشياطين لا تعلم.. وما في ذلك كله من مغازيّ مقصودة.
2ـ وهناك قصص متوسطة التفصيل:
فصة نوح تذكر منها تفصيلات رسالته ودعوته لقومه واستكبارهم عنها وحلقة صنع السفينة , وحلقة الطوفان , وغرق ابنه , ودعائه الله أن يحييه ,وعدم استجابته له ,لأنه ليس من أهله ولو كان ابنه ,لأنه عمل غير صالح!
وقصة آدم تفصل تفصيلاً في نشأته ,وخطيئته ,وهبوطه ,وتوبته , واستجابة الله له.
وقصة مريم يطنب فيها عند مولدها ,وعند مولد عيسى ,وقصة داود تنال شيئاً من التفصيل , لا يبلغ تفصيل قصة سليمان ,ولكنه يتناول حلقات كثيرة منها.
3ـ وهناك قصص قصيرة:
فقصص هود وصالح ولوط وشعيب ـ مع تكرارها ـ قصيرة لأنها تعرض عند حلقة الرسالة وحدها , فتضمن الرسالة والحوار مع قومهم , وتكذيب هؤلاء القوم ,ثم اهلاكهم جميعاً.
وقصة اسماعيل تذكر عند مولده , وعند افتدائه من الذبح ,وعند اشتراكه في بناء الكعبة مع أبيه ,في اختصار نسبي في هذه الحلقات جميعاً.
وقصة يعقوب تذكر في سياق قصة يوسف وتذكر مرة أخرى:
{إذ حضر يعقوب الموت ,إذ قال لبنيه : ماتعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك}..
وقد أفردت هذه الحلقة هنا لأهميتها في بيان التوحيد الذي أوصى به يعقوب.
عن الجمهورية نت
تعليقات