الحلقة الأولى
امرؤ القيس –
علقمة الفحل – طرفه – النابغة.
ما بلغ فنان
الغاية التي يروم أو اقترب منها إلا واتفق المثقفون على سمو مكانه وعراقة شعره.
وكانت تأتي
فقرات كثيرة تجمع أكثر من واحد، وتتفق نفس الاتفاق على المعيتها، وعلى قلَّة أمثالها
أو عدمهم.
ومن هنا
نبدأ.
ومن هنا
بدأوا زمن الشعر..
إذا قبلنا
هذا الرأي فهم من مؤسسي تقاليد الشعر إلى شوقي.
والأولى أن
نقول: إن هؤلاء الجيل الرابع أو الخامس، وأنهم لم يفترعوا طريق الشعر وإنما كانوا
الجيل الثالث أو الرابع، وذلك لأن شعرهم جاء محككاً محكماً.. لا تقع عليه الزحافة
أو العلة إلا نادراً.
وكان أكثر
مجموعات اليوم من أصحاب المعلقات التي اختلفوا فيها، فقيل إنها عشر، وأكد هذا
(المؤرخ الثقة – ابن الحاس).
- أما مجموعة من كل الأقطار فقد قالوا
إن هذه السبع أو العشر من اختيار الشعراء الذين تلو ذلك الجيل..
- وأن بعض القصائد تكونت من مقطوعات
أمكن تجميعها، لواحدية البحر والقافية.. وأن تعليقها في أستار الكعبة ليس تقديراً
لمكانة القائلين وإنما لمكانة القول.. ولا فرق هنا.
- ولا شك أن أولهم هو امرؤ القيس الذي
ضحى بأمواله وثار أبيه لأنه ظل مع المنشدين والمنشدات يتتبع مساقط الشعر ومطالعه
من أوائل النجم أو الموسم.
- وكان يعد الشعر مهنة غير لائقة بأمير
كامرئ القيس (أو بابن ملك كابن المعتز) أو قائد جيش سيف الدولة كأبي فراس.
- وكانت المباراة على الإجازة والأجود
بين اثنين: (امرئ القيس، وعلقمة الفحل).. وسقط رهان امرئ القيس لشهادة زوجته بتفوق
(علقمة) وأبرع ما في وقفة زوجة امرئ القيس هي هذه الشروط لفن الموازنة: فأولاً أن
تكون القصيدتان من بحر واحد وفي موضوع واحد وعلى قافية واحدة.
- هذا شرط انعقدت عليه الموازنة فصارت
تقليداً، إذا كان بين شعراء لغة واحدة – أو المقارنة إذا كانوا شعراء لغتين.. فوقع
الاختيار على قصيدتين بائيتين من بحر الطويل
خليلي مُرَّا بي
على أم جندب |
|
|
|
لنقضي لبانات
الفؤاد المعذب |
|
لـ(امرئ
القيس):
والثانية لعلقمة الفحل:
ذهبت من الهجران في غير مذهب |
|
|
|
ولم يك حقاً كل هذا التجنب |
|
ولم تطرح المحكمة حكماً على صياغة الشعر وصفاء لغته وجودة سبكه وانسجام
نظامه.. وإنما قالت (إن علقمة يخلع على خيله أجود الصفات.. على حين يقلل امرؤ
القيس من محاسن خيوله إلى حد الذم الصريح).
هذا حكم جانبي أو في موضوع القصيدتين
لا القصيدتين..!!
- وقيل: إن الغيرة كانت أشد من إبداء
الرأي الجزئي أو الجانبي.
- فمن ذا يقدر أن يعيد مخلوقاً بدل الذي
خلق الله..؟
لا يمكن أن يؤخر امرئ القيس من له قدم
ثابتة في الأدب واللغة.
لأن الحق يفرض نفسه كما شاهدناه في كل
مكتوب ومروي.
***
- ولماذا لا يمر ذلك الغلام ابن العشرين
فيرفع صورته كعادته..؟
- إنه كان حدث السن.. ولكن من شيوخ
الشعر.. ويكفي أن قال عنه أصدق القائلين: « خير شعراء الجاهلية، ابن العشرين »
وسكتّّّّ!!..
- وكان هذا المقال في حد ذاته يفجر
ملكات كتاب فيصبح ذلك القول الكريم نواة مكتبة في ذلك الشاعر الذي ظل قدوة إلى
عصرنا..
***
قال أهم شيوخي وأكثرهم إطلاعاً
وفضولاً بعد أن القيت قصيدة كان لها صدى في يومها: " تعلموا الشعر من امرئ
القيس".
ومر كمن يطرح عن ظهره حجراً.
- أما الذي رادف لقبه الحوادث الكبرى
فقد دل اللقب على المكانة الشعرية.
- أما لقب بالنابغة؟ تشبيهاً له بالحدث
المفاجئ قاله في شعره: (وقد حدثت لنا منهم شجون).
- عرف هذا الرجل
بنابغياته.. وكاد أن يتفرد في تجسيم الخوف. وعسكرة أشباح الليل
(فإنك كالليل الذي هو مدركي |
|
|
|
وإن
خلت أن المنتأى عنك واسع) |
|
أو
(خلفت فلم أترك لنفسك ريبة |
|
|
|
وليس
وراء الله للنفس مطلب) |
|
-
أما الذي ظل مهضوماً فهو الذي قال:
متى
تأتني أصبحك كأساً روية |
|
|
|
وإن
كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد |
|
فأية
عبارة أبرع من هذه؟ تسقط المتعالي على
الفراغ.
(وإن كنت عنها ذا غنى فاغن وازدد)..!!
- قال عنها مفلسف النقد البلاغي
(عبدالقاهر الجرجاني): هذا البيت كالطعنة بحربة دقيقة قوية، لا يحسها المطعون إلا
في عظامه..
- أما علقمه فادعى وكاد يصيب.
طحا
بك قلب في الحسان طروب |
|
|
|
بعيد
الشباب عصر حان مشيب |
|
فإن
تسألوني بالنساء فإنني |
|
|
|
عليم
بأدواء النساء طبيب |
|
يردن
ثراء المال حيث علمنه |
|
|
|
وشرخ
الشباب عندهن عجيبُ |
|
- قالت
أم جعفر.. سيدة الخبيرات: "هذا عشق المراهقات المترفات.. وليس عشق التي اينعت
ثمارها لأن المرأة الحسناء لا تحب من ترى صفاتها في بعلها.. لأنها تزيد العكس.
ولماذا العكس؟
لأن الإنسان يحنُ إلى المفقود عنه لا
إلى الموجود فيه.
- ليس شرطاً قبح الرجل، ولا يتكون من
شبيبته الرائعة شرط.. إن علقمة سبق انتشار الحكمة التفلسف..
- أما ابن العشرين فيطرح الحكمة كمن يحط
سبحته بين أنامله.
رب
خليل كنت خاللته |
|
|
|
لاترك
الله له واضحه |
|
في
يومه أخبث من أمسه |
|
|
|
ما
أشبه الليلة بالبارحة |
|
وهكذا تتشابه الأيام حتى يكون الشهر يوماً واحداً.. وتتخالف وتتباين
كانهيار القلعة الفارغة.
لهذا يطرح المعنى على موقعه.. كما
تنبت الرمانة في غصنها.. ولكن لا يمكننا أن نغفر المراس الطويل .. فلا شك أنه غاص
في بواطن اللغة وظواهرها، حتى تلقى زبدة المخض تلمع في يده.
ستبدي
لك الأيام ما كنت جاهلاً |
|
|
|
ويأتيك
بالأخبار من لم تزود |
|
- كان
كل ذي خطر إذا وقع الحدث جهز إليه الرسل على أكثر من وجه.. لكي يلاقي الحقيقة
جزءاً من كل كلمة.. ويرى الحادث كأنه من شهوده عياناً: (ويأتيك بالأخبار من لم
تزود)..!!
- أما النابغة فيقتطف ويمشي:
(سقط
النصيف ولم ترد إسقاطه فتلقفته واتقتنا باليد).
- أما امرؤ القيس فهو الذي أوهم النقاد
بأن المعلقات شتى من قصائد مختارة.. وربما لم يحسنوا اختيار أجودها.
- فلماذا أبدى امرؤ القبيس هذا السبب
قبل أوانه؟
- كان الشاعر العربي لا يصرع في منتصف
القصيدة أو في ربعها وما أندر الذين صرعوا.. أما هو فصرع – بين المقطع والمقطع..
فما كاد يبكي الحبيب ويستوقف الصحب على المنزل، حتى لاح له التصريع:
أفاطم
مهلاً بعض هذا التدلل |
|
|
|
وإن
كنت قد أزمعت صرماً فأجملي |
|
وما جعل هذا التصريع فاكهة في الشتاء. وإنما تكاثر التصريع قبل أن
تتقبله الذائقة الموسيقية في نغم الشعر بزمن قصير:
ألا
أيها الليل الطويل ألا أنجل |
|
|
|
بصبح
وما الإصباح منك بأمثل |
|
لكن
لا تلاقي في المعلقات شبيهاً أو قريباً من مصرعات امرئ القيس قبل أن يستملحه
الذوق..
مع أن ابن العشرين روض جناحيه إلى
أعالي أشجار الشعر على جذع امرئ القيس وغصونه..
حتى أنه قلده حرفياً، في قوله:
وقوفاً
بها صحبي على مطيهم |
|
|
|
يقولون
لا تهلك أسى وتجلد |
|
فالبيت لامرئ القيس.. وكانت عبارة (أسى وتجلد)
لا تداني (تجمل) عند امرئ القيس.. لأن التجلد إبداء البشاش والفرح في غمرة الحزن
المهلك.. ولهذا صار خلعه تجملاً .. أي خلق جمال عالمه الباطني.
- قد تلاقي في العبقرية شذوذاً أشهر من
غيره في غيرها.
- كان مع ابن العشرين رسالة إلى عامل
البحرين من الملك/ وكان خاله الشاعر المتلمس يحمل رسالة.. فما كادا يقتربان حتى
التفت خاله إلى راعي رأى في يده ورقة وقال: (اقرأ لي ما في هذه).. فقرأها فإذا بها
الأمر بقتله فوراً فنادى صاحبه يا ابن اختي، أخشى أن الذي معك كالتي معي.. دعنا نكتشف
طواياها ونحن على بُعد من المدينة..
لا تستطيع أن تلحق بنا الخيل إذا مررنا من حجلف..
قال: لا.. لا يمكن أن يفعل هذا
معي..!!
- فهل استعظم نفسه حتى لا ينفذ الملك
عليه أوامره، بل يراجيه كأنه أكبر من الملك..
هنا تشهد البديهة عن غيابها.. أو تغر
البدايات عن العواقب.. ولو امتد عمر ابن العشرين عشرين أخرى لكان أشعر أهل زمانه
إذا اضطرد القياس.
غير أن الشذوذ أكثر.
- أبو العلاء المعري جود تحت
الثمانينيات ..
- الشابي وبيرون وشيلي لم يتجاوز أحد
منهما الثلاثين، وكان ينبي شعر تلك الفترة الأخيرة بنضوب مائهم وكأن تلك الخيول لا
تتجاوز معلم الشوط.
- المتنبي لم يسكت وإنما أرغمه سكوت
الموت، لأنه كتب الشعر في صباح اليوم الذي قتل فيه..
وإني
شئت يا طرقي فكوني |
|
|
|
أداة
أو نجاة أو هلاكا |
|
- أما ابن العشرين فجنى على دوي شهرته قصر عمره.. لأن الشعراء كانوا
يتناشدون في العام مرة، في أحد أسواق الأدب..
ومع ان ابن العشرين موضع الاعجاب
والتساؤل تبدت داليته من صنع شاعرين أحدهما يرعش لحيته تحت التسعين وثانيهما يسبح
في الماء الضحل. لأنه جاء ليتعلم السباحة.
لهذا انبأت المكتبات والمطابع وعشاق
الكتب أنها لم تنزل حول ابن العشرين أطروحة ماجستير أو دكتوراه..
فهل السبب أن شعره قليل العدد.؟..
لكنه جيد المضمون والصياغة..
فلماذا لم ينل حقه كما ناله الشابي
الذي ما يزال شاغر المقعد..
***
- وكل مبدع لا يرى أنه استوفى حقه من
الأحياء..
- حتى أن ديوان علقمة صدر أخيراً في
الستينيات بعد أن شاخت دعوة الإحياء.. وليست وفرة الدراسة عن المبدع تعلو به عن
موضعه.
لأن كل إنسان لما خلق له..
فهل عرفت من هو الرابع المهضوم الذي
نقصده؟
تعليقات