الحلقة الثالثة

نجا عمر بن الخطاب من أكثر المعضلات التي واجهها سلفه، مثل حرب الردة ومثل تنفيذ جيش أسامة، ولكن واجهت عمر معضلات أشد، أهمها جدب عام الرمادة الذي بلغت فيه المجاعة غاية مداها، وكان عمر يأكل خبزاً وزيتاً وأبى أن يأكل غير هذا الذي يأكل منه سائر الناس.. قائلاً: (ما أنا إلا واحد من هؤلاء الناس أحمل الأمانة عليهم وعبء الرعاية لأحوالهم.. فوالله لو ماتت عنزة في أقصى اليمن أو العراق لرأيتني مسؤولاً عنها أمام الله).

وكان عليماً بأحوال البيوت وتفاوت دخلها وأيها فقير وأيها الأفقر، وكانت الفتوحات قد درت أموالاً فقرر لكل نفس مرتباً شهرياً أو سنوياً، وكانت تسجل المواليد لتجري عليهم المرتبات من بداية السنة الثالثة، وكانت بعضهن يستعجلن فطام الوليد لكي يلحق بقائمة الأرزاق، فعلم عمر هذا فقرر المرتبات من يوم ولادة الجنين وكان يضيق بالمال الوافد من الأقاليم، فدله رجل رومي على افتتاح بيت المال وتسجيل الواصل، ومقداره، والمنصرف ومقداره. وهل هناك تعادل بين الانفاق والصرف، فافتتح ديواناً مالياً ولى عليه أبا عبيدة بن الجراح لأن رسول الله لقبه (بسيد الأمناء).

بعد ولاية عمر بعام أراد رجال الحل والعقد خلع صفة دالة على مهمة عمر، فقال له عمرو بن العاص: إنك أمير المؤمنين فقال: أعوذ بالله من تفضيل لا استحقه.. فقال ابن العاص: ألسنا مؤمنين قال: نعم فسأله ثانياً: هل أنت أميرنا.. فقال: فيما يأمرني الله به عليكم.. قال: إذاً فأنت الأمير المؤمن ونحن المؤمنون المأمورون.. فاستحسنت وجوه القوم هذا، وكان أول من تقلد هذه الصفة لأن الإمارات كانت تقوم على العرف وتحكم بالإرث وترى الحكم دون الصلح.. إذ لا حاجة للحكم على أحد ما لم يغيب الصلح عن المجال فيتسبب غيابه في الاقتتال.

قال ابن عباس: شاهدت أبا بكر وعمر يوماً واحداً كضدين كان أبو بكر في غاية الشدة ، والميل إلى حرب المرتدين وكان عمر يرى التأني أفضل، وكان عمر يقول: "إنهم إلى الآن ما أعلنوا كفراً وإنما منعوا الزكاة".. فقال أبو بكر "لا بد أن يؤدوا ما كانوا يؤدونه.. وإذا كان محمد قد مات فإن الله حي لا يموت".. وأقر عمر في آخر الأمر بصواب رأي أبي بكر لأن الشدة عند تأسيس العهد من أسباب مهابته، والانقياد له وكان عمر يرى أن رجوع الخاطئ عن خطأه أمكن في النفس ولما تكشف البواطن بالتجربة رأي أن القوة في غير عنف أجدى فأقدم على عزل خالد بن الوليد لشكوى الجيش من خيلائه أو كما رآه عمر خيلاء لأنه على راي عمر حديث العهد بالإيمان.. ويوم عزل خالد ظهر من قال: "أصبت يا أبا حفص فإن أهل الشام أهل نعيم وغرور، وقد يقع خالد كما وقع يوم مقتل ابن نويرة.. وكان أبو حفص يذكر هذا لخالد بمرارة، حتى عالنه السر.. لقد طمعت في زوجة، وتجاوزت أعراف العرب، إذ تزوجت في ساحة الحرب، وقبل أن تبلغ الأرمل نهاية الأجل. أربعة شهور وعشر وهذه كانت من الحوادث الهزازة التي أثارت واستثارت. فمنهم من ردها إلى وصية الصديق باستعمال أقصى الشدة ومنهم من رد هذا إلى إظهار قوة شوكة الإسلام ومنهم من رأى هذا من أخطاء البشر الجائزة الحدوث. ومهما كانت الأسباب، فإن بني مخزوم قد حملوا غيضاً على عمر حتى أن بعضهم كان يناديه بلقبه الطفولي (دلام) وكانت عائشة الصديقة لا ترى في هذا الوصف منقصه لأن (الدلام) العجل الصغير. وكان عمر يقول: "ليتني دلاما.. آكل نبات الأرض، واشق التربة وأغذي الطاعم، ولا يسألني عما اقترفت وأرجوه أن أكبح نفسي عن الاقتراف، لهذا أبى أن يلي ابنه عبدالله الأمر بعده. وجعل الأمر شوى بين الوجوه ذات القيم الشريفة، وذات المكانة الاجتماعية، وذات العفاف إلا أن عمر مات شهيداً قبل أن يتدبر الأمر بعده وكان أصحاب النظر يتوقعون انفجار الفتن بعد عمر الحازم اللين والقوي من غير عنف، وهذا ما حدث إذا هاجت الهوائج، وكان أهم أسباب حدوثها مقتل عمر ذا المهابة العظمى والصيت الشذى، والسيرة النقية حتى أن المرء يكاد يتصور أخبار سيرته وأوصاف حكمه ضرباً من الأحلام الصالحة.. لهذا كان القتلة على تلك الصفة تأثير تاريخي إذ توالت مصارع الخلفاء جيلاً جيلاً، والآن وقد وصلت هذه اللمحة العجلا مداها.

ما هي كنية عمر وتميزه عن اسمه ولقبه.
من كتاب شذوذ العبقرية للبردوني 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الفضول - ( عبد الله عبد الوهاب نعمان ) - ليتني ماعرفته...!!

التصوير الفني في القرآن ...ل.سيد قطب ...الناقد الفذ 1ـــ3

حديث الــــــــــروح ....للمفكر الاسلامي الباكستاني /محمـــــــد إقبالْ 1ـــ3