دراسة نقدية بديعة للناقد منير طلال ...عن (رواية عرق الأرض) للروائي اليمني محيي الدين سعيد..!
اهتمت الرواية والقصة القصيرة في الأدب اليمني بظاهرة الهجرة الى خارج الوطن و انعكاساتها المختلفة على مجريات الأمور داخل الوطن إلا ان تلك الأعمال التي تتناول مشكلة وظاهرة الهجرة الداخلية من الريف الى المدينة قليلة ومحدودة وقد مثلت رواية عرق الأرض أول تجربة في الرواية التسعينية تكرس همها لهذه الظاهرة منذ بداية الثمانينات وحتى منتصف التسعينيات وقد تطرق الكاتب الى مجمل قضايا مرتبطة بظاهرة الهجرة او النزوح من الريف الى المدينة الخلل الذي اصاب التركيبة السكانية نتج عنها مضاعفات. محيي الدين علي سعيد بما أمتلكه من خيال ولغة وبيان استطاع أن يجسد الواقع المرير ليطرح قضايا عديدة لم يطرحها أحد من قبل فكل الأعمال السابقة كانت تركز على معانات المغتربين خارج الوطن في مواقع الشتات سواء في الحبشة كما في أعمال الأستاذ الراحل محمد عبد الولي لكن رواية عرق الأرض لامست واقع الاغتراب الداخلي أو بشكل أدق الهجرة من الريف إلى الحضرالذي تحول من هجرة مؤقتة إلى نزوح تام وتخلٍ عن الموطن الأصلي وأسلوب الحياة القديم القائم على الأقتصاد الإنتاجي إلى اسلوب عصري قائم على الاقتصاد الاستهلاكي. والشيء الجديد أيضاً في اسلوب وتكنيك هذه الرواية أنها قائمة على أسلوب المراسلات الأدبية بين الأصدقاء ذلك الجانب الذي اختفى من حياتنا المعاصرة نتيجة لمزاحمة وسائل الإتصال الحديثة كالهاتف الثابت والجوال و... إلخ. الرواية من بدايتها وحتى النهاية عبارة عن رسالة يرسلها (عبد الفتاح) إلى صديقه وابن قريته (جميل) الذي هاجر القرية منذ سنوات متنكراً لوعوده بالعودة والمساهمة في بنائها فيذكره بالقرية والأرض ورائحتها الجميلة وبالقيم التي تكتنزها وبالنقيض التام الذي تمثله المدينة من إحباط وقتل للمبدعين وبأخلاقياتها وأجوائها التي تتنافى والقيم الإنسانية النبيلة ثم يقدم لصديقه نفسه كنموذج هجر المدينة مفضلاً الاستقرار في الريف بعد أن أكمل دراسته في رحلة كفاح مريرة وبقصد التشويق يحكي لصديقه قصة المجنون (شائف) الذي يقدمه كنموذج وعبرة لصديقه ليحضه على العودة إلى الريف تاركاً زيف وخداع المدينة الجامدة الأحاسيس والمشاعر وعبر عرضه لشخصية (شائف) الفريدة في الاعتزاز بالكرامة والحكمة والفلسفة أحياناً يجذب عبد الفتاح انتباه صديقه والقراء عندما يجدون انفسهم أمام شخصية فريدة بقيمها ومبادئها ورؤيتها للحياة وكأنه يقول خذوا الحكمة من أفواه المجانين ليؤكد صدمته لما لاقاه في المدينة التي كان تواقاً لزيارتها والعيش فيها باعتبارها الفردوس الموعود إلا أنه يكتشف أنها غولاً سحرته وأغوت العديدين عن ارتباطهم القديم بالقرية والأرض حيث يقدم الكاتب وصفاً للقرية التي هجرها سكانها انتهت بإنتهاء أهلها الذين رووها بالعرق والدموع ويصف ذلك التبدل في حياة ومعيشة الناس الذين استبدلوا كل منتج محلي بمنتج أجنبي حاولت أمي أن تجعله يأخذ من الحبوب مقابل أجرته لكنه رفض هل تعلم ما سبب رفضه؟ لانه لا يأكل حبوب الغرب وإنما يفضل القمح الأمريكي ليضطر المزارع إلى التخلي عن أرضه التي لم تعد منتجاتها تسد الرمق ليتحول المزارع إلى المستهلك فيدخل في سلك العبودية والحاجة ليحدث انفصام وضياع للهوية والانتماء وخلل مرعب في التكوين الأخلاقي المعرفي. فالمدينة التي أصبحت غولاً يبتلع براءة القرية وتطبعهم على مثل وقيم لم يكونوا يستسيغونها في السابق كالإتكال والكسل والتحول إلى مستهلك كبير باحثاً عن حياة الرفاهية والنفوذ والسلطة والمزيد من الأناقة وبريق الحياة الزائفة. صور محيي الدين المدينة على أنها مكان بلا روح وحال النازحين إليها من أبناء الريف السذج كالسمك خارج الماء فهم ريفيون قدموا من مختلف المناطق الطاردة للسكان التنافس محموم بينهم الدبعي يقارع الزريقي والعبسي يدافع عن نفسه والبعداني يحاول أن يكتسح السوق بتجارته المستوردة و(الأوصابي) يتفنن في عرض العطورات وأدوات المكياج في منافسة حامية بكل الأدوات الشرف والخيانة والأخلاق والأنانية والطمع تختلط ببعضها فلا فرق المهم من يكسب ومن يبيع. وهنا من خلال بطل الرواية الرئيس شائف المجنون الذي ينطق بالحكمة والمعتز بكرامته ولعل الكاتب اختار له إسم شائف ليدلل عن أن هذا الشخص أكثر الأشخاص إدراكاً لمجريات الأحداث ولكنه واقف في مكان الشاهد على مايحدث من متغيرات على مر السنين يقودنا الكاتب إلى تحليل دقيق للوضع الاجتماعي فشائف رغم منظره الرث والبأس وأحاديثه غير المنتظمة قد يتدخل ليفسر آيات من القرآن (بدأ شائف يشرح ويل لكل همزة لمزة وبأن معناها أنه العذاب والعقاب سحيق وسيكون من نصيب الشحاذين والمتسولين) والذين أذلوا انفسهم وتخلوا عن كرامتهم بينما يتدخل أحد العقلاء (علي الأبي) ليفسرها بأنها العقاب والعذاب سيكون لمن لا يصرفون أموالهم ويتمتعون بها ويدخلون السعادة على أنفسهم في الدنيا فيثور شائف رافضاً مثل هذا التفسير الأناني للقرآن ويكيل للأبي سيلاً من الضربات. وتزيد تصرفات شائف كل سكان الحي حيرة ويأخذ الفضول من عبد الفتاح كل مأخذ لمعرفة الجانب الخفي من حياة شائف الفيلسوف المجنون الذي أمضى خمسة عشر عاماً في الحي حير الجميع بمجموعة من التصرفات المثيرة فهو مجنون يغني بصوت عذب وجميل أجمل الأغاني والقصائد ويعزف على العود حين أحضر لك آلة العود الموسيقية فألح عليك وزملاؤه بأن تعزف فبدأت تحرك أصابعك فوق الأوتار وله أصدق ما أسمع فأنت عازف ماهر. - ممارسة للتجارة برأسمال مائة ريال لبيع الشوكلاتة والنعناع. - عطفه على الأطفال. - بيعه كمية من المسابح على سكان الزقاق ديناً في بداية شهر رمضان من كل عام على أن يسددوها في آخر الشهر وأحياؤه ليالي رمضان بالسهر والغناء. - حضوره صلاة الجمعة بانتظام ليحتل موقعه دائماً في الصف الأخير. - ينطق بالحكمة ولو بشكل غير مرتب زمن الكذابين السرق الرياء الحقد الحسد الكلام على الناس بالباطل المرتشين شهود الزور كلهم همزة لمزة كلهم همزة لمزة ولو كان أنت منهم شتنجح). - كتابته عبارة (لا تجلس بمجلس العاقل يجي يقول لك قوم) فوق مكان جلوسه. فيكتب له رسالة طويلة جداً راجياً إياه أن يصارحه بحقيقة أمر أنت دوماً تثيرني بكلماتك وتصرفاتك وتدفعني دفعاً كي أعرف قصتك مع الحياة وفلسفتك للحياة أريد أن اشاركك عذاباتك أو أن أحمل عنك قدراً يسيراً منها. أنا لا أدري ما قذف بك إلى هذه المدينة التي لا يستطيع أحد من الناس مفارقتها بعد أن تطأها قدمه مذكراً أياه بسلسلة من المواقف عايشاها معاً تثبت طهارة ونقاء قلب شائف البائس ويختم بقول فهل ستخبرني عما يختلج في أعماقك؟ ماذا تريد؟ من أنت؟ ومن هم وراءك؟ ومن أين أنت؟ ومن أين البلاد؟ ومتى تركت القرية ولماذا؟ أم أنك كما يشاع ضابط سري للأمن. إلا أنه يفضل إلا يسلم الرسالة لشائف الذي طالما حيره حتى لا يجرح شعوره وفي نفس الوقت يتسلم (عبد الفتاح) رسالة من صاحب الدكان الذي يعمل به يخبره بأنه يوافق بأن يكمل دراسته بجوار عمله بالدكان ولكن بشرط أن يكون مقابل الأكل والشرب وبنصف كمية القات والسيجارة فيصاب بالإحباط فهو لم يأت للمدينة إلا لطلب العلم وصاحب الدكان يريد أن يمتص عرقه دونما مقابل يذكر ولكنه يرفض لينتقل لعمل آخر ليتمكن من إكمال تعليمه وتستمر علاقته بشائف إلا أن شائف يموت مصاباً بمرض عضال فيحلم عبد الفتاح بأن شائف يخبره أنه سجل مذكراته ودفنها تحت بلاط أحد الدكاكين وفيها الجواب عن كل تساؤلاته فيذهب ويستخرجها فيجد فيها رداً على كل تساؤلاته عندما يكشف عن الجانب المظلم والمجهول في حياته فهو كان يعيش في القرية بسعادة وهنا والتحق بمعلامة لتحفيظ القرآن الكريم ليحفظه بأجزاءه الثلاثين ويجد فرصة للدراسة في عدن بمدرسة البيحاني وتتوق نفسه للسفر إلا أن والده يرفض بحجة عدم التفريط بالأرض. ثم يوافق ولكن بعد أن يزوجه وهو مازال يافعاً كما جرت العادة في الارياف ويختار شائف فتاة تدعى (فاطمة) فيعارض شيخ القرية هذا الزواج فقد كان يطمع في تزويجها لولده الوحيد ويتم الزواج رغماً عن الشيخ وتمر الأيام ويزداد تعلق شائف بالقرية والأرض إلا أن والده أرسله للعمل بالمدينة بحثاً عن الرزق فسافر ليتنقل من عمل إلى آخر تاركاً حلمه بمواصلة تعليمه لكنه يفاجأ برسالة تخبره بوفاة والده وبأنه أصبح أب فيقرر البقاء في المدينة للعمل عدة شهور حتى يعود ومعه المال الوفير لكن في أقل من شهر تصله رسالة بأن أمة في البيت وحيدة لكنه يقرر العمل ويرسل المال لأمه وزوجته ويستمر شائف في كده وتعبه عامين وبعد ذلك يجد فقيه القرية فيخبره بأن أمه تزوجت دون أن تخبره فيسافر للقرية فيجد زوجته هي الأخرى قد تزوجت ويجبره شيخ القرية على الخضوع والاستسلام والتخلي عن زوجته فيجن وكانت آخر كلمة همس بها إلى طفله قبل هروبه من القرية لن أكون عالماً أو شيخاً كالبيحاني بل سأكون عالماً وشيخاً للأزقة وفي الحواري والشوارع ليتحول شائف إلى مجنون حير الناس حياً وميتاً. وهنا فإن الكاتب من خلال قصة كفاح عبد الفتاح في التعليم والعودة للقرية وقصة شائف الذي استسلم لواقعه يقدم للقراء نموذجين متناقضين رغم أنهما قادمان من الريف ويحملان الكثير من القيم والمبادئ لكن الناجح منهما هو ذلك الذي شق طريقه بمزيد من الكفاح والنضال ليعود لخدمة أهل قريته بينما المنهزم ضاع في متاهة المدينة حتى فقد نفسه وهويته. ولقد تطرق الكاتب إلى عدد من القضايا كحياة المهاجرين من الريف إلى المدينة فعثمان الرجل البسيط الذي يعمل بائعاً لدى الحاج سعيد يعمل بكد طوال أيام السنة ولا يعرف القرية ولا زوجته المسكينة إلا في الأعياد بما لا يتجاوز عن ستة أيام أو سبعة وأن زاد فهي عشرة لا أكثر ثم يعدو إلى عمله وله ولدان يدرسان ويعملاًن في مدينة آخرى ليبرز هنا الكاتب جانب من تفكك أسر المهاجرين كما يشير إلى انتشار بعض الظواهر الأخلاقية كالشذوذ كان شاباً كبيراً وبجواره فتى الكبير في فمه بقايا قات وسيجارة ويد الفتى نائمة بيد الشاب وعيناهما تذكرني بأبي نواس وغلامة أبي طوق ورغم تباعد الزمن لكن اهتزاز الوسط من الغلام يتحدث عن جنس ثالث حتى أن الرواية تطرقت في أكثر من مكان إلى التعليم حيث يهاجر الشاب طلباً للعلم وعن محدودية الفتيات الملتحقات بالتعليم نجحت بتفوق أثار اعجاب الفتاة الوحيدة في حجرة المدرسة ولم يهمل قضية تسرب الطلاب من المدارس في الأرياف وماذا يمكن أن أفعل وأنا كالأجير عند ذلك الرجل -زوج أمي- الذي يريد مني أن اترك المدرسة وأن أرعى له الأغنام. لكنه يركز علی مسوءات المدينة فيتحدث عن انتشار المجانين بكثرة في المدينة وعن وجود أشخاص يقتاتون من بقايا الطعام أو من براميل القمامة باحثين عن فضل طعام أو قطعة من الخبز وإن كانت داخل أكياس البلاستيك التي تحتضنها براميل القمامة ليؤكد أنه في ظل ذلك التناقض الذي تعيشه المدينة كأن يعيش الجائع مع الشبعان. فإن المجانين هم الوحيدون المرتاحون من عناء الدنيا لسلامة طويتهم وعدم إدراكهم لما يحدث بينما الذين يمتلكون العقل لا يمتلكون العقل لا يمتلكون الضمير. ويشير إلى التفكك الاجتماعي في علاقات الناس في المدينة حتى بين الأقارب والمعارف وهنا فإن الكاتب أجاد في أظهار جانب مظلم متعدد الجوانب من افرازات ذلك النزوح الهائل من الريف اليمني باتجاه المدينة ليحدث خللاً شاملاً مازال إلى اليوم في تفاقم مستمر. وتكمن أهمية الرواية أنها الرواية الوحيدة من الروايات المعاصرة التي تطرقت إلى هذا الجانب وبشكل صارخ لم يسبقه إليه أحد. --------------------------------------------------------------------------------
تعليقات